كتاب : البرهان في أصول الفقه المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي 
-من اول ج1  الي اخر ج4.
 كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
سبق منا التدرج إليه في ( الأساليب ) وإذا ثبت ذلك بنينا عليه تحريم الوطء قائلين إذ لم يكن الوطء رجعة لم تنقطع به العدة فيؤدي إباحة الإقدام عليه إلى الجمع بين دوام التربص لتفريغ الرحم وبين إباحة شاغلة وهذا وإن لم يستند إلى أصل فهو معنى قويم ومسلك مستقيم
فصل ( في ضابط ما يجري فيه الاستدلال ) 1152 - فإن قيل قد ( أثبتم ) الاستدلال ولم تقبلوه على الإرسال وزعمتم أن المقبول منه ما يلتفت إلى الأصول ويضاهي معانيها ولم تأتوا في ذلك بقول ضابط يستبين به المردود من المقبول قلنا الوجه في ذلك أن نقول إذا ثبت حكم متفق عليه في أصل ثم رام المستنبط إثارة معنى يعتقده مناطا للحكم ( فما الضبط ) فيما يقبل منه وما يرد فليقل المستدل كل معنى لو ربط به حكم متفق عليه في أصل لجرى و ( استد ) فإذا اعتبره المستدل عليه من غير إسناد إلى أصل كان مقبولا إذ المعنى الذي يبديه المستنبط لا يشترط فيها أن يسنده إلى معنى الذي يبديه وفاقي مماثل له ولكن يكفي أن يناسب ويسلم على السبر ويثبت ببعض الطرق المذكورة في إثبات العلل فكل علة إذا لا يشترط في ثبوتها أن تعهد ثابته بعينها ( قبل أن يرى ) المستنبط مثلها في غير محل الاستنباط فكل معنى في أصل فمتعلقه معنى وهو في حكم مستدل به وليس التعلق بحكم الأصل ولا بحصول الوفاق عليه
1153 - وإن قربنا العبارة قلنا ليعتقد المستدل صورة مختلفا فيها متفقا على حكمها ( ولير ) رأيه في استنباط معناه وإن كان لا يستد فكره إلا بمستند وبالجملة لا يحدث الناظر ( الموفق ) مسلكا إلا وبينه وبين ما تمهد في الزمن الماضي من السلف الصالح مداناة والذي ننكره من مالك رضي الله عنه ( تركه ) رعاية ذلك وجريانه على الاستدلال في الاستصواب من غير ( اقتصاد ) ونحن نضرب في ذلك مثالا ثم نذكر بحسبه لمالك مذهبا
1154 - فلو قدر وقوع واقعة حسبت نادرة لا عهد بمثلها فلو رأى ذو نظر جدع الأنف أو اصطلام الشفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النادرة فمثل هذا مردود ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة حتى نقل عنه الثقات أنه قال أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها
1155 - فإن قيل فبم تردون ما ذكره قلنا تبين من نظر الصحابة رضي الله عنهم في مائة سنة ومن نظر أئمة التابعين أن ما قال مالك رضي الله عنه وما استشهدنا به لا يحكم به ونحن نعلم أن الامد الطويل لا يخلو عن جريان ما يقتضى مثل ما يعتقده مالك ثم لم يجر وشذت واقعة في العقوبات واضطرب فيها رأي الصحابة وهي حد الشارب فجرى فيه واشتهر ولم يستجيزوا الاستجراء على تقدير زيادة فيه إلا بعد أن يثبتوا أنه
لم يكن مقدرا في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كأنهم أجروه مجرى التعزيرات قال على رضي الله عنه أما أنا ( لا أقتل ) في حد وأجد في نفسي ( شيئا إلا حد الشارب فإنه شئ رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فليكن هذا سبيلا قاطعا في الرد على مالك رحمه الله ومن نحا نحوه وفيه تنبيه على ما نريده
فصل ( الاعتراضات على الاستدلال ) 1156 - فإن قال قائل ما الاعتراض على الاستدلال قلنا الاستدلال معنى مخيل قد يتطرق إليه من الاعتراضات ما يتطرق إلى معنى يبديه المستنبط مخيلا في أصل غير أن ( للمعنى ) المستند إلى أصل تعلقا به فقد يتوجه كلام على الأصل بفرق أو غيره والاعتراضات على الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل تنتحي نحو المعنى فحسب ويتوجه عليه النقض إن أمكن والمعارضة وشرط ثبوته ألا يناقض أصول الأدلة
1157 - وأنا أرى الكلام عليه محصورا في أوجه أحدهما المناقشة في الاخالة والإشعار والأخر طلب النقض إن كان والآخر تقديم مقتضى أصل علته والآخر معارضته بمعنى آخر ( يناقضه )
فهذي مجامع الاعتراضات على الاستدلال ويفسد من الاعتراضات عليه ما يفسد من الاعتراضات على ما يستند إلى أصل وقد تمهد فيما تقدم مسلك الصحيح من الاعتراضات والفاسد ولا شك أنه لا يتصور استقلال التشبيه بنفسه فإن التشبيه معناه تقريب شئ من شئ بما يغلب على الظن من غير ( التزام ) معنى مخيل ومن ضرورة ذلك أصل متفق عليه فإن قيل هل يترجح المعنى المستند إلى أصل على المعنى الذي لا أصل له قلنا هذا نستقصيه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
فصل في استصحاب الحال 1158 - قد قال باستصحاب الحال قائلون ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أنه دليل بنفسه ولكنه مؤخر عن الأقيسة وهو آخر متمسك الناظر وقال قائلون لا يستقل الاستصحاب دليلا ولكن يسوغ الترجيح به والوجه أن نصوره ثم نؤثر ما هو المختار عندنا فيه
1159 - فإذا ثبت حكم متعلق بدليل ولم يتبدل مورد الحكم فليس هذا من مواقع الاستصحاب فإن الحكم معتضد بدليل وهو مستدام فدام الحكم بدوامه قد يقول بعض من لا يحيط بالحقائق لا يمتنع تقدير نسخ ولكنه غير محتفل
به والحكم مستصحب إلى نقل ناسخ على ثبت فيلتحق هذا الفن عند القائل بالاستصحاب فهذه مناقشة لفظية فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل إلى يوم نسخه فإن سمى مسم هذا استصحابا لم يناقش في لفظ وليس مقصود الفصل منه بسبيل
1160 - فأما إذا ثبت حكم في صورة ثم تغيرت وحالت ورام الناظر طرد الحكم الثابت في الصورة الأخرى فإن لم ( يكن للصورة ) الثانية تعلق بالأولى ولم يكن تغيرها مرتبا على الصورة الأولى فلا معنى للاستصحاب في مثل ذلك كالذي يبغى أن يستصحب حكما في صدقة البقر في صدقة الغنم ولا يترتب أحد الجنسين على الثاني تصورا ولا تقديرا وهذا بعينه محاولة جمع بدعوى عرية من غير معنى جامع ولا وجه في الشبه غالبا على الظن وهو احتكام مجرد
1161 - فأما إذا ترتبت صورة على صورة فإن تغيرت عليها فأثبتت في الخلفة عليها فعند ذلك يقول قائلون نستصحب الحكم الثابت في الصورة الأولى ونجريه في الثانية وهذا باطل عندنا غير صالح للاستدلال ولا للترجيح فإن الصورتين متغايرتان وإن أثبتت إحداهما على الأخرى تصورا وخلفة فلا معنى لقول القائل أستصحب ( الحكم ) وقد تغير المورد ( وتغاير ) المحل فلا يمتنع تغاير الحكمين لذلك
وهذا كقول القائل في استئناف الفريضة عند أبي حنيفة في زكاة الإبل فقد اطردت فريضة الإبل على نصب معلومة فينبغي أن يستصحبها وراء المائة والعشرين حتى لا يوجبها إلا على ذلك القياس وقد عورضوا بأن فريضة الإبل إذا ثبتت وجب استصحابها وذلك ( قاض بمنع ) العود إلى الشاة والقائلان ذاهلان عن الحقيقة فلا معنى للاستصحاب من الفئتين وما قاله أصحابنا أمثل لاعتضاده بفقه وهو المعتمد دون الاستصحاب وذلك أن الشاة أثبتت ابتداء اجتنابا لتشقيص مع ( أن ) إيجاب بعير مجحف بالخمس من الإبل فالعود إلى الشاة مع كثرة الإبل بعيد وهذا ليس استصحابا
1162 - فإن قيل من استيقن الطهارة وشك في الحدث فالحكم استصحاب الطهارة وكذلك نقيض هذ1 وكذلك من تيقن النكاح وشك في الطلاق فالجواب كذلك فهل هذا الفن مما يلحق باستصحاب الحال ( أم لا ) قلنا هذا لباب الفصل ونحن نقول فيه قول الفقيه يستصحب يقين الطهارة فيه تجوز فإن اليقين لا يصحب الشك فليس المعنى بقولهم لا يترك اليقين بالشك أنهم على يقين مع التردد في الحدث ولكن المراد به أن ما تقدم من الطهر يقين فيبقى الحكم ما تيقناه والقول فيه إذا طرأ الشك لم يخل المشكوك فيه من ثلاثة أحوال
1163 - أحدها أن يرتبط بعلامة بينة في محل الظنون فما كان كذلك
فلاجتهاد هو المتبع ولا التفات إلى ما تقدم فإنه يتصدى للمرء شك في بقاء ما سبق واجتهاده ظاهر في زواله والاجتهاد مقدم
1164 - فإن ثبتت علامة خفية كالعلامات التي يقع التمسك بها في تمييز النجس من الطاهر في الأواني وفي والثياب فإن عارض يقين النجاسة يقين الطهارة فعلم صاحب الإناءين أن أحدهما نجس والآخر طاهر فليس التمسك بيقين الطهارة بأولى من التمسك بيقين النجاسة فيضطر إلى التمسك بالعلامات وإن خفيت ( وإن لم يوجد ) يقين النجاسة ولكنا تيقنا طهارة وشككنا في طريان نجاسة وثبتت علامة خفية ففي التعلق بها قولان أحدهما أنها ضعيفة وإن تناهى المرء في تصويرها محاولا إظهار ما وقع في النفس فليفهم الناظر ما يرد عليه فالتعلق بالاستصحاب أولى على قول والتمسك بها أولى على قول
1165 - وإن تقدم يقين وطرأ شك وليس لما فيه علامة جلية ولا خفية فعند ذلك تأسيس الشرع على التعلق بحكم ما تقدم وهذا نوع من الاستصحاب صحيح وسببه ارتفاع العلامات وليس هذا من فنون الأدلة ولكنه أصل ثابت في الشريعة مدلول عليه بالإجماع وإن طرأ مثل ذلك في منازل المجادلات فأراد ( المستدل ) أن يدعو الخصم إلى موجب الاستصحاب وكانت الصورة على نحو ما ذكرناها فذلك ( سائغ )
والدليل عليه اعتباره بنظائره بتشبيه أو تقريب معنوي فليلحق ذلك بأبواب القياس إذا
1166 - ولا يستمر هذا إلا بسبر وهو تمام الكلام ومعناه أن يدعى أولا انتفاء الدليل عند قيام التردد ثم لا يتوصل إلى ذلك إلا بتخيل جهات الأدلة وإبانة انتفائها في محل الكلام ثم يستمر بعد هذا ما يحاوله من اعتبار صورة بصورة وبيان ذلك بالمثال أن المسئول عن وجوب الأضحية يقول الأصل براءة الذمة فلا معنى لشغلها إلا بثبت وهذا لو اقتصر عليه لاستقل كلاما مفيدا مستقيما وحاصله يئول إلى أنه لم يقم عندي دليل على وجوب الأضحية وإذا قسم وسبر وتتبع مواقع تعلقات الخصم بالنقض استمر له ما ذكرناه في الاستصحاب فهذا منتهى الغرض في ذلك وقد نجز بنجازه القول المقصود في الاستدلال والحمد لله وحده
الكتاب الخامس -
كتاب الترجيح 1167 - الترجيح تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن ولا ينكر القول به على الجملة مذكور وقبله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن ( الملقب بالبصري وهو جعل ) أنه أنكر القول بالترجيح ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثى عنها وسأذكر شيئا ينبه على إمكان ذلك في النقل
1168 - والدليل القاطع في الترجيح إطباق الأولين ومن تبعهم على ترجيح مسلك في الاجتهاد على مسلك هذا ما درج عليه الأولون قبل اختلاف الآراء وكانوا رضي الله عنهم إذا جلسوا يشتورون تعلق معظم كلامهم في وجوه الرأي بالترجيح وما كانوا يشتغلون بالاعتراضات والقوادح ( وتوجيه النقوض ) وهذا أثبت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك الأحكام فوضح أن الترجيح مقطوع به
1169 - واستدل القاضي رحمه الله لمن حكى الخلاف عنه في نفي الترجيح
بالبينات في الحكومات فإنه لا يترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت وهذا مردود فإن العلماء من يرى ترجيح البينة على البينة وهو مالك رضي الله عنه وطوائف من علماء السلف وليس من الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع ثم إن ظن ظان أن لا ترجيح في البينة ورآها مستندة إلى توقيفات تعبدية فهذا لا يعارض ما ثبت قطعا تواترا في الترجيح والعمل به وليس متعلق مثبتى الترجيح تجويزا ظنيا فينتقض بشيء أو يقاس على شيء
1170 - فإذا ثبت أصل الترجيح فلا سبيل إلى استعماله في مسالك القطع فإذا أجرى المتكلم في مسلك قطعي صيغة ترجيح أشعرت بذهوله أو غباوته وما يفضى إلى القطع لا ترجيح فيه فإنه ليس بعد العلم بيان ولا ترجيح وإنما الترجيحات تغليبات لطرق الظنون ولا معنى لجريانها في القطعيات فإن المرجح أغلب في الترجيح وهو مظنون ( والمظنون ) غير جار في مسلك القطع فكيف يجرى في القطعيات ترجيح ما لا يجرى أصله فيها مسألة
1171 - أطلق الأئمة القول بأن المعقولات لا ترجيح فيها وهذا سديد لا ننكره ولكنا أوضحنا في الديانات أن العوام لا يكلفون بلوغ الغايات ودرك حقائق العلوم في المعتقدات وإنما يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به مع
التصميم ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير استناد إلى مسلك من مسالك النظر وإن كان غير تام وإذا كان كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى فإن عقودهم ليست علوما ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه ظان وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة فإنهم زعموا أن الترجيحات لا وقع لها في مدارك العلوم وما ذكروه حق لا نزاع فيه وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما فتجرى عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات مسألة
1172 - قال الأئمة رضي الله عنهم الترجيحات لا تستعمل في المذاهب من غير نصب أمارات فإن كل ذي مذهب مدع قبل أن يدل والدعاوى لا تقبل الترجيح إذ الترجيح في نفسه لا يستقل دليلا والمذهب لو كفى ترجيحه لكان الترجيح مستقلا لإثبات المذهب وما كان كذلك كان دليلا مستقلا بنفسه وهذا يتطرق إليه استثناء عندنا على تفصيل نشير إليه الآن ثم نقرره في كتاب الفتاوى إن شاء الله تعالى فليعلم الناظر أن المستفتى لا يتخير في تقليد من شاء من المفتين ولكن عليه ضرب من النظر في تخير واحد منهم لمزية يتخيلها أو يظنها لمن يختاره وسيأتي ذلك مشروحا في موضعه إن شاء الله تعالى وإن كان كذلك فمتعلق المستفتى ترجيح مجرد وقد ينقدح أن يقال ما يغلب على ظنه تخصيص واحد من العلماء فهو دليل مثله فالقول في هذا يئول إلى عبارة
ونحن الآن نرسم ما يترجح به مذهب الإمام المطلبي الشافعي رضي الله عنه مسألة
1173 - أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين
1174 - ثم نحن نوضح وراء ذلك ما يتعلق به منتحل المذهب على الجملة في اختيار مذهب الشافعي ومجامع الكلام في ذلك يحصرها طرق أحدها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل وكل موضوع على الافتتاح قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون وهذه الطريقة يقبلها كل منصف وليس فيها تعرض لنقض مرتبة إمام
1175 - فإذا حصلنا المقصود مع الاعتراف للمتقدمين بفضل السبق فالذي
يتم به الغرض أن الصديق أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبي عليه السلام ثم اشتغال من بعده بالسبر أوجب على العوام ألا يبتدروا مذهب الصديق رضي الله عنه مع علو منصبه وارتفاع قدره فإن قيل يلزمكم على هذا أن توجبوا الاقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة على ما ذكرتموه قلنا إن ثبت لأحد بعده من الأئمة من المزية والفضل وتهذيب ما لم ينتظم وكشف ما لم يتبين فلا يناقض مسلك الطريقة ولكنا لسنا نرى أحدا بلغ هذا المحل وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
1176 - طريقة أخرى وهي أن نقول المذاهب ( تمتحن ) بأصولها فإن الفروع تستد باستدادها وتعوج باعوجاجها وهذا النوع ( من النظر ) هو الذي يليق بالمستفتين ومنتحلي المذاهب وسبيل محنة الأصول معرفتها أفرادا في قواعد ثم معرفة ترتيبها وتنزيل كل أصل منها منزلته فإذا تبين ذلك فأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الأقيسة الظنية علامات انتصبت على الأحكام ( أعلاما ) بأصل من الأصول الثلاثة مقطوع به كما سبق شرح ذلك ثم لها مراتب ودرجات ومناصب فإذا نظر الناظر إلى منصب الشافعي عرف أنه أعرف الأئمة بكتاب الله تعالى فإنه عربي مبين والشافعي تفقأت عنه بيضة قريش
ولا يخفى تميزه عن غيره فيما نحاوله ثم يتعلق معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول بمعرفة الروايات ومقامه لا يخفى في الأخبار ومعرفة الرجال وفقه الحديث والإجماع يتلقى من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهذا بيان الأصول
1177 - وأما تنزيلها منازلها ( فإنه شوف ) الشافعي فإنه قدم كتاب الله تعالى ثم أتبعه بسنة رسوله عليه السلام ثم إذا لم يجدها تأسى بالصحابة رضي الله عنهم في التعلق بالرأي الناشىء من قواعد الشريعة المنضبطة أصولها ولم ير التعلق بكل استصواب لما فيه من الانحلال والانسلال عن ضبط الشريعة ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فاستحث على الاتباع فيما لا يعقل معناه وقد يقيس إذا لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى ( المخيل ) المناسب وهو في ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ويدور عليها
1178 - ومن بديع نظره أنه قد يعن له معنى مخيل ولكن يراه منقوضا ( بما لا يعلل ) فيلحقه بما لا يعلل وهذا مسلكه في منع القيم في الزكوات فإن غرض الزكاة سد الخلة والحاجة وهو وإن كان معقولا فلا جريان له فرأى الأتباع فيه معنى السد مع الخلاص ( من ) غرر المخالفة ثم جعل كون الزكاة عبادة عضدا لذلك كالمرجح به ولا حاجة إلى ذكر ( مذهب ) غيره فإن في هذا تنبيها على مقتضاه
1179 - طريقة أخرى وهي تشتمل على نظر كلي إلى الفروع وهذا
يتأتى بضبط ورد نظر إلى الكليات فالشريعة متضمنها مأمور به ومنهي عنه ومباح فأما المأمور به فمعظمه العبادات فلينظر الناظر فيها وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر ولا يكاد يخفى احتياط كثير من الناس فيها وبالجملة الدم معصوم بالقصاص ومسألة المثقل يهدم حكمة الشرع فيه والفروج معصومة بالحدود ولا يخفى ما فيها من الاضطراب والأموال معصومة عن السراق بالقطع وقد أثبت من ( نعنيه ) ذرائع إلى إسقاطه سهلة المدارك وأعيان الأموال مستردة من الغصاب وقد بان للفقيه مسالك الناس الذين خالفوا مذهب الشافعي فمن نظر إلى الأصول ثم نظر نظرا كليا إلى الفروع لم يخف عليه من يكون أولى بالاتباع وإن قصر ( نظر ) بعض المستفتين عن فهم ما ذكرناه فلا عليه لو ( احتذى ) بقول النبي عليه السلام الأئمة من قريش ولم أجد أحدا من أصحاب المذاهب معتزيا إلى طينة قريش بالمسلك الواضح إلا الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذاك وأبو حنيفة من الموالى ومالك كذلك ( على ما حكى بعض الناس ) فهذه مرامز كافية فيما نحاوله وإذا أردنا أن نعبر عن الأئمة الثلاثة الناخلين المرموقين الذين طبقت مذاهبهم طبق الأرض مالك والشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهم قلنا
1180 - أما أبو حنيفة فلا ننكر ( اتقاد ) فطنته وجودة قريحته في درك عرف المعاملات ومراتب الحكومات فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه على النهاية ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه منقسمة إلى أصل جهله ( أو ) أغفله وذهل عنه وإلى آخر تمسك به وما رعاه وما ( عقله ) وانتهض لتبويب الأبواب انتهاض من لم يستمد من القواعد ومن عجيب أمره أنه لم يعتن بجمع الأخبار والآثار ليبني عليها مسائله ولكنه يوصل الفروع بناء على ما يراه ثم يستأنس بما يبلغه وفاقا
1181 - وأما الإمام مالك فلا يشق غباره في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة ولا يدرك آثاره في درك سبل الصحابة والطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان الزلل إلى النقلة فقد كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد رأيت بعدد أساطين هذا المسجد من يقول حدثني أبي فلان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم أستجز أن أروى عنهم حديثا فقيل له أكنت لا تثق بهم فقال كنت ( لا ) أتهم صدقهم ولو نشروا بالمناشير ما كذبوا على رسول الله عليه السلام ولكن لم يكونوا من أهل ( هذا ) الشأن ولكنه ينحل بعض الانحلال في الأمور الكلية حتى يكاد أن يثبت في الإيالات والسياسات أمورا لا تناظر قواعد الشريعة وكان يأخذها من وقائع وأقضية لها محامل على موافقة الأصول بضرب من التأويل فكان يتمسك بها ويتخذها أصولا ويبنى عليها أمورا عظيمة كما روى أن عمر رضي الله عنه قال للمغيرة وكان قد أخذ قذاة من لحيته فظن
عمر ( به ) استهانة فقال أبن ما أبنت وإلا أبنت يدك ونقل عنه مشاطرة خالد وعمرو بن العاص على أموالهما فاتخذ ذلك أصلا فرأى إراقة الدم وأخذ أموال بتهم من غير استحقاق لمصالح إيالية حتى انتهى إلى أن قال أقتل ثلث الخلق في استبقاء ثلثيهم وكان من الممكن أن يحمل قول عمر رضي الله عنه على التغليظ بالقول وكانوا يعتادون ذلك وكذلك من بعدهم وأخذه الأموال محمول على علمه بانبساط خالد وعمرو فيما لا يستحقان من مال الخمس وأموال المسلمين ولا يبلغ من حزم عمر درك مبلغ ذلك فإذا أمكن هذا فلا وجه لإطلاق أيدي الولاة في الدماء والأموال
1182 - وأما الشافعي فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة وأضبطهم لها وأشدهم كيسا ( واتقادا ) في مآخذها وتنزيلها منازلها ( وترتيبها على مراتبها ويشهد ذلك بالثقة فيها سابقا إليه ) ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته فلم يتشوف إلى وضع مسائل بديعة وكان متصديا للإجابة عن كل ما يسأل عنه واخترم وقد نيف على الخمسين وكان ذلك الأمد لا يتسع لأكثر من ضبط الأصول فيها فهان على أصحابه البناء عليها
1183 - وهذا بيان منازلهم وسنذكر في كتاب الفتوى أنه يتعين على المستفتى نظر كلي في ( تخير ) قدوته وسنصف ذلك النظر وحده ثم نقول ليس على المستفتى تعلق بمبادىء النظر في كل مسألة يأخذ فيها جواب قدوته وهذا متفق عليه في المظنونات
1184 - ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال إذا اشتملت المسألة على مدرك قطعي وجب على العامي الاحتواء عليه فإن كانت المسألة عملية فتلتحق بالعقائد التي لا يسوغ العقل التقليد فيها
1185 - وهذا عندنا سرف ومجاوزة حد فإنا لا نرى أولا في العقائد ما يراه وقد ظهر اختيارنا فيما عليهم من عقائدهم وأما إلحاق قطعيات الشرع بالعقائد فعظيم فإن الشريعة تحتوي على مائة ألف مسألة وأكثر مستندها القطع وتكليف العامي الإحاطة بها في معاملاته التي يمارسها ظاهر الفساد وهو اقتحام خرق الإجماع مسألة
1186 - ذهب معظم الأصوليين إلى أن المجتهد لا يجوز له الاقتصار على ترجيح مذهب على مذهب من غير تمسك بما يستقل دليلا وحكى صاحب المغنى وهو عبد الجبار في كتابه المترجم بالعمد عن بعض أصحابه جواز الاكتفاء بالترجيح
وسقوط هذا المذهب واضح فإن الترجيح الحقيقي ينشأ من منتهى الدليل فإذا لم يكن دليل لم يثبت الترجيح تصورا وإن فرض تمسك بمبادىء نظر وسمى ذلك ترجيحا فهو نظر فاسد لقصوره ولا ترجيح بالفاسد والنظر يفسد بقصوره تارة وبحيد عن المدرك المطلوب أخرى
1187 - فإن قيل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في تفاوضهم يكتفون بمسالك الترجيحات وما كانوا يمهدون أدلة مستقلة ثم يبنون عليها ترجيحات وهم الأسوة قلنا هذه دعوى عرية لا أصل لها فإنهم كانوا يبنون أحكاما على معان سديدة وعلى تقريبات شبهية وهذا مدرك الشرع وكانوا لا يعتنون برد المعاني إلى الأصول لا عن جهل بها ولكنهم علموا أن معتمد الأحكام المعاني فأما الاقتصار على الترجيحات فادعاؤه عليهم تخرص ( بين ) ( نعم ) قد نقول إذا عريت واقعة عن نظر قويم ولاحت فيه مخيلة على بعد ولا يكون مثلها دليلا فقد يجوز التمسك بها تجويزا للمجتهد استصحاب الحال وإن رأينا أن نذكر في آخر هذا المجموع طرفا صالحا من حكم شغور الزمان عن المفتين وحملة الشريعة ذكرنا طرفا صالحا في ذلك إن شاء الله تعالى
القول في ترجيحات الأدلة
1188 - إنما مظنة الترجيحات تعارض صور الأدلة وهي في غرضنا ألفاظ منقولة ومعان مستنبطة فأما الألفاظ فتنقسم إلى النصوص التي لا تقبل التأويل وإلى الظواهر فأما النصوص فتنقسم إلى ما ينقل قطعا واستوت في النقل ويلتحق بهذا القسم ما ينقل من غير قطع ولكن تستوي النصوص في ( طريق ) النقل من غير ترجيح آيل إلى الثقة والتغليب فيها ونحن نرسم ما يتعلق بهذا القسم مسألة
1189 - إذا تعارض نصان على الشرط الذي ذكرناه وتأرخا فالمتأخر ينسخ المتقدم وليس ذلك من مواقع الترجيح
1190 - فإن تطرق إلى أحد النصين ظن النسخ من غير قطع فهذا نصفه ونصوره ثم نذكر المذاهب فيه قال الشافعي في مسألة المس قيس بن طلق راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم
إسلامه وأبو هريرة ممن روى ( أحاديثنا ) وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ تطرق إلى ما رواه قيس وكذلك صح عن النبي عليه السلام ( في مرض موته ) أنه قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه و سلم في مرض موته والمقتدون به قيام وراءه فكان هذا من أواخر أفعاله والحديث الذي رويناه مطلق فيغلب على الظن أنه كان في صحته ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم الجهني قال ورد علينا كتاب النبي عليه السلام قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ فالغالب على الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث عبد الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب مجهول ليس بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات فهذا تصوير ما أردناه
1191 - قال الشافعي إن تجرد نص ولم يعارضه آخر فإمكان النسخ مردود ومدعيه مطالب بنقل النسخ ولا يكتفى في هذا المقام بغلبة الظن فإن تعارض نصان وتطرق إلى أحدهما مسلك من المسالك التي صورناها فعند ذلك يرى الشافعي ترجيح النص الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ على الآخر ( ورأيه أولى ) من
الحكم بتساقط النصين عند تعارضهما
1192 - وقال قائلون النصان متعارضان فإن الذي اتجه فيه إمكان النسخ ظنا لا يخفى سقوطه والنص الآخر يهى به ويحط عن منزلته والتمسك بمرتبة أخرى دون النصوص أولى ولا يبقى مع تعارض النصين إلا ظن ترجيح ومجرد الترجيح لا يجوز التمسك به
1193 - ووجه الحق في ذلك أن الحادثة إذا عريت عن مسلك ( يعد ) من سبل مسالك الأحكام وتعارض خبران نصان وتطرق إلى أحدهما إمكان النسخ وعدم المجتهد متعلقا سواهما فالوجه التمسك بالخبر الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ وهذا أولى من تعطيل الحكم وتعرية الواقعة عن موجب الشرع وهذا يناسب القول في مآخذ الأحكام عند عرو الزمان عن المفتين ولعلنا نختتم هذا المجموع بطرف صالح منه يقع به الاستقلال فإن وجد المتناظران مسلكا من مآخذ ( الأحكام ) سوى الخبرين مثل أن يجد للقياس مضطربا فالوجه النزول عن الخبرين جميعا والتمسك بالقياس ثم الخبر الذي بعد عن ظن النسخ يستعمل ترجيحا لأحد القياسين ( على الآخر ) فهذا وجه مدرك الحق في ذلك وهو أصل في كتاب الترجيح وسنسند إليه أمثاله مسألة
1194 - إذا تعارض خبران نصان نقلهما الآحاد واستوى الرواة في الصفات المرعية في حصول الثقة ولكن كان أحدهما أكثر رواة
فالذي ذهب اليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد ( وهو مذهب الفقهاء ) وذهب بعض المعتزلة إلى منع الترجيح بكثرة العدد واحتجوا في ذلك بالشهادة فإنه لا ترجح بينة على بينة بكثرة العدد وهذا الذي ذكروه مما اختلف الفقهاء فيه
1195 - فذهب معظم أصحاب مالك وشرذمة من أصحاب الشافعي إلى أن البينة المختصة بمزيد العدد في الشهود مقدمة على البينة التي تعارضها
والمسألة على الجملة مظنونة وللاجتهاد فيها مجال ثم معظم قواعد الشهادات منوطة بالتعبدات والروايات مدار أصولها وتفاصيلها على الثقة المحضة ولهذا لا تعتبر فيها الحرية والعدد في ( أصل القبول ) وكثرة الروايات توجب مزيدا في غلبة الظن وقد قال القاضي رحمه الله تعالى تقديم الخبر على الخبر بكثرة الرواة لا أراه قاطعا وإنما أراه من مسالك الاجتهاد
1196 - والوجه في هذا عندنا أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبر وتعارض في الواقعة خبران واستوى الرواة في العدالة والثقة وانفرد بنقل أحدهما واحد وروى الآخر جمع فيجب العمل بالخبر الذي رواه الجمع وهذا مقطوع به فإنا على قطع نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو تعارض لهما خبران كما وصفنا والواقعة في محل لا تقدير للقياس فيه ولا مضطرب للرأي لما كانوا يعطلون الواقعة بل كانوا يرون التعلق بما رواه الجمع
1197 - فأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية فإن الخبر الذي نقله الواحد يضعف بالخبر الذي يعارضه فيبعد
أن يستقل دليلا والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنهما والتمسك بالقياس وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع ولو تجرد القياس في الجانب الآخر ( فهو ) متمسك ( الحكم ومتعلقه فهذا وجه ولكن قد نظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يقدمون ) الخبر الذي يرويه الجمع ويضربون عن القياس كدأبهم في تعظيم الخبر وتقديمه ولسنا على قطع في ذلك فإنا لا نثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي فما قطعنا به أثبتناه وما غلب على ظننا ترددنا فيه وألحقناه بالمظنونات
1198 - فآل حاصل القول إلى أن الخبر وإن رواه جمع من الثقات إذا عارضه خبر نقله عدل واحد فيسقط ما رواه الجمع عن رتب الأدلة المقطوع بها فإن عدمنا مأخذا سواهما كان تعلقنا بالأرجح تعلق من لا يجد مضطربا سوى الترجيح ومحض الترجيح لا يتعلق به عند فقد الأدلة كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى
1199 - فأما إذا وجدنا ( أدلة فالمسألة إذ ذاك ظنية منزلة على ما يؤدى إليه اجتهاد الناظر وكذلك إذا وجدنا ) القياس موافقا للخبر الذي نقله الواحد فالمسألة ظنية أيضا وإن كان القياس في جانب الخبر الذي رواه الجمع ( فلا شك أن الحكم بذلك القياس المرجح بالخبر الذي رواه الجمع ) فهذه جوامع القول في ذلك
1200 - وقد ذكرنا في تعارض الخبرين إذا تطرق إلى أحدهما إمكان النسخ من الجهات التي ذكرناها ( أن ) الوجه النزول عنهما والتمسك بالأقيسة إن وجدناها
ولم ( نردد ) في ذلك تغليب ظن والسبب فيه أنا ظننا ظنا غالبا بالصحابة رضي الله عنهم اعتبار الترجيح بالثقة والعدد ورددنا القول ولم يسنح لنا مثل ذلك فيما يتطرق إليه النسخ إمكانا إذ تبينا من تفحصهم عن أسباب الثقة ما يغلب على الظن الترجيح بها وتقديم الأخبار على الأقيسة تعظيما لها إذا رجع الأمر إلى التفاوت في الثقة ( فإن ظهر لنا ظن عندنا في وقائع ) بلغته أنهم نظروا في إمكان النسخ نظرهم في الثقة نزلنا تلك ( المسألة ) هذه المنزلة وعاد القول إلى التعارض إلا فيما يمنع منه متمسك لما قدمنا تمهيده من أن التعارض في التساقط ( أقوى ) في نظر الناظرين من الاعتصام بترجيح ظنى فهذا منتهى المراد
1201 - ومما نذكره في فروع هذا الفصل أنه إذا روى راويان خبرين وكل واحد منهما ( ثقة ) مقبول الرواية لو انفرد ولكن في أحدهما مزية ظاهرة في قوة الحفظ والضبط والاعتناء بالوعي فهذا مما يرى أهل الحديث مجمعين على التقديم ( فيه ) وهو كما روى عبيد الله بن عمر العمري ( مع ما رواه أخوه عبد الله بن عمر العمري ) في سهم الفارس من المغنم فقال الأئمة حديث عبيد الله
مقدم وإن كان أخوه عبد الله عدلا فإن بينهما تفاوتا بينا قال محمد بن إسماعيل البخاري بينهما ما بين الدينار والدرهم والفضل لعبيد الله وهذا وإن ظهر من خدمة الحديث فإذا رجع الأمر إلى العلم فالقول عندي في الخبرين مع اختصاص إحدى الروايتين بالمزية كالقول في اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة مع الاستواء في الصفات المرعية وقد سبق ذلك مفصلا غير أن التمسك بحديث عبيد الله حتم من جهة أن القول متعلق بالتقدير وهو متلقى من توقيف الشارع ولا مجال للقياس فيه والرأي لا يضبط منتهى الغناء والكفاية
1202 - فهذا من المنازل التي يتعين فيها الاستمساك بالخبر ولا نظر لذى الرأي على استرسال كلى وهو موافق لمذهب الشافعي فإن نظرنا إلى الغناء فلا يكاد يخفى أن غناء الفارس يزيد على ضعف غناء الراجل فلا موقف ينتهى ( إليه ) فيستعمل الرأي كليا ويستعمل الخبر توقيفا ينتهى إليه
1203 - ومما يتصل بذلك ( أنه ) إذا روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع لا يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر الآخر في الثقة والعدالة فاجتمع مزية الثقة وقوة العدد
فمن أهل الحديث من يقدم مزية العدد ومنهم من يقدم مزية الثقة والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة إذا ظهرت فإن الغالب على الظن أن الصديق رضي الله عنه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه خبرا لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق ومأخذ الكلام في جميع هذه الفنون واحد فليرجع الناظر إلى المعتبر الممهد أصلا وتفصيلا وليميز مواقع القطع من الظن مسألة في تقديم أحد الخبرين على الآخر بموافقة أقضية الصحابة رضي الله عنهم
1204 - القول في حقيقة هذه المسألة يستدعى مقدمة من كتاب الإجماع فنقول إن اجتمع علماء العصر على ( مذهب ) واستمر الإجماع على الشرائط المرعية فلا يبقى للتعلق بالخبر والحالة هذه وقع فإن الخبر إن كان منقولا آحادا فلا خفاء بما ذكرناه
ولو فرضنا خبرا متواترا وقد انعقد الإجماع على خلافه فتصويره عسر فإنه غير واقع ولكنا على التقدير نقول لو فرض ذلك فالتعلق بالإجماع أولى فإن الأمة لا تجتمع على الضلالة ويتطرق إلى الخبر إمكان النسخ فيحمل الأمر على ذلك قطعا لا وجه غيره ونقطع بهذا
1205 - فإن قيل الخبر المتواتر النص من الأدلة القاطعة وكذلك الإجماع فلم قدمتم الإجماع
قلنا لأن الخبر عرضة لقبول النسخ والإجماع لا ينعقد متأخرا إلا على قطع فلا يتصور حصول الإجماع على باطل وتطرق النسخ إلى الخبر ممكن فالوجه حمل الإجماع على القطع الكائن وحمل الخبر على مقتضى النسخ استنادا أو تنبيها على تقدير استثناء والمستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ فهذا مما لا يتصور وقوعه حتى يتكلم فيه في تقديم أو تأخير وإنما الكلام في خبر مطلق ثم الذي أراه ( أن ) من ضرورة الإجماع على مناقضه الخبر النص المتواتر أن يلهج أهل الإجماع بكونه منسوخا فهذا قولنا في الإجماع
1206 - أما إذا فرض خبر على شرط الصحة نقله الآحاد وجرت أقضية ( أئمة من ) الصحابة على مخالفته فكيف الوجه ذهب مالك رحمه الله إلى تقديم ما صار إليه أهل المدينة يعني علماءها وروي عنه في تحقيق ذلك تمسك بأخبار تشير إلى تعظيم المدينة وأهلها فإن صح ذلك فهو ضعيف وإن كان مذهبه النظر في مذاهب العلماء الذين كانوا وإنما أجرى ذكر ( أهل ) المدينة لتوافر العلماء بها في ذلك الزمن فهذا قريب على ما سيأتي الشرحليه إن شاء الله 1207 وقال الشافعي رحمه الله لا نظر إلى الأعمال والأقضية إذا لم يتفق عليها أهل الإجماع والتعلق بالخبر أولى ونحن نذكر ما تمسك به الشافعي ثم نذكر بعده المختار عندنا قال الشافعي الحجة في الخبر وما نقل من عمل على خلافه فهو منقول عن
أقوام ليست أقوالهم حجة ولا معنى لترك الحجة لما ليس بحجة ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال العاملون بخلاف الخبر محجوجون به ولا يقدم قول محجوج بحجة على الحجة وقال الشافعي في بعض مجاري كلامه لو ( عاصرت ) العاملين بخلاف الخبر لحاججتهم وجادلتهم العين العين ولا يتعين ذلك بانقراضهم وهو يقول لو وجدت قياسا يخالف أقضية أقوام من الأئمة لتمسكت به ولم أبال بمن ينازعني والخبر مقدم على القياس فإذا قدمت القياس على قولهم فكيف أترك الخبر المقدم على القياس بقولهم وقال رضى الله عنه إن كان تقديم أقضية الصحابة لتحسين الظن بهم ولا تجب لهم العصمة فتحسين الظن بخبر الشارع المعصوم ( أولى )
1208 - والرأي الحق عندنا ( في ذلك ) يوضحه تقسيم فنقول إن تحققنا بلوغ الخبر ( طائفة من أئمة الصحابة وكان الخبر ) نصا لا يطرق إليه تأويل ثم ألفيناهم يقضون بخلاف مع ذكره والعلم به فلسنا نرى التعلق بالخبر إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب وترك المبالاة أو العلم بكونه منسوخا وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال ( وقد ) أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول فيتعين حمل عملهم مع الذكر والإحاطة بالخبر على العلم بورود النسخ وليس ( ما ) ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب ( فكأنا ) تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر غض من قدره عليه السلام وحط
من منصبه وقد قدمنا في كتاب الإجماع أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ولكن ( إجماع ) أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه ( عن ) حجة فهذا قول في قسم وهو إذا بلغهم الخبر وعملوا بخلافة ذاكرين له
1209 - فأما إذا لم يبلغهم أو غلب على الظن أنه لم يبلغهم فالتعليق بالخبر حينئذ وظنى بدقة نظر الشافعي في أصول الشريعة أنه رأى التقديم للخبر في مثل هذه الصورة
1210 - وإن غلب على الظن أن الخبر بلغهم وتحققنا أن عملهم مخالف له فهذا عندي مقام التوقف والبحث فإن لم نجد في الواقعة متعلقا سوى الخبر والأقضية فالوجه التعلق بالخبر وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر فالتمسك به أولى
1211 - ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له أن مذاهب الصحابة إذا نقلت من غير إجماع فلا نرى التعلق بها وإذا نقلت في معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل تأويلا فتعين التعلق بالمذاهب وليس هذا على الحقيقة تعلقا بالمذاهب وإنما هو تعلق بما صدرت المذاهب عنه وما ذكرناه في أئمة الصحابة يطرد في أئمة التابعين وأئمة كل عصر ما لم تقف على خبر وبيان ذلك بالمثال أن مالكا رضي الله عنه يرى تقديم أقضية الصحابة رضي الله عنهم على الخبر مطلقا من غير تفصيل وقد لا نامن أن يكون بعض تلك الأقضية ممن لم يبلغه الخبر أو بلغه ونسيه فإذا لم يفصل مالك تبينا أنه لم يكن مطلعا على حقيقة هذا الأصل فلا جرم
نقول إذا روى مالك خبرا وخالفه لم نبل بمخالفته من حيث لا نثق بتحقيق منه في مأخذ الباب ولذلك ثبت خيار المجلس بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن الرسول عليه السلام ولم يقل مالك بخيار المجلس
1212 - ومما يجب تنزيله على هذا القسم أن جمعا لو بلغهم خبر ثم صح عندنا عملهم بخلافة بعد تطاول زمن وجوزنا ذهولهم عنه ونسيانهم له فليخرج ذلك على التقاسم في تطاول غلبة الظن كما سبق وما ذكرناه في جمع فهو في المجتهد الواحد الموثوق بعدالته وأمانته بمثابته في جمع
1213 - ولو صح خبر وعمل به جمع ولم يعمل به جمع والفريقان ذاكران الخبر والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ فالذي أراه تقديم عمل المخالفين فإنه لا يحمل أمرهم إلا على ثبت وتحقيق وعمل العاملين يحمل على التمسك بظاهر الخبر
1214 - وليعلم الناظر إذا انتهى إلى هذا المقام أن الكلام في هذه المضايق ينتهي إلى حال يعسر التصوير فيها فلا ينبغي للانسان أن يسترسل في قبول كل ما يتصور عليه ومن هذا القبيل ما انتهينا إليه فإنه يبعد قطع قوم بالمخالفة مع تصحيح الخبر وقطع آخرين بالعمل فلا بد أن يشيع المخالفون ما عندهم ويبحث عنه العاملون
( نعم قد يتفق عمل العاملين في صقع من غير غوص وتحقيق وبحث عن حالة المخالفين ) فهذا منتهى القول في ذلك وهو مقدمة غرضنا في الترجيح
1215 - فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل باحدهما ائمة من الصحابة فإذا رأى الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي ( عارضه و ) لم يصح العمل به واستشهد بما رواه أنس في نصب الغنم إذ عارضه ما رواه على رضي الله عنه فيها وعمل الشيخين يوافق ما رواه أنس ( فقال رضي الله عنه أقدم حديث أنس ) وهذا مما يجب التأني ( فيه ) فليس ما استشهد به مما يقال فيه إن عمل الصحابة خالف خبرا إذ لم يصح عندنا أنهم بلغهم حديث على رضي الله عنه ثم لم يعلموا به ولكن قد يظن ذلك ظنا
1216 - فإن قيل فما الوجه والحالة كما وصفتم قلنا نرى الحديثين متعارضين فإن معارضة أحدهما الثاني ليس مما يسقطه ترجيح ظني في أحد الجانبين ثم لو صح أنه بلغهم الحديثان ثم عملوا بأحدهما فليس هذا من الترجيح ولكنه يتعلق بالقسم المتقدم وهو أن أقضية أئمة الصحابة بخلاف الخبر مع العلم به والذكر له كيف الوجه فيه وقد تقدم ما فيه بلاغ
1217 - ومما يجب التفطن له أن النصب مقادير ولا مجال فيها للرأي والخبران وإن رأينا تعارضهما فيخرج وجوب العمل بما عمل به الصحابة رضي الله عنهم على الرأي المتقدم في أنا إذا عدمنا مسلكا للحكم ولم نظفر إلا بما يقع
ترجيحا لا استقلال له ولو ثبتت الأدلة فالتمسك بما لا يستقل أولى من تعريه الواقعة عن حكم فالوجه إذا التعلق بحديث أنس لما ذكرنا آخرا والله أعلم مسألة
1218 - إذا تعارض خبران نصان وانضم إلى أحدهما قياس يوافق معناه ( الخبر ) فقد اختلف العلماء في ذلك فالذي ارتضاه الشافعي أن الحديث الذي وافقه القياس مرجح على الآخر واستدل بأنه قال إذا اختص أحد الحديثين بما يوجب تغليب الظن تلويحا فهو مرجح على الآخر ومجرد التلويح لا يستقل دليلا فإذا اعتضد أحد الحديثين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى
1219 - وقال القاضي إذا تعارض الخبران كما ذكرناه في تصوير المسألة تساقطا ويجب العمل بالقياس والمسلكان يفضيان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بوافقة القياس والقاضي يرى العمل بالقياس وسقوط الخبرين واستدل القاضي بأن قال الخبر مقدم في مراتب الأدلة على القياس ( فيستحيل ) ترجيح خبر على خبر بما يسقطه الخبر ومن أحاط بمراتب الأدلة لم يتعلق بالقياس في واقعة فيها خبر صحيح فإن القياس مع الخبر الصحيح المستقل الواقع نصا في حكم اللغو الذي لا حاجة إليه وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه أيضا إذا وافقه فالقياس إذا لا وقع له مع ثبوت الخبر والتعارض يوجب سقوط التعلق بالخبرين فإذا سقطا فالتعلق بعد سقوطهما
1220 - والقول في ذلك عندي لا يبلغ مبلغ الإفادة ويجوز لمن ينصر نص الشافعي في ذلك أن يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر
أحدهما إلى التأكيد بما يغلبه على الآخر فهذا منتهى القول ولا قطع والعمل بما اجتمع عليه الخبر والنظر ونبني على هذا مسائل نسردها ونبين الحق فيها منها مسألة
1221 - أنه إذا تعارض خبران واعتضد إحدهما بقياس الأصول وكان أقرب إلى القواعد الممهدة قال الشافعي يقدم ما يوافق القواعد ومثال ذلك الخبران المتعارضان ( في صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فالذي رواه ابن عمر فيه ترددات كثيرة والترددات تخالف نظم الصلاة ورواية خوات ابن جبير ليس فيها حركات وترددات فرأى الشافعي رضي الله عنه تقديم خبر خوات وهذا يتصل تحقيقه بوافقة القياس لإحدى الروايتين ومخالفة الآخرى فكان العمل بموجب القياس أولى ثم يئول الكلام إلى أن رواية خوات مرجحة بالقياس أم الروايتان متعارضتان والتعلق بالقياس بعدهما
1222 - ويجري في هذه الواقعة نوعان من النظر أحدهما أنه لا يمتنع جريان الصلاتين الموصوفتين في الروايتين وقد مال الشافعي في بعض أجوبته إلى تجويزهما جميعا ثم آثر رواية خوات من
طريق التفصيل وهذا متجه حسن فإنه يبعد أن تختلف روايتان في واقعة واحدة اختلاف رواية ابن عمر وخوات وإذا روى عدلان لفظين من غير تاريخ فالظن بهما الصدق ويقدر ( تقدم ) أحدهما ( وتأخر ) الآخر فإذا اعتاص معرفة ذلك منهما قيل تعارضا فأما إذا تعلقت الروايتان بحكاية واحدة وظهر التفاوت في النقل فالوجه أن يحمل الأمر على جريانهما جميعا ويرد الترجيح إلى الفضيلة فهذا وجه ومما يتعلق بما نحن فيه أنا إذا حملنا الرواية المختارة على الجواز ولم نجوز غيرها فليس في روايتنا منع لما رواه ابن عمر فإذا لا تعارض في الحقيقة إلا من وجهة واحدة وهي أن يدعي الاتحاد وتنسب إحدى الروايتين إلى الوهم والزلل ثم لا يتعين لذلك أحدهما فيتمسك بالقياس وهذا بعيد عما تعبدنا به من تحسين الظن بالرواة والمختار تجويز ما اشتملت عليه الروايتان ورد الأمر إلى التفصيل
1223 - وقد ذكرالقاضي وجها في تقديم رواية ابن عمر رضي الله عنهما وهو أنه قال إنها نافلة عن المألوف في القواعد فيجب حملها على تثبيت الناقل والرواية الأخرى ليست كذلك وقد يشعر بعدم التثبيت وبناء الأمر مطلقا على ما عهد في الشرع وهذا غير سديد وهو تحويم على تخصيص عدل بوهم وزلل بموافقة الأصول فيما رواه ثم ( في ) رواية خوات أنواع من الإثبات لا تعهده في القوانين والقواعد فلا وجه لما ذكره
مسألة
1224 - ومنها إذا تعارض خبران ووافق أحدهما حكم اقترن من كتاب الله تعالى فقد رجح بعض العلماء الخبر الذي وافقه حكم القرينة ومثال ذلك الخبران المتعارضان في العمرة فيروى أن النبي عليه السلام قال الحج جهاد والعمرة تطوع وعارضه ما روى أنه عليه السلام قال الحج والعمرة نسكان فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ثم خبر الفريضة وافق حكم القرآن في كتاب الله تعالى فإنه قال وأتموا الحج والعمرة لله وهذا فيه نظر فإن إتمام الحج يتعرض لفرضه ابتداء لا في الحج ولا في العمرة وهما مقترنان وفاقا في وجوب الإتمام بعد الشرع فيهما ولم نذكر هذا إلا أن الشافعي ذكره فتيمنا بإيراد كلامه مسألة
1225 - إذا تعارض خبران ولم يترجح احدهما على الثاني ولم يتطرق إلى واحد منهما نسخ فيما يعلم أو يظن وعريت الواقعة عن دلالة أخرى فحكمهما عند الأصوليين الوقف عن الحكم فيها وإلحاق الصورة بالوقائع كلها قبل ورود الشرائع وهذا حكم الأصول
1226 - ولكن ما اراه أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين ولم يشغر عنهم ( الزمان ) فلا يقع مثل هذه الواقعة ( إذ ) لو فرض تجويز ذلك لوجب في حكم العادة وقوعه لا محالة فإذا لم يقع مثله في الأزمان على تطاولها وقد
اشتملت على كل ممكن على التكرر ( فارتقاب ) واقعة شاذة لا نظير لها ولا مداني محال في حكم العادة وسيأتى شرح ذلك في كتاب الفتوى وإن تحقق التعارض والتساوي بين النصين وانحسم مسلك التأويل ووجدنا للحكم متعلقا من طريق القياس ( أو الاستدلال ) وآخر مسلكه استصحاب الحال فهذا مما تقرر القول فيه قبل من أن الخبر الذي يوافقه مرجح به أو الخبران يتساقطان بالتعارض والمعنى مجرد للتعلق به
فصل ( في تعارض الظواهر ) 1227 - ( كل ما ) قدمناه في تعارض النصوص وأما إذا تعارض ظاهران يتطرق التأويل إلى كل واحد منهما فتتسع مسالك الترجيح فإن مبنى التعلق بالظاهر على غلبات الظنون وهي حرية بالترجيحات فإذا تعارضا وتأيد أحدهما بمزية ثقة في الراوي أو العدد في الرواة فالوجه التمسك بما تأيد بهذه الجهات وليس كالنصين فيما قدمناه فإنا تحققنا ( من ) طرق الماضين أنهم في غلبات الظنون كانوا يبغون ترجيح ظن على ظن وإنما توقفنا في تعارض النصوص من جهة أن معارضة النص بالنص يوهي التعلق به واقتضاؤه إياه يزيد على ما يتعلق به الترجيح وأيضا فإنا لم نتحقق مثالا في تعارض النصيين مع ترجيح أحدهما بمزية البينة والعدد ولم ينقل لنا مسلك الأولين في مثل
ذلك حتى نتخذه معتبرا ( وأماما ) يتعلق بالظنون ( فقد ) استبنا على قطع استرسال الأولين في الاستمساك بما يتضمن مزية في تغليب الظن فإذا تعارض ظاهران ولم يكن أحدهما في الثبوت والتعرض للتأويل بأولى من الثاني ولم يتطرق إلى أحدهما ما يوجب تغليب الظن فتعارضهما والحالة هذه كتعارض النصين على ما تقدم مسألة
1228 - إذا تعارض ظاهران أحدهما من الكتاب والآخر من السنة فقد اختلف أرباب الأصول فقال بعضهم يقدم كتاب الله تعالى وقال آخرون تقدم السنة وقال آخرون هما متعارضان
1229 - فأما من قدم الكتاب فمتعلقه قول معاذ إذ قال أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد اجتهد رأيي واشتهر في اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الابتداء بالكتاب ثم طلب السنة إن لم يجدوا متعلقا من الكتاب
12230 - ومن قدم السنة احتج بأن السنة هي المفسرة للكتاب وإليها الرجوع في بيان مجملات الكتاب وتخصيص ظواهره وتفصيل محتملة
2231 - والصحيح عندنا الحكم بالتعارض فإن الرسول عليه السلام ما كان يقول من تلقاء نفسه شيئا وكل ما كان يقول فمستنده أمر الله تعالى وما ذكره معاذ فمعناه أن ما يوجد فيه نص من كتاب الله تعالى فلا يتوقع فيه خبر يخالفه فمبني الأمر فيه على تقديم الكتاب ثم آي الكتاب لا تشتمل على بيان الأحكام
والأخبار أعم وجودا ( منها ) ثم طرق الرأي لا انحصار لها فجرى الترتيب منه بناء على هذا في الوجود ونحن فرضنا المسألة في ظاهرين ليسا نصين وكذلك ما ادعاه من ابتدار الصحابة الكتاب فهو منزل على ما ذكرناه فأما كون السنة مفسرة فلا تعلق ( فيه ) فإنا نقول أن روى تفسيرا للكتاب فلا خلاف في قبوله وتنزيل الكتاب عليه ومعظم التفاسير منقولة آحادا وليس هذا من غرضنا وكذلك لو كان الخبر الذي نقله الأثبات نصا في معارضه ظاهر فالنص مقدم على الظاهر من الكتاب والسنة وقد ذكرنا هذا في تخصيص العموم وأشرنا إلى خلاف فيه والذي ذكرناه الآن هو المختار
1232 - وقال القاضي رحمه الله إن تعارض ظاهر خبر نقله الآحاد فهما متعارضان وهذا لست أراه كذلك فإن الظاهرين متساويان في تطرق التأويل إلى كل واحد منهما والكتاب يختص ( بثبوته على جهة القطع ) ولا أعرف خلافا ( أنه ) إذا تعارض ظاهران من الأخبار أحدهما منقول تواترا والآخر منقول آحادا فالمتواتر يقدم فليكن الأمر كذلك في تقديم الكتاب على السنة مسألة
1233 - قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم
يطعمه الآية وهذه الآية من آخر ما نزل ولا خلاف أنها ليست منسوخة وقد تعلق مالك رحمه الله بموجبها ونزل مذهبه عليها فحرم ما اقتضت الآية تحريمه وأحل ما عداه ورأى الشافعي رحمه الله التعلق بأخبار نقلها الآحاد وترك موجب الآية لها منها أنه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وحرم الفواسق وحرم الحمر الأهلية والأخبار في تحريمها بعد التحليل في الصحاح وتقديم أخبار الآحاد على نص الكتاب مشكل في غير محل الإجماع وليس القرآن في مرتبة الظواهر في هذا الغرض ولكنه يشتمل على النفي والإثبات والإبقاء والاستثناء وهذا أبعد في التاويل من الأخبار التي رويت في معرض المناهي وصيغ النهي ليست نصوصا في التحريم والتنزيه غالب في كثير من المطعومات
1234 - والذي اعتمده الشافعي في الكلام على الآية تنزيلها على ( سبب ) في النزول يدل عليه ما قبل الآية التي فيها الكلام وما بعدها وذلك أنه قال زعمت اليهود أن الشحوم محرمة وذكر تفاصيلهم في البحيرة والسائبة ونسبوا النبي عليه السلام إلى أنه بغير حكم الله تعالى من تلقاء نفسه وأباح طوائف من الكفار الميتة وجادلوا المسلمين فيها وكانوا يقولون تستحلون ما تقتلون ولا تستحلون ما يقتله الله تعالى وأباح آخرون الخنزير والدم فأنزل الله تعالى أنه لم يحرم إلا ما أحلوه وأنهم
مراغمون لما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام وتجري الآية على مذهب من يقول لمن يخاطبه لم تأكل اليوم حلاوى فيقول المجيب لم آكل اليوم إلا الحلاوى
1235 - وهذا ( استكراه ) عندي في الكلام على الآية ولكن يعضده عندي ما هو مجمع عليه في أمور ومذهب مالك مسبوق بالإجماع فيها فإنا لا نشك في إجتناب أصحاب النبي عليه السلام أكل الحشرات وغيرها واعتقادهم أنها بمثابة المحرمات وكذلك الخمر محرمة وليس لها ذكر في هذه الآية ونزولها مسبوق يتحريم الخمر فإذا ظاهر الآية متروك بالإجماع ولا يعتد ( مع تحققه ) بخلاف مالك بعده فينتظم من ذلك الآية على ما ذكره الشافعي مسألة
1236 - إذا ورد عام وخاص في حادثة وتسلط الخاص ( على العام ) إجماعا وورد مثله عام وخاص فالوجه تنزيل العام على موجب الخاص ومثال موضع الخلاف والوفاق ما نصفه الآن أما المتفق عليه فتنزيل قوله عليه السلام في الرقة ربع العشر على قوله ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة والحديث الأول يعم القليل والكثير والحديث الثاني يخص الزكاة بالنصاب فهذا متفق عليه وسببه أن المقيد من الخبرين نص في نفي الزكاة عما قصر عن خمس أواق والخبر الأول ظاهر غير مقصود والغالب على الظن أن المراد بيان قدر الزكاة
1237 - فأما ما أختلف العلماء فيه وهو ( في ) معنى ما وصفناه فقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر مع قوله ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فلم يعتبر أبو حنيفة النصاب وتعلق بظاهر قوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وقال الشافعي أقصى الممكن منه تسليم ظاهره على أن الأمر على خلاف ذلك فإنه لا يخفى على الفاهم أن الغرض من مساق الحديث الفصل بين العشر وبين نصف العشر فإنه عليه السلام قال فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر وخمسة أوسق نص فلا عذر لأبي حنيفة في تركه وضرب الشافعي ما ( في الورق 9 من الخبرين مثالا ورأى ما ذكره مسلكا قطعيا وألحق الشافعي بهذا الفن قوله عليه السلام في أربعين شاة شاة مع قوله في سائمة الغنم الزكاة وهذا دون القسم الأول فإن اشتراط السوم متلقى من المفهوم ونفي الزكاة عما دون خمسة أوسق منصوص عليه على وجه لا يقبل التأويل مسألة
1238 - إذا تعارض عمومان من الكتاب ( أوالسنة ) فظاهرهما التناقض والتنافي مثل قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فهذا ظاهر في
وضع السيف فيهم حيث يثقفون وقال في آية أخرى حتى يعطوا الجزية عن يد فظاهر الآية أخذ الجزية من كل كافر كتابيا كان أو وثنيا وقال عليه السلام خذ من كل حالم دينارا وظاهر هذا جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير تفصيل وقال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام
1239 - وقال بعض الفقهاء فيما ذكرناه وأمثاله الوجه الجمع بين الظاهرين في المقدار الممكن فنأخذ الجزية من أهل الكتاب لآية الجزية ونضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا شبهة كتاب لظاهر الآية الواردة في القتل وزعم هؤلاء أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحدة من الآيتين وكذلك القول في الخبرين وهؤلاء يرون تصرفا في الظواهر مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دلالة
1240 - وهذا مردود عند الأصوليين فالظاهر إذا تعارضهما إلا أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل كما أوضحنا سبيل ذلك في كتاب التأويلات وما ذكره الفقهاء من الجمع احتكام لا أصل له ولو لم يقم عليه دليل لكان ذلك الممسك متضمنا تعطيل الظاهرين وإخرجها من حكم العموم من غيره دليل وليس
أحد الظاهرين أولى بالتسليط على الثاني من الآخر وكل عموم خص فلا بد من عضد تخصيصه بدليل ونحن إنما نخص الجزية بالكتابيين بأخبار وآثار مسطورة في كتب الفقه والغرض من هذا الفصل إجراء الظاهرين على تعارضهما من غير أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني ثم يجعل الثاني دليلا في تخصيص الأول وهذا لا سبيل إليه ولكن اتجه في كل ظاهر تخصيص افتقر ذلك التخصيص إلى دليل غير الظاهرين وإن لم يتجه تعلقنا بالترجيح إن وجدناه فإن لم نجد نزلنا عن التعلق بالظاهرين مسألة
1241 - إذا تعارض ظاهران وأحدهما وارد على سبب خاص والثاني غير مطلق وارد على سبب أما من قال بتخصيص اللفظ العام بمورده فلا شك أنه يخصصه به وأما من رأى التمسك بالعموم دون السبب فإذا تعارض عمومان كما وصفناه والتفريع على أن الاعتبار بعموم اللفظ فإنه يوهيه ويحطه عن رتبة عموم اللفظ المطلق والترجيح يغلب على الظن من منشأ الدليل واللفظ العام يغلب على الظن حمله على مقتضى شموله فإذا عارضه لفظ آخر ينحط عنه في غلبة الظن آخر عن الاول وهذا هو السر الأخفى في الترجيحات فلا وجه للترجيح من طريق النظر في النصوص إلا أن يحمل ذلك على عمل المجمعين والظاهر يقوى وقع الترجيح
فيها وهو متضح في طريق النظر فإن المتعلق فيه غلبة الظن وقد تحقق من الأولين في تعارض الظواهر الاستمساك بالأظهر فالأظهر مسألة
1242 - إذا تعارض ظاهران وفي أحدهما ما يقتضي التعليل في ( صيغة التعميم ) فهو مرجح على العام الذي عارضه وليس فيه اقتضاء التعليل والسبب فيه أن التعليل في صيغة العموم من أقوى الدلالات على ظهور قصد التعميم حتى ذهب ذاهبون إلى أنه نص ممتنع تخصيصه فإن قدر نصا فلا شك في تقديمه على الظاهر المعرض للتأويل وإن اعتقد ظاهرا فهو مرجح على معارضه لاختصاصه بما يوجب تغليب الظن
1243 - وكشف الغطاء في هذا عندنا وهو مما أراه سر هذه الأبواب ولم نسبق بإظهاره فنقول إذا صدر من الشارع كلام غير مقيد بسؤال ولا حكاية حال ولاح قصد التعميم من إجرائه الحكم الذي فيه العموم مقصودا ( لكلامه ) ( فما ) يقع كذلك فاللفظ في المتماثلات نص وليس من الظواهر واضابط فيه أنما لا يخلو عن ذكر المتكلم وعلمه وقت قوله واللفظ في الوضع يتناوله وقد لاح بانتفاء التقييدات وقرائن الأحوال قصد التعميم فلو تخيل متخيل قصر اللفظ على بعض المسميات المتماثلة لكان ذلك عندنا خلفا وتلبيسا وإنما يسوغ الخروج عن مقتضى اللفظ وضعا فيما يجوز تقدير ذهول المتكلم عنه وهذا في حكم التعميم بناء عظيم
وتمام الغرض فيه بذكر معارض لذلك على المناقضة فنقول مستعينين بالله تعالى
1244 - لو ظهر لنا خروج معنى عن قصد المتكلم وكان سياق الكلام يفضي إلى تنزيل غرض الشارع على قصد آخر فلست أرى التعلق بالعموم الذي ظهر فيه خروجه عن قصد الشارع وهو كقوله عليه السلام ط فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر فالكلام مسوق لتعيين ( العشر ونصف العشر فلو تعلق الحنفي بقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر ورام تعليق العشر بغير الأقوات فلسنا نراه متعلقا بظاهر فهذا طرف
1245 - ولو نقل لفظ ولم يظهر فيه قصد التعميم ولا تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي أراه ظاهرا وهو الذي يتطرق التخصيص إليه
1246 - وقد رأى القاضي التعلق بالقسم الأول الذي أخرجته عن الظواهر على رأي المعممين ثم قال هذا يعارضه أدنى مسلك في الظن ويتسلط عليه التأويل والتخصيص والراي عندي فيه قد قدمته والدليل عليه أن الشارع إذا كان مقصوده بيان العشر ونصف العشر لو أخذ يفصل الأجناس وهو يبغي غيرها يعد ذلك تطويلا نازلا عن الوجه المختار في اللغة العالية فتقدير التعميم يشير إلى أنه ( لو لم ) يرد العموم لفصل الأجناس ولو فصلها لكان مائلا عن الوجه الأحسن في النظم وإذا تمهد هذا الأصل فالذي ذكره الاصحاب من أن علة الشارع لا تنقض
محمول على تقدير ما قصد التعميم فيه نصا فليفهم الناظر ذلك وليقف عليه عند هذا وقفة باحث مسألة
1247 - واذا تعارض ظاهران وقد تطرق التخصيص إلى إحدهما فالمذهب الذي ذهب إليها المحققون أن الذي لم يتطرق إليه تخصيص مرجح فأما المعتزلة فإنهم قضوا بأن اللفظ الذي خص في بعض المسميات صار مجملا في الباقي ولا يعارض المجمل ظاهرا وأما أهل الحق وإن لم يحكموا بالإجمال فإنهم يرون تعميم اللفظ في الباقي أضعف في حكم الظن من اللفظ الذي لم يجر فيه تخصيص فإذا لاح وجه في غلبة الظن من منشأ ظهور الظاهر كان ذلك ترجيحا مقبولا مسألة
1248 - إذا تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب إلى احتياط فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأحوط مرجح على الثاني وزعموا أن الذي يقتضيه الورع وإتباع السلامة هذا واحتجوا بأن قالوا اللائق بحكمة الشريعة ومحاسنها الاحتياط فإذا تعارض لفظان غلب على الظن أن الذي نقله صاحب الاحتياط صدق وكأن القواعد تغلب على الظن ذلك وتؤازر الرأي في ذلك
1249 - وقال القاضي لا مستروح إلى هذا ولا معنى للترجيح بالسلامة وما ذكره هؤلاء من شهادة الأصول وإثارتها تغليب الظن يعارضه أن العدل الذي
نقل الثاني لا يتهم ولا يظن به العدول عن قاعدة الاحتياط إلا بثبت واختصاص بمزية حفظ وقد يتخيل أن ما جاء به الأخر بناه على ما ( رآه ) من ظاهر الاحتياط وحمل عليه نظم لفظه من غير ثبت في النقل ثم قال القاضي لا وجه للترجيح وإن انقدح ما ذكرناه آخر فيما لا يوافق الاحتياط انخرمت الشهادة كما ذكرناها أولا فالوجه التعارض مسالة
1250 - إذا تعارض لفظان متضمن أحدهما النفي ومتضمن الثاني الإثبات فقد قال جمهور الفقهاء الإثبات مقدم وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل عندنا فإن كان الذي ( نقله النافي ) إثبات لفظ عن الرسول عليه السلام مقتضاه النفي فلا يترجح ( على ذلك ) اللفظ الذي متضمنه الإثبات لأن كل واحد من الراويين متثبت فيما نقله وهو مثل أن ينقل أحدهما ان الرسول عليه السلام أباح شيئا وينقل الثاني أنه قال لا يحل وكل ناف في قوله مثبت فأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الثاني أنه لم يقل ولم يفعل فالإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغى المستمع وإن كان محدا والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيئ لم يجر له ذكر مسألة
1251 - إذا تعارض ظاهران أو نصان أحدهما يوافق المعروف المعتاد والآخر ما جرى به العرف فالقول في هذا كالقول في موافقة أحد المنقولين للاحتياط
ومخالفة الآخر إياه وقد مضى فيه قول بالغ والمختار التعارض في المسألتين فهذا الذي ذكرناه كلام بالغ في ترجيح الألفاظ النصوص منها والظواهر ومن أحاط بها وأحكم أصولها لم يخف عليه مدرك الكلام فيما يرد عليه من أمثالها
باب في ترجيح الأقيسة 1252 - هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسون وفيه أتساع الاجتهاد وهو يستدعي تجديد العهد بمراتب الأقيسة فنقول المرتبة العليا المعدودة من مسالك القياس ما يقال إنه في معنى الأصل وقد سبق تأصيله وتفصيله وتقدم القول في أنه هل يعد من الأقيسة أو يعد من مقتضيات الألفاظ وهو على كل حال مقدم على ما بعده والسبب فيه أنه ملتحق بأصله قطعا والتحاقه به مقطوع غير مظنون ولا شك في تقديم مراتب العلوم على درجات الظنون ثم يلي ذلك من قياس المعنى ما يطرد وينعكس ويليه القياس الذي يسمى قياس الدلالة كما سبق وصفه ويلي ذلك قياس الشبه فأما ما يعلم فلا ترتيب فيه ( مراتب قياس المعنى )
1253 - وأما قياس المعنى فهو على مراتب لا يضبطها ضابط فإن مسالك الظنون لا يتأتى حصرها وهي وإن كانت منحصرة من جهة تعيين مناسبتها لأصولها الشريعة فلا يتأتى للناظر الوصول إلى ضبطها بعد وربطها بحد ولكنا نحرص على تقريب الأمور والإشراف على ما يكاد أن يكون تشوفا إلى الضبط ونتقي فيما نحاوله مصالح لا نرى تقدير ها مأخذ الأحكام ونحاذر فيها الوقوع في منخرق مذهب مالك ومتسع مسلكه المفضى إلى الخروج عن الحصر والضبط ثم قد ذكرنا في الاستدلال طرفا من ذلك ونحن نعيده ونزيده تقريرا وتقريبا
فنقول
1254 - إذا وجدنا أصلا استنبطنا منه معنى مناسبا للحكم فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة ويكفي في الضبط فيه استناده إلى اصل متفق الحكم ( ومرجوعنا ) في ذلك وجداننا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مسترسلين في استنباط المصالح من أصول الشريعة من غير توقع وقوف عند بعضها
1255 - فأما المعنى الذي لا نجد له أصلا ولا مستندا فهو الذي سميناه الاستدلال ونحن نرى التعلق به كما مهدنا القول فيه ولا يجوز التعلق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء ومن ظن ذلك بمالك رضي الله عنه فقد أخطأ فإنه قد اتخذ من أقضية الصحابة رضي الله عنهم أصولا وشبه بها مأخذ الوقائع فمال فيما قال إلى فتاويهم وأقضيتهم فإذا لم ير الاسترسال في المصالح ولكنه لم يحط بتلك الوقائع على حقائقها وهذا كبنائه قواعد على سيرة عمر رضي الله عنه في أخذه شطرا من مال خالد وعمرو وقد قدر ذلك تأديبا منه وهذا زلل فإنه لا يمتنع أنه رآهما آخذين من مال الله تعالى ما لا يستحقان أخذه على ظن وحسبان وكان يرعى طبقة الرعية بالعين الكالئة والأليق بشهامته وإيالته أن نظره الثاقب كان بالمرصاد لما يتعديان فيه الحدود عامدين أو خاطئين إذ كانا موليين على مال الله تعالى وإذا أمكن ذلك وهو الظاهر فحمله على التأديب لا وجه له ولو صح عنه أخذ مال رجل غير متصرف في مال الله تعالى لكان يظهر ما تخيله مالك
وكذلك كل واقعة ربط مالك أصلا من أصوله بها فإنه لا يرى ذلك الأصل استحداث أمر وهو عند الباحثين ينعطف على أبلغ وجه إلى قواعد الشريعة فخرج مما ذكرناه أن مالكا ضم وقائع الصحابة إلى الأمور الظاهرة من الشريعة ولم يظن بهم افتتاح أمر من عند أنفسهم ولكنه قال الأخبار ( منقسمة ) إلى ما نقلت صريحا وإلى ما فهمنا ضمنا فإنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس أصول فهذا بيان مذهبه
1256 - ونحن نرى الاقتصار في مآخذ الأحكام على أصول الشريعة وأقضية الصحابة محمولة عليها ولا نتخيل أخبارا استندوا بها وسكتوا عن نقلها مع علمنا بأنهم كانوا يبرئون أنفسهم عن الاستقلال ويعضدون ما يحكمون به بما يصح عندهم من أخبار الرسول عليه السلام وهذا وجه أنفصال أحد المذهبين عن الثاني ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة كما ذكرناه في المعنى المستنبط من الأصول ويظهر أثر ذلك بضابط في النفي والإثبات وهو أن كل معنى لو أطرد جر طرده حكما بديعا لم يعهد مثله في الزمان الأطول فيدل خروج أثره عن النظير على خروج معناه المقتضى عن كونه معتبرا والدليل عليه أنه لو كان معتبرا لوجب في حكم العادة القطع بوقوع مثله في الزمن
المتمادي وبمثل هذا المسلك قطعنا ( بأنه ) لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وإذا كان أثر المعنى لا يعدم نظيرا قريبا ولم يقتض طرد المعنى مخالفة أصل من الأصول فهو استدلال مقبول معمول به وبيان ذلك بالمثال أن مالكا لما زل نظره كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سبب متأصل في الشريعة ومنه ( تجويزه التأديب ) بالقتل في ضبط الدولة وإقامة السياسة وهذا إن عهد فهو من عادة الجبابرة وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصحابة
1257 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه فنحن نرسم بعده مراتب في الإخالات وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مدركها على حقائقها مشرف على طرف المعاني فإذا عسر الوفاء باستيعاب أمثلة الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخذ أصلا من أصول الشريعة يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالات ونبين فيه وجوه الترتيب فيها وما يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب مدارك الفقه ومعانيها ثم ( يقيس ) الفطن على ما نرسمه فيها ما يدانيها ( المرتبة الأولى )
1258 - فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه وما يوجب اندفاعه فنقول أوجب الله القصاص في نص كتابه زجرا للجناة وكفا لهم وأشعر بذلك قوله
تعالى ولكم في القصاص حياة واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها من طبقاتهم منكر ثم قال أئمة الشريعة كل مسلك يطرق إلى الدماء الهرج على جريان واسترسال واستمكان من غير حاجة إلى أمر نادر ومعاناة شاقة فهو مردود فإن المقصود المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج فمن خالف هذا فهو لو قدر ثبوته ( ناقض ) له والثالث نصا وإجماعا لا سبيل إلى نقضه فإذا تمهد ( ذلك ) فكل معنى يستند إلى هذه القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة العليا من أقيسة المعاني
1259 - وهذا يمثل ( بالقول في القتل ) بالمثقل ولا شك أن من نفي القصاص به مناقض للقاعدة من جهة أن القصد إلى القتل بهذه الآلات أمر ثابت وهو ممكن لا عسر في إيقاعه وليس القتل به مما يندر ( فإذا لم يعسر ولم يندر ) فكان نفي القصاص بالقتل بها مضادا لحكمة الشريعة في القصاص فإذا ناكر الخصم العمدية في القتل بهذه الآلات سفه عقله ولم يستفد به إيضاح
عسر القتل
1260 - وإن شبب بتعبد في آلة القصاص وكان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم مواقع التعبد
1261 - وإن تمسك بصورة في العكس وقال الجرح الذي لا يغلب إقتضاؤه إلى الهلاك اذا أهلك أوجب القصاص كان هذا غاية في خلاف الحق فإن الجرح لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا للمعتدين فكيف يستجيز ذو الدين أن يبنى عليه إسقاط القصاص بالقتل الذي يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة وليعتبر المعتبر عن هذا الأصل فإنه أجلى أقيسة المعاني وأعلى مرتبة فيها فإنه لا حاجة في ربطه بالقاعدة إلى تكلف أو تقرير أو تقريب وتحرير ولو قيل هو الأصل بعينه ( و ) ليس ملحقا به لم يكن ( بعيدا )
1262 - ومخالف ما يقع في هذه المرتبة مائل عن الحق على قطع وليس القول فيها دائرا في فنون الظنون وما يكون بهذه الصفة لا يتصور أن يعارضه معارض
1263 - ونضرب لهذا مثالا آخر قياسا فنقول الغرض من شهادة الشهود إيضاح المقصود المشهود به ثم للشرع تعبدات وتأكيدات في رتب البينات على حسب أقدار المقاصد وأعلى البينات بينة الزنا فإذا شهد على صريح الزنا أربعة من الشهود
العدول وتناهى القاضي في البحث وانتفت مسالك التهم فهذا أقصى الإمكان في الإيضاح والبيان فلو شهدوا وأقر المشهود عليه مرة واحدة لم يؤثر إقراره ووجب القصاص بموجب البينة فإن إقراره تأكيد البينة ولا يحط من مرتبة البينة شيئا فإذا قال أبو حنيفة إذا أقر المشهود عليه مرة سقطت البينة ولم ( يثبت ) بذلك الإقرار شئ لم يجز أن يكون هذا مضمون في أصل الشريعة المحمدية فإن الإقرار لم يعارض البينة مناقضا ثم هو ذريعة يسيرة غير عسيرة في ترك البينات ثم المقر لا يحلف حتى يتخيل ارعواؤه ولو طلبنا أمثال ذلك وجدنا منه الكثير المرتبة الثانية
1264 - تعتمد على قياس معتضد بالأصل ولكنه قد يلقى الجامع احتياجا إلى مزيد تقرير وتقريب ويعن للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا ومثال ذلك أنه قد ثبت وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة الشرع في تحقيق العصمة وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال ذلك ليست بالعسيرة والقتل على ( الاشتراك ) غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في الأصل إيجاب القتل على الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد ( منهم ) ليس قاتلا وفعل كل واحد منهما يخرج أفعال شركائه عن الاستقلال بالقتل وقتل غير القاتل فيه مخالفة الموضوع المشروع في
تخصيص القتل بالقاتل وفيه وجه آخر وهو أن إمكان القتل بالمثقل فوق إمكان الاستعانة وعن هذا تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على الشركاء وصرح بعض المفتين بأن قتل المشتركين خارج عن القياس والمعتمد فيه قول عمر رضي الله عنه إذ قال لو تمالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به فنشأ من منتهى هذا الكلام أن الجاني محرم الدم معصوم ( فإذا تطرقت الاحتمالات لم يجز الهجوم على قتل معصوم )
1265 - والمسلك الحق عندنا أن المشركين يقتلون بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج بعضهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص ( عنهم ) هرج ظاهر فلا نظر مع الظهور إلى انحطاط إمكان الاشتراك قليلا عن الأنفراد بالقتل بالمثقل فإنه يعارض ذلك أن المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين ويتطرق إلى الاستقلال بالقتل عسر ( من وجه ) حتى تمس الحاجة إلى فرض كلام في أيد وضعيف أو تقدير اغتيال ( فيعتدل ) المسلكان حينئذ وخروج كل واحد عن كونه قاتلا لا وقع له مع إفضاء درء القصاص إلى الهرج مع العلم بأن القصاص ليس على قياس الأعواض وأما كون الجاني معصوما فلا أثر له في هذا المقام مع أنه سعى في دم من غير
أن يفرض له تقدير عذر فكان ما أقدم عليه مسقطا حرمته وخارما عصمته والشبهات إنما تنشأ من فرض أمر يقدر للجاني عذرا على قرب أو على بعد وهو منشأ الشبهات على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى
1266 - فإذا تمهدت هذه القاعدة ( فغرض هذه ) المرتبة إلحاق فرع بهذا الأصل مع تقدير الوفاق فيه فنقول في الطرف إنه صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين كالنفس وهذا أجلى ولكنه في اعلى مراتب الظنون
1267 - فإن قيل ما سبب خروج هذا القياس عن مسالك العلوم مع استبانة ( استقائه ) من القاعدة كما ذكرتموه قلنا في القاعدة على الجملة نظر أما إسقاط أصل القصاص عن المشتركين فمعلوم بطلانه قطعا فإنه مبطل لحكمة العصمة وأما قتل واحد من المشركين لا بعينه مع تفويض الأمر إلى رأى من له القصاص فليس يرد ذلك ولكنه يقع في مجال الظنون ثم في إلحاق الطرف بالنفس ثلاثة أشياء يطرق كل واحد إليه الظن أحدها أن قائلا لو قال لو أفضى قطع الطرف إلى النفس لوجب القصاص على المشتركين وتقرير ذلك مردعة لهم فلا يؤدي ذلك إلى االهرج هذا وجه واقع ودافعه أنه لو صح لسقط القصاص في الطرف أصلا فإذا جرى القصاص مع الاندمال أشعر ذلك باعتناء الشرع بتخصيصه بالصور حتى كأن الطرف مع النفس كزيد مع عمرو في أن كل واحد منهما مقصود بالصون
1268 - والوجه الثاني مما يقتضي الظن ظن الخصم أن ما ذكرناه من الجمع في حكمه القصاص ينقضه تمييز فعل أحد الشريكين في القطع عن فعل الشريك الثاني فإذا كان كذلك فهو ممكن غير عسير ثم لا قصاص على واحد منهما وهذا إن سلم فهو لعمرى قادح في الجمع وقد صح فيه منع كما يعرف الفقهاء
1269 - والوجه الثالث أن الطرف مما يقبل التبعيض فيصور الخصم أن القطع الواقع على صورة الشركة يحمل على وقوعه على التبعيض إذا كان المجني عليه قابلا للتبعيض وهذا زلل فإن إمكان تصوير ما يسقط القصاص لا يدرؤه إذا لم يكن وكان بدله ما يشابه الأشتراك في الروح فلو توجهت هذه الجهات وبعد القول في الأصل بعض البعد كان ذلك دون المرتبة الأولى المستندة إلى العلم ( والقطع ) فهذا واضح جدا ومن حكم وضوحه أنه لا يثبت له معارض إذ لو قدر له معارض لكان ناشئا من تقدير شبهة توجب المحافظة على حكمة العصمة في حق الجاني ومآخذ الشبهات ما يشير إليه المعاذير ولا عذر للجاني وإن حاول الخصم تسبيب المعارضه في جهه أن واحدا لم يقطع اليد بطل ذلك عليه بالنفس ولو رجع وزعم أن القصاص على الشركاء على خلاف القياس كان ذلك روم اعتراض وقد أوضحنا بطلانه
والمخيلة العظمى في ظهور قياس المعنى امتناع المعارضة المحوجة إلى الترجيح فإن عارضوا القصاص في الطرف بقطع السرقة وشبهوا الاشتراك في قطع اليد بالاشتراك في سرقة نصاب لم يكن ما جاءوا به ماخوذا من قاعدة القصاص ونحن لم نعن بامتناع المعارضة انسداد المسالك البعيدة وإنما المعارضة الحاقة ما ينشأ من وضع الكلام ولا شك ( في ) أن قطع السرقة بعيد في أصله وتفصيله عن القصاص فإن الأصل المعتبر في قطع السرقة أخذ مال غير تافه على الاختفاء من حرز مثله والغرض بشرع القطع ردع السارق عن تناول المال والنفيس وفي النفس مزجرة عن ركوب الأخطار بسبب التافه وهذا المعنى يوجب نفي القطع عن الشركاء فإن كل واحد منهم على حصته من المسروق وذلك المقدار لا حاجة إلى إثبات رادع عنه وهذا لا يتحقق في القصاص أصلا ( فيما نحن فيه ) فإن معتمده الصون وتمهيد العصمة وليس في قاعدته انقسام إلى التافه والنفيس وخروج كل جان عن الاستقلال بكل الجناية لا يسقط القصاص عنه إذ لو قيل به لخرم قاعدة الصون على أنه محقق في النفس كما سبق
1270 - وإذا لم تكن المعارضة على حقها في منشأ الاجتهاد لم ينتظم فرق ورجع كلام المحقق إلى تباين القاعدتين وتباعدهما وإيضاح ابتناء كل واحد منهما على أصل غير معتبر في القاعدة الأخرى وهذا لا ينتظم فرقا ويدخل في أقسام فساد الوضع ووجب نسبه الخصم إلى البعد
عن مأخذ الكلام والاكتفاء بتلفيق لفظي عرى عن التحقيق
1271 - والذي يحقق ذلك ان من سرق نصابا واحدا في دفعات ( وهو في كل دفعة ) يهتك حرزا لم يستوجب قطعا ولو قطع جان يدا واحدة بدفعات استوجب القصاص عند الإبانة
1272 - ويتعلق بالكلام في هذا القسم أمر يتعين الاعتناء به وهو مزلة مالك ونحن نقول فيه إذا ثبت ارتباط حكم في أصل بحكمة مرعية فيجوز الاستمساك بعينها في إلحاق الفرع بالمنصوص عليه في عين الحكم المنصوص ولا يجوز تقدير حكم آخر متعلق بحكمة تناظر الحكمة ( الثابتة ) ( في الأصل المنصوص عليه فإن هذا يجر إلى الخروج عن الضبط ويفضي في مساقه إلى الإنحلال ( فإن الحكمة الثانية ) لو قدرت لدعت إلى ثالثه ثم لا وقوف إلى منتهى مضبوط
1273 - وبيان ذلك بالمثال أن المال صين بشرع القطع إبقاء له على ملاكه وزجرا للمتشوفين إليه ولو فرض تعرض للحرم بمراودات دون الوقاع فأدناها يبر على أقدار الأموال ولا يسوغ نقل القطع إليه وكذلك القول في أمثاله
1274 - وعند ذلك انتشر مذهب مالك وكاد يفارق ضوابط الشريعة واعتصم بألفاظ وعيدية معرضة للتأويل منقولة عن جلة الصحابة وقد يدنو المأخذ جدا فيزل الفطن إذا لم يكن متهذبا دربا بقواعد الاجتهاد
1275 - وبيان ذلك ( بالمثال ) أنا إذا قلنا قطع السرقة مشروع لصون الأموال
وزجر السارقين فألزمنا عليه ما إذا نقب الواحد الحرز وسرق الآخر فلا قطع على وواحد منهما وهذا يخرم الحكمه المرعية في ( صون ) الأموال فإن ( التسبب ) إلى ما ذكرناه يسير ممكن وهذا على الحقيقة غامض من جهة أن الشخص الواحد إذا نقب وسرق فقد أخرج النقب الحرز عن حقيقته ولم يقدم على المال إلا وهو في مضيعة ثم لم نقل لا قطع عليه من حيث انفصل هتك الحرز عن أخذ المال وكان من الممكن أن يختص القطع بمن يتسلق على الحرز ويأخذ المال من غير هتك وهذا مجال ضيق ويتجه فيه خلاف العلماء وحق الأصولي ألا يعرج على مذهب ولا يلتزم الذب عن مسلك واحد ولكن يجري مسلك القطع غير ملتفت إلى مذاهب الفقهاء في الفروع
1276 - ثم القول الممكن في السارق والناقب أن صون الأموال وإن اثبت فهو مخصوص بالسرقة من الحرز وليس ( إلينا ) وضع الحكم والمصالح ولكن إذا وضعها الشارع اتبعناها
1277 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن المعلل إذا قيد تعليله ( الفقهي ) المعنوي يقيد غير مخيل لا على معنى الاستقلال ولا على الانضمام إلى أركان العلة المركبة فذلك التقييد مطرح في مسلك المعاني وطرق الإخالة إلا فيما نصفه وهو تقييد الكلام بحكم معين تعلق بحكمة معلومة وهذا كذكرنا صون المال عن السراق فإذا ألزمنا صون الحرم لم نلتفت إليه ولم نلتزم فرقا بين الصورتين فإن ذلك إنما ينشأ من رعاية المصلحة مع الإنحصار على الحكم المنصوص عليه
ثم ما ذكرناه ليس مختصا بحكم واحد بل هو مطرد في جمله المصالح الشرعية فكل مصلحة مختصة ( بحكمها ) وغاية القايس ضم جزئي في المنصوص عليه إلى القاعدة الكلية
1278 - فإن قيل إذا قسم الطرف في حق الاشتراك على النفس فهل تنسبون إلى المحذور الذي ذكرتموه من مجاوزة موارد المصالح قلنا إن كان ذلك مجاوزة فلا قياس إذا وينبغي أن يجتنب المنتهي إلى هذا المقام طرفي القياس والانحلال فنقول ساوى الطرف النفس في الأصل وهو القصاص ثم ثبت الصون في النفس بإجراء ( القصاص ) على المشتركين فرمنا إلحاق الطرف المساوي للنفس ( في أصل القصاص بالنفس ) في فرع اقتضاه أصل القصاص وهذا غاية المطلوب في ارتباط الفرع بالأصل واقتضاء الأصل الفرع
1279 - وإذا بلغ الكلام هذا المبلغ فليعلم الناظر أن اسد المذاهب في القول بالقياس الحق واجتناب الخروج عن الضبط مذهب الشافعي ولست أرى في مسالكه حيدا إلا في أصل واحد لم يحط بسر مذهبه ( فيه فهمي ) وهو إثباته قتل تارك الصلاة فإنه لم يرد فيه نص وتقريب القول فيه يتضمن حكمه لم يثبت أصلها وهذا مشكل جدا فإن طمع ( من ) قصر فكره بتشبيه المأمور به بالمنهي عنه كان ذلك بعيدا غير لائق بمذهب هذا الإمام وهذا القدر كاف في التنبيه وقد نجز غرضنا في القول في المرتبة الثانية من قياس المعنى
المرتبة الثالثة
1280 - نمثلها في القول بالمكره على القتل وفيه ثلاثة مذاهب أحدها أن القصاص على المكره دون المكره والثاني وهو قياس مبين أن القصاص على المكره دون المكره وهو مذهب زفر والثالث أن القصاص يجب عليهما وهو مذهب الشافعي
1281 - وأبعد المذاهب عن الصواب إيجاب القصاص على المكره دون المكره المحمول فإنه زعم أن فعل منقول إلى مكره وكأنه آلة له وهذا ساقط مع المصير إلى ( أن ) النهي عن القتل متجه مستمر على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع إياه ومن ضرورة كون الشي آلة انقطاع التكليف عنه فتخصيص المكره بإلزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له
1282 - ( ووجه ) مذهب زفر في القياس لائح وهو أنه راى المحمول ممنوعا ولم ير أثر الإكراه في سلب المنع والنهي والمباشرة تغلب على السبب إذا استقلت فارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع
1283 - والذي يختاره أصحاب الشافعي ينبني على ما ذكرناه لزفر في استقلال المباشرة وهذا يقتضي إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره ( بالكلية ) فإنه موقع القتل غالبا والإكراه من
أسباب تقرير الضمان فيبعد تعطيله وإخراجه من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلها منزلة الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل صاحبه من جهة أنه يخرجه عن كونه قتلا ثم لم يسقط الأشتراك القصاص عنهما فإذا لم يصر أحد إلى إسقاط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف ما صدر عن كل واحد منهما أما ضعف المباشر فمن جهة كون المباشرة ( محمولا ) وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا واستمرار التكليف يوهي أثر الإكراه فليس أحدهما بالضعف أولى من الثاني فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما وقد ثبت أن القصاص أولى بأحدهما وقد ثبت أن القصاص لا يسقط عنهما وقرب تنزيلهما منزلة الشريكين
1284 - ولكن القول في هذا ينحط عن القول في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد منهما عن قياس بابه ثم يتعارض مأخذ مذهب زفر وأبي حنيفة والترجيح لزفر
1285 - ومأخذ إيجاب القصاص عليهما يتشوف إلى جمع نكتتى المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص ( عنهما جميعا وإيجاب القصاص ) على شهود الزنا إذا رجعوا بعد إقامة الرجم أظهر من إيجاب القصاص على المكره الحامل من جهة أن الإكراه يضعف ببقاء التكليف على المحمول ولا خيرة للقاضي بعد إقامة البينة وليس ممنوعا منع المكره المحمول بل النية أوجبت على القاضي إقامة الرجم ولذلك لم يختلف قول الشافعي في وجوب القصاص عليهم اختلافه في المكره أما الشهود على القصاص إذا رجعوا فإن فرض رجوع المدعي واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على الشهود فالطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في استمرار المدعي على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته ولو ذهبنا نستقصي هذه الأمثلة لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه
1286 - ولم يوجب الشافعي عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم بقول المدعي وهو في مسلك القياس يداني إيجاب القصاص بأيمان المدعي في مسلك لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى القياس ذلك
1287 - وهذا أوان تغليب حق المدعي عليه من طريق القياس قال الشافعي إذا كان القصاص لحقن الدم والهلاك لا يستدرك وإذا رجع الغرض إلى حقن دم الباقين فرعاية حقن دم الجاني وهو غير مسفوك أولى واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط فيها ظهور اللوث عند الحاكم وهو غير مشروط في اللعان غير أن المعتمد في القسامة الخبر الصريح والمعتمد في اللعان يستند إلى شيئين أحدهما أنا لا نجد بدا من الخروج عن قانون الحجج فالاستمساك بظاهر القرآن العظيم أقرب وحمل العذاب على الجنس بعيد وبالجملة نفي إيجاب الحد وتغليب حقن دمها أقرب عندي إلى مأخذ الشريعة
1288 - ومن عجيب الأمر أن قول الشافعي اختلف في القصاص هل يجب بأيمان القسامة ولم يختلف في وجوب الحد على المرأة مع تعرض الحد الواجب ( لله تعالى ) فيه للسقوط بما لا يسقط القصاص به وسبب هذا أن خبر القسامة ورد في ( الغرم ) وآية اللعان اشتملت على ذكر العذاب وهذا وغيره في أمثال ما ذكرناه من قواعد الشريعة ونحن نختتمه بأمر بديع يقضي الفطن ( العجب ) منه
1289 - فالمرتبة الأولى العلمية تكاد أن لا تكون جزءا من المنصوص عليه والمرتبة الاخيرة نعنى اللعان والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نرسمها مرتبة في القياس من حيث لم نرها مستقلة فهذه جملة كافية في التنبيه على المراتب وضابطها القريب من القاعدة والبعيد منها مراتب قياس الشبه
1290 - ونحن نذكر الآن مراتب قياس الشبه فنقول مجال هذا القسم ( عند ) انحسام المعنى المخيل المناسب فإذا لم نجد معنى للحكم الثابت أو صادفنا ما يخيل غير صحيح على السبر فالوجه رد النظر إلى التشبيه
1291 - ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد انقسام ( مراتب ) قياس المعنى فالواقع في المرتبة الأولى هو الذي يسميه الأصوليون في معنى الأصل ولا يريدون به المعنى المخيل وهذا إذا وقع معلوما كان في المرتبة العاليه وقد سبق ( القول في ) الاختلاف فيها هل يسمى قياسا أو هو ملتقى من الألفاظ والنص
1292 - والوجه عندنا في ذلك أن يقال إن كان في اللفظ إشعار به من طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم
عليه فهذا وإن كان في ذكر فالعبودية مستعملة في الأمة وقد يقال للأمة عبدة وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق به فهو قياس مفض إلى العلم وهو قاعدة الأشباه بعد ونظيره إلحاق الشافعي عرق الكلب بلعانة في التعبد برعاية العدد والتعفير
1293 - فإذا زال العلم وكان الشبه يفيد غلبة الظن ولا يفسد لدى السبر والعرض على الأصول ( فهو مقبول ) وإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود عند المحققين والأشباه بين طرفي قياس المعنى والطرد
1294 - والذي لاح من كلام الشافعي أن أقرب الرتب من المراتب المعلومة إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا بحيث لا يخرج عن الرتبة إلحاق ( الرز بالحنطة والذرة بالشعير ثم يلي هذه الرتبة ) الوضوء بالتيمم في الأفتقار إلى النية ولهذا قال الشافعي ( مستبعدا ) طهارتان فكيف تفترقان
1295 - ونحن نقول في ذلك كل شبة يعتضد بمعنى كلي فهو بالغ في فنه وذلك إذا كان المعنى لا يستقل مخيلا مناسا وبيان ذلك فيما وقع المثل به أن التيمم ليس فيه غرض ناجز وقد بينا من كلى الشريعة أنها ( مبنية ) على الاستصلاح فإذا لم يلح صلاح ناجز يظهر من المآخذ الكلية ربط ما لا غرض فيه ناجز بصلاح في العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب فإذا وجدنا طهرا كذلك متفقا عليه ثم كان المختلف فيه غير معقول المعنى ظهر فيه وقع التشبيه في الأفتقار إلى النية المحصلة غرض العقبى
1296 - فليتخذ الناظر هذا معتبرا في الرتبه الأولى من الأشباه المظنونة ولم يبلغ
مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهرين في أحكام وشرائط وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ووزن طريقة الأشباه عندنا فإن مسالك الإخالات باطلة فلا يبقى إلا التشبيه ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى المقصود من المنصوص عليه وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار القوت لمكان الملح وسقط اعتبار ( التقدير ) لجريانه في الجنسين والجنس على وتيرة واحدة ولاح النظر إلى المقصود مع الاعتراف بأنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول من المظنونات ولولا ما ثبت عندنا في الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا إليه لإجماع القياسين وجدنا إتباع المقصود أقرب مسلك ولهذا وقع في المرتبة الثانية
1297 - فإن قيل هل ترون الشبه الخلقي في غير مجانسة ومماثلة معتبرا قلنا لا إلا أن نشير إلى ان اعتبار الخلقي أصل الشريعة كما ثبت ذلك في جزاء الصيد وقد ثبت قريب منه في الحيوانات المشكلة في الحل والحرمة وما ذكره أبو حنيفة في ( اعتبار الإنطراق ) والانطباع في الجواهر المعدنية في الزكاة طرد عندنا
1298 - ومن أبواب الشبه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا وهو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة فالذي يقتضيه القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات والذي
يقتضيه الشبه اعتباره بالحر فإن قيل هذا ايضا في الشبه الخلقي وقد أنكرتموه قلنا ليس الأمر كذلك فإن العبد يفرض قتله على الجهة التي يفرض فيها قتل الحر إذ قد يظن على بعد أن سبب التعاون في الحمل في الديات ما يقع ( من ) الخطأ بالقتل بين أصحاب الأسلحة وهذا يتفق في الحر والعبد على جهة واحدة
1299 - ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبيد بالسبب الذي يقدر ( به ) أطراف الأحرار فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير واعتبار ما ينتقص من القيمة نظرا إلى المملوكات سيما على رأي تقديره قيمه العبيد وتنزيلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها وهذا مذهب ابن سريج والظاهر من مذهب الشافعي أنها تقدر ومعتمده الشبه
1300 - فإن قيل فما الوجه في المثالين قلنا الوجه في مسألة التقدير مذهب الشافعي فإن الشارع أثبت ( للحر ) بدلا حتى لا يحبط إذا قتل خطأ ثم قاسموا أطرافه بجملة بمعان لا تنتهي أفهام المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن ألا ( تتقدر ) أروش أطراف الحر فإنا ألفينا في جراح الأحرار حكومات غير مقدرة فلئن اقتضى شرف الحر تقدير دينه فهذا لا يطرد في أطرافه فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد في العبد كطرف الحر في الحر فلا التفات إلى خروج قيمة العبد عن التقدير
1301 - فإن قيل ( فقدروا ) أطراف البهائم قلنا لم يتحقق فيها أنها تقع موقع اطراف الأحرار في الأحرار فهذا الشبه أولى من المعنى الكلي من جهة أنه أجلى وأليق بالغرض واميز للمقصود هذا والمضمون من الحر والعبد الدمية
1302 - أما القول في تحمل العقل والقيمة فالأظهر عندنا التمسك بالمعنى لعبد تحمل العاقلة العقول عن مدارك العقول وقد يظن أن العبيد لا يخالفون الأحرار في تعاطيهم الأسلحة وإن ذكر فيهم ذلك فقد يتعدى إلى الدواب في تجاول الفرسان فكان تقدير أروش أطراف الأحرار معللا بمعان اعتقدناه ولم ندرك حقيقتها وضرب العقل ( يشبه ) تحكم المالك على المملوكين ( فالاحزم ) أن ( لا ) يضطرب فيها ( بالخطى ) الوساع
1303 - ومما يعده الفطن قريبا مما نحن فيه إلحاق القليل من الدية بالكثير في الضرب على العاقلة ونحن نرى ذلك المسلك الأعلى من الشبه من جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جاز في القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هو مبينا على الإجحاف بالمحمول عنه فإن الدية محمولة على الموسرين فكأن الضرب ثبت في الشرع مسترسلا ( على الأقدار ) من غير اعتبار مقدار وهذا من جملة الامثلة التي ذكرناها تكاد أن تلتحق بالمرتبة المعلومة أو تدانيها
1304 - فهذه قواعد الاشباه المعتبرة ونحن نجدد فيها ترتيبا بعد ما وضحت
الأصول ونبني الغرض على سؤال وجواب وهو السر وكشف الغطاء
1305 - فإن قيل إن تعلق الناظر بوجه من الشبه فما وجه تقريره إذا نوقش فيه فإن قال المشبه ما ذكرته يغلب على الظن فقال له المعترض ليس كذلك فما سبيل درئه وكيف الجواب عن سؤاله ولا شك أن غلبة الظن لا تحصل إلا مستندة إلى شبه يقتضيها ولا بد من ذكره وبه يتميز الشبه عن الطرد وكل شبه يقتضي الظن فلا بد أن تنتظم عبارة وعربة عنه ثم أن تأتي وانتظم ذلك سالما عن القوادح فهو معنى إذا فترجع الأشباه الى معان خفية ويبطل تقسيم الأقيسة إلى المعنوي والشبهى
1306 - قلنا هذا السؤال بحث عن لباب الفصل وحقيقته فلا يتصور استقلال ( شبه ) دون ما ذكره السائل ولكن سبيل القول فيه أن الشبه يستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث ينبه ( عليه ) أحدهما الأمثلة وجريانها على مقتضى الشبه وهذا كإلحاقنا اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه ضرب حصة آحاد الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف فيخرج ( مما ) ذكرناه وأمثاله أن ضرب العقل لا ينتهي إلى موقف في قلة ( ولا كثرة ) وليس هذا معنى مخيلا ( مناسبا ) وإنما هو متلقى من أصل الوضع بالمسلك الذي ذكرناه فهذا إذا ظهر قليلا التحق ( بالقسم ) الذي يسمى قياسا في معنى
الأصل كما سنذكره في آخر هذا الفصل فهذا وجه
1307 - والوجه الثاني وهو الذي يدور عليه معظم الأشباه إن ثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا أن الشارع قدر أرش يد الحر بنصف الدية لنسبة لها مخصوصة إلى الجملة لا يضبطها والإصبع دونها في ( الغناء ) وهذا لا شك فيه ولكنا إذا أردنا أن نطلع عليه وعلى الوجه الذي لأجله يقتضي التشطير لم يكن ذلك ممكنا وهذا يناظر علمنا بأن الشارع فرق بين التافه والنفيس من المسروق ثم قدر النفيس بدينار أو ربع دينار فالأصل معلوم ولا اطلاع على المعنى الذي يقتضي هذا المقدار ويناسبه فإذا تمهد ذلك وكان اعتبار يد العبد بيد الحر شبها فإنا نعلم أن غناء يد العبد من جملته كغناء يد الحر من جملته فهذا إذا يستند إلى معنى معتقد ( على الجملة ) من قصد الشارع ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه ومهما اتجه هذا النوع كان بالغا جدا مقدما على المعاني الكلية المناسبة
1308 - فأما الأمر الثالث الموعود فالتشبيه بالمقصود وهذا لا استقلال له إلا أن يضطر إلى التمسك بتقدير علم الحكم المنصوص عليه ومثال ذلك الأشياء الستة المنصوص عليها في الربا فلو هجم الناظر عليها ولم يتقدم عنده وجوب طلب علم لم يعثر على فقه قط ولا شبه فإن الفقه مناسب جار مطرد سليم على السبر والشبه متلقي من أمثلة أو مخيل معنى جملي والرأي لا يقضي بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم
وانحسم المعنى المسبور والجملي فلا وجه إلا أن يقال إذا لم يثبت الحكم لأعيان هذه الأشياء ثبت لمعانيها هي المقصودة منها
1309 - ثم ينتصب على ذلك شاهدان أحدهما من قبيل التخصيص وهو اختلاف الحكم باتحاد الجنس واختلافه والثاني عموم قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام ( إلا مثل بمثل ) فهذه معاقد الأشباه ثم لا حاجة إلى تكلف الميز بينها وبين الطرد
1310 - فإن قيل المعلوم الذي يسمى قياسا في معنى الأصل ما مستند العلم فيه قلنا اكتفى بعض الضعفة بادعاء العلم وانتهى إلى دعوى البديهة وزعم أن جاحده في حكم جاحد الضرورات ونحن نوضح الحق في ذلك ونقول كون العتق في العبد بمثابة كونه في الأمة والرق فيهما أيضا على وتيرة واحدة وهذا معلوم قطعا ولا يمتنع أن ينص الفصيح على واحد من الأمثال ويرغب عن التعلق بالألفاظ العامة ويجعل ما ذكره مثالا لحكم يؤسسه ( كالواحد ) منا إذا أراد أن يبين حكم البيع فقد يقول من باع ( ثوبا ) فقد زال ملكه عنه فيؤثر ضرب مثل لخفته عليه في مجارى الكلام وهذا أن ساغ لا استكراه فيه ولا يمتنع في تحكمات الشرع تخصيص سريان العتق بالعبد
لكن لو كان كذلك لتعين في حكم البيان التنصيص على التخصيص ( فإذا ) لم يجر ذلك انتظم من مجموعة القطع بثبوت القياس في معنى الأصل
1311 - ولو نص الشارع على موصوف وذكر فيه حكما تقتضيه تلك الصفة اقتضاء اختصاص فهذا النوع من التخصيص بتضمن نفي ما عدا المنصوص وهو المفهوم وقاعدته كقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة فأما لو قدر مقدر من الشارع ان يقول في عفر الغنم زكاة فهذا ليس في مرتبة المفهوم ولا يصلح ( أيضا ) لإجراء مثالا بخلاف العبد الذي يجرى مثالا في المملوكين فإذا لا يقول الشارع مثل هذا فإنه من التخصيص العرى عن الفائدة فليفهم الناظر هذه المنازل والترتيب بعد ذلك كله
1312 - فالمرتبة الأولى للمعلوم وقد بينا مأخذه
1313 - والمرتبة الثانية لما يتلقى من الأمثلة كإلحاق القليل من العقل ( في الضرب ) على العاقلة بالكثير فإن ذلك قريب جدا من الرتبة المعلومة
1314 - والمرتبة الثالثة ما يستند إلى معنى كلى لا تحيط الأفهام والعبارات بتفصيله كما ذكرناه في تقدير أروش الأطراف وافتقار طهارة الحدث إلى النية
1315 - وأنا أرى الطهارة تنحط في الرتبة عن تقدير الأروش فإن تقدير الأروش يستند إلى أغراض ناجزة نعتقد أصولها ونقصر عن درك تفصيلها وأمر الثواب خفي في الطهارة لا يتأتى فيه من الاطلاع ما يتأتى في مستند تقدير الأروش فلا بأس إذا لو قدر افتقار الطهاره إلى النية كرتبة متأخرة عن تقدير أروش أطراف العبيد وأما نصب المقاصد فمسترسل كما سبق تقديره في الربويات فهذا لا
يستقل بنفسه دون الإرهاق إلى نصب العلم وهو دون المرتبة الثالثة
1316 - ونحن نختم هذا الأصل بمسألة يتعارض فيها شبهان فنقول اختلف العلماء في أن العبد هل يملك ومأخذ الكلام من طريق التشبيه ما نصفه أما من يقول يملك فشبهه بالحر من جهة أن الحر فطن مؤثر مختار طلوب لما يصلحه دافع لما يضره لبيب فطن أريب والعبد في هذا كالحر فهذا شبه فطري غير عائد إلى ( الصورة ) وإنما راجع إلى المعاني التي بها يتهيأ الإنسان لمطالبة ومآربه
1317 - ومن منع كونه مالكا شبهه بالبهائم من حيث إنه مسلوب القصد والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول تمسك بالأمور الخلقية ومن منع الملك تمسك بمأخذ الأحكام فكان ما قاله أقرب فإن الرق حكم غير راجع إلى صفات حقيقية خلقية وحاصلة سقوط استبداد شخص وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم الملك الاستقلال ثم أقام الشارع المالك طالبا للمملوك فيما يسد حاجته ويكفي مؤنته والحاجة ( التي ) لا يتصور فيها الكفاية أثبتها الشارع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المستمتع في النكاح
1318 - فإن قيل السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان استغراق السيد إياه يمنعه من صفات المالكين فإذا ملكه المولى وجب أن يملك قلنا هذا يلزم الخصم في تصوير إلزام الملك ( له ) ثم التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا متحكما عليه فلم يجامعه التمليك كما لم يجامعه إلزام الملك
فإذا زال الرق عنه ملك حينئذ وإذا ثبت له حق ( الاستقلال ) بأن كاتبه فيتصور له ملك على ضعف على حسب ما يليق به فهذا المعتبر في النظر إلى ( أقرب ) الأشباه ( وأدنى المآخذ ) فيها وما تعلق به الأولون موجبة أن لا فرق لأن خلقه وصفاته كصفات الحر فإذا تصور كونه مملوكا سقط هذا الاعتبار وجلى الشرع حكمه
فصل 1319 - المرتبة الأولى من قياس المعنى هو النتيجة الأولى لما صح من معنى القاعدة ويناظرها في مأخذ الأشباه ما يقال إنه في معنى الأصل وما يستأخر من أقيسة المعاني عن رتبة العلم ويقع في أعلى مراتب الظنون كاعتبار الإطراف بالنفس يناظر من الأشباه ما ثبت بظواهر الأمثلة كاعتبار القليل من ضرب العقل على العاقلة بالكثير وما يبعد عن المرتبة الأولى في المعاني المظنونة يناظر ما يتعلق بتقدير الأروش في أطراف العبيد ثم ما يتعلق بالأمور المغيبة كتقدير الثواب في الطهارة وما ثبت معللا من جهة الشارع ولم يعقل وجه المناسبة فيه كقوله عليه السلام أينقص الرطب إذا يبس يناظر ما يضطر إليه من اعتبار المقاصد في الربويات
1320 - فأما رتبة العلم فلا يترجح فيها مطلوب على مطلوب فإن العلوم لا تفاوت فيها وإن انحططنا عن رتبة العلم فآخر مراتب المعاني مقدم على أعلى مراتب
الأشباه إلا أن يسترسل المعنى ويختص بالشبه كاعتبار نقصان القيمة في أطراف العبيد أخذا من المعاني الكلية مع التقدير أخذا من التشبيه بالأحرار وهذا لا يتطرق إليه قطع إذ لو كان مقطوعا به لما عد من خفيات المظنونات وإلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل ( على العاقلة ) أظهر من المعنى الكلي فيه فإن من تمسك بالمعنى الكلي ينقطع طرد كلامه بمحل الوفاق في ضرب العقل على العاقلة ويضطر أن يقف موقف الطالبين ( ويقول ) الأصل تخصيص الغرم بالجاني فأقيموا دليلا في محل النزاع وإذا طالب ذكرنا مسلكا من ضرب الأمثلة فكان في حكم شبه لا يعارضه معنى غير أن الشبه ينبغي أن يكون على نهاية القوة في محاولة النقل من أصل كلي إلى الإلحاق بما هو عن قياس المعنى ولا مزيد في القوة على ما ذكرناه والمسألة مع ذلك مظنونة وليس هذا كتقدير ارش طرف العبد فإن من يوجب ما ينقص بطرد معنى فلا ينتقض عليه فيبغي اعتبار صاحب الشبه بالأخص فلينظر الناظر إلى جولان الحقائق في هذة المضايق
فصل ( في مراتب قياس الدلالة ) 1321 - أحدث المتأخرون لقبا لباب من ابواب القياس وراموا بذلك التلقيب تمييز فن كثير في مسالك الأحكام جار على منهاج واحد وهو عند المحققين إذا صح يلتحق بقياس الشبه من وجه وقد يتأتى في بعض أمثلته وجه يلحقه بقياس
المعنى واللقب الذي تواضعوا عليه هو قياس الدلالة وهو كقول الشافعي في الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم
1322 - والذي يقتضيه الترتيب تصدير الفصل بأن المستدل بهذا النوع يتوجه عليه سؤال المطالبة لا محالة كما ذكرنا قريبا منه ( فيما تمحض ) شبها فللمعترض أن يقول وأي مناسبة بين الطلاق والظهار ولم يجب أن يتساويا ثبوتا ونفيا مع العلم بانقسام الأحكام إلى التساوي والتفاوت فإن لم يبحث المطالب ويبدي وجها كان مقصرا
1323 - ثم ينقدح في الخروج عن المطالبة مسلكان نجريهما ثم ننهي كل واحد منهما النهاية المطلوبة ثم مسلك الحق وراء الاستقصاء المقول والمنقول فإن قال المطالب الطلاق مقتضاه التحريم والحل والكفر لا ينافي ذلك ومحل التصرف قابل له والظهار فيما ذكرته كالطلاق ( ولا ينافي الكفر المنكر والزور كما لا ينافي التصرف في الطلاق ) وإذا سلك هذا المسلك لم يبعد أن يكون ما ذكره جامعا بين الطلاق والظهار معنويا وقد يتمكن المطالب من منع يضاهي ما ذكرناه على ما يورده الفقهاء فهذا النوع إذا سلك صاحب هذا المسلك يلتحق بأقيسة المعاني
1324 - والمسلك الثاني في الخروج عن المطالبة ألا يخوض المطالب في
التزام طريق المعاني المستقلة الجامعة من طريق المعنى وهذا القسم ينقسم قسمين أحدهما أن يرد الأمر إلى طريق الاطراد والانعكاس وقد ذكرنا أن الطرد والعكس معتبر معتمد وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا فليقل المطالب اقترن الطلاق ( بالظهار ) ثبوتا ونفيا واقترنا في الصبي ومن لا يعقل انتفاء فكذلك القول في اقترانهما ثبوتا وانتفاء باختلاف صفات المحل في البقاء في النكاح والبينونة عنه فهذا مسلك مرضى
1325 - والقسم الثاني من هذا القسم أن يذكر المطالب بين ما استشهد به وبين المتنازع فيه شبها غير مخيل ولكنه يستقل في طريق الشبه فهذا مضطرب النظار فيما ذكرناه
1326 - وأنا أقول إذا تحقق وجوب الخروج عن المطالبة فلا يستقل بتمهيد قياس الدلالة إلا فطن دراك فإن المعلل لو سلك طريق ( إبداء ) المعنى فقد بين أن ما اعتمده وسكت عليه لم يكن كلاما ( تاما ) فإن إبداء المناسب إذا كان محتوما ولم يكن في الكلام الأول ذلك فسكوت المطالب بالدليل على ( ما جاء ) به يتضمن اعتقاد كونه مسقلا فإذا بين أن ( التمام ) في الجواب عن المطالبة فقد لاح أن ما أبداه مفتاح الحجة ومبدؤها وقد سكت عنه سكوت من يراه تاما مستقلا فهذ وجه
1327 - والوجه الآخر أنه جعل أصل قياسه المسلم فيما تمثلنا به
والآن إذا ابدى معنى جامعا بين الطلاق والظهار فقد صار الطلاق أصلا للظهار وخرج الكلام الأول عن نظمه وترتيبه وإن ابدى وجها من الشبه بين الطلاق والظهار فقد التزم الجمع تشبيها وهو تتمة الكلام ( كما ) قدمناه في المعنى المستقل وينقدح فيه تغيير الترتيب والنظم كما تقدم فإذا لا بد من مناسبة فقهية أو شبهية وكلاهما ينافي المسلك الأول الذي اعتمده
1328 - وإذا انتبه الناظر ( للغائلة ) التي ذكرناها فلا يظن أنها تشبيب برد هذا النوع من القياس فإنا من القائلين به ولكن الوجه في تمهيد هذا النوع ودفع المطالبة شيئان أحدهما الطرد والعكس كما تقدم وفيه التغليب المطلوب وتقرير نظر الدلالة الأولى ( من ) غير مسيس حاجة إلى إتمام او تعيين أصل بتقدير الصرف عن الاعتبار بالمسلم ويرد الأمر إلى اعتبار الظهار بالطلاق ومن اللطائف الجدلية في ذلك أن مطلق الشرط يشعر بالعكس فلا يكون من صاغ ( العلة ) على صيغة الشرط بإبداء الطرد والعكس مظهرا لما لم يتضمنه الكلام الأول والصحيح عندنا التحاق ذلك بالأشباه
1329 - ومن تتمة القول فيه إن قياس المعنى إذا انعكس كان العكس فيه ترجيحا فإذا لم يلتزم المعلل المعنى وتمسك بالاطراد والانعكاس كان متمسكه
شبها وكان قريبا من القسم الثاني الذي يستند إلى ضرب الأمثلة كما قدمناه في إلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل على العاقلة
1330 - ومما ينقدح في هذا النوع أن يقول المتمسك به الأصل المسلم وظهاره والفرع الكافر وظهاره والجامع بينهما شبه الطلاق فنفوذ الطلاق من المسلم والذمي شبه جامع بينهما في الظهار فغلب على الظن وهذا وإن كان يستمر شبها فكل شبه يعتضد كما ذكرت في تقاسيم الأشباه فإن تمكن الجامع من إبداء معتضد الشبه كما تقدم مفصلا كان حسنا وإن أراد الاجتزاء بالطرد والعكس عاد إلى المسلك الأول والأحزم في قياس الدلالة الاكتفاء بالطرد والعكس فهذا النوع من القياس يجري في الأغلب من المسائل التي يكون المعنى ممكنا فيها ولكن يطول الكلام في تقريره وتتسع العبارة في محاولة ضم نشره والمناظر المتحذق يبغي ضم أطراف الكلام وإرهاق الخصم بالمسلك الأقرب والسبيل المهذب إلى مضيق التحقيق في إيراد فرق يعسر إيراده على شرطه فلو تكلف المناظر الجمع بين الطلاق والظهار بمعنى مناسب لكثرت المطالبات في وجوه المناسبات ولم يأمن الجامع من التعرض للنقض ما لم يتناه في التصون والتحرز فيؤثر والحالة هذه جعل الطلاق وصفا ويربط الظهار به حكما ويتخذ المسلم اصلا ويجعل معتمده في إثبات الطريقة جريانها طردا وعكسا
1331 - ومما يتعين الإحاطة به في هذا الصنف ( أن ) المعنى المخيل حكم مناسب لحكم أو صورة تنبئ العبارة عنها وتقع مناسبة وقد يكون الجامع نفي حكم أو نفي مع ظهور المناسبة والسلامة عن المبطلات فإذا ظهرت الإخالة واتضحت السلامة قيل معنى مخيل مناسب جامع مستند إلى أصل
فلو قال المطالب وراء ذلك فلم زعمت أن الحكم الذي قدر وصفا يقتضي الحكم الذي فيه النزاع كان الجواب الكافئ فيه إيضاح الإخالة مع استمرار السلامة فإن اراد المطالب إبداء فرق بين الحكم المجعول وصفا وبين محل النزاع لم ينتظم فيه كلام على صورة الفرق ونظمه
1332 - نعم قد يبدى كلاما يقدح في المناسبة ويتعين على المستدل قطع ما دونه واستقلال مناط الحكم المتنازع فيه بمناسبة وإخالة وبيان ذلك بالمثال أنا إذا طلبنا مسلك المعنى وقلنا كلمة تتضمن التحريم فيثبت حكمها في حق الذمي كالطلاق وكان معنى التحريم مع قبول المرأة له واتصاف الكافر بالاستمكان منه مناسبا للنفوذ فإذا قال الخصم التحريم ينقسم إلى ما يقع تصرفا ( محضا ) في مورد النكاح غير متعلق بحق الله تعالى وإلى ما يتعلق بحق الله تعالى ( وتحريم الظهار يتعلق بحق الله تعالى ) والاستحقاق في في مورد النكاح قائم لم ينخرم والكافر لا يخاطب بما يقع حقا لله تعالى فقصد المعترض بهذا يرجع إلى ( توهين ) الإخالة في التحريم المطلق فيتعين الإجابة بطريقها وليس ما جاء به فرقا على نظمه المعروف
1333 - فإذا قلنا في هذه المسألة من صح طلاقه صح ظهاره فنحن رابطون نفوذا بنفوذ ولكن في تصرفين مختلفين يتأتى جعل أحدهما ( أصلا والآخر ) فرعا ونصب الجامع بينهما وإذا أمكن الجمع تصور الفرق ولا يمكن الجمع بين حكم مناسب لشيء وبين ذلك الشيء فلما أمكن الفرق ظهرت المطالبة بالجمع وتميز
هذا الصنف عما يتمحض فقها مناسا فكان القسم الذي فيه الكلام بين قياس المعنى من جهة مناسبة تصرف تصرفا على الجملة مع الجريان على السلامة وبين مسالك الأشباه من جهة تطرق المطالبة بالجمع وعدم التزام المعلل له والذي ( يحيك في الصدر ) أن المعنى إذا أمكن فهو ( أولى ) ونصبه في مراتب الأقيسة أعلى والتمسك بالادنى مع الاستمكان من الأعلى لا ( يتجه ) في طرق الفتوى والنظر تدوار على تمهيد طرق الاجتهاد التي هي مستند الفتوى فسبيل الجواب عنه أن نقول
1334 - إذا اشتملت المسألة المظنونة على مراتب من الأدلة متفاوتة فلا حرج على المستدل لو تمسك بأدنى المراتب وإنما يظهر تفاوت الرتبتين إذا تناقض موجب الحجتين فيقدم موجب الأعلى على الأدنى فأما إذا توافقت شهادات المراتب المختلفة على مقتضى الوفاق فلا معاب على من يتمسك بالأدنى وكذلك إذا اشتملت المسألة على خبر نص وقياس ولا يمتنع التمسك بالقياس الموافق الخبر وإنما يمتنع التمسك بقياس يخالفه نعم إذا كان المطلوب في المسألة علما فلا وجه للتمسك بقياس لا يقتضي العلم
1335 - وحاصل القول في هذا الفن إذا انتهى الكلام إليه يحصره أقسام أحدها يطلب العلم وما كان كذلك فالمطلوب منه ما يفضي إلى العلم ولا حكم لتفاوت الرتب بعد استواء ( الجميع ) في الأفضاء إلى العلم
1336 - والقسم الثاني ما تتفاوت الرتب فيه ومتعلق جميعها ظنون والرأي عندنا تسويغ التمسك بالجميع على ما يراه المستدل ومنع بعض الجدليين التمسك بالأدنى مع التمكن من الأعلى وهذا فيه نظر إذا تميزت المراتب بالقواطع وإن كانت كل مرتبة في نفسها لا تقتضى علما فأما إذا كان تفاوت الرتب مظنونا فلا يمتنع وفاقا من التمسك بأدنى آحاد الرتب
1337 - ومما يتعلق باستكمال الكلام في هذا الفصل أنه قد يتعلق ثبوت بنفي أو نفي بثبوت على مضاهاه قياس الدلالة وليس من قياس الدلالة في شئ وهو كقول القائل من لا يملك التصرف ( يل ) الوالى التصرف منه أو من يستقل بالتصرف لا يلي الوالى منه ما يستقل به فهذا إذا سلم يلتحق بأقيسة المعاني فإنه مناسب مخيل ولا ينتظم بين النفي والإثبات فرق
1338 - وقياس الدلالة ( يتميز ) عن محض قياس المعنى بهذا فإنه لا يمتنع رسم ( فرق ) بين وصف قياس الدلالة والحكم المنوط به ويمتنع ذلك بين نفي التصرف وإثبات الولاية وإثبات التصرف ومنع نفي الولاية
1339 - فهذا منتهى القول على قدر ما يليق بهذا المجموع في قياس الدلالة فإذا نجز قدر الحاجة في مراتب الأقيسة حان أن نرجع بناء الكلام إلى الترجيح فنقول
فصل ( الترجيح في الأقيسة ) 1340 - إنما يجري الترجيح في أقيسة لا يعترض عليها إلا من وجهة التعارض ثم الأصل المعتبر في الترجيح ( الخصيص ) بالأقيسة ( ينشأ ) من تفاوت الرتب مع اجتماع الجميع في الظن فأما اقيسة المعاني فمستندها قاعدة معنوية معلومة ولا ترجيح في معلوم فإذا انحط المعنى عن العلوم فقد تقدم ترتيب مسالك الظنون والأرجح فالأرجح أقربها إلى المعنى المعلوم وقد مضى ترتيبها في القرب والبعد
1341 - ومما يتعلق بالترجيح في المعاني النظر فيما يثبتها وقد تقدم القول مثبتات المعاني ورجع الحاصل إلى مسلكين أحدهما إيماء الشارع والثاني الإخالة ( مع السلامة وما يثبته الشرع مقدم على الإخالة ) التي لا دلالة في لفظ الشارع عليها والسبب فيه أن ما أشار الشارع إلى التعليل به أمن المستنبط من الوقوع في متسع المصالح التي لا يحصرها ضبط الشريعة وهذا أمر عظيم في الاجتهاد وهو محذور الحذاق من أهل النظر ثم الإخالة على الرتب المقدمة
1342 - ومن الأسرار في ذلك أن الاستدلال يصح القول به وإن لم يستند إلى أصل حكمه متفق عليه على الرأي الظاهر فلو عارض استدلال لا اصل له
معنى مستندا إلى أصل فالمستند إلى الأصل مرجح على الاستدلال والسبب فيه انحصاره في حكم ثابت شرعا متفق عليه والمستدل على خطر الخروج عن الضبط
1343 - فهذه قواعد الترجيح في أقيسة المعاني ثم أدناها مرجح على أعلى الأشباه المظنونة كما سبق في ذلك قول بالغ
1344 - فإذا تعارض شبه خاص ومعنى عام كلي فقد قدمنا وجه الرأي فيه فلا نعيده
1345 - والاستدلال إذا عارضه شبه ( ومن ) ضرورة الشبه استناده إلى أصل فالذي ذهب إليه المحققون تقديم الشبه لمكان استناده إلى أصل وقدم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله تعالى الاستدلال على الشبه والقول في ذلك يتعلق بالظن عندنا فليعمل كل مجتهد على حسب ما يؤدي إليه إجتهاده
1346 - فهذه مجامع الأقوال في ترجيح الأقيسة لا يشذ عنها إلا أفراد مسائل اضطراب فيها الجدليون ونحن نرسمها مسألة مسألة وفي استيفائها استكمال القول في الترجيح مسائل ( تشذ عن القاعدة العامة للترجيح ) مسألة
1347 - إذا تعارضت علتان إحداهما منعكسة والأخرى غير منعكسة فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن الانعكاس من المرجحات المعتمدة
وهذا يتجه جدا على قولنا إن الانعكاس مع الاطراد دليل صحة العلة وقد قدمنا في حقيقة العكس قولا بالغا مغنيا عن الإعادة ونحن نذكر من اسراره مأخذا يستدعيه ويقتضيه أمر الترجيح فنقول
1348 - القياس الشبهى إذا اطرد وانعكس كان الانعكاس مخيلة معتمدة جدا فإن أقوى متعلقات الأشباه الأمثلة كما قدمنا ذكرها والاطراد والانعكاس فن الأمثلة المغلبة على الظن فإذا فرضنا تعارض شبهين انعكس أحدهما دون الثاني كان ذلك ترجيحا مقتضيا مزيد تغليب الظن لا يجحده في هذا المقام إلا غبي بمآخذ الأقيسة ومراتبها
1349 - وإن فرض الانعكاس في أقيسة المعاني فلا بد من ذكر تقسيم في ذلك منبه على سر العكس أولا ثم يعود الكلام إلى غرضنا من الترجيح فنقول رب معنى مخيل مناسب لا يشعر انتفاؤه لانتفاء الحكم في وضعه وربما يشعر انتفاؤه بانتفاء الحكم الذي اقتضاه الطرد وبيان ذلك بالمثال أنا قلنا في تحريم النبيذ مشتد مسكر فهذا يناسب التحريم من جهة إفضاء السكر إلى الاستجراء على محارم الله تعالى والاستهانة بأوامره وعدم الشدة لا يشعر بالتحليل
1350 - وإذا قلنا مستقل بالتصرف فلا يولى عليه كان الاستقلال مشعرا بنفي الولاية وعدم الاستقلال مشعر بإثبات الولاية فإذا تمثل النوعان في قياس المعنى بنينا عليه غرضنا وقلنا إن لم يكن المعنى بحيث يخيل عدمه عدم حكم الطرد وفرض مع ذلك انعكاسه فقد تجمعت فيه
الإخالة والشبه فإذا عارضه معنى غير منعكس ولم يكن في وضعه بحيث يشعر عدمه بعدم الحكم فالمنعكس مقدم عليه بطريق الترجيح إذا اجتمع فيه إخالة فقهية وقوة شبهية
1351 - فإن تعارض معنيان وأحدهما يشعر في الطرد والعكس نفيا وإثباتا والثاني يخيل من وجه الطرد ولا يخيل من جهة العكس فان انعكس المخيل ولم ينعكس ما لا يخيل فالمنعكس مرجح وسبب ترجيحه قوة الإخالة وإن لم ينعكس ما لا يخيل من جهة العكس بسبب علة أخرى خلفت العلة الزائلة فالوجه ترجيحها على العلة التي لا تخيل في العكس فإن عدم الانعكاس فيما يخيل من جهة الانعكاس محمول على ثبوت علة اخرى خلفت العلة الزائلة وقوة الإخالة لا تزول
1352 - وتحقيق هذا أنا قدرنا عند انتفاء العلة التي فيها الكلام انتفاء علة أخرى ( لانتفي ) الحكم لقوة الخالة ( وشدة ) الارتباط ( ومقتضى 9 اقتران الحكم والعلة وهذا المعنى لا يتحقق فيما لا يقتضي الإخالة في جهة العكس
1353 - فلو لم تنعكس علة مقتضاها الانعكاس لمكان علة اخرى ( خالفت ) وانعكست التي لا تخيل في جهة العكس فقد اختلف المحققون في ذلك فقدم مقدمون المنعكس لاجتماع قوة الإخالة في الطرد وقوة الشبه في العكس وذهب أخرون إلى تقديم العلة التي تخيل في جهة العكس لاختصاصها بقوة الإخالة
وأدنى مأخذ المعاني مقدم على أعلى مسالك الاشباه ولا يقدح في قوة الإخالة عدم الانعكاس إذا ثبتت علة تخلف العلة في الطرد
1354 - ومما يتم به الغرض في ذلك أن العلة إذا أخالت في العكس فالعلة المخالفة يجب أن تكون أقوى من ( إخالة ) العلة الأولى في العكس لا محالة
1355 - فإن امتنع الانعكاس لنص أو إجماع فهذا موضوع التوقف قال قائلون عدم الانعكاس مفسد للعلة من حيث إنه أثر في فقهه وإخالته فكان هذا كالنقض في الطرد وقال المحققون لا يبطل العلة فلها في الثبوت دلالة وعلة عدم الحكم عدم العلة أمكن الانعكاس فالإجماع ( قدح انتفاء الحكم ) في تقدير العدم علة والنقض يخرج وجود العلة عن كونه علة والقول في النقض طويل وقد سبق تفصيله فيما تقدم فهذا هو اللآئق بغرض الترجيح في فصل الانعكاس مسألة
1356 - وقد تقدم القول في العلة القاصرة المقتصرة على محل النص فإذا رأينا صحتها فلو فرضنا علة متعدية عن محل النص ففي ترجيحها على القاصرة خلاف
1357 - وحاصل ما قيل فيه ثلاثة مذاهب أحدها وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ترجيح القاصرة والثاني وهو المشهور ترجيح المتعدية
والثالث وهو اختيار القاضي أنه لا ترجح إحداهما على الأخرى بالقصور والتعدي
1358 - وأول ما يجب به الافتتاح تصوير المسألة فإن فرضنا علتين قاصرة ومتعدية في نص واحد فالقول في هذا ينبني على أن الحكم الواحد هل يعلل بأكثر من علة واحدة وهذا أصل قد سبق تمهيده فإن لم يمتنع اجتماعهما فلا معنى لترجيح إحدى العلتين على الأخرى ولكن الوجه القول بالعلتين والقاصرة والمتعدية متوافيتان في محل النص الواحد لا تناقض بينهما ولا تعارض فإن المتعدية مستعملة مقول بها وراء النص وإن لم نر اجتماع ( العلتين لحكم واحد فإذ ذاك ) ينقدح الكلام في ترجيح القاصرة على المتعدية
1359 - ( أما الجمهور ) من أرباب الأصول فذاهبون إلى ترجيح المتعدية ووجه قولهم أن العلل ( تعني 9 كفوائدها والفائدة المتعدية فإن النص يغنى عن القاصرة فكان التمسك بالمتعدية أولى ومن رجع القاصرة احتج بأنها متأيده بالنص وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان التمسك بها أولى
1360 - ووجه القاضي إن الفوائد بعد صحة العلل ( وصحة العلل ) ترتبط بما يصحهها مما يقتضي سلامتها عن المبطلات فإذا دل الدليل على الصحة
واستمرت دعوى السلامة فلا نظر وراء ذلك في النتائج والفوائد قلت أو كثرت وليس من الرأى الترجيح بحكم العلة وهو النتيجه والفائدة والترجيح الحقيقي إنما ينشأ من مثار الدليل على الصحة وفائدة العلة في مرتبة ما يدعى لها
1361 - وقول القاضي في المسلك الذي ذكره أوجه الأقوال في مقتضى الأصول وما رآه الجمهور من النظر إلى الفوائد متروك بما ذكرناه وما اعتبره الأستاذ في مطابقة النص لحكم العلة القاصرة غير معتبر لما نبهنا عليه من أن حق المرجح ألا ينظر إلى حكم العلة ولا يرجح به بل الترجيح بما يصحح به العله ويقتضى مزيد تغليب الظن فيه وما ذكره مرجح العلة القاصرة من الأمن ( لا وقع ) له فإنه راجع إلى استشعار ( خيفة ) لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد
1362 - والذي ( يبتغى ) وراء ما ذكرناه أن العلة المتعدية إذا صحت على السبر ولم يناف صحتها طارىء فقد وجدنا معنى على شرط الصحة ومقتضاه اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو مستند إلى أصل ثابت منشؤه من قاعدة شرعية فلست أدري ردها لمكان حكمة تسنح من الفكر منطبقة على محل النص فإن المعاني إذا اتصفت بالصفات التي ذكرناها من اجتماع الأمور المرعية والسلامة عن المبطلات والاستناد إلى منصوص عليه
فالأولون من الأئمة كانوا مسترسلين على العمل بها وليس ما يجرى في الفكر من العلة القاصرة مناقضا فلا وجه لترك المتعدية قطعا وإنما المتروك من قول من يرجح العلة المتعدية ( تعلقه ) بالفوائد ومصيره إلى أن العلة ( تعنى ) لثمرتها وفوائدها وهذا واه ضعيف فالوجه التعلق باسترسال المجمعين على العمل بالقياس كما ذكرناه وهذا إذا ضمه الناظر إلى ما حصلناه من القول في العلة القاصرة انتظم له فيه حقيقة المراد
1363 - ( وعندنا أن ) هذه المسألة غير ( واقعة في الشريعة وإنما هي مقدرة ) والشريعة عرية عن اتفاق وقوعها
1364 - فإن قيل قد علل أبو حنيفة رحمه الله تعالى الربا في النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك
1365 - قلنا الوزن على باطلة عند الشافعي والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضى صحتها لو انفردت
1366 - ومن تمام الكلام في ذلك أن العلة القاصرة لو صح القول بها إن كانت غير مخيلة في جهة العكس فلا معارضة ولا مناقضة ( والنقدية ) ليست مخيلة في جهة العكس فكيف يتوقع اقتضاؤها نفي الحكم في العكس وقد ذكرنا في مراتب الأقيسة أن علة الربا في الأشياء الستة واقعة آخرا في درجات الأشباه ولا يتسلط المستنبط عليها ( إلا ) بتقدير الإرهاق والاضطرار إلى استنباطها فلسنا نرى للمسألة الموضوعة جدوى ولا فائدة
1367 - فإن قال قائل لو استنبط ناظر علة في محل التحريم فصادف اجتهاده علة قاصرة ورأى محل النزاع عكسا لها واستنبط مستنبط آخر في محل تحليل مجمع عليه علة متعدية وصورة النزاع طردها فما القول والحالة هذه قلنا لا يتصور أن يعارض عكس طردا فإن الطرد في منزلة العلة والعكس يقع في حكم ( العضد ) للإخالة على طريق التبعية ولا يقابل ما هو أصل ما يقع فرعا في معرض التلويح وهذا على التحقيق لو قيل به مصير إلى معارضة العلة ترجيحا
1368 - فإذا لم يتصور في اجتماع العكس قاصرة ومتعدية على حكم التوافق ( نظرا ) إلى الترجيح ولم يتحقق تعارض بين قاصرة ومتعدية في أصلين مختلفين فإن القول يرجع إلى معارضة الطرد والعكس وهذا لا سبيل إليه
1369 - فإن قيل علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت العبد قاصرة وقد قدمتموها على العلة المتعدية لأبي حنيفة قلنا هذا ساقط من أوجه أحدها أن ما اعتمده أصحاب أبي حنيفة من تعليل الخيار باطل في نفسه فلا ينتهى القول فيه إلى مقام الترجيح ومنها أن الرأي الظاهر عندنا ألا يعلل خيار المعتقة ( تحت العبد ) كما حققنا في ( الأساليب ) ومنها أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج
حر فلا معنى للاستشهاد بهذه الصورة في ادعاء الوقوع والاستشهاد به
1370 - فإذا هذه المسألة تقديرية لا نراها واقعة وقد ( كنا ) ذكرنا أن اجتماع العلل للحكم الواحد ينساغ في نظر العقول ( ولكنه غير متفق وقوعا في الشرع ) فلا معنى لإعادة ما سبق فهذا منتهى المراد ( في ذلك ) ثم فرع الجدليون وراء هذا مسألتين نرسمهما وهما عريتان عن الفوائد مسألة
1371 - قال من يرجح العلة المتعدية إذا تعارضت علتان فروع إحداهما أكثر من ( فروع ) الأخرى ( وهما جميعا متعديتان ) فكثيرة الفروع منهما مقدمة على الأخرى وقد ذكرنا أن أصل الكلام في المتعدية والقاصرة غير واقع وإنما يتكلم المتكلم على التقدير فالقول في المتعديتين يجرى على ذلك النحو فليس في المتفق عندنا علتان على الوفاق لحكم واحد منصوص عليه ومجمع عليه وكل واحدة على شرط الصحة
1372 - فإن قدر المقدر فرضهما فلسنا نرى تعطيل العلة الكثيرة الفروع لمكان أخرى تساويها في بعض مقتضياتها فليس هذا ( إذا ) لو اتفق ( من ) مسالك الترجيح في شيء فلو فرضنا علتين متناقضتين في محل النزاع وأصلاهما مختلفان فلا يقع الترجيح بكثرة فروع إحداهما قطعا ومن خالف في ذلك لم نبال به وإنما تتخصص إحدى العلتين بما يقتضي تغليبا على الظن والترجيح عائد إلى تلويح ظني وهذا القدر كاف
مسألة
1373 - من اعتقد أن كثرة الفروع تقتضي ترجيحا رسم مسألة وتكلم فيها مجادلا بما يصفه والغرض ألا يعرى هذا المجموع عما ( قيل في ) أصول الترجيح قال هؤلاء إذا كثرت فروع علة وقلت فروع أخرى ولكن القليلة الفروع اعتضدت بنظائر لها تضاهي في عدتها فروع العلة الكثيرة ( الفروع ) كانت كثرة النظائر في معارضة كثرة الفروع
1374 - وبيان ذلك بالمثال أن الشافعي خصص لزوم الكفارة العظمى من جملة المفطرات بالوقاع ورأى إتيان المرأة في المأتى الأصل وفيه واقعة الأعرابي وعدى علته إلى إيلاج الحشفة في كل فرج
1375 - واعتبر أبو حنيفة في إيجاب الكفارة الفطر ( بمتنوع ) ( المفطرات ) فكانت فروعه أكثر ولكن للاختصاص بالوقاع نظائر كثيرة كالغسل والحد ووجوب المهر وتكميله والإحصان والتحليل فكانت هذه النظائر في الاختصاص مضاهية لكثرة الفروع في علة الخصم
1376 - وهذا قول عرى عن التحصيل في مساق كلام هذا القائل إلى ( أن نذكر ) حقيقة المسألة فإن النظائر التي ذكرناها ما نراها معللة فلا وجه للاعتضاد بها وإن تمسك متمسك بها في مسلك الأشباه ( فلا ) تعلق أيضا بها فإن ثبوت ( الأحكام بالوقاع ) على الاختصاص لا يغلب على الظن أن يختص بها كل حكم
ينقل فيه ولا يجري مجرى الأمثلة التي ذكرناها للرتبة العليا من أقيسة الأشباه ومن فهم ما تقدم تميز عنده ما نحن فيه عما سبق
1377 - وبالجملة إن تلك الأمثلة تجري في غير المطلوب إذ النظر في اعتبار القليل بالكثير في ضرب العقل اعتضد بالقليل في حق الشريك وكان ذلك ناشئا من عين المطلوب والضرب مسترسل لا توقف فيه فلا أصل إذا لما ذكر هذا الإنسان ثم إنما يستقيم ما ذكره لو كانت علة الخصم صحيحة دون تقدير المعارضة وليست كذلك ولو صحت لما عارضتها علة أخرى تساويها وتوافقها في بعض مقتضياتها وقد ينشأ من فرض هذه المسألة أصل في الترجيح فليتأمله الناظر
1378 - فأما مسلك أبي حنيفة فمردود من جهة التناقض المنقول عنه في مذهبه وإنما المذهب المطرد مذهب مالك في تعليقه الكفارة بكل فطر هاتك حرمة الصوم من غير مناقضة فإذا استنبط ذلك من محل النص وهو الوقاع واستنبطناه فلا نرى لترجيح ما يستنبطه وجها مع جريان ما اعتبره مالك وإن تعلقنا بالأشباه وادعينا أن الوطء يجب أن يكون على مزية اعتبارا ( بالنسك ) فهذا شبه على بعد في معارضة معنى الهتك ( وليس من الانصاف معارضة شبه على هذا النعت بمعنى جار في محل النزاع وإن لم نر تعليل الكفارة لم ينتفع بهذا ما لم نبطل معنى الهتك ) لمالك وبالجملة قوله في تعميم الكفارة متجه جدا والعلم عند الله وليس هذا من القول في قواعد الترجيح ولكن وضع المسألة على ما وصفناه
مسألة متعلقة ببقايا الكلام في هذا الفن
1379 - قال قائلون من أصحاب الشافعي رضي الله عنه إذا تعارضت علتان وإحداهما أكثر فروعا بيد أن الأخرى منطبقة على الأصل والفرع من غير تأويل والكثيرة الفروع تحتاج إلى تقدير ( تأويل ) في بعض مجاريها فهذا يغض من جريانها ويقدح في الترجيح بكثرة فروعها
1380 - وبيان ذلك أن إذا اعتبرنا في القرابة المقتضية للنفقة والعتق البعضية وهذا يجري في الوالدين والمولودين على انطباق واعتبر أبو حنيفة رضي الله عنه الرحم والمحرمية وفروع علته وإن كانت مركبة أكثر فإنها تتناول الأصول والفروع غير أن الرحم والمحرمية لا يجريان إلا على تأويل بين الذكرين والأنثيين وذلك بأن يقدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى وهذا ركيك من الكلام لا ينساغ مثله لمتشوف إلى تحصيل وذلك أن الرحم لا تأويل فيه وكذلك المحرمية ولكن لا يظهر التحريم لا لتقاعد العلة ولكن لعدم المحل
1381 - وليس من الرأي التعويل على مثل هذا بعدما قدمنا القول في كثرة الفروع وقلتها وقد انتهى الغرض في هذا الفن ونحن نأخذ بعده في رسم مسائل في سائر أغراض المرجحين إن شاء الله تعالى
( مسائل ) ( في أغراض المرجحين ) مسألة
1382 - ذهب ذاهبون إلى أن ما تجاذبه أصلان وتعارض في إلحاقه بأحدهما نظر النظار فمن تمكن من توفير شبهى الأصليين كان مسلكه مرجحا ومثلوا ذلك بالقول في يمين اللجاج والغضب فإنها بين النذر الذي يوجب الوفاء وبين اليمين التي توجب الكفارة فمن خير بين الوفاء والكفارة كان مسلكه مرجحا من جهة توفير شبهى الأصليين
1383 - وهذا مزيف عندنا من جهة أنه ترجيح مذهب لا ترجيح علة جارية على شرط الصحة وقد قدمنا في أول ( الكتاب ) أن المذاهب لا ترجح ( و ) مأخذ مسألة يمين اللجاج من ( الآثار عندنا ) وكل من سلك هذا المسلك فهو يزعمه ( يوفر ) شبهين من أصلين على إبعاد في الكلام وهو على القرب بقطعة عنهما جميعا وهو غافل عما يأتي وبيانه أن مقتضى النذر إلتزام الوفاء ( لا تجويزه ) ومقتضى اليمين التزام الكفارة والتخيير مباين للمقتضيين ووضوح ذلك مغن عن بسط القول فيه مسألة
1384 - إذا تعارضت علتان واختصت إحداهما بالاستناد إلى أصول ففي الترجيح بكثرة الأصول خلاف بين أهل الأصول فذهب بعضهم إلى أن ذلك يقتضي ترجيحا من جهة أنها في محل الشواهد
وكثرة الشهادات تغلب على الظن وهو المقصود بالترجيح واستشهد هؤلاء بكثرة الرواة في تعارض الخبرين
1385 - والرأي الحق عندنا يقتضي تفصيلا فإن كان المعنى الجامع واحدا وكان مستندا إلى أصول فلست أرى الترجيح بكثرة الأصول والحالة هذه فإن الدلالة على الحكم ( هي ) المعنى وإنما يذكر الذاكر الأصل استئناسا به وأمنا من الوقوع في متسع الظنون مع العلم بأن مسالكها مضبوطة في الشريعة وهذا يحصل بأصل واحد وليس عدد الأصول بمثابة عدد الرواة فإن التعويل في الأخبار على الثقة وظهورها في الظن وهذا يزداد بزيادة عدد الرواة ولو استمكن القايس من جوامع وكل جامع معنى مستقل مستند إلى أصل ولم يتمكن الخصم إلا من معنى واحد فلا شك أن من كثرة معاينة مع الاستواء في الرتب مقدم لكثرة الدلالات وهذا الآن يناظر كثرة الرواة ولكن إذا عارض معنى الخصم معنى أخر ثم أتى بمعان فهذا من باب ترجيح دليل بدليل وقد تقدم القول فيه وهو متعلق بلفظ ( بعدما وضح ) أن صاحب المعاني يقدم مذهبه
1386 - ومما يتصل بهذا الفصل أن الناظر في مسلك الأشباه قد يلقى صورة تضاهي كثرة الأصول والترجيح بها واقع ومثاله أن أحمد بن حنبل رحمه الله جوز المسح على العمامة تشبيها بالمسح على الخفين ومنعه الشافعي رحمه الله تشبيها بالوجه واليدين
فإذا ما يمنع المسح فيه أكثر وهذا يقوي من جهة أن الكلام في قربه واحدة تشتمل عليها رابطة فكثرة الأمثلة فيها تقرب من مآخذ الأشباه وليس هذا كأصول متبددة يجمعها معنى واحد فليفهم الناظر ما يرد عليه
1387 - فإن قيل إلحاق الرجل بالرأس أخص وأمس من جهة أن التخفيف يتطرق إليها قيل هذا باطل فإن ما ابتنى على التخفيف أشعر ابتناؤه عليه باكتفاء الشرع به حتى لا مزيد وهذا يعتضد بأمر واقع وهو تيسير مسح الرأس مع العمامة من غير احتياج إلى ( تنحيتها ) بخلاف القدم والخف ثم محل الأشباه في الرخص البعيدة عن مدارك المعاني الجزئية والكلية ضيق جدا والأصل اتباع الأصل مسألة
1388 - إذا تعارض قياسان ومع أحدهما ظاهر معرض للتأويل فالعلماء على مذاهب قال بعضهم إذا كان الظاهر بحيث يسوغ تأويله بالقياس الذي يعارضه فلا وقع له ولا ترجيح به والقياسان متعارضان وقال قائلون القياس الذي يعتضد بالظاهر مرجح وقال آخرون القياسان يتساقطان والتعلق بالظاهر
1389 - فأما من أسقط الظاهر فمذهبه مردود وذلك أن تأويل الظاهر إنما ينساغ إذا اعتضد بقياس غير معارض والمسألة مفروضة في تعارض القياسين وإذا بطل هذا المذهب فالمذهبان الآخران بعده متقاربان وحاصلهما يئول إلى تقديم المذهب الذي توافق عليه الظاهر والقياس
1390 - والعبارة السديدة ترجح القياس المعتضد بالظاهر فإن الظاهر لا يستقل دليلا مع قياس يصلح لإزالة الظاهر فإذا لم يستقل دليلا واعتضد به قياس أفاده ترجيحا وتلويحا ولا مرد على من أسقط القياسين وتمسك بالظاهر والأمر بعد بطلان المذهب الأول قريب مسألة
1391 - إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي فمن يقول مذهب الصحابي حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا يقتضى تقديم المذهب الذي تطابق عليه القياس ومذهب الصحابي ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أم لا وإذا كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابي فلا أثر له في الترجيح وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم
1392 - وإن اعتضد القياس بمذهب صحابي شهد له الشارع بمزية علم في ذلك الفن كقوله عليه السلام أفرضكم زيد فهذا على المذهب الظاهر يقتضى ترجيحا وإن كنا لا نرى قول الصحابي حجة وذلك لما في هذا التوافق من تغليب الظن مع المصير إلى أن مجرد قوله ليس بحجة
1393 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه قول زيد في الفرائض أرجح من قول معاذ وإن ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أعرفكم بالحلال والحرام معاذ وذلك أن شهادة الرسول عليه السلام لزيد أخص في الفرائض وأدل على اختصاصه بمزية الدرك فيها وكذلك مذهبه مع انضمام قياس أرجح من مذهب علي رضي الله عنه وإن قال الرسول عليه السلام أقضاكم علي وهذا أوضح وأبين مما قدمناه في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية النظر في القضاء تشير إلى التفطن لقطع الشجار وفصل الخصومة والتهدي إلى تمييز المبطل عن المحق والشهادة بمزية العلم في الحلال والحرام أوقع في مظان الاجتهاد والشهادة بمزية العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب
1394 - فإذا لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المراتب فالقول في تقليد من يقلد يتعلق بكتاب الفتوى وبيان المفتى والمستفتى وسنستقصي القول في مذاهب الصحابة
1395 - فإن قيل إذا اعتضد مذهب يقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
فما الرأي فيه وقد قال عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا هذا أعم عندنا من الشهادة لعلي بمزية العلم في القضاء فإنا نجوز أن الرسول عليه السلام أشار إلى الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء الطاعة فإذا انضم إلى المراتب في الشهادة للصحابة رضي الله عنهم مرتبة رابعة فأعلاها وأولاها في التعلق أخصها وتليها الشهادة لمعاذ وتليها الشهادة لعلي رضي الله عنه ثم يلي ما ذكرناه الشهادة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
1396 - ثم قال الشافعي قول على في الأقضية كقول زيد في الفرائض وقول معاذ في التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض مسألة
1397 - إذا تعارضت علتان وإحداهما مستندة إلى أصل مجمع عليه ( أو إلى نص ) والأخرى ليست كذلك فالمستندة إلى الإجماع أو إلى محل النص مرجحة وبيان ذلك بالمثال أن أبا حنيفة رحمه الله إذا أوجب الكفارة في الطعام وقاسه على الوقاع فعلته مستندة إلى محل الإجماع والنص ونحن إذا أبقينا الكفارة واستنبطنا القياس من ( بلع ) الحصاة لم يكن مستند ( قياسنا ) مجمعا عليه وهو ( أظهر ) ما يعتني به في الترجيح
ولكن لا ينتهي القول مع أبي حنيفة إلى الترجيح فإن ما استنبطه باطل وإنما يقع الترجيح وراء الاستقلال نعم مصادمة مالك عسرة ( فإنه ) لا يناقض ولا يوجد معه أصل به مبالاة
1398 - ومن هذا القبيل الذي ذكرناه أن أبا حنيفة إذا استنبط علة في عتق الأمة تحت العبد وعداها إلى الأمة المعتقة تحت الحر فعلته إن صحت مستندة إلى محل النص فإن وجدنا محلا مجمعا عليه في نفي الخيار واستندنا إليه علة في عتق الأمة تحت الحر تفاوتت العلتان
1399 - وهذا تقدير ذكرناه تمثيلا وإلا فعله أبي حنيفة باطلة في تلك المسألة والصحيح عندي قصور العلة رأسا على خيار المعتقة تحت العبد كما ذكرنا في ( الأساليب ) فليتنبه الناظر لهذا الأصل العظيم في الترجيح وليكن على بال منه مسألة
1400 - إذا تقابلت علتان إحداهما ذات وصف واحد والأخرى ذات وصفين فصاعدا فذهب بعض الجدلين إلى تقدم التي هي ذات وصف واحد وعللوا بأمرين أحدهما أن ذات الوصف الواحد تكثر فروعها وفوائدها والآخر أن الاجتهاد يقل فيه وإذا قل الاجتهاد قل الخطر
1401 - وهذا المسلك باطل عند المحققين فأما كثرة الفروع فقد سبق القول فيه ثم إطلاق هذا القول لا وجه له فرب علة
ذات وصف لا تكثر فروعها وربما تكون قاصرة لا تعدو محل النص فإن فرض فارض ازدحام علتين على أصل واحد ( و ) لم تكونا قاصرتين فإذ ذاك ذات الوصفين أقل فروعا ويعود الكلام إلى تعليل حكم بعلتين
1402 - ونحن نقول ( و ) قد انتهى الكلام إلى هذا الحد من يتمسك بذات الوصفين لا يخلو إما أن يقول لا تستقل العلة بالوصف الواحد فعليه إبانة بطلانها ولا يكون هذا الكلام في محل الترجيح وإما أن يقول تستقل العلة بالوصف الواحد فلا معنى إذا لما يريده ولا يتعلق هذا بالترجيح
1403 - وهذا نمثله بقولين للشافعي في علة الربا مذهبه في الجديد أن العلة الطعم في الأشياء الأربعة وضم في القديم التقدير إلى الطعم فإن كان يرى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا تعين بيان فساد الاقتصار وإن كان يرى ذلك مسوغا فليس التقدير وصفا في العلة قطعا ولكن إن ذكره ذاكر فغايته أن يكون الكلام في التقدير أظهر منه دونه ويكون هذا بمنزلة من يتخذ صورة من صور الخلاف ويرى الكلام فيها أقرب فالقول بالتقديرين جميعا خارج عن محل الترجيح وإنما أجرينا هذا مثالا وإلا فلا ريب في أن الشافعي رأى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا
1404 - وأما ما ذكره من تقديم ذات الوصف من ( قلة ) الاجتهاد فقول
ركيك فإن ( النظر ) في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الخطر واستشعار الخوف والذي يحقق ذلك أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إن لم ينظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين والمقتصرين على طريق من الاجتهاد وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بها فقد كثر إجتهاده وتعرض للغرر ولكن أدى اجتهاده إلى النفي فإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها وكل ذلك يفسد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد واستشعار الخوف وتبين أن اقتحام الخطر حتم على كل مجتهد مسألة
1405 - إذا تضمنت إحدى العلتين نفيا والأخرى إثباتا فقد صار بعض الناس إلى تقديم العلة المثبة وهذا قول من لا يثبت فيما يأتي به فإن الترجيح لا ينشأ من النفي والإثبات فربما يكون الإثبات أغلب في مسالك الظنون وربما يكون الأمر على ( الظن في ) العكس فليتبع المتبع طريق التغليب على الظن مع الانحصار في مسالك الشريعةغيرمعرج على نفي أو إثبات
1406 - ويتصل بهذه المسألة أن إحدى العلتين إذا انطبقت على أصل مستقر
في الشرع وتضمنت الأخرى النفل عنه فهذا مقام النظر فقد قال قائلون النافلة أولى لاشتمالها على الزيادة واستشهدوا بخبرين أحدهما يثبت قول الشارع والآخر ينفيه فالمثبت أولى لاختصاصه بمزية درك يقدر ذهول النافي عنه وهذا قد فصلناه في ترجيح الأخبار
1407 - ولكن لو سلمنا الآن فليس مما نحن فيه بسبيل من جهة أن مأخذ الأخبار يستند إلى بصيرة النافلة ومرتبته في الدرك وقد يختص المثبت بها والعلل لا تؤخذ من هذا المأخذ ولكن مسالكها معلومه مسبورة فلتعرض ولينظر الناظر فيها ثم لا يقع الترجيح ( بحسبها ) نعم الوجه تقديم العلة المنطبقة علىالاصل المستقر فإنه في حكم الشهادة المؤكدة للعلة والنافلة تحتاج إلى مزيد وضوح يصادم قرار الأصل الذي يناقضها وإذا كان كذلك فالترجيح بمطابقة الأصل المستقر أولى ونقول بحسب ذلك إذا تقابلت علتان في الحكم بالحظر والتحليل ( فالتحليل في ) أصل الحظر علته أغلب فالمرجح العلة الحاظرة إلا أن تختص المحللة بمزية ظاهرة فهذا سر القول في هذا الفصل مسألة
1408 - إذا تقابلت علتان إحداهما حكم والأخرى أمر ثابت محسوس فلا يقع بينهما ترجيح
وذهب بعض الجدليين إلى أن المحسوس مرجح من جهة أن ثبوته معلوم قطعا وهذا الفن ساقط عندنا فإن الحكم عندنا ثابت قطعا وإن لم يكن ثبوته مقطوعا به والقول فيه يتعلق بما مهدناه في إستناد إحدى العلتين إلى مقطوع به وتردد الأخرى فأما إذا كان الحكم مجمعا عليه فلا وجه لما قاله هؤلاء مسألة
1409 - إذاكانت إحدى العلتين تعم الأحوال كعلة الشافعي في منع بيع الكلب فإنه اعتبر النجاسة وكانت العلة الأخرى تختص ببعض الاحوال كالانتفاع الذي تمسك به أبو حنيفة في جواز البيع وهذا لا يجري في الجرو فقد قال قائلون ( تقدم ) العلة التي تعم الأحوال وهذا عندنا عرى عن التحصيل فإن الجرو من جنس ما ينتفع به فلا ينتصب من مثل هذا شئ له وقع في مأخذ الدلة
1410 - ورأينا في مسألة الكلب أن التعلق بالنجاسة شبه لا يتأتى الوفاء بتقديرها معنى فقهيا ولكنه شبه مطرد وقول ابي حنيفة في الانتفاع معنى فقهي ولكنه منتقض والشبه المطرد مقدم على المخيل المنتقض فهذا وجه الكلام
1411 - والأمر المتبع في ترجيح الأقيسة ما مهدناه قبل الخوض في رسم المسائل ولكنا استوعبنا بهذه المسائل ما خاض فيه الخائضون وأوفينا على الاستيعاب وإن تركنا شيئا لم نتعرض له فقد مهدنا ما يرشد إلى ( قواعد ) القول فيه والله المستعان
باب ( النسخ ) 1412 - النسخ في وضع اللغة معناه الرفع ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخت الريح آثار القوم ومعناه في التواضع بين الأصوليين وحملة الشريعة مختلف فيه فأقرب عبارة منقولة عن الفقهاء أن النسخ هو اللفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تأخير عن مورده وقال القاضي أبو الطيب الدال على انتهاء أمد العبادة وهذا مزيف من جهة أن النسخ لا يختص بالعبادات والحدود تعني للجمع والاحتواء ولم يقيد كثير من الفقهاء الكلام بالتأخير وهذا يرد عليه الألفاظ المتضمنة للتأقيت على الأتساق والاتصال كقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فهذه الألفاظ ليست نسخا وفيها بيان أنتهاء الآماد وليس ما ذكرناه مذهبا ولكن أتى قوم من اختلال العبارة وقلة تصورهم عما يرد عليها
1413 - والمذهب الذي يعزى إلى الفقهاء ما ذكرناه عاما للأحكام مقيدا بشرط التأخير وحقيقته ترجع إلى أن النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ والمكلفون قبل وروده ( لا يقطعون بتناول ) اللفظ الأول جميع الأزمان على التنصيص وإنما يتناولها ظاهرا معرضا للتأويل
فالنسخ عندهم تخصيص اللفظ بالزمان كما أن ما يسمى تخصيصا هو إزالة ظاهر العموم في المسميات
1414 - وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق بأن النسخ تخصيص الزمان
1415 - وقالت المعتزلة النسخ هو اللفظ الدال على أن الحكم الذي دل عليه اللفظ الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لثبت مع التراخي ومذهبهم قريب من مذهب الفقهاء وقال القاضي أبو بكر بن الطيب النسخ رفع الحكم بعد ثبوته وهو لا يحتاج إلى التقييد بالتأخير فإن اللفظ الذي ينتظم لقصد التأقيت ليس فيه رفع حكم بعد ثبوته في قصد الشارع ومعتمد القاضي أن الحكم يثبت على التحقيق مؤبدا ثم يزول بعد ثبوته
1416 - ونحن نذكر لباب كلام القاضي في إتباع من يخالفه ثم نذكر بعد نجاز تفاوضهم ما هو الحق عندنا قال القاضي رحمه الله إذا كان النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ فلا فرق بينه وبين التخصيص وإزالة ظاهر اللفظ وهذا في التحقيق إنكار للنسخ وموافقة لجاحديه من اليهود وغلاة الروافض ويلزم منه تجويز النسخ بما يجوز به التخصيص حتى لا يمتنع نسخ نصوص القرآن والأخبار المتواترة بالخبر الذي ينقله الآحاد وبالقياس على رأى من يرى التخصيص به
1417 - وهذا الذي ذكره القاضي ( عندنا ) تشغيب غير مستند إلى مأخذ
من القطع فأما نسبته القوم إلى موافقة من ينكر النسخ فمردود من جهة أن منكريه لا يرون تخصيص الألفاظ في الزمان وما ذكره من إلزامهم تجويز النسخ بما يجوز التخصيص به كلام غير سديد فإن المعتمد في التخصيص ما ظهر من سيرة الصحابة رضي الله عنهم فلولا إزالتهم الظواهر لما أزلناها وقد رأيناهم لا يرون النسخ بما يرون التخسيس به فلا وقع إذا لهذا الكلام وإن تعلق متعلق باقتضاء النسخ الرفع في اللغة كان ذلك ركيكا من الكلام فإن مثل هذا الأصل العظيم لا يتلقى من اشتقاق اللغة مع اتساعها لتطرق التأويلات إليها
1418 - ثم إذا وضح ما ذكرناه فإن نفتتح بعده سؤالا موجها على القاضي ينكشف به وجه الحق فنقول إذا أثبت الله تعالى حكما على المكلفين فمعناه تعلق قوله الأزلى به في حق المكلفين فإذا علم ( الله ) أنه سيرد عليهم ما يسميه العلماء نسخا فخبره الأزلى يتعلق بتقديره وتحقيقه ويستحيل أن يتعلق خبره بثبوته على الأبد وارتفاعه على ( الجمع ) فإن ذلك لو قدر لكان ( تناقضا ) فلا معنى إذا لحقيقة الرفع بعد الثبوت وهذا ما لا جواب عنه ويتصل به أن اللفظ الأول الوارد على المكلفين إذا اقتضى تأبيدا فهو متضمن بشرط ألا يرد ما ينفي التأبيد وكان التقدير فيه أن المكلفين متعبدون بالحكم الأول أبدا بشرط ألا يرد عليهم ما ينافيه وهذا الشرط وإن لم يكن مصرحا به فهو ثابت قطعا
1419 - ولا يسوغ فهم الناسخ والمنسوخ مع تنزيه كلام الله تعالى عن التناقض
واعتقاد استحالة البداء عليه إلا على هذا الوجه فإذا الحكم الذي يرد النسخ عليه في علم الله تعالى غير مؤبد ولا لبس على الله تعالى وإنما حسب المتعبدون أمر بأن خلاف ما حسبوه ولو تحققوا لكانوا في استمرار الحكم الأول مجوزين للتقدير الذي ذكرناه فلا يكونون ( إذا ) قاطعين بالتأبيد في الحكم مع تجويزهم ورود ما ينافيه وعلمهم بأنه لا تبديل لقول الله عز و جل وموجب علمه فيرجع والحالة هذه النسخ إلى انعدام شرط دوام الحكم الأول والنسخ إظهار لذلك بعد أن كان مستورا عن المخاطبين ويرجع التقدير في الحكم الأول إلى أن الحكم ثابت بشرط ألا ينسخ فإذا ظهر النسخ لم يكن مقتضاه رفع ما تحقق ثبوته ولكن كان إبداء ( لانتفاء شرط ) الاستمرار والعبارة عن هذا المقصود أن النسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول
1420 - فإن قيل لا فرق بين هذا الاختيار وبين مذاهب الفقهاء قلنا لا فرق بين هذا وبين مذاهبهم في أن الحكم الثابت في علم الله وقوله تعالى لا يزول لما قدمناه ولكن في كلام الفقهاء ما يدل على أن اللفظ الدال على الحكم الأول ظاهر في الأزمان معرض للتأويل تعرض الألفاظ العامة للتخصيص وهذا فيه إيهام لا حاجة إليه فإن اللفظ العام في وضعه ليس نصا في استغراق المسميات وليس كذلك موجب اللفظ في تأبيد الحكم فإنا نجوز ورود النص في استغراق الزمان مطلقا مع ورود الناسخ بعده وليس ذلك من جهة تأويل اللفظ في وضعه وإنما هو من جهة ( تقدير ) شرط مسكوت عنه وهو متضمن كل أمر يجوز تقدير نسخه
1421 - فإن قيل لو قال الشارع هذا الحكم مؤبد عليكم لا ينسخه شئ
فهل يجوز تقدير النسخ فيه والحالة هذه قلنا إذا ثبت هذا المعنى نصا لم يجز ورود ( النسخ عليه ) فإن ( في ) تقدير ( ورود ) النسخ عليه تجويز الخلف ولهذا اعتقدنا تأبيد شريعتنا ولا يكاد يبقى خلاف معنوي مع الفقهاء وما ذكرناه إن كان تنبيها لم ( ينتبه ) إليه ( بحث ) الفقهاء ( و ) إشارة إلى تهذيب لفظ في التعرض لإظهار الشرط ( المقدر ) الذي لا بد منه فإذا رجع إلى أن الثابت في علم الله تعالى لا ينسخ التفتتت المذاهب إلى الوفاق فإن وافق القاضي ما ذكرناه فلا خلاف وإن أصر على أن النسخ يتضمن رفعا لم يكن لمذهبه وجه
1422 - والنسخ فيما اخترناه مثل ما نصفه فنقول إذا توجه الأمر الجازم على معين فهو مشروط بأن يبقى إمكانه فإذا اخترم تبينا لم يكن مأمورا فإن توجه الأمر مشروط بالإمكان والأمر وإن كان مطلقا فالإمكان مشروط ( فيه ) وإن لم يجر ذكره تصريحا وقد ذكرنا في ذلك قولا بليغا في كتاب الأوامر ونقلنا في ذلك لجاج القاضي وطريق تتبعه بالنقض مع بناء الأمر على ( امتناع ) تكليف ما لا يطاق
مسألة
1423 - منعت اليهود النسخ وتابعهم على منعه غلاة الروافض من التناسخية وغيرهم وافترق نفاته فرقتين فذهب أكثرهم إلى أن النسخ ممتنع عقلا فنقول لهؤلاء إن زعمتم أن وقوعه مستحيل وأن ( امتناعه من ) جهة استحالة وقوعه فقد جحدتم البديهة فإنا نعلم على اضطرار أن ذلك ممكن الوقوع
1424 - وإن جحدتم ذلك من جهة ان المأمور به الأول مستحسن فلو فرض النهي عنه لتضمن ( ذلك ) كونه مستقبحا وفي ذلك خروجه عن حقيقة الأولى فقد قدمنا في أول الكتاب أن الاستحسان والاستقباح لا يرجعان إلى حقائق الأفعال وصفات ذواتها ثم القول في النسخ غير مفروض فيما يزعم المخالفون أنه حسن لعينه أو قبيح لعينه وإنما تفرض مسائل النسخ في التفاصيل التي تتفق أرباب العقول على أن مداركها الشرع لا غير
1425 - وإن زعموا أن النسخ ممتنع من جهة إفضائه إلى البداء والقديم سبحانه وتعالى متعال عنه فلا حقيقة لهذا فإن البداء إن أريد به تبين ما لم يكن متبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ فإن الرب تعالى كان عالما في أزلة تفاصيل ما يقع فيما لا يزال ولئن كان يلزم من تجدد الإحكام البداء لزم من تجدد الحوادث إماتة وإحياء وإعاشة ( وإرداء ) ما ادعاه هؤلاء وليس الأمر كذلك
1426 - فإن ردوا الامتناع إلى ما يتعلق باستصلاح العباد واستفسادهم فهذا
غير مرضى عندنا في حكم الله تعالى ثم لا يمتنع في غيبه أن يكون الاستصلاح في تبديل الأحكام كلما فتر قوم في امتثال الأحكام أرسل الله تعالى إليهم مبتعثا جديدا بحكم جديد فلا وجه لادعاء الاستحالة من طريق العقل
1427 - وزعم زاعمون أن النسخ ممتنع من جهة السمة وادعى طوائف من اليهود أن موسى عليه السلام أنبأهم أن شريعته مؤبدة إلى قيام الساعة وزعم هؤلاء أن طريق معرفة ذلك من دينهم كطريق معرفتنا بذلك من ديننا
1428 - وهذا باطل من وجهين أحدهما أن الأمر لو كان كذلك لما قامت معجزة عيسى عليه السلام ومعجزة محمد صلى الله عليه و سلم بعده على نسخ ملة موسى فإن أنكروا قيام المعجزة رد الكلام معهم إلى أصل النبوات وكان سبيل إنكارهم معجزة من بعد موسى كسبيل إنكار من يجحد معجزة موسى
1429 - والوجه الثاني أن ما ادعوه من دينهم لو كان صريحا لأظهروه وباحوا به من عصر نبينا عليه السلام ولا تخذوا ذلك أقوى عصمهم ولو فعلوا ذلك لنقله الناقلون متواترا لأن الأمر الخطير لا يخفى وقوعه وتتوفر الدواعي على نقله فقد ثبت جواز النسخ عقلا وشرعا
1430 - ولو أردنا أن نبتدئ الدليل على جوازه فأقرب مسلك فيه التمسك
بمعجزة عيسى بعد موسى عليهما السلام ثم التمسك بالإجماع في تحريم الخمر بعد ثبوت تحليلها في صدر الشرع وهذا على من ينكر النسخ من اهل الملة ممن ينتمي إلى المسلمين ثم نقول لهؤلاء لا شك في مخالفة ( دين نبينا ) محمد صلى الله عليه و سلم دين موسى وعيسى عليهما السلام في معظم قواعد الشريعة فكيف السبيل إلى تصديق الأنبياء مع إنكار النسخ وهذا فيه أكمل مقنع مسألة مترجمة بالنسخ قبل الفعل
1431 - وهذه الترجمة فيها خلل من جهة أن كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سابق والغرض من هذه المسألة أنه إذا فرض ورود أمر بشئ فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به زمن يتسع لفعل المأمور به
1432 - فالذي ذهب إليه أهل الحق جواز ذلك وأطبقت المعتزلة على منعه وساعدهم على ذلك طوائف من الفقهاء
1433 - والدليل على تجويزه كالدليل على تجويز أصل النسخ فالوجه رد الكلام إلى التقاسيم السابقة في مسالك العقول التي يتلقى منها الجواز والاستحالة
1434 - فإذا قالوا النسخ يرجع إلى بيان مدة التكليف وليس رافعا لما ثبت في حكم الله تعالى ( ولو جوزنا النسخ في صورة الخلاف لكان ذلك رافعا للحكم لا محالة
قلنا ما ذكرناه من اختيارنا يجيب عن هذا فإنا نقول النسخ راجع إلى إظهار انتفاء لشرط بقاء الحكم فإن الحكم الموجه مشروط بألا ينسخ فإذا ثبت النسخ قبل انقضاء زمان يسع الفعل بان أنه لا حكم أصلا وهو من طريق التمثيل كزوال إمكان المكلف قبل استتمام الفعل
1435 - وإذا رد المعتزلة الكلام إلى استصلاح العباد لم يخف خلافنا لهم في أصل ذلك ثم لا يبعد في مجاري أحكام الغيب أن يكون الاستصلاح في أن يخاطبوا ويقبلوا ثم يرفع عنهم التكليف حتى يؤجروا على صدق نياتهم ويوفوا مالا يستقلون به في علم الله تعالى
1436 - ثم استدل أصحابنا في تجويز النسخ قبل الفعل بما جرى في قصة الخليل عليه السلام وابنه الذبيح الحق أو إسماعيل عليهم السلام ووجه التمسك أن الأمر بالذبح نسخ قبل وقوعه
1437 - فإن زعم المخالف أن المأمور به كان شدا وربطا وتلا للجبين كان ذلك باطلا من وجهين أحدهما أن الخليل عليه السلام اعتقد وجوب الذبح ( ولو لم يكن ) الأمر كذلك لما كان هذا بلاء عظيما كما أشعر به القرآن العظيم وهذا مقطوع به ويستحيل أن يكون معتقد النبي عليه السلام في الذي خوطب به خطا ثم الفداء دليل على ارتفاع الذبح بعد وقوعه الأمر ( به ) وقيام الفداء مقام ما كان المأمور به من الذبح
1438 - فإن ( تعلقوا ) بقوله تعالى قد صدقت الرؤيا
قيل لهم لم يقل قد حققت ( أوأ ) وقعت ما أمرت به بل قال صدقت وليس من شرط التصديق إيقاع ما يتعلق التصديق به
1439 - وقال بعض المخالفين وقع الذبح وجرت المدية وكانت تقطع ويلتحم ما انقطع وهذا بهت عظيم إذ لو كذلك لكان هذا أحق منقول وأظهر معجزة تتوفر الدواعي على نقلها ونص القرآن مع ما فيه من القيود والقرائن أصدق شاهد في ذلك فإنه قال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ولو كان ذبح لما وقع الاقتصار على ذكر التل للجبين دون وقوع المأمور به ثم ذكر الفداء بعد هذا مشعر بأن الذبح المأمور به لم يقع وأن الفداء قائم مقامه وهذا منتهى المثال في ذلك مسألة
1440 - قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد قوله في نسخ السنة بالكتاب والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع والمسألة دائرة على حرف واحد وهو أن الرسول لا يقول من تلقاء نفسه أمرا وإنما يبلغ ما يؤمر به كيف فرض الأمر ولا امتناع بأن يخبر الرسول الأمة مبلغا بأن حكم آية يذكرها قد رفع عنكم ويرجع حاصل القول في المسألة إلى أن النسخ لا يقع إلا بأمر الله تعالى ولا ناسخ إلا الله والأمر كيف فرض جهات تبليغه لله تعالى فهذا القدر فيه مقنع
1441 - فإن زعم الفقيه أن القرآن معجزة بخلاف السنة فليس المنسوخ نفس القرآن وإنما المنسوخ حكمه ولا إعجازه في الحكم ( و ) هذا عرى عن التحصيل
1442 - وإن تعلقوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فهذا خبر من الله تعالى وليس فيه ما يتضمن استحالة الوقوع وفيها الخلاف بل لا يمتنع تأويل الظواهر ولا وقع لها في القطعيات
1443 - ثم لا محمل لقول القائل لا تنسخ السنة بالقرآن فيقال لمن أنتحل هذا المذهب نزول القرآن بخلاف السنة ممتنع أم لا فإن منعه كان منكرا من القول وإن جوزه وزعم أن الرسول يسن عند نزوله سنة بخلاف السنة الأولى فيقع نسخ السنة بالسنة فهذا من الهزء واللعب والتلاعب بالحقائق وكيف يقدر وقوف النسخ وقد ورد القرآن وبالجملة إلى الله مصير الأمور ومنه النسخ والإثبات والرسول عليه السلام مبلغ في البين وهذا القدر كاف
مسألة مشهورة بالزيادة على النص
1444 - ومدارها على تحقيق تصويرها فإذا ورد نص في شئ ( واقتضى ) وروده الاقتصار على المنصوص عليه والحكم بالإجزاء فكان ذلك مقطوعا تلقيا من اللفظ والفحوى ولو فرضنا زيادة مشروطة لتضمن ثبوتها نسخ الإجزاء في المقدار الأول لا محالة ولا ( يسوغ ) تقدير الخلاف في ذلك
1445 - وإن اقتضى ما ورد به أولا الإجزاء وجواز الاقتصار اقتضاء ظاهرا وكان يتطرق التأويل إليه في منع الإجزاء فلو فرضت زيادة كانت في معنى إزالة الظاهر الأول ولم يتضمن نسخا اعتبارا بكل ظاهر يزال بحكم التأويل وهذا مما لا أرى فيه للخلاف مساغا
1446 - وإذا ثبت هذان الطرفان وهما حظ الأصول فالكلام بعدهما في ألفاظ ظنها الظانون نصوصا وهي ظواهر ثم القول في تفاصيلها مستقصى في ( الأساليب ) ولكنا نضرب للتمثيل صورا منها أن أصحاب أبي حنيفة ظنوا أن من أثبت النية في الطهارة فقد زاد على النص والكلام في ذلك مشهور وأقرب مسلك فيه أنا لا نبعد أن يكون غرض الآية مقصورا على بيان ( أفعال الطهارة ) وتقدير هذا لا يخالف نصا ولا فحوى وليس مع تجويز هذا لإدعاء النص وجه ومنها قوله تعالى في كفارة الظهار فتحرير رقبة قال أصحاب أبي حنيفة
زيادة الإيمان نسخ الأجزاء في الرقبة المطلقة وقد أوضحنا أن هذا تخصيص عموم ومنها قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان قالوا إثبات الشاهد واليمين يخالف هذا الحصر وهذا لا وجه له مع أن هذا الاحتياط مندوب إليه ونحن لا ننكر الندب ( إلى بينة ) كاملة مغنية عن الحلف ومنها قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا الآية مع استدلال الخصم بها في معنى التغريب وهذا من أظهر ما يتمسكون به وليس نصا فإنه لا يمتنع اشتمال الآية على بعض العقوبة وإحالة تمامها إلى بيان الرسول عليه السلام إذ ليس في الآية للرجم في حق المحصن ذكر فهذا بيان حقيقة القول في المسألة مسألة
1447 - أجمع العلماء على أن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون فالقرآن لا ينسخه الخبر المنقول آحادا والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به ووراء ما ذكرناه حقيقة هي كشف الغطاء ونحن نبينها بسؤال وجواب عنه فإن قيل ما المانع من انتصاب دليل قاطع على أن الخبر إذا نقله العدول يجب ترك حكم القرآن عند نقلهم قلنا هذا غير ممتنع لو ورد ولكن لم يرد ثم لو قدر وروده فالنسخ يتلقى من الدليل القاطع والخبر المنقول آحادا في حكم العلم الذي يقع العمل عنده لا به وقد تكرر
هذا الفن مرارا في مسائل هذا المجموع وهذا الذي ذكرناه في الخبر يطرد في القياس أيضا مسألة
1448 - يجوز نسخ رسم آية من القرآن في التلاوة مع بقاء حكمها ويجوز تقدير نسخ حكمها مع بقاء رسمها في آى القرآن وقد منع مانعون من المعتزلة الأمرين وصار إلى منع أحدهما دون الآخر ( على البدل ) صائرون وما ذكرنا في طريق إثبات الجواز في مسالك هذا الكتاب يجري على المنكر للجواز في هذه المسألة ثم الأمر بالتلاوة على نظم القرآن حكم غير القرآن فيؤل القول في الحقيقة إلى نسخ حكم فأما عين القرآن فلا يرد عليه نسخ ( أصلا ) مسألة
1449 - إذا ثبت النسخ ولم يبلغ خبره قوما فهل يثبت النسخ في حقهم قبل بلوغ الخبر إياهم هذا ما أختلف فيه الأصوليون وعندنا أن المسالة إذا حقق تصويرها لم يبق فيها خلاف فإن قيل على من لم يبلغه الخبر الأخذ بحكم الناسخ قبل العلم به فهذا ممتنع عندنا وهو من فن تكليف ما لا يطاق وهو مستحيل في تكليف الطلب وإن أريد بثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الخبر أن الخبر إذا بلغه لزمه تدارك أمر فيما مضى فهذا لا امتناع فيه وإذا ردت المذاهب المطلقة في النفي والإثبات إلى هذا التفصيل لم يبق
للخلاف تحصيل مسألة
1450 - لا يمتنع نسخ الحكم من غير بدل عنه ومنع ذلك جماهير المعتزلة وهذا تحكم منهم والدليل على جوازه ما تمهد في مسألة التجويز في أصل النسخ فلا معنى للإعادة بعد وضوح المقصد مسألة
1451 - إذا ورد نص واستنبط منه قياس ثم نسخ النص تبعه القياس المستنبط ( منه ) وقال أبو حنيفة لا يبطل القياس وإن نسخ النص وقد جرى له هذا المسلك في الأخذ من صوم ( يوم ) عاشوراء ( في ترك حكم التتبييت ) لما اعتقد وجوبه ثم ثبت نسخ وجوبه
1452 - والقول الواقع في ذلك عندنا أن المعنى المستنبط من الأصل الأول إذا نسخ أصله ( بقي ) معنى لا أصل له فإن صح استدلالا نظرنا فيه وإن لم يصح أبطلناه
فصل في الفرق بين النسخ والتخصيص 1453 - قال الفقهاء النسخ تخصيص في الأزمان دون المسميات المندرجة تحت ظاهر اللفظ والمعتزلة يقرب مأخذ كلامهم من مآخذ كلام الفقهاء فإن النسخ عند هؤلاء بيان
معنى اللفظ وأما القاضي فإنه يقول التخصيص بيان المراد باللفظ العام والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته والمختار عندنا أن التخصيص بيان المراد باللفظ والنسخ ( لا تعلق له بمقتضى اللفظ ) ولا يتضمن رفع حكم ثابت ولكنه إظهاره ما ينافي شرط استمرار الحكم الأول كما سبق تقريره ( والله أعلم وأحكم )
1454 - ثم الكتاب وقد نجز بحمد الله ( ومنة ) وحسن توفيقه الغرض من هذا المجموع في الأصول ونحن نرسم بعد ذلك مستعينين بالله تعالى كتابا جامعا في الاجتهاد والفتوى يقع مصنفا برأسه وتتمة لهذا المجموع إن شاء الله تعالى
خاتمة نسخة الشيخ الخضري والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله تم كتاب البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين على يد كاتبه لنفسه عبد الرحمن بن عبد الحي بن محمد الخضري الدمياطي الشافعي الشاذلي الأشعرى في يوم الخميس الثالث من شهر شوال سنة 1336 سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف صلى الله عليه و سلم صلاة لا تنقطع أبدا ولا تفنى أمدا ولا تنحصر عددا هذه خاتمة نسخة الشيخ الخضري التي في ملك نجله الشيخ أحمد كامل الخضري وهي غير الخاتمة الموجودة في نسخة دار الكتب المنقولة عن نسخة مصطفى مكاوي وهذا يشهد لما قلناه عند عرضنا لنسخ الكتاب ( انظر المقدمة )
ملحق البرهان الكتاب السادس كتاب الاجتهاد 1455 - ونحن نصدر هذا الكتاب بالكلام في تصويب المجتهدين ونردفه بمسألتين فيهما إنجاز الكتاب فإن معظم أحكام الاجتهاد تذكر في كتاب الفتاوى فنقول قد اضطرب الأصوليون في أن المجتهدين في المظنونات وأحكام الشريعة مصيبون على الإطلاق أم المصيب منهم واحد وهذا بعد إطباقهم على أن المصيب فيما اختلف فيه اجتهاد المجتهدين في المعقولات
وقواعد العقائد واحد والباقون على الزلل والخطأ
1456 - ولم يؤثر فيه خلاف إلا عن المعروف بالعنبري فإنه نقل عنه أن كل مجتهد مصيب في المعقولات والمظنونات جمعيا وهذا لا بد أن نتكلف له محملا ونبين له وجها ثم نزيفه إذ لا يظن بذي عقل أن يقول الاجتهادات الواقعة في أصل الملل والنحل كالاجتهادات الواقعة في حدث العالم وقدمه ووجود الصانع كالاجتهاد في المظنونات حتى يصوب فيه كل مجتهد ولو قال بهذا أحد لكان انسلالا عن الدين بالكلية وكيف يعتقد ذلك ( والعلم ) أحد الجانبين وما يعارضه جهل فكيف يعتقد الجاهل مصيبا
1457 - ولعل هذا القائل أراد بذلك أن النظر إذا انحط عن أصول الملل والنحل وانخرط في سلك الشريعة ثم تباينت الآراء وتفاوتت الأهواء كاختلافها في خلق الاعمال ونفيه وإرادة الكائنات وقدم القرآن ( وثباته الخاطئ ) فيه ببديع فمثل هذا يصوب فيه كل مجتهد
1458 - وغاية الإمكان في تقرير هذا المذهب أن يقال مطالب الخلق الوصول إلى الحق ولكن اكتفى منهم بعقدهم عليه ( مصممون ) فإذا خاضوا في طلب الحق ولم يحتمل عقلهم إلا ما اعتقدوه فيعذرون على اعتقادهم ولا يوبخون ولا نقول مع هذا إن معتقداتهم صحيحة أو يلزم من ذلك أن يكون التشبيه حقا ولا وجه له ولكن نقول يعذرون لأنهم تكلفوا ذلك ولم تحتمل عقولهم إلا ما اعتقدوه والذي يستند إليه نهاية هذا التقرير أن الأعراب في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يسألون والرسول عليه السلام يعلمهم تفاصيل أحكام الشريعة وكيفية الاستنجاء وتدوير الأحجار على الصفحات ولو كان البحث عن هذه الحقائق واجبا لكان ذلك أحرى بالتقديم ولكان يعلمهم ذلك
فاستبان بمجموع ذلك أن الخطأ في أمر لم يكلف بأصله سهل المدرك
1459 - وهذا مع ما أطنبنا فيه مزيف فإنا نقول لهم إن عنيتم بقولكم إن النظر في هذه الأبواب لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسلم وإن عنيتم به الاستغناء عنه في زماننا هذا فلا فإن البدع بعد قد ظهرت والفتن قد بدت ولا سبيل إلى تقرير المبتدعة على معتقداتهم ليفشوها ويدعوا الناس إليها وهذا لأنا نعلم على الاضطرار أن مبتدعا لو أظهر في عصر الصحابة رضي الله عنهم بدعة لكانوا يبالغون في تقريعه وتوبيخه فإذا لم يكن من التقريع بد جاز أن يكون البحث عنه مأمورا به
1460 - على أنا نقول هب أنه لم يؤمر به ولكنه يجوز أن يقال إذا خضت فيه فابغ درك اليقين ولا تقنع بما عداه وقولهم إن عقلهم لا يحتمل إلا ما اعتقدوه قلنا عقل من احتمل التنزيه كعقل من اعتقد التشبيه وإن عنيتم أنه لم يحتمل التنزيه فهو قائل للحق إذا ثم جاز أن ينتهض هذا عذرا لجاز أن يصوب اليهود على معنى بأنهم يعذرون لأنه لم يحتمل عقلهم إلا التهود وكذلك النصارى والمجوس فقد بطل هذا المذهب واستبان أن المصيب في المعقولات واحد
1461 - فأما المظنونات فقد اشتهر الخلاف فيه فصار القاضي وشيخنا أبو الحسن إلى تصويب المجتهدين وتابعهم الطبقة الغالبة ونقل القاضي عن الشافعي مثل مذهبة وقال لولا أن مذهبه هذا وإلا ما عددته من الأصولية
1462 - وصار الأستاذ أبو إسحاق إلى أن المصيب واحد ثم قال لمن يصوب المجتهدين هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي
1463 - ثم الذين قالوا بالتصويب انقسموا قسمين فصار المقتصدون منهم إلى أن الوقائع العرية عن النصوص والإجماع ليس لله فيها حكم معين ولكن على الناظر فيها الطلب والاجتهاد فإذا غلب على ظنه أمر فحكم الله عليه إتباع غلبة ظنه وموجبه
1464 - وأما الغلاة فإنهم قالوا لا مطلوب في الإجتهاد ولا اجتهاد فيفعل ما يختار أي الطرفين يشاء وعن هذا قال الأستاذ آخره زندقة إثبات الخيرة ورفع الحجة وتفويض الأمر إلى اختيار المريد وأوله سفسطة فإنه تحليل شئ محرم وعلى العكس
1465 - وأما الذين قالوا المصيب واحد ( فقد ) انقسموا أيضا انقسام الفرقة الأولى فصار المقتصدون إلى أن من أصاب منهما فله أجران والمخطئ معذور وأما الغلاة فإنهم قالوا المخطئ آثم معاقب معاتب ونحن نذكر ما لكل فريق مع التنبيه عليه ثم نذكر المختار عندنا
1466 - فأما الذين قالوا المصيب واحد فقد قالوا يستحيل أن يكون الشئ الواحد حلالا حراما فإنهما متناقضان متنافيان فقيل لهم الميتة حرام على غير المضطر وهي على المضطر حلال قالوا تفاوت الأحكام في التحليل والتحريم في حق شخصين قلنا ومن أوجب إتباع الظن يعتقد موجب الظنين صوابا وهما ظنان أيضا من شخصين
1467 - فإن قالوا إذا قلتم المصيب الواحد فالمستشفى يستفتى أيهما ( شاء )
قلنا وأنتم إذا صركم إلى أن المصيب كلاهما فالمستفتي يراجع منهما من فإن قلتم يراجع الأفضل الأورع قلنا كذلك إذا قلنا المصيب واحد فإن فرضوا مفتيه تحت مفت قال لها الزوج أنت بائن واعتقد الزوج أن لفظ البينونة لا يقطع الرجعة لكونها كناية واعتقدت الزوجة أن الكنايات تقطع الرجعة قالوا فإذا قلتم المصيب من المجتهدين واحد فكيف ينتظم الأمر بينهما ويفصل الأمر على أي رأي قلنا وأنتم إذا قلتم المصيب كلاهما فكيف تقطع الخصومة ولا سبيل إلى الجمع بينهما والصورة كما فرضتموها قال الأستاذ أبو إسحاق التحريم مقصود وله مسلك في الشريعة وللتحليل مسلك وله مطلب مقصود في الشريعة ومسلك التحريم والتحليل على المضادة والمناقضة فكيف نعتقد مسلكين متنافيين على حكم في محل متحد
1468 - وهذا فيه بعض النظر لأن من الخصوم من يعلو قبيله المطلوب بالنظر والاجتهاد ويثبت الخيرة فأنى يفند هذا الكلام معهم هذا منتهى ما يستدل به هؤلاء مع الإيجاز
1469 - وإما الذين صاروا إلى التصويب فمعتمدهم أنهم قالوا لا شك أن كل مجتهد يعمل بموجب اجتهاده هذا لا خلاف فيه بلا مرية وريب فالذي أدى اجتهاده إلى التحليل يلزمه العمل بموجب اجتهاده والذي أفضى اجتهاده إلى التحريم يحتم عليه الجريان على مقتضى اجتهاده ووجوب العمل بمقتضى الاجتهادين من أمر الله تعالى وإيجابه
1470 - فالمعنى بقولنا أنهما مصيبان أنهما فعلا ما كان الواجب عليهما في ذلك ويجوز أن يوجب البارئ تعالى حكما على شخص ويوجب على غيره خلافه فإن قيل بم تنكرون على من يزعم أن الواجب طلب الحق ودرك اليقين
وإحكام الآت الاجتهاد والتزام المستند في سبر الرشاد مفض إليه فأحد المجتهدين لما خالف مطلب التأني كان مقصرا في اجتهاده إذ لو أتم الاجتهاد على ما ينبغي لاتحد مطلب الاجتهادين قلنا أليس وجب عليه بإيجاب الله تعالى وأمره العمل بموجب الاجتهاد الذي هو مخطئ فيه فالواجب عليه ذلك فقد أصاب الحق وأما وهي الاجتهاد والتقصير في انقسامه فلا معنى له ولأن الاجتهاد ليس هو إلا طلبا فيه غلبة ظن وإذا أنتج غلبة الظن فقد أتم المقصود وإنهاء الاجتهاد نهايته مما يستحيل أن يخاطب به فإن غايته مجهولة ليست معلومة مفهومة مضبوطة فالأمر بإنهائه إلى نهاية غير مضبوطة تكليف ما لا يطاق وإذا لم يكلف ذلك فقد أدى من الاجتهاد ما أفاد غلبة الظن والشرع اوجب عليه العمل بموجبه فيبعد أن يوجب الشرع عليه عملا ثم يحكم بأنه مخطئ ( فيما ) أوجب الجريان عليه
1471 - فإذا حصلت الإحاطة بهذه الطرق فأقول المختار عندي أمر ملتفت وكأنه ملتقط من الطرفين وهو يجمع المحاسن وذلك أنا نقول للأستاذ إن عنيت بتخطئة أحدهما أنه لا يجب العمل بموجب غلبة الظن فهذا إنكار ما لا وجه لإنكاره إذ المجتهد إذا غلب على ظنه أمر فأمر الله عليه إتباع موجب ( ظنه ) ولا أن يناط لظنه غيره فيتأثر به وإن عنيت به أنه كلف المجتهد وراء غلبة الظن بتحصيل أمر آخر فلا وجه له أيضا إذ الامر والاجتهاد ينضبط به وغلبة الظن حاصل
1472 - وأما القاضي فنقول له إن عنيت بالتصويب وجوب العمل عليهما على وفق ظنهما فهذا مسلم وإن عنيت به رفع الاجتهاد وإثبات الخيرة واعتقاد التسوية بين التحليل والتحريم فهذا أمر يناقض وضع الشريعة على القطع وهذا معلوم على الضرورة
وبالبديهة وإن عنيت به أن لا حكم لله تعالى في الوقائع على التعيين فهذا أيضا جحد لأن الطلب لا ليستقل بنفسه ولا بد من مطلوب ويستحيل فرض طلب لا مطلوب له فإن الباحث عن كون زيد في الدار ( يقدر ) كونه فيه ويقدر أيضا خلافه ثم يطلب الوقوف على أحد الأمرين الذي هو الحقيقة ( فكذلك ) المجتهد إذا وقعت واقعة بطلب النصوص من الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم إن أعوز المطلوب فيه فينظر في قواعد الشريعة يحاول إلحاقا ( ويريد ) جمعا ويطلب شبها فيخل في نفسه وجود التشبه ثم يجتهد في طلب الأشبه فالمطلوب هو الأشبه
1473 - إذا ثبت هذا وتقرر أنه لا تخلوا واقعة عن حكم الله فنقول المجتهد مصيب من حيث عمل بموجب الظن بأمر الله مخطئ إذا لم ينه اجتهاده إلى منتهى حصل العثور على حكم الله في الواقعة وهذا هو المختار ونبين ذلك بمثالين أحدهما أن المجتهد إذا اجتهد في واقعة حكم الله فيها التحريم ثم اجتهاده أدرك التحريم فهو مصيب من كل وجه وإذا اجتهد الثاني فغلب ظنه الكراهة فعمل به فهو مصيب من حيث إنه وجب عليه العمل بالكراهة مخطئ من حيث إنه لم يدرك التحريم والمثال الثاني إذا اشتبه صوب القبلة فاجتهد أحدهما فأدرك صوب القبلة فاستقبله فهو مصيب في الجريان على مقتضى الاجتهاد عملا ومصيب من حيث إنه أدرك حكم الله فيه وإذا اجتهد الثاني وغلب على ظنه أن القبلة في صوب آخر فعليه أن يستقبله
وهو مصيب في استقباله مخطئ من حيث إنه لم يدرك صوب الكعبة الذي هو نهاية مطلوبه وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره فإن صوب القبلة واحد وهو متعين في علم الله لوجوب الاستقبال
1474 - فإن قال القاضي المجتهد لم يكلف طلب الكعبة وإنما أمر بتحصيل غلبة الظن إذ لو أمر بطلب صوب الكعبة فهو متعين وعليه أمارات يتصور الوقوف عليها على اليقين فلو كان كذلك لما ساغ له استقبال غيره بالاجتهاد وأما المظنونات فهي مشتبكة الطرق لا سبيل إلى حسم مواردها ومسالكها ولا يكون المظنون قط إلا مظنونا فلا يحصل له فيه علم فدل على أنه لا حكم لله فيه وعلى اليقين
1475 - قلنا نعم لا يتصور حصول علم فيه ولكن يتصور ظنه وللظنون مسالك وفوائد كما للعلوم وهو لم يكلف إلا تحصيل غلبة الظن في إنه ظفر بالأشبه وفي الحقيقة يئول الخلاف إلى لفظ إذ لا يستجيز مسلم تأثيم مجتهد وإذا ارتفع التأثيم وحصل الاتفاق على أن كلا يعمل بغلبة ظنه لم يبق للخلاف أثر ولكن شوفنا فيما أوردناه وردناه عودا على بدأ ان تبين أن للمجتهد مطلوبا ه هو شوفه وهو طلب الأشبه والأقرب ثم إن تعارضت ( الأشباه ) وانحسم مسالك الترجح فقد نقول هذه واقعة خلت عن حكم الله تعالى على ما سيأتى ونحن ننجز الأن المسألتين الموعودتين فيهما يتم الغرض مسألة
1476 - رددنا في كلامنا أن شوف الناظرين من الطالبين الأشبه وهذا قد اختلف الأئمة في حقيقة الأشبه الذي هو المطلوب فقال قائلون هو الذي يلوح للناظر فيه المشابهة والمقاربة ولا تنطبع عنه عبارة وهذا هذيان لا حاصل له وراءه
1477 - وقال ابن سريج الأشبه المطلوب هو الذي يغلب على الظن عند تقدير
ورود الشرع بحكم في المحل أنه كان ينص على ذلك الحكم وهذا حكم على الغيب
1478 - فإذا الذي عليه التعويل أنا نقول المسألة إذا ترددت بين أصلين في التحريم والتحليل ويجاذبهما أصل التحريم وأصل التحليل فالمطلوب تقرير الأشبه فإن كانت أشبه بأصل التحريم فالمطلوب الذي هو نهاية التشوف والتحريم وإن كانت على العكس فالتشوف التحليل ومن يسبق إلى الأشبه فله أجرا مصيب فيهما وإن أخطأ الشوف فهو مصيب في العمل مخطئ نهاية الشوف فكأن الذي لم ينته إلى نهاية الشوف مصيب من وجه مخطئ من وجه
1479 - فإن قال قائل مذهب أبي حنيفة أن كل مجتهد مصيب فما الفرق بينه وبينكم قلت إن عنى بالتصويب وجوب العمل فهو متابع عليه وإن عنى أنه مصيب غاية الشوف ففيه النزاع وإن عنى به أنه مصيب في الاجتهاد دون العمل فهو محال فإن كان المعنى به ما فصلنا في اختيارنا فلا ( نتبرأ ) عن أبي حنيفة أنى نطق بالحق ولا يحتج لوفاقه في الأصول ومطالب القطع لوفاقه مسألة
1480 - المجتهد إذا اجتهد وعمل ثم تبين أنه أخطأ نصا فلا شك أنه يرجع إلى مقتضى النص وهل يتدارك ما أمضاه ( فيه ) تردد فقهي والغرض الأصولى أنه إذا تبين أنه أخطأ نصا فهل يصوب فأما الذين صاروا إلى التخطئة في المظنونات فلا شك أنهم يقطعون بتخطئته وأما المصوبون فإنهم اختلفوا فمنهم من غلطه وخطاه ومنهم القاضي لأن التصويب كان لارتفاع المطلوب
وتخيل أن لا حكم لله فيه على اليقين وها هنا الحكم متعين بالنص وقد أخطأ لما لم يصبه وغلا من هؤلاء غالون فقالوا يأثم المجتهد لغفلته عن النص ومنهم من عذره وقال هو مخطئ غير آثم وصار بعض الغلاة من المصوبة إلى تصويبه وإن خالف نصا واستدلوا بأن قالوا إذا خفي النص وجب عليه الاجتهاد وإذا اجتهد مرتسما ما وجب عليه وأدى اجتهاده إلى أمر غلب على ظنه أنه الحكم وجب عليه العمل به فإذا عمل ما وجب فقد أصاب
1481 - والمختار عندي ما قدمته فإن الأشبه الذي هو شوف الطالبين فيما عدم النص فيه ( كالنص ) في محل وجوده فيخرج منه أن الذي أخطأ النص والشوف مصيب من جهة العمل مخطئ من حيث إنه لم ينته إلى نهاية الشوف ولا فرق بين قصور النظر عن الأشبه أو درك النص فما فيه الكلام وإن كان النص يفيد ركون النفس ولا يفيد الأشبه إلا غلبة الظن والله أعلم
-
الكتاب السابع كتاب الفتوى 1482 - ( المفتي ) مناط الأحكام وهو ملاذ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال ولك ينكر واحد ولا سبق إلى إنكاره من لا اعتبار به اتهم في دينه كيف والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون فيتبعون ويقضون فينفذون وكذلك من لدن عصرهم إلى زماننا هذا ثم مقاصد الكتاب يحصرها فصول
فصل 1483 - في صفات المفتي والأوصاف التي يشترط استجماعه لها وقد عد الأستاذ فيه أربعين خصلة ونحن نذكر ذلك في عبارات وجيزة فنقول يشترط أن يكون المفتي بالغا فإن الصبي وإن بلغ رتبة الاجتهاد وتيسر عليه درك الأحكام فلا ثقة بنظره وطلبه فالبالغ هو الذي يعتمد قوله
1484 - وينبغي أن يكون المفتي عالما باللغة فإن الشريعة عربية وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة من يفهمه يعرف اللغة ثم لا يشترط أن يكون غواصا في بحور اللغة متعمقا فيها لأن ما يتعلق بمأخذ الشريعة من اللغة محصور مضبوط وقد قيل لا غريب في القرآن من اللغة ولا غريب في اللغة إلا والقرآن يشتمل عليه لأن إعجاز القرآن في نظمه وكما لا يشترط معرفة الغرائب لا ( نكتفي ) بأن يعول في معرفة ما يحتاج إليه
على الكتاب لأن في اللغة استعارات وتجوزات قد يوافق ذلك مآخذ الشريعة وقد يختص به العرب بمذاق ينفردون به في فهم المعاني وأيضا فإن المعاني يتعلق معظمها بفهم النظم والسياق ومراجعة كتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ فأما ما يدل عليه النظم والسياق فلا ويشترط أن يكون المفتي عالما بالنحو والإعراب فقد يختلف باختلافه معاني الألفاظ ومقاصدها
1485 - ويشترط أن يكون عالما بالقرآن فإنه أصل الإحكام ومنبع تفاصيل الإسلام ولا ينبغي أن يقنع فيه بما يفهمه من لغته فإن معظم التفاسير يعتمد النقل وليس له أن يعتمد في نقله على الكتب والتصانيف فينبغي أن يحصل لنفسه علما بحقيقته ومعرفة الناسخ والمنسوخ لا بد منه 1486 وعلم الأصول أصل الباب حتى لا يقدم مؤخرا ولا يؤخر مقدما ويستبين مراتب الأدلة والحجج
1487 - وعلم التواريخ مما تمس الحاجة إليه في معرفة الناسخ والمنسوخ
1488 - وعلم الحديث والميز بين الصحيح والسقيم والمقبول والمطعون
1489 - وعلم الفقه وهو معرفة الأحكام الثابتة المستقرة الممهدة
1490 - ثم يشترط وراء ذلك كله فقه النفس فهو رأس مال المجتهد ولا يتأتى كسبه فإن جبل على ذلك فهو المراد وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب
1491 - وعبروا عن جملة ذلك بأن المفتي من يستقل بمعرفة أحكام الشريعة نصا واستنباطا فقولهم نصا يشير إلى معرفة اللغة والتفسير والحديث وقولهم استنباطا يشير إلى معرفة الأصول والأقيسة وطرقها وفقه النفس
1492 - والمختار عندنا أن المفتي من يسهل عليه درك أحكام الشريعة وهذا لا بد فيه من معرفة اللغة والتفسير وأما الحديث فيكتفي فيه بالتقليد وتيسير
الوصول إلى دركه بمراجعة الكتب المرتبة المهذبة ومعرفة الأصول لا بد ( منه ) وفقه النفس هو الدستور والفقه لا بد منه فهو المستند ولكن لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه في حالة واحدة ولكن إذا تمكن من دركه فهو كاف
فصل
1493 - ويشترط أن يكون المفتى عدلا لأن الفاسق وإن أدرك فلا يصلح قوله للإعتماد كقوله الصبى
1494 - معقود فيمن كان مجتهدا من الصحابة فلا يخفي على ذي بصيرة أن الخلفاء الراشدين كانوا مجتهدين مفتين لأنهم تصدوا ( للإمامة ) ولا يصلح لها إلا مجتهد وكانوا يفتون في زمنهم ويقضون ويحكمون وينفذون ولم يعترض عليهم ( فدل ) ذلك على القطع بأنهم كانوا مفتين
1495 - وأما أصحاب الشورى وهم طلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد ( والزبير ) وكان معهم عثمان وعلي إلا أنا قطعنا بأنهم كانا مفتيين فقال قائلون هؤلاء مجتهدون لأن عمر رضي الله عنه أسهم الخلافة بينهم وألقاها فيهم فدل على أنهم مستصلحون للإمامة ولا يصلح لها إلا مجتهد
1496 - قال القاضي وهذا الاستدلال ضعيف فإن عمر لم يفوضها إلى أحدهم ولذلك كان إذا ذكر واحد منهم له قال فيه قولا فذكر له الزبير فقال صاحب المد والصاع فإنه كان تاجرا فبين أن هذه المرتبة
العلية تترقى عن أفعال تلائم الخسة والركاكة وتفتقر إلى كمال العقل والثبات فذكر له سعد فقال صاحب مقت فذكر له طلحة فقال إنه ذو خير وإنه ذو استكبار فذكر له علي فقال لو وليتموه ليولين بني أبي معيط ولو ولاهم لتثورن الثوار والله لو فعلتم ذلك ليفعلن والله لو فعل ليفعلن ثم قال هذا أمر تقلدته حيا فلا أتقلده ميتا فدل على أنه لم يقطع بصلاح كل واحد منهم لهذا الشأن
1497 - وأما أبو هريرة فقال القاضي كان ناقلا وما كان مفتيا والمختار عندي في هذه التفاصيل ما نقول من تصدى للفتوى في زمان وشاع ذلك واستفاض ولم يبد من أهل الفتوى عليه نكير كان مفتيا وعليه بنينا القول في الخلفاء الراشدين فإنه ما كان يخفى أمرهم وعبد الله بن مسعود كان فقيه الصحابة وكذلك العبادله الأربعة لا يخفى تصديهم للفتوى وأما أبو هريرة فقد كثرت روايته ولم يتبين لنا أنه كان يفتى فالوجه أن نقول من كان يفتى في زمانهم ولم ينكروا فهو مفت ومن لم يفت فيهم نقطع القول بأنه ما كان مفتيا ومن ترددنا فيه نتردد في كونه مجتهدا مفتيا والشافعي قلد معاوية في مسألة وذلك يدل على أنه كان مجتهدا
1498 - وأما من انحط عنهم من التابعين فللشافعي عن الحسن البصري كلام ونحن نكلف أنفسنا عن تعدادهم فقد ذكرنا المختار وعليه يخرج كل كلام مقصود من
هذا الفن
1499 - وأما مالك رضي الله عنه فكان تدواره على النصوص حتى كان معظم أجوبته في المسائل الخالية من النصوص لا أدرى وقد اشتهر مذهبه في استصلاحات مرسلة يراها انسلت تلك القواعد عن ضبط الشريعة وقدم مذاهب أهل المدينة على الأحاديث الصحيحة
1500 - وأما أبو حنيفة فما كان من المجتهدين أصلا لأنه لم يعرف العربية حتى قال لو رماه بأبا قبيس وهذا لا يخفى على من شدا أدنى شيء من العربية ولم يعرف الأحاديث حتى رضي بقبول كل سقيم ومخالفة كل صحيح ولم يعرف الأصول حتى قدم الأقيسة على الأحاديث ولعدم فقه نفسه اضطرب مذهبه وتناقض وتهافت فلا يخفى أن الشريعة مجامعها ( الحث ) على مكارم الأخلاق والنهي عن الفواحش والموبقات ( وإباحة نفي في المحرمات ) ( فمن ) صار في العقوبة الآيلة إلى حقوق الآدمي مثل القصاص إلى إسقاطه بالمثقل فقد خرجت القاعدة التي لأجلها ثبت القصاص حيث قال تعالى ولكم في القصاص حياة ثم ترقى من نفي القصاص إلى إنكار الحس فحكم بكونه خطأ حتى ضرب العقل على العاقلة وأثبت فيه الكفارة مع نفيه الكفارة عن العمد وصار في العقوبات الثابتة لله تعالى إلى أن قطع السرقة يسقط فيما كان أصله على الإباحة والأشياء الرطبة ويضم ما لا قطع فيه إليه ( وحرم انهه العبادات بترتيب أقل ما يجري من الصلاة ) وأبطل مقصود الزكوات حيث أنكر وجوبها على الفور ثم
أسقطها بالموت ثم حج ذلك باعتقاده تغير حكم الله تعالى بقبول كل قاض فأباح زوجة زيد لعمرو بغير طلاق من زيد ومن غير عدة ولا نكاح من عمرو وبشهادة زور ودعوى باطلة ولم ير القصاص في القتل بالمثقل وكان يقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فقال كل فقه بعدك حرام ووقع ذلك منه موقعا عظيما وعن هذا قيل استتيب أبو حنيفة من الإرجاء مرتين فإن هذا مذهب ( المرجئة ) فكيف يظن وحاله هذا مجتهدا
1501 - وأما الشافعي فقد استبان تبحره في اللغة ولهذا قال حبر الصناعة الأصمعي صححت دواوين الهذليين على شاب من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي أما الأصول فهو أول من صنف فيه وأما فقه النفس وغيره فيتبين في كيفية ترتيبه الأدلة في الفصل ( التالي ) إن شاء الله
فصل 1502 - ذكر الشافعي في الرسالة ترتيبا حسنا فقال إذا وقعت واقعة فأحوج
المجتهد إلى طلب الحكم فيها فينظر أولا في نصوص الكتاب فإن وجد مسلكا دالا على الحكم فهو المراد وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة فإن وجده وإلا انحط إلى نصوص أخبار الآحاد فإن عثر على مغزاه وإلا انعطف على ظواهر الكتاب فإن وجد ظاهرا لم يعمل بموجبه حتى يبحث عن المخصصات فإن لاح له مخصص ترك العمل بفحوى الظاهر وإن لم يتبين مخصص طرد العمل بمقتضاه ثم إن لم يجد في الكتاب ظاهرا نزل عنه إلى ظواهر الأخبار المتواترة مع انتفاء المختص ثم إلى أخبار الآحاد
1503 - فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات لم يخض في القياس بعد ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة وعد الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في المثقل فإن نفيه يخرم قاعدة الزجر ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة التفت إلى مواضع الإجماع فإن وجدهم أطبقوا على حكم نصوا عليه فقد كفوه مؤنة البحث والفحص
1504 - فإن عدم ذلك خاض في القياس ونظر فإن وجد الواقعة في معنى المنصوص عليه فلا يثقل عليه سبر الطرق فإن أعوزه فيقيس ويطلب الإخالة والمناسبة والإشعار فإذا هجم عليه عمل به إذا لم يعارضه مثله فإن عارضه ما يوازيه في الإخالة يكلف الترجيح فإن استويا في طرق التلويح لم يفت بواحد منهما فإن تعسر عليه وجدان المخيل طلب الشبه إن جعلناه حجة لا مزيد على هذا الترتيب إلا أن ( يعينه الرب ) فإنه لو قدم الإجماع ليفتي به جاز فإنه مقدم على كل مسلك في المرتبة العلية والله أعلم
فصل
1505 - المجتهد في القبلة إذا كان من أهل الاجتهاد وضاق الوقت وخاف فوات الصلاة لو اشتغل بالإجتهاد فله أن يقلد مجتهدا آخر
1506 - وكذلك المجتهد إذا استشعر الفوات لو اشتغل بالاجتهاد في الأحكام فله أن يقلد مجتهدا
1507 - فأما المجتهد لو أراد التقليد مع سعة الوقت وإمكان الاجتهاد قال الشافعي ليس له أن يقلد بل عليه أن يجتهد وسلك الأستاذ أبو إسحاق في تقرير هذا المذهب مسلكا فقال ذكرنا مراتب الأدلة ودرجاتها وبينا أن النصوص مقدمة على غيرها ثم اجتهاد المرء في حقه يضاهي النص واجتهاد غيره في حقه بمثابة القياس فيجب أن يقدم اجتهاده على اجتهاد غيره كما يقدم النص على القياس
1508 - وهذا فيه خلل لأننا نقول من أين قلت ومن أين تلقيت ولم جعلت الاجتهاد كالنص واجتهاد الغير كالقياس والاجتهاد متبع ( في أي ) وقت بأن يكون المقلد عاميا أو مجتهدا
1509 - وسلك القاضي فيه مسلكا آخر فقال قول الغير لا يتبع إلا بدليل قاطع فإنا لم نقبل قول النبي إلا بمعجزة قاطعة دلت على الصدق وقد قام دليل قاطع على وجوب إتباع اجتهاد المجتهد ولم يقم دليل قاطع على وجوب إتباع المجتهد المجتهد في اجتهاده وانتفاء القاطع دليل قاطع على منع الإتباع وطرد هذا في الأخبار فقال كل ما دل قاطع على رده رددناه وما دل قاطع على قبوله قبلناه وما ترددنا فيه فانتفاء القاطع دليل على رده
1510 - ونحن لا نرى هذا إذ نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في قبول الأحاديث ثم من صار إلى قبولها لم يبال بخلاف من ردها وكان تقضي بها فالمتردد لم يقم دليلا على الرد وكذلك تقليد المجتهد وما دل على وجوب الإتباع
( يتبعه ) وما دل الدليل فيه على الرد فنرده وما ترددنا فيه فالمسألة في مظله الاجتهاد وهو محل التحري والتوخي وذلك من شأن الفقهاء وحظ الأصول منه ما ذكرناه
فصل 1511 - لا يخفى أن المقلد ليس له ان يقلد غيره إلا بعد نظر واجتهاد وقد اختلفوا فيما عليه
1512 - فقال القاضي في ( التقريب ) عليه ان يتلقف مسائل من كل فن مما يحتاج المفتي إلى معرفته من الأحاديث وغرائبه والقرآن ومشكلاته ومسائل الفقه فيمتحن من يوقع تقليده به فإن أصاب في الكل قلده وإن أخطأ فيه أو في البعض وقف في إتباعه ولا بد أن يخبره عدلان بأنه مجتهد
1513 - قال الأستاذ أبو بكر بن فورك إذا قال المفتي أنا مجتهد اعتمده واتبعه ويكتفي بأخباره وقال الآخرون لا بد من أن تستقصي كونه مجتهدا أو يتوافر ذلك بالتسامع
1514 - فنقول أما اشتراط الامتحان فلا وجه له فإنا نعلم أن الأجلاف من العرب كانوا يستفتون المجتهدين من الصحابة وما كانوا بمختبرة لهم فاشتراطه بعيد وأما التسامع فلا اعتبار به لأن المخبرين لا يخبرون عن محسوس وإنما يلهجون به عن قول مخبرين فلا ثقة بقولهم فإذا لعل المختار أن المفتي إذا قال أنا مفت صدق إذ كان عدلا واتبع والله أعلم
فصل
1515 - اختلف أهل الأصول في أن المستفتي هل يجب عليه أن يستفتي الأفضل أم له أن يراجع من هو دونه إذا كان مجتهدا قال قائلون يتحتم مراجعة
الأفضل لأن المقصود من المراجعة حصول الثقة بأمر الله تعالى والثقة في مراجعة الأفضل أكمل فمراجعته أولى وهذا يتأيد بوجوب تقديم الأفضل في الإمامة الكبرى
1516 - والمختار عندي أن الإمامة العظمى يتعين ( لها ) الأفضل لأن المقصود منه المصلحة وفي إتباع الأفضل المصلحة أظهر إلا أنا نقول إذا حصلت المتابعة من واحد أو من جمع لذي نجدة وشوكة فلا يخلع لنبايع الأفضل لأن فيه إظهار المفسدة ثوران نفتن أو كذلك إذا ( بويع ) المفضول ثم نشأ من هو أفضل منه ولم يخلع المفضول ولم يخلع لأنه إذا كان الأول صاحب شوكة كان خلعه مقتضيا إلى نقيض المقصود من الإمامة وأما الفتوى فعندي أنه لا تجب مراجعة الأفضل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يراجعون المفتين مع توافرهم وما كانوا يقتصرون على مراجعة من كان أفضلهم والله أعلم مسألة
1517 - إذا وقعت واقعة واستفتى فيها المستفتي ثم وقعت ثانية تلك الواقعة فهل يلزمه المراجعة ثانيا اختلفوا فيه فقال قائلون يلزم ذلك لأن الاجتهاد يتغير والمسؤل إذا سئل ثانيا لزمه تجديد الاجتهاد فإن نتيجة الإجتهاد في حقه كوحي يتصور نسخه
1518 - وعندي أن الفتوى الأولى إذا استقرت إلى قطع من نص فلا يلزمه المراجعة ثانيا لأنه لا يتصور تغيره وكذلك إذا كانت المسالة في مظنه الاجتهاد وعسر المراجعة في كل دفعة بأن كان يحتاج إلى انتقال وسفر والسبب فيه أنا نعلم أن أهل الفيافي كانوا يستفتون في عصر الصحابة مرة وكانوا يتخذون الإجوبة قدوتهم عند تكرار تلك الواقعة وكذلك إذا كانت المسألة فيما يتواتر ويتكرر كالاستنجاء والصلاة فقد يتكرر في كل يوم دفعات فإيجاب المراجعة في كل مرة تكليف مشقة وما عداه فعلى ما قاله الأولون
ولسنا نجعل المشقة دليلا فيما ( استقناه ) آخرا بل نستبين ( معظم المشقة ) أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يفعلونه بل يتسامحون فيه والله أعلم مسألة
1519 - الواقعة إذا ترددت بين مفتيين مستجمعين خلال الاجتهاد وتناقض جوابهما نفيا وإثباتا فالمتغني يتبع الأعلم والأورع فإن استويا في الفضل والعلم واختص أحدهما 0 بمزيد ) في الورع اتبع الأورع وإن استويا في الورع وكان أحدهما أفضل قلد الأفضل وإن أختص احدهما بتقدم في الورع وعارضها زيادة ورع في الجانب الثاني قدم الأفضل فاتباع الأعلم أولى فإما إذا استويا في الورع والفضل فقد اختلف الأصوليون فيه فقال قائلون يؤخذ بالأشد والأغلظ وقال آخرون يراجع نفسه فما شهد بصحته خاطرة وفكره عمل به وقال آخرون يتخير إن شاء عمل بهذا وإن شاء عمل بغيره وتفصيل القول في هذا يستدعي تقديم فصلين أحدهما القول في تقدير فتور الشرائع والثاني جواز خلو بعض الوقائع عن حكم الله تعالى فإذا التجز ننعطف إذ ذاك على المسألة ونرى المختار فيه فأما القول في فتور الشرائع فنذكره في فصلين أحدهما في تقدير فتور الشرائع
قبلنا والثاني في تجويز فتور شريعتنا
فصل 1520 - فأما الشرائع السالفة فمذهب عصبة الحق وبعض المخالفين من المعتزلة أنه يجوز تقدير فتورها وذهب الكعبي إلى منعه وهذا ( بناه ) على أصل له وهو أنه يعتقد أن الله تعالى عن قول المبطلين يجب عليه رعاية الأصلح على العباد ثم قال إذا اتقوا مسلك شريعتهم وقبلوه وقالو به فالأصلح أن يبقيه وفتوره سبب اشباك الغوايات وهو نقيض الأصلح
1521 - قلنا أصل معتقدك في وجوب الأصلح على الله تعالى باطل قطعا على ما يبرهن في محله ثم إن نزلنا على ما تخجيلته فمن الذي أنبأك أن الأصلح تقرير الشرائع فقد لا يكون الأصلح في فتورها حتى يعلموا بمقتضى عقولهم
فصل
1522 - فأما القول في فتور شريعتنا فالذين أحالوا فتور الشرائع قبلنا منعوا فتور هذه الشريعة والذين سبقوا إلى جواز فتور الشرائع اضطربوا في شريعتنا فمنهم من سوى بين الكل ومنهم من صار إلى أن هذه الشريعة لا يتطرق إليها الفتور والسبب فيه ان سائر الشرائع لم تكن محفوظة من النسخ والتبديل ولو قدر فيه فتور لظهرت الشريعة على قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي نتبع ولو تطرق الفتور إلى شريعتنا لاستمر ذلك إلى قيام القيامة وهذا الفرق لا أصل له فإن من مات منا في زمان الفتور في سائر الشرائع فقد
قامت قيامته ولا يلحقه ارتفاع الفتور
1523 - فالمختار عندنا أنا نقول الفتور في الشرائع جائز عقلا إذ ليس فيه ما يحيل ذلك ولا تخصص شريعة عن شريعة وقد صرح بهذا شيخنا أبو الحسن إلا أنه ضم إليه شيئا آخر لا يساعد عليه فقال تبقى التكاليف على العباد مع فتور الشرائع وهذا بناه على أصله في جواز تكليف مالا يطاق وقد صار الأستاذ أبو إسحاق إلى اختيار جواز الفتور وتخلف عن شيخنا ابي الحسن في تقرير التكليف إلا أنه قال يبقى تعبد على الخلق بإفتاء محاسن العقول وهذا أيضا مما لا يساعد عليه إذ لا يحسن في العقل ولا يقبح
1524 - فإن قيل أوقع ذلك قلنا الوقوع لا يتلقى من مسالك العقل وإنما يعرف ذلك من طريق السمع وقد طمع طامعون في إثبات نفي الفتور عن شريعتنا من طريق السمع واستدلوا بظواهر منها قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون قالوا إذا ضمن الحفظ أمن الفتور ومما استدلوا به قوله عليه السلام ( إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم )
15250 - وهذه ظنوها نصوصا وهي ظواهر ( فأما ) قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر فالمراد به القرآن والغرض أنه لا تندرس تلاوته فلذلك يزداد
القراء كل يوم وأما الحديث فالتأييد قد وقع ( ووقوع ) التأييد ليس فيه ما يدل على بقاء التأبيد إلى قيام الساعة ويعارض هذا قوله عليه السلام ( سيأتي يوما على أمتي زمان رجلان في فريضة فلا يجدان من يذكر حكم الله فيها ) والظواهر مع تطرق الاحتمال إليها إذا تعارضت كيف تنتج القطع
1526 - هذا قولنا في نفي القطع في نفي الفتور وأما غلبة الظن فليس معنا ما يدل حتى يفيد غلبة الظن ولكنا نقول إن قامت القيامة في خمسمائة سنة فيغلب على الظن أن الشريعة لا يندرس أصلها ولا تفاصيلها ( فأما سفرة حمالها وفي حملها كره ) والدواعي على تعلمها متوفرة وإن تمادت الآماد فيتوقع اندراسها بقبض العلماء الناقلين لها فانطماسها بقبض ( حملتها ) هذا نهاية القول في غلبة الظن وقد نجز الغرض من القول في الفتور
فصل 1527 - واما القول في خلو الواقعة عن حكم الله تعالى فقد اضطرب الأصوليون في جواز ذلك فصار القاضي إلى جواز ذلك وترقي عنه إلى وقوعه فقطع به وقال لا بد أن يقع ذلك فإن مآخذ الأحكام محصورة مضبوطة من الكتاب والسنة والإجماع والوقائع لا تنضبط ولا تتناهى ويستحيل أن يرد ما لا يتناهي إلى ما يتناهي
1528 - فنقول أما جواز خلو الواقعة عن الحكم فلا ينكره عقل وأما وقوعه فأنكر ذلك فإن الأمم الماضين المننقرضين كانوا يتصدون للفتوى مع ( كثرة )
ما ألقي إليهم ( وتفننها ) وكانوا يهجمون على الجواب فيها هجوم من لا يرى ( للأجوبة ) حصرا ومنتهى ولو كان يجوز خلو بعض الوقائع عن حكم الله ( لاتفق ) وقوع واقعة خلت عن حكم الله ( وبدت ) فإذا لم يتفق دل ( على ) أنهم ما اعتقدوه جواز خلو الواقعة عن حكم الله
1529 - وأما ما استدلوا به من كون المآخذ محصورة واستحالة ما لا يتناهي مما يتناهى فهو ( بين ) لا حاصل له فإن من تأمل قواعد الشريعة وجدها مترددة بين طرفين أحدهما محصور والآخر غير محصور فالنجاسة محصورة والطهارة لا حصر فيها والتحريم محصور والإباحة لا حصر لها فالواقعة إذا ترددت من الطرفين ووجدت في شق الحصر وذلك وإلا حكم فيها بحكم الشق الآخر الذي أعفى الحصر عنه
1530 - هذا نهاية القول في المقدمتين ( وإذا ) عدنا إلى المقصود فالواقعة إذا ترددت بين مفتتين وتناقض جوابهما فمن صار إلى الأخذ بالأغلظ فقد تحكم من غير ثبت ومن صار إلى إتباع ما يشهد له نفسه بالصحة فهو إتباع الهواجس والحماقات ومن صار إلى التخيير فهو أقرب قليلا وله الثبات على مأخذ المضربين فإنه ما من مسلك إلا ويجوز أن يفترض اختيار مجتهد وعن هذا صار بعض الناس إلى التخيير في مسألة التصويب من غير اجتهاد
1531 - وهذا مع ما هو عليه من القرب لا وجه له فإن التخيير استواء الإقدام والإحجام وهو حقيقة الإباحة فمنه صار إلى التخيير فقد أثبت الإباحة من غير أصل وثبت فإن قيل فما الذي تختارونه أنتم في هذه المسألة وقد زيفتم المسالك المقدمة
1532 - قلنا نبين أولا صورة نفرضها ثم تظهر حقيقة المراد فيها فنقول اختلف الشافعي وأبو حنيفة في وجوب الإتمام على العاصي ( بسفره ) فقال الشافعي بوجوب الإتمام وجوز أبو حنيفة القصر فإذا تناقض جواب المفتيين على هذا الوجه فنراجعهما ثانيا ونقول قد تناقض الأجوبة فإن اتفقا بعد التخالف فهو المراد فنتعلق بما اتفقا عليه فقد يجدان أصلا يستندان إليه كتغليب الدرء في القصاص وغيره والتحري في الصيود والذبائح وإن استمر على الخلاف ووجد أفضل منهما استفيناه واتبع قوله وإن ساوى الثالث الأوليين في الفضل ووافق قوله قول أحدهما فهل ترجح قول أثنين على قول واحد فقد سبق ترجيحه ولست أختاره ولا سبيل إلى التخير والأخذ بالأغلظ كما تقدم ولا يعتقد أيضا خلو الواقعة عن حكم الله تعالى ولا نرى ذلك في قواعد الدين
1533 - فالوجه أن نقول القول في هذه الواقعة كالقول فيمن يفرض في جزيرة بلفه أصل الدعوة بالإسلام ولم تبلغه تفاصيل الأحكام ونقول فيه لا تكليف الله عليه إذ شرط التكليف إفهام المكلف ما يكلف به
1534 - فإن قيل ألستم قلتم فيمن تردى في بئر من غير بعد ووقع على مصروع ولو مكث عليه لمات وفيه صرعى ( و ) لو انتقل إلى غيره لمات المنتقل إليه هذه واقعة خلت عن حكم الله قلنا لا تلك مسألة إذا فرضت كما وصفتموها فنقول لا تكليف على المتردى إذا كان كما وصفتموه للعلة التي تقدم ذكرها هذا نهاية القول في المسألة مع اختيار وإيجاز مسألة
1535 - المقلد إذا قلد إماما فمات إمامه وفي عصره مجتهد آخر فيتبع مقلده الميت أم يقلد الحي قال قائلون يقفي أثر المقلد الأول ويتبعه فإن المذهب لا يموت
بموت صاحبه وقال آخرون يتبع المجتهد الحي إذا أجمعت الأمة على أن واحدا لو أراد أن يتبع مذهب أبي بكر لم يجز الآن وإن شهد له الرسول صلى الله عليه و سلم بالتقويم على الكافة حيث قال ( والله ما طلعت الشمس ولا غربت ) والسبب فيه أن المجتهد الاخر الباحث الناظر أعرف بمذاهب من سبق وأخبر بحقيقة الحال والصحابة رضي الله عنهم ما اعتنوا بتبويب الأبواب ورسم الفصول والمسائل نعم كانوا مستعدين للبحث ( عند مسيس ) الحاجة إليه متمكنين وما اضطروا إلى تمهيد القواعد ورسم الفروع والأمثلة لأن الأمور في زمانهم لم تضطرب كل هذا الإضطراب والذين اعتنوا بالتمهيد أعرف بالأصول والفروع من غيرهم
1536 - وعلى هذا إذا قلد مقلد الشافعي لم يجز له أن يترك متابعته ويختار مذهب القفال وابن سريج أو غيره وعليه أن يتبع ما ينقل عن الصاحب ولكن ينبغي أن يكون الناقل موثوقا به فقيه النفس لأن الفقه لا يمكن نقله وإن لم يجد نصا ولا تخريجا فهل له أن يقيس منهم من منع وقال القاضي يجوز له أن يقيس على نص صاحبه كنص الحديث في حقه وكانه مجتهد في وجه دون وجه
فصل
1537 - ذكرنا اختلاف العلماء في تصويب المجتهدين إذا اختلفت آراؤهم في مسألة لا نص فيها فأما إذا اختلفوا وفي الواقعة نص غفل عنه احدهما فالذي حكم بالتخطئة ها هنا بالطريق الأولى
1538 - وأما المصوبة فقد اختلفوا ها هنا فمنهم من حكم بالتخطئة ومنهم من صوب ومنهم القاضي واستدل عليه بأن
قال المجتهد إذا خالف النص بحث وسبر وبذل المجهود ولم يأل جهدا في طلب حتى حصل على غلبة ظن ثم وجب عليه العمل بمقتضي غلبة الظن فقد عمل ما وجب عليه فكيف يقال أخطأ وقد عمل ما هو الواجب ولا يبعد أن يختلف حكم الله باختلاف الأشخاص فإن الميتة محرمة على صاحب الرفاهية وهى بعينها محللة على صاحب المخمصة والذي لم يعثر على النص كصاحب الضرورة والمخمصى فقد أدى ما أمر به
1539 - فإن قيل حكم الله تعالى في هذه الواقعة متعين كائن مستقر فالذي لم يجد النص هو الذي قصر لما لم ينه النظر نهايته فإنه لو لم يقصر وأنهى النظر لوجد النص وليس هذا كمسألة لا نص فيها فإن الحكم فيها غير متعين
1540 - قال القاضي مع هذا كله ( أليس ) قد وجب عليه العمل بمقتضى الظن المخالف للنص المستقر مع تقصيره ( و ) وجب عليه العمل بذلك فلا يحكم بتخطئته بعد ذلك فإن المجتهد الذي غفل عن النص أفتى بما قدر عليه واعتقد ألا مطلب وراءه فأمره بطلب النص تكليف ما لا يطاق إذ لا يتأنى افتتاح النظر ممن اعتقاده أنه تمم النظر ( فإذا أخطأ النص ذلك أنه لن يجب الوصول إليه وهذا كقول القائل لمن يصلي بالتيمم ولم يتوضأ ولكن يجب عليه الوضوء عند عسر الوصول إلى الماء ) قال القاضي ولست أبعد أن يرد الشرع بوجوب تدارك ما فاته من العمل الواقع بمقتضى الاجتهاد ولو ورد به لاتبعناه فإنا عبيد الشرع وإذا لم يرد فقد أدى ما كلف
1541 - قلت أما المختار فقد سبق في مسألة تصويب المجتهدين وهنا لا سبيل إلى إنكار أداء هذا المجتهد ما عليه ولا سبيل إلى إنكار مخالفة النص وكأنه مخطىء من وجه مصيب من وجه وأما القضاء والتدارك فأقول إذا اجتهد في القبلة ثم تبين أنه أخطأ والوقت باق ( فإن ) صح يقين آخر باستقبال عين القبلة وثبت أنه مقصود في نفسه وجب عليه
تداركه وإنما فرضته في قضاء الوقت لأن الوقت إذا زال فالقضاء إنما يلزم بأمر ( مجدد ) وإنما ردد الشافعي قوله في هذه الصورة لأنه تخيل أن المأمور به إذا لم يتوصل إليه باجتهاده ونفس استقبال القبلة مقصود في عينه فلهذا نقول الأظهر سقوط القضاء والله أعلم مسألة
1542 - اختلف الأئمة في الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجوز أن يجتهدوا منهم من قال يجوز كما يجوز الاجتهاد في عصرنا ودل على ذلك قوله عليه السلام في القصة المعروفة لما قال معاذ أجتهد رأيى الحمد لله الذي وفق رسول رسوله ( إلى ) ما يرضاه وقال آخرون كان لا يجوز لهم أن يجتهدوا فإنه غلبه الظن وقد أمكنهم تحصيل القطع بمراجعة رسول الله صلى الله عليه و سلم
1543 - والمختار عندنا أنه إن أمكن المراجعة ( كأن ) كان في بلدته تعين المراجعة وإن كان على مسافة يسوغ الاجتهاد وقد ظهر من الآثار أنهم كانوا يجتهدون في الغيبة ويشهد له قصة معاذ والذين كانوا معه كانوا لا يجتهدون مسألة
1544 - أختلف الأئمة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجتهد قال قائلون كان ينتظر الوحى ولا يجتهد وقال آخرون كان يجتهد وقد ظهر ذلك من قرائن أحواله حيث قال أرأيت لو تمضمضت ولعل الأصح أنه كان لا يجتهد في القواعد والأصول بل كان ينتظر الوحي فأما في التفاصيل فكان مأذونا له في التصرف والاجتهاد ويبقى بين اجتهاده واجتهاد غيره صلى الله عليه و سلم فرق وهو أن ما يراه أمارة تفيد القطع
واجتهاد غيره يفيد غلبة الظن والله أعلم مسألة
1545 - واختلف الأئمة في حقيقة التقليد وما هيته فقال قائلون التقليد هو قبول قول الغير من غير حجة 1 فعلى هذا قبول العامي قول المفتي تقليد وقبول من يروى أخبار الآحاد قولا وسمعه من خلق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس تقليدا لأنه حجة في نفسه وقبول قول الصحابي تقليد إن لم تجعل أقوالهم حجة ولم نر الاحتجاج بقولهم فإن جعلنا أقوالهم حجة يحتج ( بها ) فإذا ذاك لا يسمى قبول أقوالهم تقليدا وقال قائلون التقليد قبول قول الغير وأنت لا تدري من أين يقوله فعلى هذا قبول قول المفتي وقبول قول الصحابي تقليد لأنا لا ندري من أين يقولون وقبول قول النبي صلى الله عليه و سلم إن قلنا إنه كان يجتهد تقليد لأنا ندري أيقول عن وحي أم عن اجتهاد وإن قلنا كان لا يجتهد فقبول قوله ليس تقليدا فإنا نعلم أن ما يقوله يقوله عن وحي
1546 - قال القاضي عندي لا تقليد ولا مقلد وكل من قبل قولا كالعامي يقبل قول المفتي وجب عليه قبوله وكان قوله حجة في حقه
1547 - والمختار عندي على الضد والعكس فإن الخلائق عندي في أفعالهم وعقائدهم مقلدون ومن قبل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم فهو مقلد فإن قوله عليه السلام لا يكون حجة لذاته والمعجزة وإن قامت فلا تفيد كونها حجة ما لم يقدم عليه العلم بالمرسل فإذا كل من نظر فأدرك حدث العالم انحدر عنه إلى ما يليه فعلم وجود الصانع وصفاته ثم انحط إلى النبوات فأدرك جواز العصمة ونظر في المعجزة بعده فهو
العالم ومن عاداه ممن يترقى ( عن ) الشبهات إلى قبول قوله عليه السلام فهو مقلد تحقيقا وما قاله القاضي من أنه يجب قبوله قلنا كيف يكون ذلك حجة وهو لم يعلم المرسل والله أعلم مسألة
1548 - هل يجب الاحتجاج بأقوال الصحابة وهذا مما اختلف فيه الأصوليون فقال قائلون يجب لقول عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقوله عليه السلام خير القرون قرني ولأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم وشاهدوا الوحي والتنزيل وهذا لا يدل على وجوب أتباعهم ( وانتهاض ) أقوالهم حجة فقوله أصحابي كالنجوم يعني في التقوى والسيرة وقوله اقتدوا باللذين من بعدي يعني في الخلافة إذ ليس في العلماء من يخصص قولهما عن قول غيرهما من الصحابة وقوله خير القرون قرني فأي دليل فيه على وجوب الأتباع
1549 - وقال قائلون لا يجب أتباعهم لأنهم ليسوا معصومين عن الزلل فكيف يحتج بما ربما يكون غلطا وخطأ وأيضا فقد كانوا يختلفون في زمانهم فإذا لم يكن قول البعض منهم حجة على البعض لم يكن حجة في حق من بعدهم
وهذا يجانب الإنصاف فإن أخبار الآحاد حجة مع أن الناقل عرضة للزلل والخطأ فلا يبعد أن يكون قول الصحابي أيضا حجة وإن لم يكن معصوما فإن قيل قوله صلى الله عليه و سلم حجة قلنا نعم ولكن لا نقطع بإصابة هذا الناقل وأما العلة الثانية فنقول قول المفتي حجة على العامي وليس حجة على العالم المجتهد وكذلك لا يبعد أن يكون قولهم ليس حجة على من يعاصرهم ويكون حجة على غيرهم ممن بعدهم وقد تمسك الصائرون إلى الأتباع بأن قالوا وجدنا التابعين يقتفون آثار الصحابة ويستندون إليها ويحتجون بآثارهم احتجاجهم بالأخبار فلولا أنهم رأوا ذلك حجة وإلا لما أطبقوا على الأتباع هذا الإطباق وأجاب المانعون عن هذا بأن قالوا كان الصحابة إذا وقعت لهم واقعة يجتهدون فيها ثم يبدون ما غلب على ظنهم في معرض التردد مظهرين أن المسألة في مظنة الاجتهاد والاحتمال فإن كانوا لا يتخذون الأتباع بالقطع فكيف يحكم بكونه حجة وهذا أوقع مما قال الأولون
1550 - فنقول إظهار الحق فيه يستدعي تفصيلا في مسائل معينة فنقول لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وإن كانوا على رتبهم العلية ومناصبهم الرفيعة الجلية فما كانوا معصومين ولا تؤمن عثرتهم وليس في مسالك السمع ما يدل على وجوب الاتباع كما تقدم وكان الوجه أن يجعل قولهم كقول من عداهم من المجتهدين لكنا نقول على ما ذكره الصائرون إلى الاتباع والاحتجاج من قولهم وجدنا التابعين يحتجون بأقوالهم منقسمة منها ما جزموا القول فيه بنفي وإثبات باتين حكما ومنها ما ترددوا فيه وأفتوا مع ( استبقاء ) احتمال وظن وما كانوا قاطعين بل
كانوا مستدلين ( متمانعين ) فما كان كذلك فلا نرى الاحتجاج ( بنا منهم ) لأنهم قالوا ماقالوا عن ظن واجتهاد ونظر غيرهم واجتهادهم بمثابة اجتهادهم وأما ما قطعوا القول به ولم تكن المسألة في مظنة الاجتهاد فقالوا قولا مخالفا للقياس ما أرشد إليه نظر ولا يدل عليه اعتبار من تقليد أو غيره ورأيناهم حاكمين قاطعين فتحسين الظن بهم يقتضى أن يقال ما نراهم يحكمون من غير بينة ولا مستند لهذا الحكم من قياس فلعلهم لاح لهم مستند سمعى قطعى من نص حديث كان حكمهم بذلك فيجب اتباعهم لهذا المقام
1551 - وكان الشافعي يرى الاحتجاج بقول الصحابي قديما ثم نقل عنه أنه رجع عن ذلك والظن أنه رجع عن الاحتجاج بقولهم ( فيما ) يوافق القياس دون ما يخالف القياس إذ لم يختلف قوله جديدا وقديما في تغليظ الدية بالحرمة والأشهر الحرم ولا مستند فيه إلا أقوال الصحابة
1552 - فإن قيل فأحسنوا الظن بغير الصحابي كمالك في مسألة خيار المجالس فقولوا إنه خالف الحديث لدليل ثبت له مقدما على الحديث في الاستعمال قلنا إحسان الظن به ثابت ولكن إنما لم نتبعه لأنا عرفنا سبب مخالفته الحديث وذلك أنه كان يرى تقديم مذهب أهل المدينة على الحديث وهذا الذي ( البابت خطأ ) قطعا ومن هذا القبيل استحسان أبي حنيفة فإنه مخالف لأدلة الشرع بمسلك باطل فإن قيل صار ابن مسعود إلى إيجاب ألفى درهم في أجرة رد العبد الآبق وهذا تقدير لا يقتضيه قياس قلنا لم يثبت ذلك منه تقديرا في كل آبق وإنما حكم بذلك في قضية خاصة فلعل أجرة المثل في تلك الصور ( كانت ) ألفى درهم فإن قيل صار ابن مسعود إلى رد قيمة العبد أي مقدار الدية وانحط بعشرة فهلا اتبعتموه
قلنا لعله قال ذلك عن قياس تحلل مثله أبو حنيفة من تفضيل الحر على العبد وغيره على أنا في مسالك الأصول لا نلتفت إلى مسائل الفقه فالفرع يصحح على الأصل ( لا ) على الفرع مسألة
1553 - استبعد مستبعدون من الذين ( قصرت هممهم ) عن درك الحقائق ترديد الشافعي أقواله في المسائل وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين وجمع بين تحليل وتحريم في قضية واحدة وهذا جهل من هذا الظان وعماية وقلة دراية فإن التردد الذي ذكره الشافعي نفى المذهب واعتراف بالاعتراض والإشكال وتصريح منه أنه لا مذهب لي في الواقعة بعد ثم نقول أوقع لأبي حنيفة تردد في مسألة من مسائل الفقه فإن قالوا لا قلنا مثل هذا الرجل لا يعد من أحزاب الفضلاء فإنه مهد أبوابا
( وقعد ) قواعد في مسالك الظنون ومظان الغموض ( والإعتضال ) من غير نص كتاب وسنة ثم لم ( يستقله ) فيما يخبر به ظن يعارضه ظن بل تهجم على حكم الله في كل واقعة فهذا إنكار ومكابرة الضرورة وإن اعترفوا بتعارض الظنون في حقه قلنا فهو لم يعبر عن تردده والشافعي عبر عنه على أنا لا نحسب الأقوال القديمة من مذهب الشافعي فإنه رجع عنها جديدا والمرجوع عنه لا يكون مذهبا للراجع والشافعي بعد ما ردد الأقوال استقر رأيه على قول واحد في جلة المسائل ولم يبق
على التردد إلا في ثماني عشرة صورة فليس هو كثير التردد وقد صار أبو حنيفة على الشك في سؤر الحمار و ( اعتقد ) الشك فيه مذهبا وهذا عجب وأعجب منه رأى أصحابه نقلوا الشك عنه حتى انتهضوا ذابين عنه داعين إليه هذا نهاية الغرض من هذه المسألة وقد نجز بنجا
-----------------------------------------[222222222222222222222222......................
كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
التقاسيم بعبارتين فقال قائلون إذا اجتمع المطلق والمقيد في واقعة واحدة فالمطلق محمول على المقيد وفاقا وإن وقعا في واقعتين متباعدتين فلا حمل ومثلوا هذا بتقييد الشهادة بالعدالة وجريان ذكر الرقبة في الكفارة مطلقا معرى عن ذكر العدالة والأصلان متباعدان لا يجمعهما مأخذ فلا يحمل المطلق في أحدهما على المقيد في الثاني فإن قربت الواقعتان بعض القرب ولم يبعد في مأخذ الظنون تلاقيهما ككفارة الظهار وكفارة القتل فهذا موضع الخلاف فالذي يراه الشافعي حمل المطلق على المقيد في مسألة الخلاف المقدم بين أصحابه
وهذه العبارة عن الأقسام المشتملة على صور الوفاق والخلاف
335 - وذكر آخرون عبارة أقرب من هذه فقالوا إذا جرى إطلاق وتقييد واتحد قبيل الموجب والموجب فليس إلا حمل المطلق على المقيد مثل أن تطلق الرقبة في كفارة القتل وتفرض مقيدة في مواضع أخر فإذا اختلف الموجب والموجب فلا حمل كالشهادة والكفارة
وإذا اختلف الموجب واتفق صنف الموجب مثل كفارة القتل وكفارة الظهار فهذا موضع التردد
336 - وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم منعوا حمل الرقبة المطلقة في كفارة الظهارعلى الرقبة المقيدة بالإيمان في كفارة القتل وبنوا حقيقة أصلهم في ذلك على قاعدة لهم في النسخ
والمسألة حرية بأن تذكر في مسائل النسخ وهي مناسبة لأحكام العموم والخصوص فابتدرناها في كتاب العموم والخصوص ونحن الان ننبه على ما تخيلوه أخذا من النسخ
قالوا قوله في كفارة الظهار فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا مقتضى الاية إجزاء الرقبة المطلقة فمن قيدها بالإيمان كان زائدا على النص والزيادة على النص نسخ ووجه ادعائهم كونها نسخا أن مقتضى الخطاب يتضمن الإجزاء مع الإطلاق والزائد يرفع الإجزاء في الإطلاق وهو متضمن الاية فاقتضت الزيادة رفع ما تضمنه الإطلاق من الإجزاء فكان ذلك نسخا من هذه الجهة
ولا يدعى محقق أن الزيادة اقتضت نسخا على الإطلاق إذا لم تكن مرتبطة بالمزيد عليه بعض الارتباط ووجه الارتباط ما أشرنا إليه من أن اقتضاء الإطلاق الإجزاء دون رعاية صفة في الرقبة فمن زاد صفة كان مدعيا نسخا في الإجزاء المتلقى من مطلق الخطاب
ولا امتناع في نسخ القرآن على الجملة ولكنه لا يثبت نسخ القران بأخبار الاحاد والمقاييس المظنونه وليس مع من شرط الإيمان في رقبة الظهار ما يجوز نسخ القرآن به فهذا منتهى كلام القوم
337 - ومن ادعى من أصحاب الشافعي وجوب حمل المطلق على المقيد من طريق اللفظ لم يذكر كلاما به اكتراث وأقرب طريق لهؤلاء أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد وحق الخطاب الواحد أن يترتب المطلق فيه على المقيد وهذا من فنون الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله تعالى مختلفة متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن في كتاب الله تعالى النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة فقد ادعى أمرا عظيما ولا يغني في مثل ذلك الإشارة إلى اتحاد الكلام الأزلي ومضطرب المتكلمين على الألفاظ
وقضايا الصيغ وهي مختلفة لا مراء فيها فسقط هذا الفن ولم يبق بعد سقوطه إلا مسلكان
أحدهما ما ادعاه أصحاب أبي حنيفة من أن الزيادة على النص نسخ واستقصاء القول في ذلك يأتي في كتاب النسخ
338 - ولكنا نذكر الآن حظ حكم العموم والخصوص من هذه المسألة وفيه مقنع وبلاغ ونحصر ما نحاوله في ثلاثة أوجه من الكلام أحدهما يحوي مناقضات الخصوم بحيث لا يجدون عنها محيصا وإذا وجهت عليهم سكتوا لها مقرين بالحق أو نطقوا بالصدق فمما يلزمهم اشتراطهم سلامة الرقبة عن كثير من العيوب وهذا تقييد منهم للمطلق وليقع الإلزام في صفات لم يرجعوا في اشتراطها إلى قاطع كمصيرهم إلى اشتراط نطق الرقبة وامتناع إجزاء الأخرس مع تجويزهم إعتاق الأقطع الذي بقيت له يد
فإن هذي هاذون منهم وزعموا أن الرقبة يقتضي إطلاقها كمال الخلقة والسلامة مستفادة من إطلاق الرقبة قيل هذا مما لا يرضاه منتسب إلى التحقيق فإنا على اضطرار نعلم أن اسم الرقبة ينطلق على المعيبة انطلاقه على السليمة ولو كانت تسمية الرقبة المعيبة رقبة مجازا لكان تسميتها إنسانا وآدميا مجازا ولا ينتمي إلى التزام هذا المذهب ذو مسكة في عقله ولو أردنا أن نضرب الأيمان في البر والحنث ومجاري إطلاق الألفاظ وجدنا مقالا ومجالا ثم نقول لم أجزأ الأقطع والرقبة مطلقة ولم امتنع إجزاء الأخرس والخلقة كاملة وكيف
يرجو الخلاص من مثل هذا الخبط ذو فهم وقد قيد هؤلاء ذوي القربى بالفقر والاستحقاق في قوله تعالى ولذى القربى ولم يعتصموا في هذا التقييد بقاطع يجوز نسخ القران بمثله فهذا أحد الوجوه الثلاثة
339 - والوجه الثاني أن نقول أتدعون أن ذكر الرقبة على الإطلاق نص في إجزاء كل رقبة حتى لو تخيل متخيل اختصاص الإجزاء ببعض الرقاب كان خارما لمقتضى النص خارجا عن الفحوى المقطوع بها أم ترون فهم الإجزاء مظنونا متلقى من الظاهر فإن ادعوا كونه قاطعا بحيث لا يتطرق إليه التأويل كان ذلك بهتانا ومعاندة في مسلك العقول فإن الرب تعالى ذكر الرقبة مطلقة وذكر الطعام والكسوة على الإطلاق ولم يتعرض لتفصيلها وإنما استاقها استياقا لا يشتمل على التزام البيان والتفصيل كما جرى ذلك في قوله تعالى والسارق والسارقة وقوله تعالى والزانية والزاني وقوله تعالى فاقتلوا المشركين فهذه الاى لتأصيل الأصول ولا يمتنع أن يقع البيان في التفاصيل بعد استفادة التأصيل ووضوح احتمال ما ذكرناه يغنى اللبيب عن البسط في ذلك
وإن اعترفوا بأن الاجزاء ظاهر فقد كفونا المؤنة وأقروا بالحق فإن إزالة الظاهر ليس في حكم النسخ وهذا هو الوجه الثاني من الكلام
340 - والوجه الثالث أن الرقبة المطلقة تعم كل رقبة فحملها على خصوص من الرقاب عين التخصيص وقد قسم المحصلون التخصيص قسمين أحدهما قصر على بعض المسيمات من غير فرض تمييز ما وقع القصر عليه من غيره بصفات كحمل قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين على ثلاثة منهم
والقسم الثاني تخصيص تمييز وهو حمل المطلق المتناول في الإطلاق للمختلفات على مسميات متيزة بصفات عن أغيارها كحمل المشركين على أهل الحرب دون المهادين وأهل الذمة وكحمل السرقة على إخراج مخصوص من محل مخصوص في مقدار مخصوص وعلى الجملة المطلق يتناول المختلفات تناول عموم على ظهور لا على تنصيص لا يتطرق إليه إمكان تأويل
341 - وإذا لاح ما ذكرناه بنينا عليه ما نختاره ونقول لا يحمل المطلق عندنا على المقيد لا في حكم الإطلاق ولا في حكم التقييد ولكن المطلق عام يتصرف فيه بما يتصرف بمثله في العمومات فإن لاح تأويل واعتضد بدليل وترتب على الشرط الذي سنذكره في باب التأويل وأثر ظهور الدليل العاضد للتأويل على ظهور العام حكم به كان المقيد أو لم يكن فليس في تقييد الحكم بمجرده ما يوجب حمل المطلق على المقيد نعم إن انقدح قياس على المقيد يتسلط مثله على التخصيص إما على حكم المعارضة كما ارتضيناه إذ صرنا إلى الوقف أو على حكم القضاء بالتخصيص كما صار إليه الجمهور كان ذلك أحد ما يتمسك به ولا معنى لاشتراطه واقعا في ألفاظ الشرع فكم من عموم خص وليس على وفق ذلك التخصيص حكم مقيد في لفظ الشرع فإن التخصيص مستند إلى خبر الواحد على قطع كما سبق ذلك في اختيارنا ويستند عند معظم الفقهاء إلى القياس الجلى ولا يطيب التصرف في تفصيل ذلك إلا في أبواب التأويل
342 - فإن قيل فما معتمدكم في اشتراط ذكر الإيمان في الرقبة في كفارة
الظهار فهل ترون القياس على كفارة القتل قلنا هذا الآن ليس من شرط هذا الفن فإن غاية مقصودنا أن نلحق الكلام على المطلق بتخصيص العموم وندرجه في مسالك الظنون وقد ثبت ذلك قطعا وانتفى المراء عنه وليس من شرطنا وراء ذلك تفصيل مسالك الظنون فإنه محض الفقه
وقد نجز غرضنا فيهذه المسألة بذلك وفيها طرفان يستقصى أحدهما في كتاب النسخ عند ذكرنا وراء ذلك تفصيل القول في الزيادة على النص والثاني في باب التأويلات وقد توضح فيها أن الرقبة في الاية التي فيها الكلام ليس لها حكم العموم أيضا وما سيقت قصدا إلى تعميم كل رقبة وإنما أثبتت مع سائر خلال الكفارات ذكرا لتراجم الأصناف مع إحالة البيان على صاحب الشرع وهذا يأتي على أحسن وجه إن شاء الله
مسألة
343 - الصحابي إذا روى خبرا وعمل بخلافه فالذي ذهب إليه الشافعي أن الاعتبار بروايته لا بعمله
344 - وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز الاحتجاج بما رواه إذا كان عمله مخالفا له
345 - والذي نرضاه أن نفصل القول فيما أتاه ورواه فنقول إن تحققنا نسيانه لما رواه فلا يتخيل عاقل في ذلك خلافا ولا شك أن العمل بروايته وإن روى خبرا مقتضاه رفع الحرج والحجر فيما كان يظن فيه التحريم والحظر ثم رأيناه يتحرج فالاستمساك بروايته أيضا وعمله محمول على الورع والتعلق بالأفضل وإن ناقض عمله روايته مع ذكره لها ولم يحتمل محملا في الجمع فالذي أراه امتناع
التعلق بروايته فإنه لا يظن بمن هو من أهل الرواية أن يعتمد مخالفة ما رواه إلا عن ثبت يوجب المخالفة
واللفظ الوجيز فيه أنه إن فعل ماله فعله فالاحتجاج بما رواه وإن فعل ما ليس له أن يفعله أخرجه ذلك عن رتبة الثقة وأدنى المنازل فيه أن يجر إلى مرويه ظنونا متعارضة في الدين يقتضي الوقف بعضها
346 - وكل ما ذكرناه غير مختص بالصحابي فلو روى بعض الأئمة حديثا وعمله مخالف له فالأمر على ما فصلناه
347 - وقد اعترض للأئمة أمور أسقطت آثار أفعالهم المخالفة لروايتهم وهذه كرواية أبي حنيفة خبر خيار المجلس مع مصيره إلى نفى خيار المجلس فهذه المخالفة غير قادحة في الرواية من جهة أنه ثبت من أصله تقديم الرأي على الخبر فمخالفته محمولة على انتحاله هذا الرأي الفاسد وهو بين من فحوى كلامه
ومن رواة الحديث مالك بن أنس وهو لا يقول بخيار المجلس ولكن الصحيح عنه أن الذي حمله على هذا تقديمه عمل أهل المدينة على الأخبار الصحيحة والنصوص الصريحة فمهما جرى شيء من قبيل ما ذكرناه فالتعويل على الحديث المروي فإن روى الراوي خبرا وكان الأظهر أنه لم يحط بمعناه ورب حامل فقه غير
فقيه فمخالفته لا أثر لها في الرواية
والضابط للنفي والإثبات ما أجريناه في درج الكلام حيث قلنا إن وجدنا محملا للفعل غير احتمال للمخالفة فالتعلق بالرواية وإن لم نجد محملا إلا المخالفة فيمتنع التعلق بالحديث
348 - فإن قالوا رتبتم الكلام قبولا وردا على تحقيق النسيان والذكر فما تقولون إذا لم يتحقق واحد منها قلنا الوجه والحالة هذه التعلق بالمروى فإنه من أصول الشريعة ونحن على تردد فيما يدفع التعلق به فلا يندفع الأصل بسبب هذا التردد نعم إن غلب على الظن أنه خالف الحديث قصدا ولم نتحققه فهذا يعضد التأويل ويؤيده ويحقق معتضده من الدليل ويحط مرتبة الظاهر كما سيأتي
349 - ولو روى الصحابى خبرا وأوله وذكر محمله فتأويله مقبول عند الشافعي ولذلك تعلق بتأويل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله عليه السلام لا تبيعوا الورق بالورق إلا هاء وهاء فذكر الشافعي أربعة أوجه في معنى اللفظ وقدم فيها التقابض في المجلس لحمل عمر رضي الله عنه ( راوى الحديث ) اللفظ عليه وهذا يتعلق به كلام من أحكام التأويل سيأتي مشروحا
350 - ولو روى راو وكان إذ روى عدلا ثم فسق بعد روايته وتخلل زمن لا يغلب على الظن انعطاف غوائل الفسق على حال الرواية ثم إنه في زمن فسقه خالف ما رواه فلا أثر لمخالفته فإنه محمول على تجريه لا على محمل عنده في الحديث فهذا منتهى الغرض في ذلك
مسألة
351 - إذا ورد لفظ من الشارع وله مقتضى في وضع اللسان ولكن عم في عرف أهل الزمان استعمال ذلك اللفظ على خصوص في بعض المسميات
فالذي رآه الشافعي أن عرف المخاطبين لا يوجد تخصيص لفظ الشارع
وقال أبو حنيفة العرف من المخصصات وهو مغن عن التأويل والمطالبة بالدليل
وضرب العلماء لذلك مثالا وهو نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بالطعام فزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أن الطعام في العرف موضوع للبر وحاولوا حمل الطعام في لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما جرى العرف فيه
352 - وهذا الذي ادعوه من العرف ممنوع وهم غير مساعدين عليه ولو قدر ذلك مسلما لهم بمجرد العرف فمجرد العرف لا يقتضي تخصيصا فإن القضايا متلقاة من الألفاظ وتواضع الناس عبارات لا يغير وضع اللغات ومقتضى العبارات
فإن قالوا الناس مخاطبون على أفهامهم قلنا فليفهموا من اللفظ مقتضاه لاما تواضعوا عليه ولو تواضع قوم على تخصيص أو تعميم ثم طرقهم اخرون لم يشاركوهم في تواضعهم فإنهم لا يلتزمون أحكام تواطئهم فالشرع وصاحبه كيف يلزمهم حكم تواضع المتعاملين وقد خاطب المصطفى بشريعة العربية الأعاجم على اختلاف لغاتها على تقدير أن يسعوا في درك معاني الألفاظ التي خوطبوا بها والمسألة موضوعة فيه إذا لم يكن الرسول صاحب الشريعة ناطقا بما ينطق أهل العرف فلو ظهر منه مناطقة أهل زمانه بما اصطلحوا عليه فلفظه في الشرع لا ينزل على موجب اللسان
وإنما مأخذ المسألة في ظن الخصوم أن الشارع وإن لم يكن من الناطقين باصطلاح أصحاب العرف فإنه لا يناطقهم إلا بما يتفاوضون به وليس الأمر كذلك كما قدمناه
وقد انتجز الكلام في قضية الألفاظ العامة والخاصة وما يقتضي التخصيص ومالا يقتضيه على الجملة والتفصيل محال على باب التأويل ونحن نرى الان أن نذكر قولا بالغا في مفهوم الخطاب ليكون جامعا بين المنطوق به وبين المسكوت عنه ثم إذا انتهى القول فيه استفتحنا باب التأويل مستعينين بالله تعالى
فصل القول في المفهوم 353 - ما يستفاد من اللفظ نوعان أحدهما متلقى من المنطوق به المصرح بذكره والثاني ما يستفاد من اللفظ وهو مسكوت عنه لا ذكر له على قضية التصريح
فأما المنطوق به فينقسم إلى النص والظاهر وقد قدمنا فيهما تأصيلا وتفصيلا ما يقنع الناظر ولم يندرج المجمل في هذا التفسير لأنا حاولنا تقسيم ما يفيد
وأما ما ليس منطوقا به ولكن المنطوق به مشعر به فهو الذي سماه الأصوليون المفهوم والشافعي قائل به وقد فصله في الرسالة أحسن تفصيل ونحن نسرد معاني كلامه
354 - فمما ذكره أن قال المفهوم قسمان مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة
أما مفهوم الموافقة فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأولى وهذا كتنصيص الرب تعالى في سياق الأمر ببر الوالدين على النهي عن التأفيف فإنه مشعر بالزجر عن سائر جهات التعنيف
وأما مفهوم المخالفة فهو ما يدل من جهة كونه مخصصا بالذكر على وجه سيأتي الشرح عليه على أن المسكوت عنه مخالف للمخصص بالذكر كقوله عليه السلام
في سائمة الغنم الزكاة هذا التخصيص يشعر بأن المعلوفة لا زكاة فيها
وذكر الأستاذ أبو بكر بن فورك في مجموعاته فصلا لفظيا بين قسمى المفهوم فقال ما دل على الموافقة فهو الذي يسمى مفهوم الخطاب وما دل على المخالفة فهو الذي يسمى دليل الخطاب وهذا راجع إلى تلقيب قريب
وذهب أبو حنيفة إلى نفي القول بالمفهوم ووافقه جمع من الأصوليين
355 - وأما منكرو صيغ العموم ولما يتطرق إليها من تقابل الظنون فلا شك أنهم ينكرون المفهوم فإن تقابل الظنون فيه أوضح وهو بالتوقف أولى
وشيخنا أبو الحسن مقدم الواقفية وقد نقل النقلة عند رد الصيغة والمفهوم وفي كلامه ما يدل على القول بالمفهوم فإنه تعلق في مسألة الرؤية بقوله سبحانه كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وقال لما ذكر الحجاب على إذلال الأشقياء أشعر ذلك بنقيضه في السعداء وقد تحققت على طول بحثي عن كلام أبي الحسن أنه ليس من منكري الصيغ على ما اعتقده معظم النقلة ولكنه قال في مفاوضة مع أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ وال مذهبه إلى إنكار التعلق بالظواهر فيما ينبغي القطع فيه ولا نرى له المنع من العمل بقضايا الظواهر في مظان الظنون
نعم باح القاضي بجحد الصيغ في المواضع التي تقدم ذكرها في العقليات والعلميات وصرح بنفي المفهوم
356 - ثم من أنكر المفهوم لم يجحد ما يسمى الفحوى في مثل قوله تعالى فلا تقل لهما أف ثم اضطربوا فيه فقال قائلون كل ما دل من جهة الموافقة من حيث أشعر الأدنى بالأعلى فهو معترف به
وذهب المنتمون إلى التحقيق من هؤلاء إلى أن الفحوى الواقعة نصا مقبولة قطعا وليس ثبوتها من جهة إشعار الأدنى بالأعلى ولكن مساق قوله تعالى وبالوالدين إحسانا إلى مختتم الآية مشتمل على قرائن في الأمر بالتناهي في البر يدل مجموعها الى تحريم ضروب التعنيف وليس يتلقى ذلك من محض التنصيص على النهي عن التأفيف إذ لا يمتنع في العرف أن يؤمر بقتل شخص وينهى عن التغليظ عليه بالقول والمواجهة بالقبيح وضابط مذهب هؤلاء أن المقطوع به يستند إلى قرائن مجتمعة ولا سبيل إلى نفى القطع وما يتطرق إليه الظنون فهو من المفهوم المردود عندهم وإن كان مقتضيا للموافقة عند القائلين بالمفهوم
357 - ومما تردد فيه من رد المفهوم الشرط وأبوابه فذهب الأكثرون إلى الاعتراف باقتضاء الشرط وتخصيص الجزاء به وغلا غالون بطرد مذهبهم في رد اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء به وهذا سرف عظيم
358 - ومن قال بالمفهوم حصر مفهوم الموافقة في إشعار الأدنى في قصد المتكلم بالأعلى ثم ينقسم ذلك إلى ما يقع نصا وإلى ما يقع ظاهرا فالواقع نصا كالمتلقى من قوله فلا تقل لهما أف وما يقع ظاهرا كقوله ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنه فقال الشافعي تقييد القتل بالخطأ في إيجاب الكفارة يدل
على أن إيجابها في قتل العمد أولى وهذا الذي ذكره ظاهر غير مقطوع به إذ يتطرق إليه إمكان اخر سوى ما ذكره الشافعي من إشعار الأدنى بالأعلى
359 - فأما مفهوم المخالفة فقد حصره الشافعي في وجوه من التخصيص منها التخصيص بالصفة كقوله في سائمة الغنم زكاة وكقوله عليه السلام لي الواجد ظلم ومنها التخصيص بالعدد والتقدير والتخصيص بالحد والتخصيص بالمكان والزمان وظاهر هذه التخصيصات في هذه الجهات يتضمن نفى المسكوت عنه في الأمر المقصود في المخصص المنطوق به ونص رضي الله عنه على أن تخصيص المسميات بألقابها يتضمن نفى ما عداها
وذهب أبو بكر الدقاق من أئمة الأصول إلى أن التخصيص بالألقاب ظاهر في نفي ما عدا النصوص عليه وقد صار إلى ذلك طوائف من أصحابنا
وما ذكره الشافعي من حصر القول بالمفهوم في الجهات التي عدها من التخصيصات حق متقبل عند الجماهير ولكن لو عبر معبر عن جميعها بالصفة لكان ذلك منقدحا فإن المعدود والمحدود موصوفان بعدهما وحدهما والمخصوص بالكون في مكان وزمان موصوف بالاستقرار فيهما فإذا قال القائل زيد في الدار فإنما يقع خبرا ما يصلح أن يكون مشعرا عن صفة متصلة بظرف زمان أو بظرف مكان والتقدير مستقر في الدار أو كائن فيها والقتال واقع يوم الجمعة فالصفة تجمع جميع الجهات التي ذكرها ومن ينكر المفهوم فإنه يأبى القول في جميع هذه الوجوه
ونحن الان نعقد مسألتين تشتمل إحداهما على تعارض القائلين بالمفهوم ومنكريه وتحتوي على ما نختاره فيه وتشتمل الثانية على مكالمة الدقاق وإبداء السر في التخصيص بالألقاب
فلتقع البداية بالمسألة الأولى
مسألة
360 - يذكر وجوه احتجاج القائلين بالمفهوم ونتتبع ما لا نرضى منها بالإفساد ثم نعقبها بوجه الحق
فمن طرقهم أنه صار إلى القول بالمفهوم أئمة العربية منهم أبو عبيدة معمر بن المثنى وهو إمام غير مدافع ولئن ساغ الاحتجاج بقول أعرابي جلف من الأقحاح فالاحتجاج بقول أبي عبيدة أولى وقد قال في قول الرسول صلى الله عليه و سلم
مطل الغنى ظلم يدل على أنه لا ملام على المقتر وقد قال في قوله عليه السلام
لأن يتملىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلىء شعرا وهذا يدل على توبيخ من لا يعتني بغير الشعر فأما من جمع إلى علومه علم الشعر فلا يلام عليه والشافعي
من القائلين بالمفهوم وقد احتج بقوله الأصمعي وصحح عليه دواوين الهذليين
وهذا المسلك فيه نظر فإن الأئمة قد يحكمون على اللسان عن نظر واستنباط وهم في مسالكهم في محل النزاع مطالبون بالدليل والأعرابي ينطقه طبعه فيقع التمسك بمنظومه ومنثوره ولا يعدم من يتمسك بهذه الطريقة المعارضة وقصارى الكلام تجاذب ونزاع واعتصام بنفس المذهب
361 - طريقة أخرى لمثبتى المفهوم قالوا وردت أخبار نقلها آحاد وهي لو جمعت لالتحق معناها بالمستفيض الذي لا يستراب فيه وسبيله سبيل الحكم بجود حاتم وشجاعه على والأقاصيص المأثورة عنهما أفراد ثم نقل هؤلاء جملا من أخبار الآحاد وزعموا أنها تشعر بإثبات القول بالمفهوم فمما ذكروه ما روى عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب ما بالنا نقصر وقد أمنا وأشار إلى قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم فقال لقد تعجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال
صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
362 - ونحن لا نتجاوز خبرا من متمسكاتهم حتى نورد من طريق التفصيل عليهم ما يسقط معتصمهم فنقول على هذا الحديث قد كان ثبت وجوب الصلاة أربعا في غير حالة الخوف واستقر الشرع عليه وورد القصر مخصوصا بحالة الخوف فاعتقدوا وجوب الإتمام في غير حالة الخوف على ما تمهد الشرع عليه فلم
يكن ذلك قولا بالمفهوم والذي يحقق ذلك أنه لو فرض مع ما تقدم تخصيص بلقب لكان ما عدا المخصوص مقرا على ما استمر الشرع عليه قبل ذلك وإن لم يكن للألقاب مفهوم على أن الآية اقتضت التخصيص على صيغة الشرط فإنه تعالى قال إن خفتم وقد قال بتخصيص الشرط معظم من أنكر المفهوم
363 - ومما تعلقوا به قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قيل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأزيدن على السبعين قلنا هذا لم يصححه أهل الحديث أولا وقد قال القاضي رضي الله عنه من شدا طرفا من العربية لم يخف عليه أن قول الله تعالى لم يجر تحديدا بعدد على تقدير أن الزائد عليه يخالفه وإنما جرى ذلك مويسا من مغفرة المذكورين وإن استغفر لهم ما يزيد على السبعين فكيف يخفى مدرك هذا وهو مقطوع به عمن هو أفصح من نطق بالضاد
364 - وما يطلقونه من هذا الفن ما روى أن ابن عباس كان لا يرى
حجب الأم من الثلث إلى السدس باثنين من الإخوة والأخوات ويحتج بقوله تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس وكان يرى أن الأمر في الاثنين بخلاف الإخوة وقال لعثمان رضي الله عنه محتجا عليه ليس الأخوان إخوة في لسان قومك قلنا أولا انفراده بهذا المذهب ومخالفته جملة الصحابة يعارض احتجاجه وقد قيل إنه لما قال لعثمان ليس الأخوان إخوة في لسان قومك قال له عثمان ردا عليه إن قومك حجبوها باثنين يا صبي ثم قد تمهد للأم الثلث بالنص ثم استبان ردها إلى السدس في حالة مخصوصة فرأى ابن عباس تقرير ما عدا تيك الحالة على ما تمهد مطلقا قبل الحجب والرد
365 - وربما يستدلون بأن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتقدوا أنه لا غسل على من يواقع ويكسل ولا ينزل واعتصموا بقوله عليه السلام
الماء من الماء ومعناه وجوب استعمال الماء من نزول الماء قلنا قد كان الشرع على ذلك في ابتداء الإسلام وقد نقل الرواة فيه أخبارا
منها ما روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بدار رجل من الأنصار فناداه فتريث قليلا ثم برز ورأسه تقطر ماء فاستبان رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان مخالطا أهله وقد اغتسل فقال صلى الله عليه و سلم
لعلنا أعجلناك لعلنا أقحطناك إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك ثم تبين نسخ هذا الأصل بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت
وإذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاغتسلنا فلم يصح الاحتجاج بقوله عليه السلام
الماء من الماء وإنما نقل مذهب أقوام على الإطلاق وله محمل كما ذكرناه
وبالجملة ليس يخلو المتمسك لهولاء من وجه أو وجوه توهى ما يحولونه ويتخذونه معولهم فكيف يسوغ التعلق بالمحتملات في محاولة القطع والبتات
366 - ثم قال القاضي هذه الأخبار وإن زادت أضعافا مضاعفة فلا تبلغ مبلغ الاستفاضة فإن رواة هذه الأقاصيص لو اجتمعوا على نقل قصة واحدة لم تتواتر بنقلهم والمعتبر في ذلك أنا مضطرون إلى العلم بجود حاتم وشجاعة على ولا نجد في أنفسنا العلم الضروري باعتقاد الأولين اقتضاء التخصيص نفى ما عدا المخصص
367 - طريقة أخرى لأصحاب المفهوم ضعيفة وهي أنهم قالوا إذا قال الرجل لمن يخاطبه اشتر لي عبدا هنديا اقتضى ذلك نهيه عن شراء من ليس هنديا قالوا هذا ومثله مما لا يتمارى فيه أهل اللسان
فنقول لا حاصل لهذا الفن فإن المأمور كان محجورا عليه مقبوضا على يديه في حق من وكله قبل أن وكله واستنابه ثم ثبت التوكيل على الخصوص
واستمر ما كان ثبت قبل في غير المحل المخصوص بالصفات والذي يقطع الشغب عنا أن فرض التخصيص باللقب في هذا بمثابة فرض التخصيص بالصفات
368 - فأما الإمام الشافعي فإنه احتج في إثبات القول بالمفهوم بأن قال إذا خصص الشارع موصوفا بالذكر فلا شك أنه لا يحمل تخصيصه على وفاق من غير انتحاء قصد التخصيص وإجراء الكلام من غير فرض تجريد القصد إليه يزري بأوساط الناس فكيف يظن ذلك بسيد الخليقة صلى الله عليه و سلم فإذا تبين أنه إذا خصص فقد قصد إلى التخصيص فينبني على ذلك أن قصد الرسول عليه السلام في بيان الشرع يجب أن يكون محمولا على غرض صحيح إذ المقصود العرى عن الأغراض الصحيحة لا يليق بمنصب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا ثبت القصد واستدعاؤه غرضا فليكن ذلك الغرض آيلا إلى مقتضى الشرع وإذا كان كذلك وقد انحسمت جهات الاحتمالات في إفادة التخصيص انحصر القول في أن تخصيص الشيء الموصوف بالذكر يدل على أن العاري عنها حكمه بخلاف حكم المتصف بها والذي يعضد ذلك من طريق التمثيل أن الرجل إذا قال السودان إذا عطشوا لم يروهم إلا الماء عد ذلك من ركيك الكلام وهجره وقيل لقائله لا معنى لذكرك السودان وتخصيصهم مع العلم بأن من عداهم في معناهم
369 - وهذا تحرير كلام الشافعي وهو على مساقه بالغ حسن ولكن يرد عليه على انطباق تخصيص للأشياء بألقابها ويلزم من مضمون طلب الفائدة من التخصيص المصير إلى أن الشارع إذا خصص شيئا باسمه الذي ليس مشتقا اقتضى ذلك نفى الحكم فيما عداه ولو لم يكن كذلك لكان تخصيصه من غير قصد أو قصده من غير غرض أو غرضه غير محمول على مقاصد الشرع
وكل ذلك محظور لا سبيل إلى التزامه وإن كان ما ذكرناه في اللقب مسوغا لزم تسويغ مثله في الموصوف فإذا لا يستقل الكلام متعلقا بالتخصيص إلا بأحد وجهين إما أن يطرد في الألقاب كما ذهب إليه الدقاق وإما أن يوضح مع التمسك بالتخصيص أمرا يوجب ما ذكرناه في الموصوف دون غيره وليس في كلام الشافعي التزام ذلك على ما ينبغي من اختصاص أثر التخصيص بالموصوفات
370 - وقد حان الان أن نبدأ مسلك الحق على وجه يشتمل بيان المختار ونبين تدريج الكلام على مراتبه ونوضح القاصد في الأطراف فنقول لا يتبين المقصد من المسألة إلا باستفتاح التفصيل في آحاد الصور حتى إذا نجزت نرد الكلام إلى الضابط لها فنقول لا يتبين المقصد من المسألة إلا بذكر صور فمن الصور التي يجب الاعتناء بها الشرط والجزاء فإن سلم اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء به تعدينا هذه المرتبة وإن استقر على النزاع اكتفينا معه بنسبته إلى الجهل باللسان إو إلى المراغمة والعناد فنحن نعلم من مذهب العرب قاطبة أنها وضعت باب الشرط لتحصيص الجزاء به فإذا قال القائل من أكرمني أكرمته فقد أشعر باختصاص إكرامه بمن يكرمه ومن جوز أن يكون وضع هذا الكلام على أن يكرم مكرمه ويكرم غيره أيضا فقد نأى وبعد فآل الكلام معه إلى التسفيه والجهل والإحالة على تعلم مذاهب العرب ولسنها وحوارها
ولنعد إلى خصلة أخرى وهي التتمة وهي أنا نكتفي فيما ندعى بظهور الاختصاص ولا نحاول قطعا ناصا لا يتطرق إليه إمكان فإذا أنكر منكر ظهور ما
ذكرناه ظهر فساد قوله وانحطت رتبته عن استحقاق المفاوضات فهذا منتهى المراد في هذا الطرف
371 - ومما نذكره التحديد بالزمان والمكان أو العدد ونقول مما ظهر في الكلام ظهورا لا يستجاز المراء فيه أن الحدود تتضمن حصر المحدودات ولذلك تساق ولهذا الغرض تصاغ فإذا كان الحكم وراء المحدود كالحكم فيما يحويه الحد فلا غرض في الحد وظهور ذلك لا يجحد وهو من صور مسألة المفهوم ومن الصور تخصيص الموصوفات بالذكر كقوله عليه السلام في
سائمة الغنم زكاة وقوله
لي الواجد ظلم وهذا الفن عمدة المسألة وملتطم الكلام فليقع به فضل اعتناء والله المستعان
372 - فأقول إذا كانت الصفات مناسبة للأحكام المنوطة بالموصوف بها مناسبة العلل معلولاتها فذكرها يتضمن انتفاء الأحكام عند انتفائها كقوله صلى الله عليه و سلم
في سائمة الغنم زكاة فالسوم يشعر بخفة المؤن ودرور المنافع واستمرار صحة المواشي في صفو هواء الصحاري وطيب مياه المشارع وهذه المعاني تشير إلى سهولة احتمال مؤنة الإرفاق بالمحاويج عند اجتماع أسباب الارتفاق بالمواشي وقد انبنى الشرع على رعاية ذلك من حيث خصص وجوب الزكاة بمقدار كثير وأثبت فيه مهلا يتوقع في مثله حصول المرافق فإذا لاحت المناسبة جرى ذلك على صيغة التعليل
وكذلك النهي عن لي الواجد فإن الموسر المقتدر ذا الوفاء والملاء إذا طلب
بما عليه لم يعذر بتأخير الحق للمستحق وهذا في حكم التعليل لانتسابه إلى الظلم إذا سوف وماطل
فإن طولبنا بإثبات القول بالمفهوم فيما نصننا عليه فالقول الواضح فيه أن ما أشعر وضع الكلام بكونه تعليلا فهو أظهر عندي في اقتضاء التخصيص الذي من حكمه انتفاء الحكم عند انتفاء الصفة من الشرط والجزاء فإن العلة إذا اقتضت حكما تضمنت ارتباطه بها وانتفاءه عند انتفائها وإذا قال القائل إنما أكرم الرجل لاختلافه إلى كان ذلك أوضح في تضمن اختصاص إكرامه بمن يختلف إليه من قوله من اختلف إلى أكرمته
373 - فإن قيل إن العلل الشرعية ليس من شرطها أن تنعكس والمفهوم تعلق بادعاء العكس قلنا هذا الان كلام من لم يحط بما أوردناه والقول في العلل المستنبطة وشرائطها وقوادحها ليس مما نحن فيه بسبيل فإن غرضنا التعلق بما يقتضيه اللفظ في وضع اللسان اقتضاء ظاهرا ولا شك إن صيغة التعليل يظهر منها للفاهم ما أدرناه والقول في مآخذ العلل المستثارة لا يؤخذ من مقتضى العبارات والألفاظ فهذا ما أردناه
374 - فإن قيل خصصتم بالذكر الصفات المناسبة للأحكام وقد أطلق القائلون بالمفهوم أقوالهم بإثبات المفهوم بكل موصوف فأثبتوا في ذلك ما هو الحق قلنا الحق الذي نراه أن كل صفة لا يفهم منها مناسبة للحكم فالموصوف بها كالملقب بلقبه والقول في تخصيصه بالذكر كالقول في تخصيص المسميات بألقابها فقول القائل زيد يشبع إذا أكل كقله الأبيض يشبع إذ لا أثر للبياض فيما ذكر كما لا أثر للتسمية بزيد فيه ولنا كلام طويل على قوله صلى الله عليه و سلم
لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل تقصيناه في الأساليب فليطلبه مريده من ذلك الكتاب ومن سر
هذا الفصل أن شرط العلة المخيلة المستنبطة السلامة عن جمل من الاعتراضات والقوادح ولا يشترط شيء من ذلك في القول بمفهوم كلام الشارع إذا اشتمل على ذكر موصوف وفهم من الصفة مناسبة فإن الكلام في ذلك يدار على فهم الخطاب لا على شرائط العلل ولا يتضح الغرض في ذلك مع كل هذا التقرير إلا بذكر المسألة المعقودة على الدقائق
مسألة
375 - قد سفه علماء الأصول هذا الرجل في مصيره إلى أن الألقاب إذا خصصت بالذكر تضمن تخصيصها نفي ما عداها وقالوا هذا خروج عن حكم اللسان وانسلال عن تفاوض أرباب وتفاهمهم فإن من قال رأيت زيدا لم يقتض ذلك إنه لم ير غيره قطعا
376 - وعندي أن المبالغة في الرد عليه سرف ونحن نوضح الحق الذي هو ختام الكلام قائلين لا يظن بذي العقل الذي لا ينحرف عن سنن الصواب أن يخصص بالذكر ملقبا من غير غرض وإذا رأى الرائي طائفة والخبر عن رؤية جميعهم عنده مستو لاتفاوت فيه وهو في سماع من يسمع كذلك فلا يحسن أن يقول والحالة هذه رأيت فلانا فينص على واحد من المرئيين نعم إن ظهر غرض في أن المذكور في جملة من راه فقد ظهر عند المتكلم فائدة خاصة يفيدها السامع فإذ ذاك يحسن تخصيصه بالذكر ولا خفاء بذلك
فإن قيل هذا الذي ذكرتموه ميل إلى مذهب الدقاق قلنا الذي نراه أن التخصيص باللقب يتضمن غرضا مبهما كما أشرنا إليه ولا يتضمن انتفاء ما
عدا المذكور واللفظ في نفسه ليس متضمنا نفى ما عدا المذكور بل وضع الكلام إذا رد الأمر إلى المقصود يقتضي اختصاص المذكور بغرض ما للمتكلم والصفة المناسبة في وضعها تقتضي نفي الحكم عند انتفاء الصفة فظهر القول بمفهوم الصفة وظهر اقتضاء التخصيص باللقب غرضا مبهما فإنا نقول وراء ذلك لا يجوز أن يكون من غرض المتكلم في التخصيص نفى ما عدا المسمى يلقبه فإن الإنسان لا يقول رأيت زيدا وهو يريد الإشعار بأنه لم ير غيره فإن هو أراد ذاك قال إنما رأيت زيدا وما رأيت إلا زيدا فاستبان بمجموع ذلك أن تخصيص الملقب بالذكر ليس يخلو عن فائدة هي غرض للمتكلم منها حكاية الحال وإن بلغنا الكلام مرسلا اعتقدنا غرضا مبهما ولم نر انتفاء غير المسمى من فوائد التخصيص
377 - ومن تمام الكلام فيه أن متكلفا لو فرض عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال
في عفر الغنم الزكاة فهذا عندنا لا مفهوم له وهو كالمخصوص بلقبه ولكن يبعد من الرسول صلى الله عليه و سلم النطق بمثله وليس من الحزم أن يفرض من الشارع كلام لغو ويتعب في طلب فائدته فقد بان الآن مراتب العلماء
فقد صار قوم إلى إبطال المفهوم وهذا ذهول عن فائدة الكلام وصار قوم إلى أن لكل تخصيص مفهوما كالدقاق وهذا الرجل ابتدر أمرا لا ينكر وهو أن العاقل لا يخصص مذكورا هزلا وليس كل الغرض موقوفا على نفي ما عدا المسى واعتبر الشافعي الصفة ولم يفصلها واستقر رأيي على تقسيمها وإلحاق ما لا يناسب منها باللقب وحصر المفهوم فيما يناسب وهذا منتهى الكلام
مسألة
378 - فقد ذكرنا أن المفهوم ينقسم إلى ما يقع نصا غير قابل للتأويل ويغلب
ذلك في مفهوم الموافقة إذا انتهى إلى المرتبة العليا وإذ ذاك يسمى عند أرباب الأصول الفحوى والغالب على مفهوم المخالفة الظهور والانحطاط عن رتبة النصوص
فما يقع ظاهرا من تقاسيم المفهوم فالقول الضابط فيه أنه نازل منزلة اللفظ الموضوع للعموم وضعا ظاهرا فيجوز ترك المفهوم بما يسوغ به تخصيص العموم وهذا نفصله في باب التأويل إن شاء الله تعالى
379 - وغرضنا الان بعد إلحاق المفهوم باللفظ الموضوع للعموم أمران
أحدهما أن ترك جميع المفهوم بدليل يقوم بمثابة تخصيص العموم وليس كرفع جميع مقتضى اللفظ
والقول المقنع فيه أن المفهوم ليس مستقلا بنفسه وليس جزءا من الخطاب بذاته ولكنه من مقتضيات اللفظ فإن اقتضى ظهور أمر تركه فاللفظ بمقتضياته باق وفي تقدير رفع جميع متعلقات المنطوق رفع جميع مقتضى اللفظ وتعطيله ومعناه فكان المفهوم كبعض مسميات العموم
وإيضاح ذلك أنا ألفينا اللفظ الموضوع للعموم يستعمل تارة للاستغراق وتارة لبعض المسميات فلما استمر الأمران لم يكن في التخصيص خروج عن مقتضى اللسان وإن كان الظاهر الجريان على العموم وكذلك نرى العرب تخصص الشيء بصفة وهي تبغي نفي المخبر عنه عند انتفاء الصفة وقد لا تريد ذلك فليس قصد نفي ما عدا المخصص أمرا مقطوعا به فكان ترك المفهوم ورفع أصل التخصيص من السائغ الذي لا يستنكر مثله وشفاء غليل الطالب موقوف على وقوفه على حقائق التأويلات وهذا أحد الأمرين
380 - والثاني أن التخصيص إذا جرى موافقا لما يصادف ويلقى في مستقر
العرف فالشافعي لا يرى الاستمساك بالمفهوم فيه ويصير إلى حمل الاختصاص على محاولة تطبيق الكلام على ما يلقى جاريا في العرف وقد ذكر الشافعي في الرسالة كلاما بالغا في الحسن في هذا وذلك أنه قال إذا تردد التخصيص بين تقدير نفى ما عدا التخصيص وبين قصد أخراج الكلام على مجرى العرف فيصير تردد التخصيص بين هاتين الجهتين كتردد اللفظ بين جهتين في الاحتمال واللفظ إذا تعارض فيه محتملات التحق بالمجملات كذلك التخصيص مع التردد يلتحق بالمجملات ثم ضرب لذلك أمثلة من الكتاب منها قوله تعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فاستشهاد النساء مع التمكن من استشهاد الرجل مما لا يجري العرف به للعلم بما في ذلك من الشهرة وهتك الستر وعسر الأمر عند إقامة الشهادة فيقتضي التقييد إجراء للكلام على موجب العرف ومنها قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم وقوله عليه السلام
المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله فجرى ذلك
على الأعم الأغلب في أحوال المسافرين فلم يكن للتخصيص بالخوف مفهوم ومنها قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فظاهر الآية اختصاص المفاداة بحالة الشقاق وقد رأى الشافعي حمل ذلك على العرف الجاري في مثله في أن الزوجين لا يتخالعان ولا يتقامطان على الحب والمقة والتصافي وإنما تسمح المرأة ببذل المال المحبوب ويستبدل الزوج عنها مالا إذا أظهرا تقاليا وشقاقا فكان جريان التخصيص على حكم العرف وعلى هذا حمل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها إذ روت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فمقتضى التخصيص لو اتسق القول بالفهوم أن يصح النكاح بلفظها إذا أذن وليها ولكن الشافعي قال إنما تزوج المرأة نفسها إذا كانت متبرجة كاشفة جلباب الحياء عن وجهها مؤثرة لنفسها الخروج عن دأب الخفرات فإذ ذاك تستبد بنفسها وإن بقي فيها ملتفت إلى الأولياء فإنها تفوض أمرها إليهم فإن عضلوها حملت خاطبها على رفع الأمر إلى القاضي فجرى التخصيص على حكم العرف أيضا ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة فهذا مساق كلام الشافعي
381 - والذي أراه في ذلك أن اتجاه ما ذكره من حمل الأمر على خروج الكلام على مجرى العرف لا يسقط التعلق بالمفهوم نعم يظهر مسالك التأويل ويخفف الأمر على المؤول في مرتبة الدليل العاضد للتأويل والدليل عليه أن عين التخصيص لا يتضمن نفي ما عدا المخصص ولو صير إلىذلك ففيه تطرق إلى مذهب الدقاق وإنما ظهر نفي ما عدا المخصوص في إشعار المنطوق به شرطا أو تحديدا أو تعليلا ومقتضى اللفظ لا يسقط باحتمال يئول إلى العرف
والذي يحقق ذلك أنه لما قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في قوله تعالى أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أنقصر وقد أمنا قال عمر تعجبت مما تعجبت منه ولم ينكر عليه اعتقاد المفهوم من طريق اللسان وقد صار محمد بن الحسن إلى تنزيل مذهبه على مفهوم حديث عائشة ومنطوقه في النكاح بغير ولي فلست أرى المفهوم في هذا الفن متروكا من غير فرض دليل ومن حاسيك الصدور ترك المفهوم في مسألة النكاح بلا ولي وما ذكر في هذا الفصل فأنا أوفيه حظه إذا ذكرت طرق تأويلات المفهومات إن شاء الله تعالى
مسألة
382 - ما صار إليه المحققون أن قوله صلى الله عليه و سلم
تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم يتضمن حصرها بين القضيتين في التكبير والتسليم
وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى تنزيل هذا على المفهوم وقضوا بأنهم
من حيث لم يروا القول به لا يلزمون نفي ما عدا التكبير والتسليم وتمسكوا بهذا المسلك في قوله صلى الله عليه و سلم
الشفعة فيما لم يقسم
383 - وهذان فنان عندنا ونحن نخصص المثال الأول والثاني بما يليق بكل واحد منهما فأما قوله عليه السلام
وتحريمها التكبير فمقتضاه الحصر لا محالة وليس هذا من فن المفهوم المتلقى من تخصيص الشيء بالذكر كما سبق مفصلا وهذا يقرر من وجهين
أحدهما النقل والإحتكام إلى ذوي الحجا والأحكام في كل لسان ولغة فإذا قال القائل زيد صديقي لم يتضمن هذا نفي الصداقة عن غيره والقول بالمفهوم لا يتضمن في سياق هذا الكلام حصرا للصداقة ولا قصرا لها على زيد المذكور صدرا ومبتدأ ولو قال القائل صديقي زيد اقتضى هذا أنه لا صديق له غيره وهذا مما لا يبعد ادعاء إجماع أهل اللسان فيه ومن أبدى في ذلك مراء كان مباهتا محكوما عليه بالعناد فهذا وجه
والوجه الآخر أن ترتيب الكلام أن تقول زيد صديقي فإن وضع المبتدأ ذكر معرف تبتدره الأفهام حتى إذا فهم أسند إليه خبر لا يستقل معلوما في نفسه فينتظم من ارتباط الخبر به في إفادة السامع ما يقدر المتكلم أنه ليس عالما به فإذا قلب الكلام وقال صديقي زيد لم يصلح قوله صديقي صدرا مبدوءا به فإنه يترقب بعد البداية به خبره فحملت العرب تقديمه وصرف الاهتمام به على حصر معناه في زيد المذكور بعده ولولا ذلك لما انتظم الكلام وهذا معنى لا يفضي إلى
القطع بنفسه والمعتمد القاطع النقل كما ذكرناه فهذا في أحد الفنين وقد تحصل منه أنه ليس من المفهوم في شيء وإنما مأخذه ما ذكرناه
384 - وأما الفن الثاني وهو
الشفعة فيما لم يقسم فوجه التمسك به لا يتلقى من البناء على المفهوم وإنما مأخذه أن اللام في قوله الشفعة لتعريف الجنس فكأنه عليه السلام حصر جنس الشفعة فيما لم يقسم
385 - وقد نجز مقدار غرضنا من الكلام عن النص والظاهر والأمر والنهي والعموم والخصوص والمنطوق والمفهوم والمجمل والمفسر فهذه هي المراتب المقصودة في هذا الفن ولا يبقى بعد نجازها إلا ذكر مراتب التأويلات وما يقبل منها وما يرد وبيان مستنداتها ولكني أرى أن أخلل بين نجاز هذه المراتب وبين التأويلات القول في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنها من متعلقات الشرع والتأويلات والمحامل في حكايات الأحوال تتعلق بها
فنبتدىء مستعينين بالله تعالى بذكر أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم نعقب نجازها بكتاب التأويلات إن شاء الله تعالى
باب القول في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم
386 - الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم يستدعي تقديم صدر من القول في عصمة الأنبياء عليهم السلام ونحن نذكر منه القدر الذي تمس الحاجة إليه ثم نعود إلى نظم الكلام فنقول
387 - لا شك أن المعجزة تدل على صدق النبي عليه السلام فيما يبلغه عن الله تعالى فتجب عصمته عن الخلف في مدلول المعجزة ولو لم يكن كذلك لما كانت المعجزة دالة
فأما الفواحش والموبقات والأفعال المعدودة من الكبائر فالذي ذهب إليه طبقات الخلق استحالة وقوعها عقلا من الأنبياء وإليه مصير جماهير أئمتنا
388 - وقال القاضي هي ممتنعة ولكن مدرك امتناعها السمع ومستندة الإجماع المنعقد من حملة الشريعة على الأمن من وقوع الفواحش من الأنبياء ولو رددنا إلى العقل لم يكن في العقل ما يحيلها فإن الذي يتميز به النبي عن غيره مدلول المعجزة ومتعلقها والكبائر ليست مدلولها بوجه فلا تعلق للمعجزة بنفيها ولا بإثباتها نعم لو كان فيما ذكره من تنبي وتحدي به أنه منزه عن الفواحش واستشهد على صدقه بقيام المعجزة فوقعت على حسب الدعوى فكل ما أدرجه في كلامه إذا ارتبط قيام المعجزة به فنعلم على القطع إذ ذاك وجوب صدقه في جميع مخبراته ولا اختصاص لتعلق المعجزة بفن من الأخبار فإنها تقع على مطابقة دعوى النبي ووفقها فإن قامت ودعواه شيء واحد دلت على صدقه فيه وإن قامت ودعواه أشياء وقد استشهد على جميعها بقيام المعجزة دلت على صدقه في جميعها
والمختار عندنا ما ذكره القاضي
389 - وأما الصغائر ففي إثباتها أولا كلام كثير لسنا له الآن ولكن الذي نعنيه بذكر الصغائر مالا يتضمن فسق من صدر منه وانسلاله عن نعت العدالة وهذا أيضا إحالة على جهالة ولكن الكلام يجمل في غير مقصوده ويتبين في مقصوده
390 - والذي صار إليه أئمة الحق أنه لا يمتنع صدورها عن الرسل عقلا وترددوا في المتلقى من السمع في ذلك فالذي ذهب إليه الأكثرون أنها لا تقع منهم ثم اضطربوا وتخبطوا في تأويل آى مشهورة في قصص المرسلين والذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع في ذلك نفيا وإثباتا والظواهر مشعرة بوقوعها منهم
391 - ومما نقدمه قبل الخوض في الغرض النسيان فلا امتناع في تجويز وقوعه فيما لا يتعلق بالتكاليف فأما ما يفرض متعلقا بالتكاليف ففيه اضطراب ونحن قاطعون بأنه لا يمتنع وقوعه عقلا إلا أن يقول النبي أنه لا يقع منى نسيان ويقيم المعجزة عليه وهذا مطرد في كل خبر يتردد بين الصدق والكذب
فإذا تأيد بقيا المعجزة تعين الصدق فيه و إذا لم يتأيد بقيام المعجزة على الاختصاص به ففيه الكلام والنسيان إن لم يقع انتفاؤه مدلولا للمعجزة فهو مسوغ عقلا والظواهر دالة على وقوعه من الرسل
392 - وقد قال من لم يحط بمأخذ الحقائق إنهم عليهم السلام غير مقرين على النسيان بل ينبهون على قرب وهذا لا تحصيل له فليس يمتنع أن يقروا عليه زمانا طويلا ولكن لا ينقرض زمانهم وهم متمرون على النسيان وهذا متلقى من الإجماع لا من مسالك العقول
فهذا القدر مقنع فيما نبغيه في ذلك وفي أدراجه ملامح كافية في إيضاح المختار والدليل عليه
393 - ونحن نقول بعد ذلك إذا لم يبعد وقوع الذنب من الرسول عليه السلام فكيف يتخيل الناظر وجوب الاقتداء به في فعل وإن بنينا الأمر على امتناع وقوع الذنب منه فالكلام يقع وراء ذلك في حكم فعله
حكم فعل الرسول صلى الله عليه و سلم
394 - وأجمع تقسيم فيه أن نقول فعله صلى الله عليه و سلم ينقسم إلى ما شهد عليه قول منه ناص وإلى ما لم يشهد عليه قول ناص فأما ما يشهد عليه قول منه فهو كأفعاله في صلاته في قوله
صلوا كما رأيتموني أصلي وكأفعاله في نسكه مع قوله
خذوا عني مناسككم فهذا الفن خارج عن متعلق الغرض من الكلام في الأفعال فإن الأقوال هي المتبعة في هذا القسم والأفعال في حكم الأعلام ولكنا ذكرنا ذلك لاستيعاب الأقسام
395 - فأما ما ورد غير مقترن بقول شاهد عليه فينقسم إلى الأفعال الجبلية التي لا يخلو ذو الروح عن جميعها كالسكون والحركة والقيام والقعود وما ضاهاها من تغاير أطوار الناس فإذا ظهر ذلك فلا استمساك بهذا الفن من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم
396 - وأما ما لم يقترن به ما يدل على كونه من الأفعال الجارية في العادات فإنه ينقسم إلى ما يقع بيانا وإلى مالا يظهر ذلك فيه
فأما ما يقع بيانا فهو بمثابة ورود قول في الكتاب على إجمال فإذا وقع من رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم فعل في حكاية حال أو مراجعة وسؤال فظهور قصده في بيان الإجمال ينزل منزلة القول المقترن بالفعل الشاهد عليه
397 - فأما ما لم يظهر فيه قصد البيان فهو ينقسم إلى ما يقع في سياق القرب ويظهر كونه في قصد الرسول عليه السلام قربة وإلى مالا يقع في سياق القرب فأما ما يقع قربة في قصده فهو الذي اختلف فيه الخائضون في هذا الفن فذهب طوائف من المعتزلة إلى أن فعله صلى الله عليه و سلم محمول على الوجوب ويتعين اتباعه فيه وذهب إلى هذا المذهب ابن سريج وأبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا
وذهب ذاهبون إلى أن فعله لا يدل على الوجوب ولكنه محمول على الاستحباب وفي كلام الشافعي ما يدل على ذلك
وذهب الواقفية إلى الوقف فإنهم في ظواهر الأقوال سباقون إليه فالفعل الذي لا صيغة له بذلك أولى
398 - فأما من صار إلى أن فعله على الوجوب فمما استدلوا به قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وهذا الاستدلال مدخول فإن من يقف لا يسلم أن فعله يعدوه ويقول بحسب ذلك إن فعله ليس هو مما آتانا به
الرسول عليه السلام وفعله مختص به لا يتعداه وقد تكلم هؤلاء على الآية من وجه واقع وهو قول شيخنا أبي الحسن فإنه قال أراد ما أمركم به الرسول فخذوه والشاهد لذلك قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا والنهي إنما يقارنه على مضادة الأمر وبالجملة الاية محتملة وغاية المستمسك بها أن يسلم له ظهورها في غرضه والظهور مع تطرق فنون الظنون لا يقنع في القطعيات
ومما تمسك به هؤلاء أن قالوا أجمع المسلمون قبل اختلاف الآراء على أنه يجب على الأمة التأسى برسولها ومتابعته ومن متابعته أن يوافق في أفعاله
وهذا زلل عظيم فإن منصب النبوة يقتضي كون النبي متبوعا على معنى أنه مطاع الأمر فأما وجوب متابعته في أفعاله فليس ذلك مدلول معجزته ولا قضية نبوته ولا حكم مرتبته والملك الذي يتبع أمره لا يفعل مثل ما فعله إلا إذا أمر به
399 - فأما من صار إلى أن الفعل يدل على الاستحباب فيما يقع قربة فهذا أقرب قليلا من المسلك الأول في القسم الذي فيه الكلام فإنا لم نفرض قولنا إلا فيما يقع من الرسول في معرض القرب فإذا ظهر تقربه بفعل إلى الله تعالى فقد يظن الظان أن الأمة في ذلك بمثابته فإنه أسوة الخلق وقدوتهم في قربه وعبادته وليس ذلك كالفعل المرسل الذي ينقل عنه من غير أن يبين كونه قربة في حقه
وهذا الرأي غير سديد أيضا فإن ما ثبت قربة في حق المصطفى فليس في نفس الفعل ما يتضمن الدعاء إلى مساواته فيه والفعل في نفسه لا صيغة له وليس بدعا أن
يختص صاحب الشريعة بشيء دون أمته لعلو منزلته ورتبته وهذا متمسك الواقفية إذا حاولو إثبات الوقف
400 - والرأي المختار عندنا أنه يقتضي أن يكون ما وقع منه مقصودا قربة محبوبا مندوبا إليه في حق الأمة وشرطنا انتحاء الوسط في كل مسلك والنزول عن طرفي السدف في الإثبات والنفي فمن ادعى أن الفعل بعينه يقتضي ذلك فهو زلل فإن الفعل لا صيغة له ومن ادعى أنه لا يتأسى بفعل المصطفى صلى الله عليه و سلم فيما ثبت قصد القرب فيه فقد أبعد أيضا
والوجه في ذلك أن يقال ثبت عندنا أن صحب رسول الله صلى الله ليه وسلم كانوا يتحرون لأنفسهم في القربات ما يصح عندهم من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا إذا اختلفوا في قربة فروى لهم صادق موثوق به عن المصطفى صلى الله لعيه وسلم فعلا كانوا يتبدرونه ابتدارهم أقواله ولا ينكر هذا منصف فالوجه أن نقول إن رددنا إلى الفعل ومقتضاه أو إلى مدلول المعجزة فإنهما يفضيان إلى الوقف كما قال الواقفية ولكن تأكد عندنا من عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم التأسي به في كيفية أفعاله في قربة فليحمل هذا على الإجماع ولا يقطع به في مقتضى العقل والمعجزة وكل ذلك فيما ظهر وقوعه على قصد القربة من الرسول صلى الله عليه و سلم
401 - فأما فعله المرسل الذي لا يظهر وقوعه منه على قصد القربة فقد ذهب طوائف من حشوية الفقهاء إلى أنه محمول على الوجوب كالذي سبق في
القرب وقد عزى ذلك إلى ابن سريج بعض النقلة وهذا زلل وقدر الرجل عن هذا أجل ومذهب الوجوب وإن لاح بطلانه في القرب فهو على حال يصلح أن يكون معتقدا لمعتقد من حيث إنه يقول هو إمام الخليقة في الطاعة فإذا لم يظهر انتفاء الوجوب بنى الأمر على الوجوب أخذا بالأحوط فأما التزام هذا المذهب في كل فعل يصدر منه وإن لم يظهر كونه قربة فبعيد جدا
402 - فإن قيل فما المرتضى في هذا القسم قلنا أما الواقفية فيطردون مذاهبهم في الوقف ومذهبهم في هذه الصورة أظهر وأما أصحاب الندب فقد يصيرون إليه وهو ردىء مزيف بمثل ما زيفنا به مذهب أصحاب الوجوب في هذا القسم فإن انقسام فعله إلى الواجب وغيره كانقسام فعله إلى المندوب وغيره فالمختار إذا أن فعله لا يدل بعينه ولكن يثبت عندنا وجوب حمله على نفى الحرج فيه عن الأمة ومستند هذا الاختيار إلى علمنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو اختلفوا في حظر أو إباحة فنقل الناقل في موضع اختلافهم فعلا عن المصطفى لفهموا منه أنه لا حرج على الأمة في فعله وجاحد هذا جاهل بمسالك النقل فضلا عن المعنى واللفظ وأما ادعاء اعتقادهم أن فعله واجب على غيره أو مندوب مستحب فدعوى عرية لا تستند إلى قضية المعجزة ولا إلى عادتهم ولا إلى صفة الفعل
فهذا منتهى القول في أقسام أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو نجاز الغرض في هذا الفصل
فصل يحوى بقايا من أحكام الأفعال حكم الأفعال التي تظهر فيها خصائص الرسول صلى الله عليه و سلم
403 - قد تبين أن معتصمنا ما ظهر لنا من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في اعتقاد القربة فيما يجري عن المصطفى في سياق القربة وفي اعتقاد نفي الحرج فيما لا يظهر فيه قصد القربة منه ولم نتحقق على حاصل في فن من أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ما يتعلق بقبيل يظهر في خصائصه فليس عندنا نقل لفظي ولا معنوي في أنهم رضي الله عنهم كانوا يقتدون به في هذا النوع ولم يتحقق عندنا نقيض ذلك فهذا محل الوقف
404 - فلينظر الناظر كيف لقطنا من كل مسلك خياره وقررنا كل شيء على واجبه في محله وهذه غاية ينبغي أن ينتبه من يبغي البحث عن المذاهب لها فإنه يبعد أن يصير أقوام كثيرون إلى مذهب لا منشأ له من شيء ومعظم الزلل يأتي أصحاب المذاهب من سبقهم إلى معنى صحيح لكنهم لا يسبرونه حق سبره ليتبينوا بالإستقراء أن موجبه عام شامل أو مفصل ومن نظر عن نحيزة سليمة عن منشأ المذاهب فقد يفضى به نظرة إلى تخير طرف من كل مذهب كدأبنا في المسائل
حكم فعلى الرسول صلى الله عليه و سلم المختلفين المؤرخين
405 - ومما نذكره في أحكام الأفعال بعد ثبوت التاسي به على التفصيل المقدم أنه إذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلان مؤرخان مختلفان فقد صار كثير من العلماء إلى أن التمسك باخرهما واعتقاد كونه ناسخا للأول وتنزيلهما منزلة القولين المنقولين المؤرخين فإن اخرهما ناسخ لأولهما إذا كانا نصين وللشافعي صغو إلى ذلك وهو مسلكه الظاهر في كيفية صلاة الخوف بذات الرقاع فإنه صحت فيها رواية ابن عمر وصالح بن خوات فرأى الشافعي رواية ابن خوات متأخرة ورأى رواية ابن عمر في غير تلك الغزوة فقدرها في غزاة سابقة عليها وربما سلك مسلكا آخر فسلم اجتماع الروايتين في غزاة واحدة ورآهما متعارضتين ثم تمسك من طريق القياس بأقرب المسلكين إلى الخضوع والخشوع وقلة الحركة
406 - وذهب القاضي إلى أن تعدد الفعل مع التقدم والتأخر أو غير ذلك محمول على جواز الأمرين إذا لم يكن في أحدهما ما يتضمن حظرا
والذي ذكره القاضي ظاهر في نظر الأصول فإن الأفعال لا صيغ لها ولكن إذا ادعى مدع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يتمسكون بالأحداث فالأحدث فهو منصف والقول في ذلك على الجملة ملتبس فإن ادعاء ذلك عليهم في الأفعال على الخصوص نأي عن القطع وإن استمر فيه قطع فلا يبعد أنهم كانوا يرون الأخير أفضل أحواله وأولى أفعاله
مسألة
407 - مما يتعلق بالكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم بيان حكم تقريره غيره على أمر
فالذي ذهب إليه جماهير الأصوليين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأى مكلفا يفعل فعلا أو يقول قولا فقرره عليه ولم ينكر عليه كان ذلك شرعا منه في رفع الحرج فيما رآه
قالوا من لم ير التعلق بأفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم من جهة تردد أفعاله بين خواصه وبين ما يشاركه فيه غيره فإنه يقول إذا قرر غيره على أمر كان ذلك شرعا فإن تقريره يتعلق بالمقرر وكان ذلك في حكم الخطاب له وقد تمهد أن خطابه للواحد في حكم الخطاب للأمة
وهذا كما ذكروه ولكن فيه مستدرك فإنه لا يبعد أن يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم أبيا عليه ممتنعا من القبول منه على أمر فلا يتعرض له وهو معرض عنه لعلمه
بأنه لو نهاه لما قبل نهيه بل يأباه وذلك بأن يكون من يراه منافقا أو كافرا فلا يحمل تقريره هؤلاء وسكوته عنهم على إثبات الشرع فهذا تفصيل لا بد منه في التقرير
مسألة
408 - استدل الشافعي رضي الله عنه في إثبات القافة بتقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم مجززا المدلجي على قوله إذ قال لما نظر إلى أسامه وزيد وهما تحت قطيفة وقد بدت منهما أقدامهما إن هذه الأقدام بعضها من بعض فاستبشر رسول الله وسره ما قاله في القصة المشهورة وموضع الاستدلال للشافعي تقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الرجل
409 - قال القاضي هذا فيه نظر فإن قول مجزز كان موافقا لظاهر الحال وكان المنافقون يبدون غمزة في نسبة زيد وأسامة قاصدين به أذى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان الشرع حاكما بالتحاق أسامه بزيد فجرى قول مجرزا منطبقا على وفق الشرع والظاهر والأمر المستفيض الشائع وهو بمثابة ما لو قال فاسق مردود الشهادة هذه الدار لفلان يعزوها إلى مالكها وصاحب اليد فيها فلو قرر الشارع مثل هذا الرجل على قوله لم يكن ذلك حكما منه بأقوال الفسقة في محل النزاع وقيام الحاجات إلى إقامة البينات
وإن انتصر منتصر للشافعي قائلا إنما استدل الشافعي باهتزاز رسول الله صلى الله ليه وسلم ومن تمام كلام الشافعي أن الرسول لا يسره إلا الحق فإذا سره قول مجزر تبين أنه من مسالك الحق قيل يمكن أن يحمل ذلك على علم رسول الله صلى الله عليه و سلم برجوع العرب إلى أقوال القافة والقيافة لم تزل عندهم مرجوعا إليها وهي من أبواب الكهانة وكان المغمز منهم فلما رأى ما يكذبهم سره ما ساءهم
410 - فأقصى الإمكان في ذلك أن الرسول لو لم يكن معتقدا قبول قول القائف لعده من الزجر والفأل والحدس والتخمين ولما أبعد أن يخطىء في مواضع وإن أصاب في مواضع فإذا تركه ولم يرده كان الكلام على الأنساب بطريق القيافة فهذا من هذا الوجه قد يدل على أنه مستند الأنساب فهذا هو الممكن في ذلك
وقد انتجز بنجازه أحكام الأفعال والأقوال
وأنا أرى على أثر ذلك أن أتكلم في شرع من قبلنا وأوضح مذاهب الناس فيه فإن من العلماء من قدر شرائع الأنبياء الماضية شرعا لنا إذا لم يثبت في شرعنا ناسخ له على التعيين
باب القول في التعليق بشرائع الماضين 411 - اضطربت المذاهب في ذلك فصار صائرون إلى أنا إذا وجدنا حكما في شرع من قبلنا ولم نر في شرعنا ناسخا له لزمنا التعلق به وللشافعي ميل إلى هذا وبنى عليه أصلا من أصوله في كتاب الأطعمة وتابعه معظم أصحابه
412 - وذهب ذاهبون من المعتزلة إلى أن التعلق بشرع من قبلنا غير جائز عقلا وبنوا مذهبهم على أن ذلك لو قدر لأشعر بحطيطة في شريعتنا ولتضمن ذلك أيضا إثبات حاجة إلى مراجعة من قلنا وهذا حط من مرتبة الشريعة وغض من منصب المصطفى عليه السلام
413 - وصار صائرون إلى أن ذلك لا يمتنع عقلا ولكنه ممنوع شرعا واعتصموا بما روى أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم بلغه أن عمر كان يراجع اليهود في أقاصيص بني إسرائيل فسأله رسول الله صلى الله ليه وسلم عن ذلك ونهاه عن صنيعه وقال
لو كان ابن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي
414 - والمختار عندنا أن العقل لا يحيل إيجاب اتباع أحكام شرع من قلنا إذا لم يرد في شرعنا ناسخ له وما ذكره بعض المعتزلة من أن ذلك غض من الدين
وحط من مرتبة الشريعة وتنفير من اتباع شرعة الحق ساقط لا حاجة إلى إيضاح بطلانه ولكن ثبت عندنا شرعا أنا لسنا متعبدين بأحكام الشرائع المتقدمة والقاطع الشرعي في ذلك إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يترددون في الوقائع بين الكتاب والسنة والإجتهاد إذا لم يجدوا متعلقا فيهما وكانوا لا يبحثون عن أحكام الكتب المنزلة على النبيين والمرسلين قبل نبينا عليهم الصلاة والسلام
415 - فإن قيل امتنع ذلك عليهم من جهة أن أهل الأديان السابقة حرفوا كتبهم وغيروها عن الوجوه التي نزلت عليها قلنا هذا باطل من وجوه أحدها أن ما ذكروه يجر مساقه إلى أنه لا يجب التتبع للشرائع المتقدمة لمكان التباسها واندراسها فكأن هؤلاء وافقوا المذهب وخالفوا في العلة
والوجه الثاني أنه لو كان لنا متعلق في شرع من قبلنا لنبهنا الشارع على مواقع التلبيس حتى لا يتعطل علينا مرجع الأحكام والوجه الثالث أنه كان أسلم من الأحبار المطلعين على مواقع التغيير طائفة منهم عبد الله بن سلام وقد استشهد الله به في نص القرآن وقال ومن عنده علم الكتاب وقال وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم وأسلم كعب الأحبار في زمن عمر وكان المنتهى في علوم الأديان والإحاطة بالكتب وبالجملة لم يثبت قط رجوع إمام في عصر من الأعصار إلى تتبع الأحكام من الملل السابقة فانتهض ما ذكرناه قاطعا شرعيا فيما نحاوله
416 - فإن تمسك فقهاؤنا بقوله سبحانه وتعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقوله ملة أبيكم إبراهيم وقوله شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا قيل المراد بمساق هذه الآى الرد على المشركين وبيان إطباق النبيين على الدعاء إلى التوحيد وكان إبراهيم صلى الله عليه و سلم على مسلكه المعروف رادا على عبدة الأوثان فلما بلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم جرت الآى المشتملة على ذكر إبراهيم صلى الله عليه و سلم في تأييد التوحيد والرد على عبدة الأوثان
مسألة
417 - مما ذكره الأصوليون متصلا بهذا الفن القول فيما كان النبي عليه السلام قبل أن يبعثه الله نبيا وهذا ترجع فائدته وعائدته إلى ما يجرى مجرى التواريخ ولكن مأخذه الأصول كما سنبين الآن
418 - فذهبت المعتزلة إلى أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن على اتباع نبي ولكن على شريعة العقل في اجتناب القبائح وإتيان المحاسن العقلية وزعموا أنه لو عهد متبعا قط لكان في ذلك غميزة فيه لما بعث نبيا
وهذا كلام مستندة أصلان باطلان أحدهما القول بشريعة العقل وقد أبطلناه والثاني أن ما ادعوه من إفضاء اتباعه إلى منقصة في منصبه فهذا قد تكرر منهم مرارا ووضح سقوطه
419 - وذهب ذاهبون إلى أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام كما قدمناه في المسألة السابقة وقد أوضحنا أنها واردة في التوحيد والتمسك بها في هذه
المسألة ليس بشيء قطعي وغاية ما يسلم لهم ظاهر معرض للتأويل وقد تقرر أن الظواهر لا يسوغ التمسك بها في محاولة القطعيات ثم يعارضها قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
420 - وذهب ذاهبون إلى أنه كان على شرع نوح لهذه الاية فإن تعلق بها صاحب هذا المذهب فاية إبراهيم تعارضها
421 - وصار طائفة ممن ينتمي إلى التحقيق إلى أنه كان على شريعة عيسى فإنها آخر الشرائع قبل شريعة المصطفى وكان الخلق عامة مكلفين بها وكان الرسول صلى الله عليه و سلم من المكلفين
وهذا غير سديد من جهة أنه لم يثبت عندنا أن عيسى عليه السلام كان مبعوثا إلى الناس كافة ولو ثبت ابتعاثه إليه فقد كانت شريعته دارسة الأعلام مؤذنة بالانصرام والشرائع إذا درست سقط التكليف بها
422 - وقال القاضي لم يكن عليه السلام على شرع وقطع بهذا ولكنه لم يأخذه من مأخذ المعتزلة حيث أحالوا ذلك عقلا بل القاضي قطع بجواز ذلك في العقل ولكن متعلقة فيما صار إليه أنه عليه السلام لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره لها لما بعث نبيا ولتحدث بذلك أحد في زمانه وبعده فإن الأمر ظاهر لا يكاد يخفى في مستقر العادات على ما سيأتي ذلك مستقصى في كتاب الأخبار وما يجب أن يتواتر منها
423 - والمختار عندنا أن الأمر في ذلك ملتبس فلا وجه لجزم القول في نفي ولا إثبات وما ذكره القاضي من اقتضاء العادة ظهور دين مثله عليه السلام فهو في
مسلكه بين ولكن يعارضه أنه لو لم يكن على دين أصلا لذكر فإن ذلك أبدع وأبعد من المعتاد مما ذكره القاضي فقد تعارض الأمران
والوجه أن يقال كانت العادة انخرقت برسول الله عليه السلام في أمور منها انصراف الناس عن أمر دينه والبحث عنه فهذا منتهى القول في ذلك
ونحن الان بتوفيق الله وتأييده نبتدىء الكلام في التأويل مستعينين بالله تعالى وهو خير معين
باب التأويلات 424 - التأويل رد الظاهر إلى ما إليه ماله في دعوى المؤول وإنما يستعمل إذا علق بما يتلقى من الألفاظ منطوقا ومفهوما والألفاظ تنقسم انقساما أولا إلى المجمل والمجمل الذي لا يستقل بإفادة المعنى وإلى ما ليس مجملا
فأما المجمل فلا يسوغ فرض الاستدلال به حتى يقدر احتياج المستدل عليه إلى تأويله فإذا حسب المستدل المجمل ظاهرا اكتفى المستدل عليه بإبدائه كونه مجملا فإذا اشتغل المستدل عليه بتفسيره كان مجاوزا حد النظر متعديا مسلك الجدال مائلا إلى الانحلال فليكتف ببيان الإجمال وفيه سقوط استدلال المستدل
فأما ما ليس مجملا فينقسم إلى النص الظاهر وقد قدمنا ما يتميز به أحد البابين عن الثاني ومسائل هذا الكتاب تفصل تلك الضوابط إن شاء الله تعالى
فالنص ما لا يتطرق إلى فحواه إمكان التأويل وينقسم إلى ما ثبت أصله قطعا كنص الكتاب والخبر المستفيض وإلى ما لم يثبت أصله قطعا كالذي ينقله الآحاد ولا مجال لتأويل في النوعين وإنما يتعلق الكلام فيهما بتقديم المراتب عند فرض المعارضات مثل أن يعارض نص متواتر نص الكتاب إن أمكن ذلك أو يعارض خبر ناص مستفيض خبرا مثله أو يعارض خبر نقله الآحاد ما ثبت أصله قطعا أو يعارض مثله والقول في ذلك يأتي مشروحا في آخر كتاب التأويل إن شاء الله تعالى
425 - والقول الوجيز الآن فيه على ما تقتضيه التوطئة والتمهيد أن
الناظر يقدم ما يقتضي العقل والشرع جميعا تقديمه عند تفاوت المراتب فإن استوت المراتب وتحقق التعارض والألفاظ نصوص فالكلام في ذلك يئول إما إلى الإسقاط وإما إلى الترجيح على ما يأتي في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
426 - فأما الظاهر الذي يتطرق إمكان التأويل إليه وإنما ظهوره في جهته مظنون غير مقطوع به فعليه ينبني هذا الكتاب
427 - والوجه تصدير هذا الفصل بأمرين
أحدهما إبانة بطلان الاستدلال بالظاهر فيما المطلوب منه القطع لأن ظهور معناه غير مقطوع به فلا يسوغ وضع الاستدلال به على ما هذا سبيله وإن قدر ذلك من مستدل أشعر بجهله بأحد أمرين إما أن يجهل كونه ظاهرا أو يعتقده نصا والأمر على خلاف ما يقدره وإما أن يجهل تمييز مواقع العلوم عن مجال الظنون والجاهل بالوجه الأول أحق بأن يعذر من الجاهل بالرتبة الثانية ثم إذا فرض ذلك في المستدل فليس من حق المستدل عليه أن يشتغل بالتأويل بل يكفيه أن يبين تطرق الاحتمال وخروج اللفظ عن القواطع
وإذا وضح ذلك التحق الظاهر في محل طلب العلم بالمجملات التي لا تستقل بأنفسها
428 - والثاني أن الظاهر حيث لا يطلب العلم معمول به والمكلف محمول على الجريان على ظاهره في عمله وقد قدمنا في أثناء الكلام في ذلك قولا بالغا وإن حاولنا تجديد العهد به فالمعتمد فيه والأصل والتمسك بإجماع علماء
السلف والصحابة ومن بعدهم فإنا نعلم على قطع أنهم كانوا يتعلقون في تفاصيل الشرائع بظواهر الكتاب والسنة وما كانوا يقصرون استدلالاتهم على النصوص ومن استراب في تعلقهم بالقياس لم يسترب في استدلالهم بالظواهر ولم يؤثر منع التعلق بالظواهر عمن بخلافه ووفاقه مبالاة وإن ظهر خلاف فاستدلالنا قاطع بالمسلك الذي ذكرناه ومستنده الإجماع وسبيل نقل الإجماع التواتر
429 - فإن قيل أنتم تعلمون وجوب العمل بالظاهر وربط العلم بالمظنون محال وهذا رددوه مرارا وبان مسلك الحق فيه إذ قلنا الظاهر بنفسه لا يثبت علما بوجوب العمل وإنما المفيد للعلم الإجماع فهو يقتضي العلم بوجوب العمل وليس يتطرق إليه ظن وهذا نجريه في خبر الواحد والأقيسة المظنونة وقد صدرنا الكتاب بذلك لما حاولنا بيان ماهية أصول الفقه فإذا تبين جواز التعلق بالظواهر في المحال التي ذكرناها وتأويل الظواهر على الجملة مسوغ إذا استجمعت الشرائط اتي سنصفها إن شاء الله تعالى ولم ينكر أصل التأويل ذو مذهب وإنما الخلاف في التفاصيل وإن قدرنا فيه خلافا فالمعتمد في الرد على المخالف إجماع من سبق فإن المستدلين بالظواهر كانوا يؤولونها في مظان التأويل وهذا معلوم اضطرارا كما علم أصل الإستدلال ثم إذا ثبت جواز التأويل فلا يسوغ التحكم به اقتصارا عليه من غير عضد له بشيء إذ لو ساغ ذلك لبطل التمسك بالظواهر واكتفى المستدل عليه بذكر تطرق الإمكان إلى الظاهر وهذا إن
قيل به يسقط أصل الاستدلال ويلحق جمال الإجمال بما يطلب فيه العلم المحض
فإذا وضح أن أصل التأويل مقبول وتبين أن التحكم به مردود فيفتح بعد ذلك الكلام في تفصيل التأويل وما يعضد كل قسم منه من فنون الدليل
430 - ولجميع مسائل الباب عندنا ضبط في النفي والإثبات هو المتبوع وإليه المرجع
والذي أراه في طريقة الإفهام رسم مسائل في التأويلات اضطرب العلماء فيها فقبلها بعضهم وردها آخرون ونحن نطردها على وجوهها ونبين المختار منها حتى إذا نجزت نبهنا بعد نجازها على سر الكتاب
مسألة
431 - استدل الشافعي رضي الله عنه في اشتراط الولى في النكاح بحديث عائشة فإنها روت عن النبي عليه السلام أنه قال
أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث
وتعرض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه لذكر محامل وتأويلات ونحن نشير إلى وجوهها على إيجاز حتى يفضي الكلام إلى مقصود هذه المسألة
432 - قال قائلون الحديث محمول على الصغيرة فأنكر عليهم وقيل لهم ليست الصغيرة امرأة في حكم اللسان كما ليس الصبي رجلا وألزموا سقوط التأويل على مذهبهم فإن الصغيرة لو زوجت نفسها انعقد النكاح صحيحا موقوف النفاذ على إجازة الولى وقد قال عليه السلام
فنكاحها باطل ثم أكد البطلان بتكرير الباطل ثلاثا وكان عليه السلام إذا أراد تأكيدا كرر ثلاثا
فقالوا وجه تسمية نكاحها باطلا أنه إلى البطلان مصيره عند فرض رد الولى
واستشهدوا بقوله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون قيل لهم نكاحها يتردد بين النفوذ عند تقدير الإجازة من الولى وبين الرد عند فرض الرد منه ولا يسوغ والحالة هذه التعبير عن إحدى العاقبتين مع تجويز الأخرى وإنما يعبر عما سيكون بالكائن فيما يكون لا محالة كالموت الذي إليه مصير كل ذي روح
433 - ومن تأويلاتهم أنهم يحملون لفظ الرسول على الأمة وزعموا أنه لا يمتنع تسمية الأمة امرأة كما لا يمتنع تسمية السيد وليا ورد ذلك عليهم بوجهين أحدهما أنه نكاح صحيح موقوف كما ذكرنا في الصغيرة ومنتهى الكلام فيه كما سبق والثاني أنه عليه السلام قال
فإن مسها فلها المهر ومهر الأمة لمولاها
434 - وزعم من يدعي التحقيق والتحذق من متأخريهم أن الحديث محمول على المكاتبة واستفادوا بالحمل عليها على زعمهم استحقاقها المهر ثم الأمر عند هؤلاء قريب في حمل المرأة على الأمة والولي على المولى ومن هذا المنتهى منشأ مقصود المسألة
435 - ذهب معظم الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إلى أن هذا الصنف من التأويل مقبول
436 - وقال القاضي هو مردود قطعا وعزا هذا المذهب إلى الشافعي قائلا إنه على علو قدره كان لا يخفى عليه هذه الجهات في التأويلات وقد رأى الاعتصام بحديث عائشة اعتصاما بنص وقدمه على الأقيسة الجلية وكان ذلك شاهد
عدل في أنه رضي الله عنه كان لا يرى التعلق بأمثال هذه المحامل
ومجموع ما نوضح به هذه المسألة طرق نعددها
437 - الأولى أنه عليه السلام ذكر أعم الألفاظ إذ أدوات الشرط من أعم الصيغ وأعمها ما و وأي فإذا فرض فرض الجمع بينهما كان بالغا في محاولة التعميم وقرائن الأحوال متقبلة عند الكافة فإذا قال من ظهرت به مخايل الضجر لمرضه أو إلمام مهم به لبوابه لا تدخل على أحدا فلو أدخل البواب كل ثقيل ولم يدخل أقواما مخصوصين زاعما أني حملت لفظك على الذين منعته لم يقبل ذلك منه
فإذا ابتدأ الرسول عليه السلام حكما ولم يجره جوابا عن سؤال ولم يضفه إلى حكاية حال ولم يصدر منه حلا للإعضال والإشكال في بعض المحال بل قال مبتدئا وإليه ابتداء الشرع بأمر الله وشرح ما أعضل من كتاب الله أيما امرأة فانتحى أعم الصيغ وظهر من حاله قصده تأسيس الشرع بقرائن بينة فمن ظن والحالة هذه أنه أراد المكاتبة على حيالها دون الحرائر اللواتي هن الغالبات والمقصودوات فقد قال محالا ولا يكاد يخفى أن الفصيح إذا أراد بيان خاص شاذ فإنه ينص عليه ولا يضرب عن ذكره وهو يريده ولا يأتي بعبارة مع قرائن دالة على قصد التعميم وهو يبغى النادر قال الشافعي الشاذ ينتحى بالنص عليه ولا يراد على الخصوص بالصيغة العامة
438 - الطريقة الثانية أن التعلق بالظاهر يقتضي ظهوره في مقصود المتكلم من جهة وضع اللسان ومن جهة العرف والتأويل الذي يصغى إليه ثم
يطالب بالدليل عليه وهو الذي ينساغ من ذي الجد من غير أن يتولج في فن الهزء والهزل واللغز وما يقع كذلك فهو مردود
وبيان ذلك بالأمثلة أن الرجل إذا قال رأيت أسدا فقد يعني السبع المعروف وقد يعني به رجلا عجوما مقداما فهذا مساغ لا ينافيه الجد ولكنه تأويل فلو قال رأيت أسدا ويعني رجلا دميما أو أبخر لم يكن ذلك وجها منساغا فإن هذا لا يطلقه أرباب اللغات على انتحاء مسالك التأويل ولا على الجريان على الظواهر فإن أراد مريد ذلك كان ملغزا وإن ادعى جاهل تأويل مثل هذا الوجه لم يقبل ذلك منه ومن الأمثلة التي ذكرناها أن من قال رأيت جمعا من العلماء ثم لما روجع فسر بقطيع من البقر ذهابا منه إلى أنها على علوم تتعلق بمصالحها ومضارها ومنافعها وكذلك لو فسره برؤية سفلة من الجهلة ثم زعم أنهم من العلماء لم يقبل ذلك ولم يعد من المحامل المسوغة وإذا قال القائل لا تمنع فلانا شيئا من مالي ثم فسره بكسرة أو شربة عد جاهلا أو هازلا
439 - ثم اختتم كلامه بطريقة ثالثة تعضد ما تقدم وتستقل بنفسها فقال فقد سلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم المخالف والمؤالف أنه كان على النهاية القصوى من الفصاحة ولا حاجة إلى الإطناب في إثبات هذا ولا يخالف من معه مسكة من العقل أن الحمل على ما ذكره هؤلاء يحط الكلام عن مرتبة الفصاحة والجزالة ويحل المتكلم به محل الحصر العيى الذي يعمم في غير غرض ويبتغي التخصيص من غير إشعار به وكل ما يتضمن إلحاق كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمستهجن الغث
فهو مردود على قائله
440 - ثم لما استكمل رضي الله عنه الطرق ختم كلامه بأن قال كل ما قدمته توطئة وتمهيد وضرب أمثال وأنا أعلم على الضرورة والبديهة أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يرد بقوله أيما امرأة المكاتبة دون غيرها
فهذا منتهى القول في هذا ولا مزيد على ما ذكره القاضي
441 - فإن احتج من يسوع هذا الفن بأن قال الإماء والمكاتبات داخلان تحت العموم عند فرض التمسك بظاهر العموم وكل ما يدخل تحت الظاهر في العموم لا يبعد تنزيل العموم عليه تخصيصا وهذا الذي ذكروه فإنه لا يعارض ما نبهنا عليه فليس المعتبر فيما يقبل ويرد أقيسة وتشبيهات وتلفيق عبارات ولكن إنما يسوغ في التأويلات ما يسوغه الفصحاء وقد قدمنا في صدر هذا المجموع انحسام مسلك القياس في اللغات فإن إرادة النوادر مع إرادة الظواهر ليست بدعا وكذلك إرادة بعض ما يظهر باللفظ العام ليس مستنكرا على شرائط ستأتي فأما إرادة الأقل الأخص باللفظ الأعم الأشمل فهو مردود بالوجه الذي قدمناه
442 - فإن قالوا التخصيص حال في تمييز حكم عموم اللفظ محل الاستثناء ثم يجوز إطلاق لفظ عام يعقبه استثناء لا ينفى إلا الشاذ الأخص فليسغ ذلك في التخصيص أيضا وهذا من الطراز الأول فإنه قياس وتشبيه وتلفيق عبارات مع معاندة القطع
ثم لا يجوز أن يصدر من الرسول عليه السلام مثل هذا الاستثناء وقد منع القاضي
مثله من غير الرسول عليه السلام على ما ذكرناه في مسائل الاستثناء ومن جوز ذلك من غير الرسول عليه السلام فهو في حكم النص المصرح به وإن جىء به في صيغة ركيكة والرسول منزه عن مثل ذلك فقد لاح الغرض من هذه المسألة
مسألة
443 - استدل الشافعي رضي الله عنه في اشتراط تبييت النية في صوم رمضان بقوله صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فذكر المخالفون أسئلة تداني ما اشتلمت عليه المسألة الأولى ونحن نعيدها على الإيجاز ونتعداها إلى فن آخر من التأويل المردود
444 - فمما ذكروه حمل الحديث على القضاء والنذر المطلق وهذا مردود بالمسالك المقدمة فإنه عليه السلام قال ابتداء لا صيام ولا النافية إذا اتصلت على حكم التبرئة باسم منكور وجاء الاسم بعدها مبنيا على الفتح كان بالغا في اقتضاء العموم فإذا قال المصطفى صلى الله عليه و سلم ابتداء لابناء على سؤال ولا تطبيقا للكلام على حال لا صيام فظن ظان أن الصوم الذي هو ركن الإسلام وهو القاعدة في الصيام لم يعنه ولم يرده وإنما أراد ما يقع فرعا للفرائض الشرعية كالمنذورات وفرعا للأداء كالقضاء فقد أبعد ونأي عن مأخذ الكلام وهلم جرا إلى استتمام الطرق المقدمة في المسألة الأولى
445 - وذكر أصحاب أبي حنيفة مسلكا آخر في التأويل وعزوه إلى الطحاوي وذكروا أنه كان يتبجح به وهو أنه قال أراد صلى الله عليه و سلم نهى الرجل عن
الاكتفاء بنية صوم الغد في بياض نهار اليوم فقال فعليه أن يؤخر النية إلى غيبوبة الشمس حتى يكون بإيقاع النية في الليل مبيتا وزعم هذا المؤول أن مسلكه هذا يجري في جميع أنواع الصيام فرضها ونفلها وهذا كلام غث لا أصل له وهو يحط من مرتبة الطحاوي أن صح النقل عنه
446 - والدليل على بطلانه وجهان قريبان أحدهما أن هذا اللفظ لو سمعه عربي ناشىء من منبع اللغة لم يسبق إلى فهمه النهي عن إيقاع نية صوم الغد في يوم قبله وبالجملة هذه صورة شاذة نادرة تجري في أدراج الكلام للوسواس يضعها المتكلفون وظاهر الخطاب ينزل على ما يفهمه المخاطبون فإن أنكر الخصم أن المفهوم من الخطاب ما ذكرناه سقطت مكالمته ولم يبق إلا أن يرد إلى حكم اللسان وتفاهم أهل التحاور وإن اعترف أن هذا هو الظاهر فحمل كلام الرسول عليه السلام على نادر شاذ باطل بالمسلك الذي ذكرناه
447 - والوجه الثاني أن هذا الفن إنما يذكر نهيا عن الذهول وتحذيرا من الغفلة واستحثاثا على تقديم التبييت وهذا يجري مجرى الفحوى التي لا ينكرها محصل فإذا حمل حامل ذلك على النهي عن التقديم على الليل كان ذلك نقيض مقصود الخطاب
448 - والكلام الوجيز فيه أن مقصود الخطاب الأمر بتقديم النية والنهي عن تأخيرها عن وقت التبييت وموجب ما ذكره النهي عن التقديم والأمر بالتأخير وليس تخيل ما ذكره هذا القائل في اليوم الذي يلي الغد بأولى من تخيله من يوم قبله بسنة
449 - واعلم هديت لرشدك أن هذه الفنون من الكلام ما كانت تجري في عصور العلماء الأولين وإنما أقدم عليها المتأخرون لأمرين أحدهما التعري عن
مأخذ الكلام والثاني الاستجراء على دين الله تعالى والتعرض لخرق حجاب الهيبة نعوذ بالله منه
450 - مما وجه على هذا الحديث من التأويل حمل النفي فيه على نفي الكمال وهذا أقرب قليلا إلى مسالك التأويلات ولكنه مردود من وجهين أحدهما أن حمل هذا اللفظ على نفي الكمال غير ممكن في القضاء والنذر وهما من متضمنات الحديث وإذا تعين حمل اللفظة على حقيقتها في بعض المسميات تعين ذلك في سائرها فإن الإنسان الفصيح ذا الجد لا يرسل لفظه وهو يبغي حقيقتها من وجه ومجازها من وجه
فإن قالوا ليس القضاء والنذر مقصودين كما ذكرتم قلنا نعم ولكن الشاذ لا يعني باللفظ العام تخصيصا واقتصارا عليه وانحصارا عليه ولا يمتنع أن يشمله العموم مع الأصول
والذي يحقق هذا أنه لو حمل لفظه على نوع من الصوم ثم حمل فيه على نفي الكمال لما كان اللفظ عاما أصلا وكان مختصا بنوع واحد وهو من أعم الصيغ كما تقدم تقريره والدليل عليه أن ما ذكروه من أن الرسول عليه السلام لم يرد القضاء والنذر ليس مذهبا لذي مذهب فإنه إذا امتنع قبول التأويل من غير دليل فلأن يمتنع من غير مذهب أولى
مسألة
451 - استدل الشافعي رضي الله عنه في نكاح المشركات بالقصص المشهورة في الذين أسلموا على العشر والخمس والأختين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لغيلان وقد أسلم على عشر نسوة ثم راجع الرسول عليه السلام في مفارقتهم أو إمساكهن
فقال عليه السلام
أمسك أربعا وفارق سائرهن وقال للذي أسلم على اختين
أمسك أيتهما شئت وفارق الاخرى
فجرت تلك الأقاصيص نصوصا عند الشافعي في أن الكفار إذا أسلموا على عدد من النساء لا يوافق حصر الإسلام فعليهم أن يمسكوا عدد الإسلام ويفارقوا الباقيات ولا يؤاخذون برعاية الأوائل والأواخر ولا يكلفون الجريان على أحكام التواريخ ووجه التمسك بين فإنه عليه السلام علم أنهم على حداثة العهد بالإسلام ولم يخبروا تفاصيل الأحكام ثم أطلق لهم الخيرة في إمساك من شاءوا على شرط رعاية عدد الإسلام
452 - فوجه المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة سؤالين ركيكين أحدهما يسقطه اللفظ فلتقع البداية به ومقصود المسألة السؤال الثاني فأما ما
يدفعه اللفظ فدعواهم أنه أمرهم أن يختاروا الأوائل وهذا
يدفعه قوله عليه السلام لصاحب الأختين
اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى وقال عليه السلام لبعضهم وقد أسلم على خمس
اختر أربعا وفارق واحدة قال صاحب الواقعة فعمدت إلى أقدمهن صحبة ففارقتها فلا حاجة إلى الإطناب في ذلك وهو على معاندة اللفظ
453 - فأما الثاني وهو المقصود الذي عقدت المسألة له فهو أنهم قالوا إنه عليه السلام أراد بقوله
أمسك أربعا أن يمسكهن ويجدد عليهم الأنكحة على موجب الشرع
وهذا عند المحققين سرف ومجاوزة حد وقلة احتفال بكلام الشارع فإن الرسول عليه السلام ذكر لفظ الإمساك أولا وموجبه الاستدامة واستصحاب الحال والثاني أن النقلة لم ينقلوا تجديد العقود بل رووا الحكايات رواية من لا يستريب أنهم استمروا في عدد الإسلام على مناكحتهم فيهن وكان المخاطبون على قرب عهد والرسول صلى الله عليه و سلم لا يخاطبهم إلا بما يقرب من أفهامهم والتعبير عن ابتداء النكاج بالإمساك بعيد جدا ناء عن المحامل الظاهرة وفي القصص أنهم جاءوا سائلين عن الفراق أو الإمساك فانطبق جواب رسول الله صلى الله عليه و سلم على سؤالهم ثم النكاح على الابتداء لا يختص بهن بل جوازه سائغ في نسوة العالم وقوله
أمسك أمر وما ذكروه تخيير فينتظم من جوامع الكلام ما يحل محل قرائن الأحوال التي تفضى إلى العلم بإرادة المتكلم
وهذا وإن كان يستدعي مزيد تقرير في النظر ففي هذا المقدار تأصيل الكلام والمحصل ذو المنة يورده إيرادا مقررا وإن أردنا أن نأتي بكلام قريب جدا يستوي في نيله و الإفهام به المتشدق البليغ وذو العي الحصر قلنا
454 - إن جحدا معاند إفضاء ما ذكرناه إلى الغرض نصا لم يجحد ظهور ما ذكرناه وغلبة الظن في صغو قصد الشارع إلى ما قررناه ولا خلاف بين العالمين بالظواهر أن تأويلاتها لا تقبل غير مقترنة بأدلة وغاية المتمسك بهذا المسلك أن يأتي بقياس مظنون ومعنى الظن في أنه يحسبه أنه منصوب الشارع ظنا منه وتقديرا وقد غلب على الظن مقصود الشارع في لفظه فما يغلب متصلا بلفظه على الظن أولى مما يغلب على الظن كونه منصوبا للشارع في فنون الأقيسة وهذا يقع من الظن بعيدا بدرجات عن الظن المختص بلفظ المصطفى عليه السلام
455 - فإن قيل كأنكم تبنون هذا على تقديم الخبر على القياس فتثبتون استواء الظنين ثم تقدمون إحدى المرتبتين وقد لا تساعدون على تقديم الخبر على القياس قلنا ما أهون إثبات هذا علينا وسنذكره مستقصى في كتاب الأخبار
ثم هذه المسألة لا تختص بهذا المأخذ فإن من يرى هذا الفن من التأويل يطرده في تأويل ظواهر القرآن والأخبار المتواترة وإن كان القياس لا يقدم على نصوص القران والسنة المتواترة
456 - والذي يقطع مادة الإشكال في ذلك أنا نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا إذا وجدوا ما يظهر عندهم قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه اكتفوا به ولم يميلوا إلىغيره ورأوا من يركن إلى القياس لإزالة ظاهر ما صح عندهم في حكم الراد لخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو تتبع المتتبع الأخبار التي رويت لهم فعملوا بها لوجدها ظواهر والجحد في هذا المقام الآن إنكار البديهة ومداره الضرورة ثم معتضد القياس عملهم به لا غير فإن أنصف الخصم علم أنهم كانوا لا يقيسون في هذه الحال وإن ركب رأسه وطرد شماسه لم يمكنه أن يثبت قياسهم في هذه الصورة ولهذا لا يطمع فيه إلا أخرق ولا شك أنهم ما قاسوا في كل محل
457 - فليتخذ الناظر هذا الفصل معتضدة الأقوى في هذه المسألة وأمثالها وهنالك استبان أن كل ما ظهر في قصد الشارع لم يجر مخالفة ظاهر قصده بقياس فلهذا لم يشتغل الأوائل المتقدمون بما أنشاه ناشئة الزمان من التأويلات
المزخرفة ولم يكن ذلك لغفلتهم عن أمثالها
مسألة
458 - مما يجريه أبناء الزمان في أدراج الاعتراضات ادعاء أمور من طريق الاحتمال من غير نقل فحاولوا بها مداراة الاستدلال
وهذا بمثابة قول بعض أصحاب أبي حنيفة في المسألة التي تقدمت في نكاح المشركات حيث قالوا لم يكن في عدد النساء حصر في ابتداء الشرع ولعل الذين أسلموا كانوا نكحوا في الشرك حين لا حصر وكانت تلك الأنكحة على الصحة ولما أسلموا كان الحصر مستقرا في الشرع فلم يبطل رسول الله صلى الله عليه و سلم أنكحتهم السابقة الموافقة في وقت وقوعها موجب الشرع ولم يقرر عليها بالكلية
459 - وسبيل الكلام على هذا الصنف أن نقول لم يثبت ما ذكروه من أحكام الإسلام في ابتداء الأيام ولا مبالاة بما جاءوا به فلفظ الرسول عليه السلام محمول على ما الشرع عليه الآن ومن قدر أمرا على مخالفة ما يصادفه الآن فدعواه من غير حجة مردودة عليه وهذا متفق عليه فإن أمثال هذه الاحتمالات لو طرقت إلى حكايات الأحوال وأقوال الرسول فيها لما انتظم الاستدلال بواحد منها فإن هذه الفنون المدافعة للاستدلال ممكنة في كل أصل
460 - فإن قيل أليس تأويل الظواهر مقبولا بالإحتمال قلنا ليس الاحتمال مقتضيا قبول التأويل ولكنا رأينا الأولين على الجملة يتمسكون بالتأويلات وكما
رأيناهم متفقين على التأويل مع التعويل على دليل يعضده رأيناهم غير مكتفين بهذه الإمكانات وهذا بمثابة دعوى النسخ من غير ثبت فإن من ادعى نسخا فقد ادعى ممكنا ولكن لا يقبل منه بالإجماع إلا بثبت يعول عليه
فإن نقل أصحاب أبي حنيفة من التواريخ الصحيحة أن الحصر لم يكن في ابتداء الإسلام فيعسر التمسك بتلك الأقاصيص وعلى المتمسك بها أن يثبت وقوعها بعد الحصر وإلا كان الاستدلال معرضا لإجمال واحتمال ومثل هذا الاحتمال مع ثبوت الأصل في حكايات الأحوال ينزل منزلة الاحتمال في صيغ الأقوال
461 - ولكن لو صح ما ذكروه انقدح وراءه نوعان من الكلام
أحدهما أنه إن استقام النقل فيما ادعوه وهيهات فهو مما ادعاه ناشئة الزمان في الحصر في العدد فأما الجمع بين الأختين فلم يصر أحد إلى أنه عهد مسوغا في صدر الشريعة وقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف معدود عند المفسرين من باب الاستثناء من غير الجنس والمراد من قوله إلا ما قد سلف ما سلف في الجاهلية قبل مبعث المصطفى صلى الله عليه و سلم والدليل عليه أنه قال إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا وكان إذا جرى على صيغته فصيفته تتضمن الإخبار عما مضى فهذا وجه
462 - والوجه الاخر أنا نقول لو صح ما ادعوه من صحة مناكح المشركين لكان قياس الشرع يقتضي أن يبطل جميعها عند ورود الحجر والحصر بالتدافع كما إذا نكح الرجل رضيعتين جميعا أرضعتهما امرأة وثبتت الأخوة بينهما فاستدامة نكاحهما ممتنعة وتخصيص ارتفاع النكاح بأحدهما لا سبيبل إليه فلزم تدافع
النكاحين فإذا سلموا أن طريان الحجر لا يوجب التدافع قام عليهم مسلك في القياس قبل لهم به كما ذكرناه في مسائل الفقه فليطرد الناظر مقصود هذه المسألة في أمثالها وليحمل الخصم على تصحيح النقل فيما يدعيه ولا يكتفي بمجرد الاحتمال أصلا
مسألة
463 - إن صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله
من ملك ذا رحم محرم فهو حر فلا يصح تأويل متبعي الشافعي إذا حاولوا حمل اللفظ على الذين هم عمود النسب وهم الأصول أو الفصول وهذا الفن مما لا يلفى في الزمان من يجحده وهو باطل قطعا عند ذوي التحقيق وهذه المسألة عبرة لأمثالها فليمعن الناظر النظر فيها مستعينا بالله تعالى
464 - فنقول قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم للتعميم واضح لائح في قوله
من ملك ذا رحم محرم فإن ذلك مما نقل عنه ابتداء لا في حكاية حال ولا جوابا عن سؤال ولا في قصد حل إعضال وكان يعتاد تأسيس الشرع ابتداء فإذا قال من ملك ذا رحم محرم تبين أنه أراد المحارم من ذوي الرحم أجمعين ولو أراد الاباء والأمهات والبنين وعلم تخصيصهم بهذه القضية لنص عليهم فإذا ذكر الأقارب ثم علم أنهم ينقسمون إلى المحارم وغيرهم فخص الحكم الذي نص
عليه بالمحارم من ذوي الأرحام تقرر أنه قصد بذلك الضبط والتشوف إلى ما يسميه أهل الصناعة الحد فكيف يستقيم أن يظن به عليه السلام أنه أراد الذين هم عمود النسب وجرى أيضا كلامه مجرى تعظيم أمر الرحم إذا انضمت إليه المحرمية فانتظم من مجموع ما ذكرناه ظهور قصد التعميم من الرسول فمن رام مخالفة قصده لم يقبل منه وإن عضده بقياس فمستنده ظن المستنبط أنه مراد الشارع وليس له في ألفاظه ذكر فما يظهر من لفظ الرسول عليه السلام كيف يترك بما يظنه القايس على بعد من لفظ الرسول صلى الله عليه و سلم
465 - والقول الضابط في ذلك أنه لو تقدم قياس مظنون على ظاهر من لفظ الرسول عليه السلام لاقتضى ذلك تقديم مرتبة القياس على مرتبة الخبر وسنبين أن الخبر مقدم على القياس
466 - والقدر المقنع فيها أن لو رددنا إلى عقولنا لما سفكنا الدماء المحقونة في أهبها ولما حللنا الأبضاع المعظمة بأقيسة مستندها ظنون ولكنا ألفينا صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم الأكرمين يقيسون في غير موارد النصوص وثبت عندنا بالقاطع السمعي أن الإجماع حجة فإذا وقع العمل عند القياس بإجماعهم والإجماع مقطوع به ثم كانوا لا يقيسون ما وجدوا خبرا وكان الراوي البدوي الموثوق به إذا روى خبرا وظهر لهم قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم في تعميم حكم لم
يعرجوا على التأويلات البعيدة لأقيسة تعن لهم
فإذا الألفاظ المأثورة على ثلاث مراتب عندنا
467 - المرتبة الأولى أن يلوح للمؤول أن الشارع لم يقصد التعميم بها فما كان كذلك فلا يسوغ الاستدلال بحكم العموم فيه ولا حاجة إلى التأويل فيه وهذا نضرب فيه أمثالا منها أن الرسول عليه السلام قال ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بنضح أو دالية ففيه نصف العشر فإذا استدل الحنفي بهذا الظاهر في إثبات العشر في كل ما تنبته الأرض كان ذلك مردودا عليهم فإن الرسول استاق كلامه هذا للفرق بين السيح والنضح لا للتعرض لجنس ما يجب فيه العشر فإذا ظهر أن هذا الفن من العموم لم يقصده الشارع وإن جرى في كلامه اللفظ الصالح له وهو ما سقت السماء فالاستمساك به في قصد التعميم باطل إذ ظهر من كلامه خلافه ومن أمثلة ذلك استدلال من استدل من أصحاب أبي حنيفة بقوله تعالى وثيابك فطهر أن قالوا كل ما يقع به التطهير مندرج تحت مقتضى الأمر قال الشافعي الغرض من الآية التعرض لأصل التطهير لا التعرض لأصل التخصيص والتعميم في آلات التطهير والذي يحقق ذلك أن الباحث عن آلة التطهير عند اتصال هذا الخطاب به سائل عن الشيء على وجهه والذي يحقق ذلك قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم استاق الاية لبيان كيفية الوضوء ولم يخصص الغسل بآلة مخصوصة مع اختصاصها بالماء وفاقا
فهذه مرتبة فلتقس على الأمثال التي ذكرناها ما في معناها
468 - والمرتبة الثانية أن يظهر قصد التعميم من الشارع عليه السلام فهذا لا يسوغ تأويله بقياس مظنون كما سبق
469 - والمرتبة الثالثة أن يرد اللفظ ولا يقترن به ما يدل على قصد التعميم ولا ما يدل على نقيضه فهذا ملتطم التأويل وموقف التشاجر بين المستدل باللفظ وبين مدعى التأويل بمعاضدة بالقياس
والقول في هذه المرتبة عندي هين مدركه والحكم الجم لى فيه أن الأمر في ذلك أيضا ليس متروكا سدى بل على الناظر أن يزن حكم ظنه قياسه ومبلغ ظنه في عموم اللفظ وضعا فإن رجحت كفة ظنه في القياس حكم يغالب ظنه وإن غلب الظن في الشق الآخر أتبع الحكم موجب اللفظ وإن استويا فقد قال القاضي يقف الناظر فلا يعمل بهما وأنا أقول يعمل بالخبر فإن الظنين إذا تساويا فالخبر مرجح لعلو المرتبة وهذا مثله قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات فإذا تمسك الشافعي به في الطهارة كان تمسكه به معرضا للتأويل على القانون المقدم فنتخذ هذه عبرة في مسائل الشرع
مسألة
470 - مما رده المحققون من طرق التأويل ما يتضمن حمل كلام الشارع من جهة ركيكة تنأى عن اللغة الفصحى فقد لا يتساهل فيه إلا في مضايق القوافى وأوزان الشعر فإذا حمل حامل آية من كتاب الله أو لفظا من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه و سلم على أمثال هذه المحامل وأزال الظاهر الممكن إجراؤه لمذهب اعتقده فهذا لا يقبل
471 - ومن أمثلة ذلك حمل الكسر على الجوار في قوله وأرجلكم إلى الكعبين من غير مشاركة المعطوف عليه في المعنى وهذا في حكم الخروج عن نظم الإعراب بالكلية وإيثار ترك الأصول لإتباع لفظة لفظة في الحركة وهذا ارتياد الأردأ من غير ضرورة وإذا اضطر الشاعر إليه في مضايق القوافي لم يعد ذلك من حسن شعره كما قال امرؤ القيس ... كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل ...
فقوله مزمل خبر عن قوله كبير أناس جار معه مجرى الصفة ووجه الكلام كبير أناس مزمل في بجاد ولكنه أتبع كسرة اللام الكسرات المتقدمة لما كانت القافية على الكسرة
472 - وقال من أحاط بعلم هذا الباب حمل قراءة من قرأ وأرجلكم بالفتح على المسح في الرجل والمصير إلى أنه محمول على محل رءوسكم أمثل وأقرب إلى قياس الأصول من حمل قراءة الكسر على الجوار فإن كل مجرور
اتصل الفعل به بواسطة الجار فمحله النصب وإنما الكسر فيه في حكم العارض فاتباع المعنى والعطف على المحل من فصيح الكلام ومن كلامهم يا عمر الجواد فإن المنادى المفرد العلم وإن كان مبنيا على الرفع فأصله النصب فرد الصفة إلى محله وأصله حسن بالغ
473 - فالمختار إذا في قوله وأرجلكم ما ذكره متبوع الجماعة وسيد الصناعة سيبويه إذ قال الكلام الجزل الفصيح يسترسل في الأحايين استرسالا ولا تختلف مبانيه لأدنى تغيير في معانيه وترى العرب المسح قريبا من الغسل فإن كل واحد منهما إمساس العضو ماء فإذا جرى في الكلام عطف مقتضاه التشريك وتقارب المعنيان لم يبعد إتباع اللفظ اللفظ وهو كقول قائهم ... ولقد رأيتك في الوغى متلقدا سيفا ورمحا ...
والرمح يعتقل ويتأبط ولا يتقلد ولكن التقلد والاعتقال حملان قريبان وهو مسكوت عنه في المعطوف فسهل احتماله ومنه قول الاخر ... فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجهلتين ظباؤها ونعامها ...
قال سيبويه وهذا الذي ذكرناه وجه لا يخرج الكلام عن أساليب البلاغة والجزالةوتبسط المتكلم واسحنفاره وعدم انصرافه عن استرساله في التفاصيل أحسن وأبلغ من خرم اتساق الكلام لدقائق في المعاني لا تحتفل بها العرب ثم عضد ما قاله بأن قال ذكر الرب تعالى فرض الرجلين ذكره فرض اليدين
وربط منتهى الغرض في الرجلين بالكعبين ربطه واجب منتهى فرض اليدين بالمرفقين ومن يكتفي بالمسح فلا معنى لذكر الكعبين عنده وهذا راجع إلى إطباق حملة الشريعة قبل ظهور الاراء على غسل الرجلين ولما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبين الوضوء غسل رجليه فاجتماع هذه الأمور في القرآن والسنة وفعل السلف أظهر من الجريان على ما يقتضيه ظاهر العطف
474 - ومال الكلام في المسألة راجع إلى أن من حمل كلام الشارع على وجه ركيك من غير ضرورة مخققه ولا قافية مضيقة جره ذلك إلى نسبة الشارع إلى الجهل باختيار فصيح الكلام أو إلى ارتياد الركيك من غير غرض وكلا الوجهين باطل
475 - فإن قيل بناء فعالل و فعاليل مما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وصرفه معدود من ضرورات الشعر وفي القران قراءات عصبة من القراء سلاسلا وأغلالا وقواريرا فما وجه صرف ذلك وليس صرفه مسوغا في سعة الكلام
قلنا اختلف أصحاب المعاني في ذلك فقال قائلون الألف في سلاسلا تضاهى إطلاق القوافى ثم قد تبدل العرب الألف نونا فتستروح إلى عينها استرواحها إلى استرسال الألف وفي الغايات ومقاطع الآيات بعض أحكام القوافى والصحيح أن الأصل صرف كل اسم متمكن وليس في صرف ما لا ينصرف خروج عن وضع الكلام وإنما منع الصرف في حكم تضييق طارىء على الكلام وأما كسر الجوار فخارج عن القانون كما سبق تقريره
ولسنا نلتزم الان تتبع كل مشكلة في القرآن وإنما غرضنا أن نبين أن الاحتكام بتأويل يتضن صرف الكلام إلى وجه ركيك في محل الظن غير سائغ من غير غرض
مسألة
476 - مما غلظ الشافعي فيه القول على المؤولين كل ما يؤدي التأويل فيه إلى تعطيل اللفظ
وخرج الشافعي على ذلك مسائل مستفادة ونحن نرى أن نفردها مسألة مسألة
477 - ونبدأ الان بالكلام على قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء الآية قال الشافعي أضاف الله تعالى الصدقات بلام الاستحقاق إلى أصناف موصوفين بأوصاف فرأى بعض الناس جواز الاقتصار على بعضهم ذاهبا إلى أن المرعى الحاجة وهذا في التحقيق تأسيس معنى يعطل تقييدات أمر الله تعالى فلو كانت الحاجة هي المرعية لكان ذكرها أكمل وأشمل وأولى من الأقسام التي اقتضاها اللفظ ومقتضاها الضبط
فإذا قال المؤول الغرض التعرض للحاجة في جهة من هذه الجهات كان معطلا مؤولا فإن الحاجة قد لا تستمر في بعض الأصناف كالعاملين عليها وكبعض الغارمين الذين يتحملون الحمالات لتطفئة النائرة والفتن الثائرة فقد بطل التعويل على الحاجة
وإن كان أبو حنيفة يرعى الحاجة في جميع الأصناف فالمصير إلى
الكفاية ببعض جهات الحاجات تحكم والنص مصرح بذكر جميع الحاجات في معرض التشريك والعطف والتمليك ولو كان المراد ما تخيله المؤول لكان وجه الكلام إنما الصدقات للفقراء والمساكين فاستبان أن ما صار إليه المعترضون تعطيل وليس بتأويل
478 - واحتج الشافعي بالوصية على هؤلاء ولم يظن أن أحدا يجسر أن يقدم فيها على منع وتمام كلامه أنه إذا تعين اعتبار لفظ الموصى واعتقاده نصا فيجب تنزيل لفظ الكتاب على مثل ذلك وقد أحدث بعض المتأخرين منعا في الوصية وزعموا أنها بمثابة الصدقات فيجوز صرفها إلى واحد من ذوي الحاجات وهذا باطل قطعا فإن الوصايا تتلقى من ألفاظ الموصين فإذا صرف واحد طائفة من ماله إلى جهات عددها كان كما لو صرفها إلى أشخاص معينين فهذا منتهى المراد في هذه المسألة
مسألة
479 - مما عده الشافعي من القبيل المقدم الكلام على قوله تعالى فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى فقال علق الله الاستحقاق بالقرابة ولم يتعرض لذكر الحاجة فاعتبر أبو حنيفة الحاجة ولم يشترط القرابة والذي ذكره مضادة ومحادة
وقد ينقدح عندي نوع من الكلام في ذلك وهو أن يقال حرمت الصدقات على ذوي القربى فكان فائدة ذكرهم في خمس الفىء والغنيمة إيضاح أنه لا يمتنع من صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات وهذا مما لا ينبغي أن يغتر
به فإن صيغة الآية ناصة على سبب الاستحقاق لهم على حكم التخصيص والتشريف والتنويه والتنبيه على عظم أقدارهم فمن أراد حمل ذلك مع ما ذكرناه على جواز أن يصرف إليهم مع معارضة هذا الجواز جواز حرمانهم فقد عطل فحوى الاية
وهذا يعظم وقعه عليهم مع مصيرهم إلى أن اشتراط الإيمان في رقبة الظهار زيادة على النص فإن الرقبة مطلقة والقرابة في الاية مطلقة فيلزمهم أن يعتقدوا اشتراط الحاجة معها في حكم الزيادة
والذي نختتم المسألة به وهو البالغ أنهم لو حتموا صرف شيء إلى القرابة وشرطوا الحاجة لقرب ما ذكروا بعض القرب فأما وأصلهم أن المخصوصين من نسب الرسول والدانين من شجرته كالعجم الطماطم فلا يبقى مع هذا لمذهبهم وجه
مسألة
480 - من فاسد تصرفات أصحاب أبي حنيفة قولهم في قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا تقديره فإطعام طعام ستين مسكينا قصدوا بهذا رد العدد إلى الطعام كي ينتظم لهم مذهبهم في جواز صرف الأطعمة إلى مسكين واحد
وهذا كلام خارج عن الضبط لا يخفى درك فساده على من شدا طرفا من العربية ونحن نذكر في ذلك على الإيجاز قولا بليغا
فنقول الإطعام مما يتعدى إلى مفعولين والفعل المتعدى إلى مفعولين ينقسم قسمين قسم يتعدى إلى مفعولين لا ينتظم منها مبتدأ وخبر لو فرض حذف الفعل
فتقول أعطيت زيدا درهما وأطعمت عمرا طعاما فلا يتسق من زيد والدرهم وعمرو والطعام مبتدأ وخبر عند تقدير حذف الفعل فلا تقول زيد درهم ولا عمرو طعام
والقسم الثاني ما يتعدى إلى مفعولين ينتظم منهما مبتدأ وخبر إذا حذف الفعل كقوله ظننت زيدا عالما فلو حذفت الفعل فقلت زيد عالم لكان كلاما مفيدا فما كان مفعولاه مبتدأ وخبرا تقديرا فإذا ذكر المتكلم أحد المفعولين تعين ذكر الثاني لما بين المفعولين من ارتباط الخبر بالمخبر عنه وما يختلف المفعولان فيه كالقسم المقدم فلا يمنع ذكر أحدهما والسكوت عن الثاني فتقول أعطيت زيدا وتقتصر وتقول أعطيت درهما ولا تذكر الموهوب له وقد تذكرهما والكل فصيح بالغ والسبب فيه أنه لا ارتباط لأحد المفعولين بالثاني من طريق الإخبار وإنما البناء للفعل والمخبر يتخير إن أحب أسنده إليهما وإن أحب أسنده إلى أحدهما فالتعويل على الفعل في باب الإعطاء ولهذا لا يسوغ تعطيل عمله وإن تقدم المفعولان في وجه الكلام فتقول زيدا درهما أعطيت فإذا تقدم مفعولا ظننت لم يقع فعل الظن موقعا فتقول زيد عالم ظننت لا يتجه غيره وإن وسطت الفعل تخيرت بين الإعمال والإلغاء فإن شئت قلت زيد ظننت عالم وإن شئت قلت زيدا ظننت عالما وإن قدمت الفعل فوجه الكلام الإعمال لظهور الاعتناء بالفعل إذا قدم
481 - فإذا ثبت ما نبهنا عليه من هذه القاعدة رجع بنا الكلام بعد هذا إلى قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا والمساكين معطون والطعام في هذاالتقدير المفعول الثاني فقد جرى الكلام على إظهار أحد المفعولين وترك الثاني لما في الكلام من الدليل عليه وقد أوضحنا أن ذلك سائغ غير ممتنع وإذا ظهر أحد المفعولين أشعر ظهوره بقصد المتكلم إلى تصديق الاعتناء به والاكتفاء في الثاني
بما في الكلام من الدلالة عليه وطعام المسكين مشعر بقدر سداده وكفايته فلم يجر للقدر المذكور ذكر ووقع الاعتناء بذكر عدد الاخذين
هذا بيان الكلام فمن عذيرنا ممن يقدر حذف المظهر المعتبر وإظهار المفعول المسكوت عنه وهذا عكس الحق ونقيض الصدق وتغيير قصد الكلام بوجه لا يسيغه ذو عقل وقد أجرينا في الأساليب والعمد مسائل ومعتمد المذاهب فيها الأخبار وتناهينا في الكلام عليها فمن أرادها فليطلبها في مواضعها كمسألة خيار المجلس وبيع العرايا والمصراة وغيرها
ومن أعظم ما انبسط الكلام فيه نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع البر بالبر في مسألة الحفنة بالحفنتين فلم نرسم هذه المسائل واكتفينا بإيرادها في مواضعها
مسألة
482 - إذا ظهر من رسول الله صلى الله عليه و سلم لفظ يدل على تعليل حكم فلا يرى الشافعي إزالة ذلك الظاهر بقياس وهذا كما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر قال للسائل
أينقص الرطب إذا يبس فقال نعم قال عليه السلام
فلا إذا فعلل منع بيع الرطب بالتمر بنقصان الرطب عند الجفاف عن التمر وهذا وإن لم يكن نصا في وضع اللسان في التعليل بحيث لا يقبل إمكان التأويل فهو ظاهر فيه فمن أراد أن يزيل هذا الظاهر بقياس كان ما يحاوله مردوا عليه والسبب فيه أن أصل قياسه إذا كان القياس قياسا معنويا معلل والقايس مطالب بإثبات العلة
وسيتعلق إذا طولب بمسلك من الظنون وظهور كلام الرسول في التعليل مقدم على ما يظهر في ظن المستنبط ويرجع بناء الكلام إلى تقديم مرتبة الخبر على مرتبة ظن القياس وهذا إذا لم يجد المؤول العاضد تأويله بالقياس لأصل قياسه كلاما يظهر للشارع في تعليل أصل القياس فإن وجد ذلك من كلام الشارع استوت المنزلتان والتحق ذلك بالتعارض وسيأتي قول بالغ في التعارض في كتاب الأخبار إن شاء الله تعالى
مسألة
483 - إذا وردت مناه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في عقود وظهر من شيم العلماء القائمين بالشرع حملها على الفساد فإذا اتفق التعلق بنهي عن العقد وهو على صيغ سائر المناهى فالشافعي لا يقبل حمله على الكراهية وهذا كنهيه عليه السلام عن نكاح الشغار فمن أراد حمله على الكراهية قيل له قد ثبت من عادات السلف الماضين حمل أمثال ما ذكرناه وتمسكنا به على الفساد وهذا الذي تعلقنا به على صورة سائر المناهى ونحن نعلم بما تحقق عندنا من شيم الماضين أن هذا لو نقل إليهم لجروا فيه على ما القوه في أمثاله فمن أراد مخالفة ما ظهر لنا منهم كان في حكم المخالف لهم
484 - وهذا عندي لا يبلغ في السقوط مبلغ ما تقدم من التأويلات في المسائل لا سيما والذي مثلنا به نواه في البيع والنكاح في وضعه بعيد الشبه بالبيع فلا يلزم من جريانهم على حمل المناهى في البيع القابل للفساد بالشروط الحكم بمثل ذلك عليهم في النكاح البعيد عن قبول الفساد بالشرط
وهذا الذي ذكرناه من المسائل لم نقصد بها حصر ما يفسد ويصح فإن
ذلك لا ينحصر ولكن رمنا بإيرادها الإيناس بها وإجراءها أمثالا وشواهد في تمهيد الأصول
485 - والضابط المنتحل من مسائل هذا الكتاب أن المؤول يعتبر بما يعضد التأويل به فإن كان ظهور المؤول زائدا على ظهور ما عضد التأويل به فالتأويل مردود وإن كان ما عضد التأويل به أظهر فالتأويل صائغ معمول به وإن استويا وقع ذلك في رتبة التعارض والشرط استواء رتبة المؤول وما عضد التأويل به فإن كان مرتبة المؤول مقدمة فالتأويل مردود وكل ذلك إذا كان التأويل في نفسه محتملا فإن لم يكن محتملا فهو في نفسه باطل والباطل لا يتصور أن يعضد بشيء
فليتخذ الناظر ما ذكرناه مرجوعه ومعتبره في جميع مسائل الشريعة
عود إلى ترتيب الكتاب
486 - وقد نجز مرادنا في التأويل تفصيلا وتأصيلا ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشتمل على ما مضى من الكتاب وعلى ما سيأتي منه حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية
فنقول والله المستعان
487 - مقصود هذا الفن ذكر أصول الفقه على حقائقها ومراتبها ومناصبها وتفاصيلها وجملها
فأصول الفقه أدلته كما صدرنا الكتاب به وما يحال عليه أحكام الشرع وتعتقد مرتبطا لها ثلاثة أقسام نطق الشارع والإجماع الحاصل من حملة الشريعة وهم علماؤها ومسالك الاستنباط من مواقع ألفاظ الشارع وهو القياس
فأما نطق الشارع فنعني به قول الله تعالى وقول الرسول عليه السلام وينقسم الصنفان إلى النص والمجمل والظاهر وقد سبقت مفصلة فيقع القول في مقتضيات الألفاظ فنا كبيرا وصنفا عظيما ويحوي العموم والخصوص وصيغة الأمر والنهي وما يلحق بهذه الأبواب وقد مضى جميع ذلك
ثم قول الرسول عليه السلام ينقسم إلى متواتر وإلى ما ينقله الاحاد كما سيأتي إن شاء الله تعالى
فأما قول الله فهو الذي أجمع المسلمون عليه من السور والآيات في القرآن وألحق بعض المتكلمين القراءات الشاذة بأخبار الآحاد وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى والحق المختار عندنا في كتاب الأخبار
وقد ذكرنا أحكام الألفاظ وبقى علينا تقاسيم أخبار الرسول عليه السلام ومواقعها والمقطوع به منها والظنون
ونحن الآن نفتح كتاب الأخبارعلى أشمل وجه وأوجزه فإذا انتجز عقبناه بالإجماع ثم نذكر بعده كتاب القياس ثم نعقبه بكتاب الترجيح ثم نذكر بعده النسخ ثم إذا انتجز ذكرنا الفتوى وصفات المفتين والاستفتاء وما على المستفتين وأوصاف المجتهدين ونختتم الكتاب بالقول في تصويب المجتهدين وهو غاية الغرض من هذا المجموع فنبتدىء الآن
باب الأخبار 488 - الأخبار صنف من أصناف الكلام وهو قائم بالنفس عند معتقد كلام النفس والعبارات تراجم عنه وقد ذكرنا في إثبات كلام النفس والغوائل المتطرقة إلى مثبتيه ما فيه مقنع للمعتبر ومضطرب للمتفكر
والخبر هو الذي يدخله الصدق والكذب ويتميز بذلك عن جميع أقسام الكلام كالأمر والنهي والاستخبار على ما قدمنا رأى كل فريق في تقاسيم الكلام
فرأى القاضي الصدق والكذب على التنويع بلفظ أو إذ ذلك أمثل من الإتيان بهما فإن من قال الخبر يدخله الصدق والكذب أو هم إمكان اتصالهما بخبر واحد وإذا ردد ونوع فقال ما يدخله الصدق أو الكذب فقد تحرز من ذلك والذي تقتضيه صناعة الحد ارتياد أبلغ الألفاظ وأبعدها عن الإيهام وأقربها إلى الأفهام والذي لم يأت بالكلام على صيغة التنويع قال لسنا نحاول حد خبر واحد وإنما نتعرض لجنس الخبر والصدق والكذب يجريان في جنس الخبر والقول في ذلك قريب
489 - فإن قيل لم سمى الأصوليون ما نقله الرواة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبارا ومعظمها أوامر ونواه
فأجاب القاضي عن ذلك بوجهين أحدهما أن حاصل جميعها آيل إلى الخبر فالمأمور به في حكم المخبر عن وجوبه وكذلك القول
في النواهي وبهذا دلت المعجزة على وجوب قبولها منه والمعجزة تدل على الصدق والسر فيه أنه عليه السلام ليس آمرا على الاستقلال وإنما الآمر حقا الله تعالى وموضع صيغ الأمر من المصطفى صلى الله عليه و سلم في حكم الأخبار عن أمر الله فهذا وجه تسمية جميع المنقول خبرا
490 - والوجه الثاني أنها سميت أخبارا لنقل النقلة المتوسطين وهم مخبرون عمن روى لهم والذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا لا يقولون إذا بلغهم أمر أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بل يقولون أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمنقول إذا استجد اسم الخبر في المرتبة الثالثة إلى حيث انتهى
ثم أول ما نبتديه القول في تقاسيم الأخبار إلى المتواتر والمنقول آحادا وإذا تم غرض القمسين نجز بنجازه معظم مقصود الكتاب
فلتقع البداية بالخبر المتواتر
القول في الخبر المتواتر
491 - الذي يقتضيه الترتيب أن نصدر الخبر بذكر شرائطه ونصف الخبر المتواتر ثم نذكر قول الناس فيه وفي إفضائه إلى العلم
فنقول ذكر الأصوليون شرائط الخبر المتواتر
منها أن يخبر المخبرون عما علموه ضرورة فإذ ذاك يتضمن العلم ويقتضيه فأما إذا أخبروا عما علموه نظرا فنفس خبرهم لا يقتضي علما وإن أخبر
أهل الزمان قاطبة بحدث العالم لم يفد خبرهم علما وكانت طلبات العقل قائمة إلى حين قيام البرهان والذين أخبروا عن كثير من النظريات زائدون على عدد النقلة تواترا
والسبب في ذلك أن النظر مضطرب العقول ولهذا يتصور الاختلاف فيه نفيا وإثباتا فلا يستقل بجميع وجوه النظر عاقل والعقلاء ينقسمون أولا إلى راكن إلى الدعة والهويني من برحاء كد النظر وإلى ناظر ثم النظار ينقسمون ويتحزبون أحزابا لا تنضبط على أقدار القرائح في انتهاء ذكائها واتقادها وبلادتها واقتصادها ومن أعظم أسباب اختلافهم اعتراض القواطع والموانع قبل استكمالها النظر فلا يتضمن أخبار المخبرين في مجارى النظريات صدقا ولا كذبا
492 - وقيد طوائف من الأصوليين هذا الركن الذي فيه نتكلم باشتراط إسناد الأخبار إلى المحسوس ولا معنى لهذا التقييد فإن المطلوب صدر الخبر عن العلم الضروري ثم قد يترتب على الحواس ودركها وقد يحصل عن قرائن الأحوال ولا أثر للحس فيها على الاختصاص فإن الحس لا يميز احمرار الخجل والغضبان عن احمرار المخوف المرعوب وإنما العقل يدرك تمييز هذه الأحوال ولا معنى إذا للتقييد بالحس
493 - والوجه اشتراط صدر الأخبار عن البديهة والاضطرار ثم لا نظر إلى تفاصيل مقتضيات العلوم الضرورية فهذا شرط
494 - ومما يشترط في الخبر المتواتر الذي يفضي إلى العلم صدوره عن عدد وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابا فاحشا فنقل أصحاب المقالات عن النظام أنه قال قد يتضمن إخبار الواحد العلم الضروري فلا يشترط على موجب هذا النقل عنده عدد ولا يتضح مذهبه الآن نبين حقيقته عند ذكرنا الحق المختار
495 - وذهب من سواه من الخائضين في هذا الفن إلى اشتراط العدد ثم تباينت مذاهبهم فيه فلم يغادروا على اختلاف الاراء عددا في الشرع وهو مرتبط حكم أو جار وفاقا في حكاية حال إلا مال ذاهبون بالاعتقاد إليه فذهب قوم إلى اعتبار الأربعين مصيرا إلى عدد الجمعة عند بعض الفقهاء وذهابا إلى أن هذا العدد هو الذي نزل فيه قوله تعالى يايها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين نزلت هذه الاية لما امن أربعون من الرجال وكملت العدة بإسلام عمر وذكر بعضهم عدد رجال بدر وهم ثلثمائة وثلاثة عشر وذكر آخرون عدد أهل بيعة الرضوان وهم كانوا ألفا وسبعمائة واعتبر آخرون السبعين لقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا وقال طوائف من الفقهاء ينبغي أن يبلغوا مبلغا لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد وهذا سرف ومجاوزه حد وذهول عند مدرك الحق
496 - وقال القاضي أعلم أن عددهم يزيد على اقصى العدد المرعى في بيانات الشريعة وزعم أن إخبار الأربعة لا يتضمن العلم فإنه عدد بينة الزنا ونحن نعلم أن البينات في تفاصيل الحكومات لا تثمر العلوم وما زال القضاة مكتفين بغلبات الظنون في أقضيتهم ثم لم يقطع القاضي بأن إخبار الخمسة يوجب العلم ولم ينفه وإنما
محل قطعه أن الأربعة لا يوجب إخبارهم العلم
وذكر القاضي رحمه الله في بعض مصنفاته أن الوجه في درك ذلك أن يمتحن اللبيب أخبار المخبرين عن الضروريات فلا يجد من نفسه العلم على عدة مخصوصة والمخبرون يتزايدون والممتحن في ذلك يحس وجدان نفسه وما يدركه من الثلج واليقين ويتخذ العدد الذي اتصل بأخبارهم علمه معتبرا
497 - والذي أراه أن هذه المذاهب منقسمة فمنها ما هو مصروف عن مدرك الحق ومنها ما هو محوم وليس بوارد ونحن نتتبع جميعها بالنقض حتى إذا بطلت لاح من منتهى بطلانها الحق المبين ونستفتح عند ذلك وجه الحق مستعينين بالله
498 - ونبدأ باتباع مذاهب أصحاب الأعداد ونتكلم على جميعهم بثلاثة أنواع من الكلام أحدها أن نعارض بعض المذاهب ببعض فلا يتجه عند تعارضها ترجيح بعض على بعض وإن عن ترجيح فليس ذلك من مدارك الحق المقطوع به فإن الترجيحات ثمراتها غلبات الظنون في مطرد العادة
499 - والثاني أنه لا يتعلق شيء من هذه الأعداد التي هي مستندات المذاهب بالأخبار وإنما هي قضايا واتفاقات جرت في حكايات أحوال وليس في العقل ما يقضى بمناسبة شيء منها لاقتضاء العلم فلا وجه لاعتبار شيء منها
500 - والوجه الثالث أن المطلوب من الخبر المتواتر وجدان الصدق على ثلج من الصدر في المخبر عنه وما من عدد تمسك به طائفة إلا ويمكن فرض تواطئهم على الكذب فكيف يفيد النظر إلى عدد ربط به مقصود غير مناسب للمطلوب من الخبر المتواتر مع إمكان تصور الخبر على حكم الخلف الذي يبغى سامع الخبر انتفاءه
وبالجملة الأعداد التي تمسك بها هؤلاء منقسمة إلى ما تقدر معتبرة في أقاصيص وحكاية أحوال على وفاق وكان لا يمتنع أن يقع أقل من تلك المبالغ أو أكثر وإلى ما ورد في أحكام لا تعلق لها بالصدق والكذب فلا معنى للتمسك بها
501 - وأما ما ذكره القاضي فهو موافق فيما أخرجه عن الضبط ونفاه حيث قال ليس الأربعة عدد التواتر فأما تردده في الخمسة فلا وجه له فإنا لا نبعد في مجرى الاعتياد التواطؤ على الكذب من خمسة وستة وليس ذلك من الأمور البديعة المعدودة من نوادر وقائع الزمان والذي جعله معتبرا من أمر البينات ليس بالمرضى فيما نطلبه فإن مما ورد الشرع به الاستظهار بمزيد العدد في الوقائع الخطيرة وقد يستظهر القاضي بعد تمام عدة البينة بالتماس مزيد في الشهود ثم ما يفرض من مزيد لا يفضى إلى العلم المقطوع به فلئن كان الخامس خارجا عن عدد البينات فهو داخل في الاستظهار المأذون فيه ولم نذكر هذا الفصل لنتخذه معولنا ولكنا عارضنا القاضي بما ينقض عليه مذهبه
502 - وأما من قال إن عدد التواتر لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد فقد أسرف فإن التواتر يقع بدون ذلك وإذا أخبر جمع كثير في بلدة عن واقعة
شاهدوها واستجمع إخبارهم الشرائط المرعية التي نحن في تفصيلها فيحصل العلم الضروري بإخبارهم وهم بعض من أهل البلدة والخروج عن إمكان العدد لا يعتبر شرطا وليس عدد معظم أهل الدنيا خارجا عن إمكان البشر
فإذا بطلت هذه المذاهب ولم يبق إلا مذهب النظام فسندرجه في مجاري الكلام المشتمل على اختيار الحق
503 - فإن قيل فماذا ترضون في ذلك
قلنا الخوض فيما نؤثره يستدعي تقديم أمر وهو أن العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها ولا سبيل إلى حجدها إذا وقعت وهذا كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل ونشط الثمل وعضب الغضبان ونحوها فإذا ثبتت هذه القرائن ترتب عليها علوم بديهية لا يأباها إلا جاحد ولو رام واجد العلوم ضبط القرائن وصفها بما تتميز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلا فكأنها تدق عن العبارات وتأبى على من يحاول ضبطها بها
وقد قال الشافعي رحمه الله من شاهد رضيعا قد التقم ثديا من مرضع ورأى فيه اثار الامتصاص وحركات الغلصمة وجرجرة المتجرع لم يسترب في وصول اللبن إلى جوف الصبي وحل له أن يشهد شهادة باتة بالرضاع ولو أنه لم يبت شهادته في ثبوت الرضاع ولكنه شهد على ما رأى من القرائن وأطنب في وصفها واستعان بالوصافين المعرفين فبلغ ذكر القرائن مجلس القاضي فلا يثبت
الرضاع بذلك لأن ما سمعه القاضي وصف لا يبلغ مبلغ العيان والذي يفضي بالمعاين إلى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الوصافين ولو قيل لأذكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا افصل بين حمرة الخجل وحمرة الغضب وبين حمرة المرعوب لم تساعده عبارة في محاولة الفصل فإن القرائن لا تبلغها غايات العبارات
504 - فإذا تمهد ذلك قلنا
لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود وعدد معدود ولكن إذا ثبتت قرائن الصدق ثبت العلم به فإذا وجدنا رجلا مرموقا عظيم الشأن معروفا بالمحافظة على رعاية المروءات حاسرا رأسه شاقا جيبه حافيا وهو يصيح بالثبور والويل ويذكر أنه أصيب بوالده أو ولده وشهدت الجنازة ورؤى الغسال مشمرا يدخل ويخرج فهذه القرائن وأمثالها إذا اقترنت بإخباره تضمنت العلم بصدقه مع القطع بأنه لم يطرأ عليه خبل وجنة والذي ذكره النظام ما أراه إلا في مثل هذه الصورة فإنه لا يخفى على غبي من حثالة الناس أن الواحد قد يخبر صادقا وقد يخبر كاذبا فلا تقع الثقة بأخباره
ولكن لعله قال لا يبعد أن يحصل الصدق بإخبار واحد فعزى إليه جزم القول في ذلك مطلقا وليس من الإنصاف نسبة رجل من المذكورين إلى الخروج عن المعقول من غير غرض
505 - وإذ ذكرت إمكان حصول العلم بصدق مخبر واحد فإنى أفرض تخلف العلم بالصدق عن إخبار عدد كثير وجم غفير إذا جمعتهم إيالة وضمنهم في اقتضاء الكذب حالة فإن الملك قد يواطىء قواد الجند في مكيدة ليواطئوا بالمترتبين في جملتهم وغرضه إخفاء أمره ليشن غارة فيقع التواطؤ على الكذب فيما أشرنا
إليه ولا تعويل على العدد بمجرده أصلا
ولكن إذا انتفى ما ذكرناه من تقدير جامع على التواطؤ وبلغ المخبرون مبلغا لا يقع في طرد العادة اتفاق تعمد الكذب فيهم ولا يجري ذلك من امثالهم سهوا وغلطا أيضا فتصير حينئذ الكثرة مع انتفاء أسباب التواطؤ قرينة ملحقة بالقرائن التي ترتبت عليها العلوم فالعدد في عينه ليس مغنيا إذ يتصور معه تقدير حالة ضابطة وإيالة حاملة على الكذب رابطة للكذب
506 - وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها ويقضى العجب من الاطلاع عليها ويتنبه لسبب اختلاف الاراء فيها ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير
507 - أما النظام فإنما نظر إلى إمكان الصدق مع القرينة وإن اتحد المخبر ولم يطرد ذلك في كل أحد
508 - ونقل النقلة عن السمنية أنهم قالوا لا ينتهى الخبر إلى منتهى يفضي إلى العلم بالصدق وهو محمول على أن العدد وإن كثر فلا يكتفي به حتى ينضم إليه ما يجري مجرى القرينة من انتفاء الحالات الجامعة
509 - وذهب الكعبي إلى أن العلم بصدق المخبرين تواترا نظرى وقد كثرت
المطاعن عليه من أصحابه ومن عصبة الحق والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت إيالة جامعة وانتفائها فلم يعن الرجل نظريا عقليا وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج وليس ما ذكره إلا الحق
510 - وظن ظانون أن العدد معتبر فانقسموا قسمين فاختبط قوم ولم يجدوا متعلقا عقليا فارجحنوا إلى أعداد سمعية وكان هؤلاء أبعد البرية عن درك الحق
وتفطن آخرون لبطلان هذا المأخذ مع الاصرار على التشوف إلى العدد فغلا غالون فقالوا هم الذين لا يحويهم بلد وهذا كلام ركيك واقتصد القاضي فضبط ما رآه دون عدد التواتر وبقى على تردد في عدد التواتر
511 - ومن عجيب الأمر وهو خاتمة الكلام ما أبديه الان قائلا الكثرة من جملة القرائن التي تترتب عليه العلوم المجتناة من العادات مع انضمام انتفاء الإيالات عنها وكل قرينة تتعلق بالعادة يستحيل أن تحد بحد أو تضبط بعد وما عندي أن ذلك يخفى على المستطرفين في هذا الفن فليت شعري كيف تشوفوا إلى ضبط ما يستحيل ضبطه ثم اختلفوا وتقطعوا
512 - وأنا أقول المحكم في ذلك العلم وحصوله فإذا حصل استبان للعاقل ترتبه على القرائن فإن العلم في العادة لا يحصل هزلا وقد يختلف ذلك باختلاف الوقائع وعظم أخطارها وأحوال المخبرين وهذا هو المنتهى الذي ليس بعده مطلب لمتشوف
ونحن نذكر بعد ذلك مجامع من كلام الناس في شرط التواتر وراء ما ذكرناه بعضها قريب مقتصد وبعضها باطل
513 - فمما ذكره الأصوليون في شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة وعنوا به أن العصور إذا تناسخت فلا يكفي توافر الشرائط وكمال العدد في طرف النقل من الرسول صلى الله عليه و سلم مثلا بل ينبغي أن يدوم ذلك في كل عصر وقد ينقلب التواتر احادا وقد يندرس ما تواتر دهرا على ما سيأتي ذلك مشروحا
فالمتواتر من أخبار الرسول صلى الله عليه و سلم في حقوقنا ما اطردت الشرائط فيه عصرا بعد عصر حتى انتهى إلينا وهذا لا خفاء به ولكنه ليس من شرائط التواتر وحاصل ذلك أن التواتر قد ينقلب احادا وليس الأمر كذلك ولكنه من تفاصيل القول فيما يتواتر وينقلب احادا وليس من شرائط وقوع التواتر
514 - وذكر بعض أصحاب المقالات عن اليهود أنها اشترطت في التواتر أن يكون في المخبرين أصحاب ذلة وصغار وزعموا أنه إذا كان أصحاب الأخبار أصحاب الاختيار ولم يختلط بهم أقوام هم تحت صغار الانتهار فقد يظن بذوي الاختيار الاستجراء على الكذب
وهذا ساقط فإنا على اضطرار نعلم أن الجمع العظيم مع رعاية القرائن المذكورة إذا أخبروا عن واقعة عاينوها نعلم صدقهم وإن لم يكن من جملتهم أهل ذلة ومثل هذا لا يعارضه تشكيك المتخيلين وما تشبثوا به من اجتراء أهل الاختيار على الكذب معكوس عليهم بإمكان حملهم على الكذب انتهارا وإجبارا
515 - والجملة في ذلك أن التواتر من أحكام العادات ولا مجال لتفصيلات الظنون فيها فليتخذ الناظر العادة محكمة
وقد أتى هذا المقدار على أسرار لا تحويها أسفار وهو على إيجازه لا يغادر وجها من البيان تمس إليه الحاجة وينزل كل كلام وراءه كالفضل المستغنى عنه
فصل في تقاسيم الأخبار 516 - ذكر الأئمة رضي الله عنهم تقاسيم الأخبار وقالوا إنها ثلاثة أقسام
أحدها ما يقطع بصدقه والثاني ما يقطع بكذبه والثالث مالا يقطع فيه بواحد منهما
517 - فأما ما يقطع بصدقه فمنه ما يوافق المعقول ثم المعقول ينقسم إلى ضروري مهجوم عليه وإلى نظري يوصل إليه صحيح النظر فأما الخبر عن الضروري فكقول القائل الضدان لا يجتمعان وكإخبار المخبر عن المحسوسات ونحوها من البدائه وأما الخبر عن النظري فكقول القائل العالم حادث مفتقر إلى صانع مختار إلى غير ذلك
518 - ومما يتخالج في الصدر من هذا القسم أن المعترض قد يعترض فيقول خير المخبر في الفنون التي ذكرتموها ليس مقتضيا صدقا وإنما السبيل المفضى إلى درك المخبر به نظر العقول في ضرورتها والأمر في ذلك قريب فإن الغرض منه عد ما يوصف بالصدق من الأخبار وما ذكرنا بهذه الصفة ومما يحكم بصدقه ما يقتضي اطراد العادة موافقته وهو الخبر المتواتر الذي سبق وصفه ووضح أن تلقى الصدق منه مستند إلى مستقر العادة والقرائن العرفية
519 - وذكر الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله قسما اخر بين التواتر والمنقول آحادا وسماه المستفيض وزعم أنه يقتضي العلم نظرا والمتواتر يقتضيه ضرورة ومثل ذلك المستفيض وما يتفق عليه أئمة الحديث
وهذا الذي ذكره مردود عليه فإن العرف واطراد الاعتياد لا يقضي بالصدق فيه ولا نرى وجها في النظر يؤدي إلى القطع بالصدق نعم ما ذكره مما يغلب على الظن الصدق فيه فأما أن يفضي إلى العلم به فلا
520 - وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله الخبر الذي تلقته الأئمة بالقبول محكوم بصدقه وفصل ذلك في بعض مصنفاته فقال إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد وإن تلقوه بالقبول قولا وقطعا حكم بصدقه
521 - قال القاضي لا يحكم بصدقه وإن تلقوه بالقبول قولا وقطعا فإن تصحيح الأئمة للخبر مجرى على حكم الظاهر فإذا استجمع خبر من ظاهره عدالة الراوي وثبوت الثقة به وغيرها مما يرعاه المحدثون فإنهم يطلقون فيه الصحة ولا وجه إذا للقطع بالصدق والحالة هذه
ثم قيل للقاضي لو رفعوا هذا الظن وباحوا بالصدق فماذا تقول فقال مجيبا لا يتصور هذا فإنهم لا يتوصلون إلى العلم بصدقه ولو قطعوا لكانوا مجازفين وأهل الإجماع لا يجتمعون على باطل
522 - ومن أقسام الصدق مدلول المعجزة والتحق به صدق النبي وصدق كل من صدقه النبي عليه السلام
523 - فأما القسم الثاني من الأقسام الثلاثة فهو ما يقطع بكونه كذبا
وهو متنوع فمنه ما يخالف المعقول ضرورة أو نظرا وهو مناقض لما يوافق المعقول في القسم الأول
ومنه ما يجري على وجه يكذبه حكم العادة وهذا يتفنن فنونا منها
أن يخبر آحاد بوقوع حادثة عظيمة حكم العادة فيها أن تشيع لو وقعت فإذا لم تشع تبين كذب المخبرين وهي كإخبار أقوام من الآحاد عن مقتلة هلك فيها أمم في البلدة على قرب من العهد وكالإخبار عن دخول ملك صقعا فهذا وما في معناه حكم العرف فيه الشيوع وهذا من الأصول العظيمة التي تستند إليها امور خطيرة وتتوجه فيها غائلة هائلة ونحن نعددها ونأتي بمجامعها إن شاء الله تعالى
524 - فمما نبينه على ذلك إيضاح بهت الروافض في ادعاء النص على على كرم الله وجهه في الإمامة فإن هذا لو كان لما خفى عن أهل بيعة السقيفة ولتحدثت به المرأة على مغزلها ولأبداه مخالف أو موالف وبهذا المسلك يتبين بطلان قول من يقول إن القرآن الكريم قد عورض فإن ذلك لو جرى لما خفى وبه يتبين فساد قول العيسوية إذ قالوا في التوراة إن موسى آخر مبعوث فإن ذلك لو كان لذكره أحبار اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما أبدوا عنه معدلا إلى تحريف نعت رسول الله عليه السلام وتبديل الأقرن
بالأبلج والأدهم بالأشقر إلى غير ذلك من تحريفاتهم
525 - والقول الواضح في ذلك أن مسلك العلم بصدق الخبر المتواتر على ما سبق وصفه أن المخبرين لا يتواطئون عند زوال القرائن الضابطه والايالات الحاملة على التواطؤ ويئول مستند القول إلى مطرد العرف وهذا المسلك بعينه مطرد في شيوع الفنون التي ذكرناها
526 - ثم ما يقضى العرف فيه بالشيوع ينقسم فمنه ما يثبت على الشيوع عند الوقوع وينقله المخبرون تواترا زمنا ثم يتناقص اهتمام النقلة بنقله حتى ينتهي إلى نقل الآحاد وقد يفضى طول الأمد إلى دروسه ومنه ما يتمادى زمان التواتر فيه إذا قامت في النفوس دواعي نقله
والقسم الأول يمثل بدخول ملك بلدة أو ما ضاهاها والقسم الثاني يمثل بالأمور الدينية فإن همم أصحاب الدين متوفرة على نقل الجليات فيه فإن وهي فبالحرى أن يتداعى إلى الأخبار الدينية الدروس
527 - ومما يتعلق بذلك أن الجمع العظيم إذ تواطئوا على الكذب لامر إيالى فإن كذبهم يستبين على ممر الزمان في حكم العرف وينكشف الغطاء فيه على قرب
528 - فهذه الأصول مهدناها وبينا ما يستند من أمور الدين إليها
ونحن نوجه الآن أسئلة يتعين الاعتناء بالبحث عنها ونذكرها أولا ثم نتعقبها بالكلام عليها إن شاء الله
529 - فمنها أن حجة الوداع كانت من أظهر الوقائع وقد اختلف الرواة في حج رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقل طائفة أنه أفرد ونقل اخرون أنه قرن
ومنها أن انشقاق القمر كان من أعظم الايات ثم لم يثبت النقل فيه تواترا على أنه أمر ديني
ومنها وهو أعوصها إفراد الإقامة وتثنيتها فإن بلالا كان يقيم بعد الهجرة إلى انقلاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رضوانه في اليوم والليلة خمس مرات ثم اختلف النقلة فيه وغاية بعض العلماء أن يثبت ظهور رواياتهم ومحل الإشكال أنه كيف لم ينقل تواترا
530 - فهذه الأسئلة يتعين الاعتناء بالانفصال عنها وتنزيلها محالها
فأما إحرام رسول الله عليه السلام فسبب التردد في نقله أنه صلى الله عليه و سلم
كان على تردد في أمره وقيل إنه مطلقا ينتظر الوحى فنزل عليه جبريل ان يجعله حجا هكذا رواه جابر بن عبد الله وهو أحسن الرواة سياقا للرواية وهذا إلى علم الصحابة بأن الإفراد والقران جميعا مسوغان ولا يبعد في حكم العادة عدم الاعتناء بالأفضل والأكمل ولا يمتنع أن يلتحق بما ذكرناه في أثناء الكلام وهو ما يقتضى العرف إشاعته أولا مع إفضاء الأمر إلى الدروس على قرب وليس هذا ببعيد في السبر
وبالجملة ما ذكرناه من حكم الشيوع متلقى من ضرورات العقول فليس فيه مراء فإن عورضنا بواقعة وجهل السائل فيها جريانها على خلاف الأصل الممهد لم يقبل ذلك منه قطعا واعتقد في الواقعة خروجها عن حكم القاعدة ومباينتها لها في وجه ثم الخيرة إلينا أن أحببنا اقتصدنا على إجمال ذلك وإن أحببنا تكلفنا محملا يقتضي الخروج عن حكم العرف ولا سبيل إلى تشكيك الأنفس
531 - فأما انشقاق القمر فذهب بعض علماء الإسلام إلى أن معنى قوله تعالى وانشق القمر أنه سينشق عند قيام الساعة وشهد لذلك ذكره مقترنا باقتراب الساعة والشيء إذا تناهى قربه يقام الماضي فيه مقام المستقبل قال الله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه معناه سيأتي أمر الله وقد مال الحليمي إلى هذا المذهب ويمكن أن يقال انشقاق القمر اية ليلية لعله جرى والخلق نيام والمتيقظون في أكنان لا يترقبون القمر وإن لحظة لاحظ وفاقا فغير بدع أن يحمله على تشعب في أشعة البصر وانعراج عن الاستداد فهذا وجه التكلف فيه فإن وقع الانشقاق فلا محل لعدم الشيوع فيه إلا ما ذكرناه والتعويل على ما سبق من أن الأمر الضروري لا تخرمه التخييلات
532 - وأما أمر الإقامة وهو من أغمض الأسئلة فإنها من الشعائر الجلية المتكررة فلم ينقدح عند القاضي وجه في عدم الشيوع إلا أنه قال لعله كان
يثنى مرة ويفرد أخرى فلم يشع واحد منهما وهذا قد يعترض عليه وجوب الشيوع في أن بلالا رضي الله عنه كان يفعل تارة هكذا وتارة هكذا ثم المعتمد عندي في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم هونت أمر الإفراد والتثنية فلم يعتنوا بالإشاعة فإذا أشاعوا أفضى إلى الدروس وليس ذلك بدعا فيما ليس من العزائم وهذا تنضم إليه بدع ثارت مع تواتر من أصحاب سلطنة واقتهار فإنه جرى من اخر أيام على كرم الله وجهه إلى قريب من مائة سنة دواه تشيب النواصي واستجرأ على تغيير ما كان منوطا بالأمراء وكانت الجماعة وإقامة شعائرها من أهم ما يهتم به الأمراء فلعل الشيوع على حكم العادة كان قد أثبت ثم ألهى الناس عنه ما أحدثه النابغون وحقنا أن نحكم الأصول فيما نأتي ونذر ولا نسلك بمسلك الحقائق ذبا عن مذهب
533 - فإن زعم زاعمون أن ما ذكرتموه يتوجه في النص على على رضي الله عنه قلنا لو كان لظهر يوم السقيفة فإن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ما كانت أيدت بشوكة قاهرة وإنما كان الأمر فوضى وهذا واضح وأيضا فإن أمر الولايات من أخطر الأشياء في العادات ولا تتشوف النفوس لنقل شيء تشوفها إلى ما يتعلق بالولايات ففيها تطير الجماجم عن الغلاصم وتتهالك النفوس في
الملاحم وهذا مطرد في أحكام العادات وفي عرف أهل الديانات والولايات
وأما الإقامة فشعار مسنون ليس بالعظيم الوقع في العرف والشرع وقد يمر بالناس أيام لو روجعوا عن كيفية الإقامات في الجماعات لم يذكروها
534 - ومما يلزم من هذا الفن اضطراب الرواة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح مكة عنوة وصلحا وهذا قريب فإن أصل دخوله عليه السلام مع أكمل العدد والعدد منقول متواترا ولا شك أنه عليه السلام لم يلق قتالا والأمر وراء ذلك تقديرات تختبط فيها النقلة فلم يلزم مع تمادى الأمر وطول الزمن استمرار حكم الشيوع فيها
وقد نجز ما حاولناه في هذا القسم إذ قلنا كل خبر يخالفه حكم العرف فهو كذب
535 - ومما نذكره من أقسام الكذب أن يتنبأ متنبىء من غير معجزة فيقطع بكذبه وهذا مفصل عندي
فأقول إن تنبأ متنبىء وزعم أن الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهو كاذب فإن مساقه مفض إلى تكليف ما لا يطاق وهو الأمر بالعلم بصدقه من غير سبيل مؤد إلى العلم فأما إذا قال ما كلف الخلق اتباعي
ولكن أوحى إلى فلا يقطع بكذبه
536 - فإن قيل من أصلكم القول بالكرامات الخارقة للعادات فإذا أخبر المخبر أن جبلا يقلع له من أصله فهذا إخبار يخالف حكم العرف والعادة ويلزم منه أن يقال أخبرنا مخبر ونحن في كن أن الجبل المظل القريب منا قد يقلع الآن ينبغي أن يجوز صدقه الآن حملا على الكرامة وهذا يهدم أحكام العرف وما يتلقى منه
قلنا هذا مما نستخير الله فيه فلا وجه للتشكيك في كذب هذا المخبر وإنما تجوز الكرامات وقوعا عند عموم انخراق العادات ومصير الأمر إلى حالة لا يستبعد أهل العادة صدق المخبر فيما يخبر عنه فلينعم المنتهى إلى هذا الفصل نظره وليتدبر غائلته بالبدل
537 - فأما القسم الثالث فهو الذي لا يقطع فيه بالصدق ولا الكذب وهو الذي نقله الاحاد من غير أن يقترن بالنقل قرينة تقتضي الصدق أو الكذب على ما سبقت الإشارة إلى القرائن فهذا الصنف لا يفضى إلى العلم بصدق المخبر ولا يقطع بكذبه أيضا
ونحن نسعين بالله ونستفتح الآن القول في أخبار الآحاد والله الموفق للسداد
أخبار الآحاد
مسألة
538 - ما ذهب إليه علماء الشريعة ومفتوها وجوب العمل عند ورود خبر الواحد على الشرائط التي سنصفها ثم أطلق الفقهاء القول بأن خر الواحد لا يوجب العلم ويوجب العمل وهذا تساهل منهم والمقطوع به أنه لا يوجب العلم ولا العمل فإنه لو ثبت وجوب العمل مقطوعا به لثبت العلم بوجوب العمل وهذا يؤدي إلى إفضائه إلى نوع من العلم وذلك بعيد فإن ما هو مظنون في نفسه يستحيل أن يقتضي علما مبتوتا فالعمل بخبر الواحد مستند إلى الأدلة التي سنقيمها على وجوب العمل عند خبر الواحد وهذا تناقش في اللفظ ولست أشك أن أحدا من المحققين لا ينكر ما ذكرناه
وذهب طوائف من الروافض إلى أن خبر الواحد لا يناط به وجوب العمل وهؤلاء أنكروا الإجماع إذا لم يكن في المجمعين قول الإمام القائم في هذيان طويل
وقد مال إلى ذلك بعض المعتزلة
539 - ثم افترق نفاة العمل بخبر الواحد فذهب بعضهم إلى أن العقل يحيل التعبد بالعمل به وذهب الأكثرون إلى أنه لا يستحيل ورود الشرع به وهو من تجويزات العقل ثم افترق هؤلاء من وجه اخر فذهب ذاهبون إلى أن في الشرع ما يمنع التعلق به وقال اخرون لم تقم دلالة قاطعة على العمل به فتعين الوقف
وقد أكثر الأصوليون وطولوا أنفاسهم في طرق الرد على المنكرين
540 - والمختار عندنا مسلكان أحدهما يستند إلى أمر متواتر لا يتمارى فيه إلا
جاحد ولا يدرؤه إلا معاند وذلك أنا نعلم باضطرار من عقولنا أن الرسول عليه السلام كان يرسل الرسل ويحملهم تبليغ الأحكام وتفاصيل الحلال والحرام وربما كان يصحبهم الكتب وكان نقلهم أوامر رسول الله عليه السلام على سبيل الآحاد ولم تكن العصمة لازمة لهم فكان خبرهم في مظنة الظنون وجرى هذا مقطوعا به متواترا لا اندفاع له إلا بدفع التواتر ولا يدفع المتواتر إلا مباهت فهذا أحد المسلكين
والمسلك الثاني مستند إلى إجماع الصحابة وإجماعهم على العمل بأخبار الاحاد منقول متواترا فإنا لا نستريب أنهم في الوقائع كانوا يبغون الأحكام من كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا للمطلوب ذكرا مالوا إلى البحث عن أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يبتدرون التعويل على نقل الأثبات والثقات بلا اختلاف فإن فرض مزاع بينهم فهو آيل إلى انقسامهم قسمين فمنهم من كان يتناهى في البحث عن العدالة الباطنة ولا يقنع بتعديل العلانية وربما كان يضم إلى استقصائه تحليف الراوي ومنهم من كان لا يغلو في البحث فأما اشتراط التواتر فعلى اضطرار نعلم أنهم ما كانوا يرونه فإن أنكر منكر الإجماع فسيأتي إثباته على منكريه في أول كتاب الإجماع إن شاء الله تعالى فهذا هو المعتمد في إثبات العلم بخبر الواحد
541 - وأما الرد على من يزعم أن تكليف العمل بخبر الواحد يستحيل في العقل فهين فقد تكرر مرارا أن إطلاق الاستحالة يتردد بين أن يستحيل وقوعه وجودا كاستحالة اجتماع الضدين ونحوها وهذا ساقط فإن تقدير اتباع العمل عند اتفاق أمر يغلب على الظن غير مستحيل قطعا والواحد منا يكتسبه
في حق مأموره وعبده والمحالات يستحيل تقدير وقوعها شاهدا وغائبا فهذا قسم
وقد نقول ليس يستحيل تقدير وقوعه استحالة اجتماع الضدين ولكن يستحيل وقوعه لما فيه من استفساد الخلق وهذا ينجر الان إلى الصلاح والأصلح والاستفساد والاستصلاح وكل ذلك مرتب على التقبيح والتحسين العقليين وقد سبق القول فيهما في صدر هذا المجموع
542 - على أنا إن رمنا انتقالا عن هذه المحاجة فليس يتجه لهم ادعاء نقيض الاستصلاح فإنه لا يمتنع في العقل أن يقع في علم الله تعالى أن الخلق لو كلفوا اتباع غلبات الظنون لصلحوا ولو تركوا سدى إلى وجدان اليقين لفسدوا أو كادوا فقد بطل جميع ما ذكروه وإذا تقرر الجواز عقلا وقد قامت الدلالة السمعية كما تقدم ذكره لم يبق مضطرب يلوذ الخصم به
فإن قيل ليس في العقل ما يوجب العمل بخبر الواحد وليس في كتاب الله تعالى ناص عليه ولا مطمع في التواتر والإجماع مع قيام النزاع ويستحيل أن يثبت خبر الواحد بخبر الواحد وإذا انحسم المسلك العقلي والسمعي فقد حصل الغرض
قلنا بنيتم كلامكم على أمرين أنتم منازعون فيهما أحدهما أنكم قلتم لم يستند العمل بخبر الواحد إلى التواتر وقد أوضحنا استناده إليه والثاني أنا نقلنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد فقولكم أن لا إجماع خطأ ونحن تمسكنا بإجماع سابق على مسائل الخلاف وإن تمسكوا بأن في
إيجاب العمل بخبر الواحد ادعاء العلم بوجوبه بخبر الواحد فقد تكلمنا عليه وبينا القول فيه فهذا لباب المسألة ومقصودها المنتخل المحصل
543 - ولكنا نذكر وراء ذلك عيونا من شبهات المخالفين حتى يشتمل الكلام على المسلك الحق واستيعاب جماهير وجوه القول استدلالا وسؤالا وانفصالا وقد يستدلون بظاهر قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم والمخبر الذي ليس معصموما عن الخطأ وإمكان تعمد الكذب لا يتضمن خبره علما فهو بحكم القران مما لا يجوز اقتفاؤه واحتذاؤه وهذا مما لا يسوغ التمسك به فإن مضمون الآية النهي عن اقتفاء الظنون من غير ضبط متأيد بمراسم الشارع وليس الغرض الإضراب عن كل ما ليس معلوما فالمقصود إذا النهي عن المجازفة في الظنون ثم غاية المتمسك بالاية أن يسلم له عموم معرض للتأويل ولا يجوز التعلق بالظواهر فيما يبتغي القطع فيه فالجواب الحق أن المتبع هو الدليل القاطع على وجوب العمل بخبر الواحد وقد قدمنا ما فيه مقنع في ذلك وذلك الدليل هو المقتفى لا الخبر وفيه غنية وقد تقرر هذا مرارا
544 - وربما يعودون إلى استبعاد تعليق الأمور الخطيرة بأقوال مخبرين لا يمنع أن يعتمدوا الكذب أو يزلوا من غير قصد
فإذا روى واحد ظاهر العدالة خبرا مقتضاه سفك دم فالاستمرار على حقن الدم وانتظار قاطع فيه أغلب على الظن وأرجح في مسلكه وقد تكلمنا على ذلك وأوضحنا أن المعتمد هو الخبر المتواتر من سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو
إجماع الأمة وهما يفيدان العلم على قطع ثم ما ذكروه منقوض عليهم بشهادة الشهود في تفاصيل القضاء فإن الأمور الخطيرة تربط بها وإن كانت لا تفضي إلى القطع وهي متلقاة بالقبول وكذلك قول المفتى مقبول وإن كان متعرضا لما ذكروه في مضطرب الأوهام فقد سقط معلوهم فإن اعتذروا عن الشهادات والفتوى وزعموا أنها مستندة إلى الإجماع فهذا قولنا في خبر الواحد
مسألة
545 - ذهبت الحشوية من الحنابلة وكتبة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم وهذا خزى لا يخفى مدركه على ذي لب
فنقول لهؤلاء أتجوزون أن يزل العدل الذي وصفتموه ويخطىء فإن قالوا لا كان ذلك بهتا وهتكا وخرقا لحجاب الهيبة ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه
والقول القريب فيه أن قد زل من الرواة والأثبات جمع لا يعدون كثرة ولو لم يكن الغلط متصورا لما رجع راو عن روايته والأمر بخلاف ما تخيلوه
فإذا تبين إمكان الخطأ فالقطع بالصدق مع ذلك محال ثم هذا في العدل في علم الله تعالى ونحن لا نقطع بعدالة واحد بل يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر ولا متعلق لهم إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع
مسألة
546 - ذهب الجبائي إلى أن خبر الواحد لا يقبل بل لا بد من العدد وأقله
اثنان وهذا الذي قاله غير متلقى من مسالك العقول فإنها لا تفرق بين الواحد والاثنين وإمكان الخطأ يتطرق إلى اثنين تطرقه إلى الواحد فيتعين عليه أن يسند مذهبه هذا إلى سبيل قطعى سمعي وهو لا يجده أبدا
547 - وما ذكرناه من التمسك بكتب الرسول عليه السلام ورسله يجري عليه فإنه كان لا يتكلق جمع رسولين إلى كل صوب بل كان يبعثهم ويحملهم نقل الشريعة على ما تقتضيه الأحوال مفردين ومقترنين وهذا بين
وكذلك مسلك الإجماع فإنا نعلم قطعا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يعملون في الوقائع بالأخبار التي ترويها الاحاد من جملة الصحابة ولا نستريب أنه لو وقعت واقعة واعتاص مدرك حكمها فروى الصديق رضي الله عنه فيها خبرا عن الصادق المصدوق المصدوق عليه السلام لابتدروا العمل به ومن ادعى أن جملة الأخبار التي استدل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في أحكام الوقائع رواها أعداد فقد باهت وعاند وخالف ما المعلوم الضروري بخلافه
548 - فإن قيل أليس كان على يستظهر برواية العدد وروى أن أبا موسى الأشعري لما استاذن على عمر ولم يأذن له انصرف ورده عمر وعاتبه في انصرافه وقال هلا وقفت فقال سمعت رسول الله عليه السلام يقول
الاستئذان ثلاثة فإن أذن لكم وإلا فانصرفوا فقال إن جئت بمن يشهد لك وإلا أوجعت طهرك ضربا فجاء بأبى سعيد الخدري فشهد له
ولما التبس على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الجدة في الميراث قال المغيرة بن شعبة أشهد أن رسول الله عليه السلام أطعم الجدة السدس قال أبو بكر لا أو تأتي بمن يشهد لك فكان ذلك من أبي بكر اشتراط عدد في الرواة
549 - قلنا أما على كرم الله وجهه فلم ينقل عنه اشتراط العدد ولكنه كان يحلف بعض الرواة وهذا رأى انفرد به استظهارا وأما ما جرى للصديق والفاروق رضي الله عنهما فمحمول على الاستظهار لريبة معترضة وأحوال مقتضية مزيد تغليب على الظن وهذا جرى منهم على شذوذ وندور كدأب القضاة في بعض الحكومات إذا استدعوا مزيدا على الأعداد المرعية في البينات فمن ادعى أن ذلك كان أصلا عاما في جميع الروايات والرواة فقد ادعى نكرا وقال هجرا
ثم ما ذكره يؤدي إلى رد معظم الأحاديث إذا تطاولت العصور وتناسخت الأزمان والدهور فإنه شرط في النقل عن كل راو وراويين والأعداد إذا تضاعفت أربت عند طول الأعصار على عدد التواتر
وهذا منتهى القول في العدد والكلام في بقية الكتاب يتعلق بفصول
فصل في صفة الرواة وفصل مشتمل على التعديل والجرح وفصل في الإسناد والإرسال وآخر في كيفية التحمل وآخر في كيفية الرواية
فصل في صفة الرواة
550 - العقل والإسلام والعدالة معتبرة وأصحاب أبي حنيفة وإن قبلوا شهادة الفاسق لم يجسروا أن يبوحوا بقبول رواية الفاسق فإن قال به قائل فقوله مسبوق بإجماع من مضى على مخالفته
551 - فأما البلوغ فقد اختلف الأصوليون في اشتراطه وتردد الفقهاء في ذلك أيضا وعليه بنوا اختلافهم المشهور في قبول قوله في رؤية الهلال والقاضي يرى رد رواتيه وهو المختار عندنا
والدليل عليه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ما راجعوا الصبيان الذين كانوا يخالطون رسول الله عليه السلام ويلجون على ستوره مع مسيس حاجتهم إلى من يخبرهم عن دقائق أحوال رسول الله صلى الله عليه و سلم وراء الحجب فلم يؤثر عن أحد من الحكام والمفتين إسناد حكمه في قضية إلى رواية صبي والذين اعتنوا بجمع الروايات وتأليف المسندات لم ينقلوا عن صبي أصلا والذي يعضد الطريقة أن معولنا في إثبات العمل بأخبار الاحاد إرسال رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبه ورسله وبعثه ولاته وإجماع الصحابة ولا مأخذ سوى هذين
فأما المأخذ الأول فلم يبعث عليه السلام رسولا صبيا ولم يحمله أداء بيان حكم الشريعة وأما الإجماع فعلى ما سبق تقريره وليس في العقول ما يرشد إلى القبول والرد
552 - ثم ذكر القاضي طريقة لطيفة فقال الصبي إن كان غير متكامل التمييز فلا شك في ردهم روايته وإن كان مميزا فقد بلغه أنه غير مؤاخذ بالكذب ولا يزعه عن الهجوم عليه وازع وهذه الصفة منه تؤمنه عن اللائمة ومحذور المعتبة فبالحري أن يجريه على الخلف وفي النفوس على الجملة صغو بين إلى التحريف ونقل الأعاجيب فإذا الصبا أولى بأن ينتهض ردا للرواية من الفسق وما ذكرناه يغنى عن التمسك برد أقاريره وألفاظ عقوده فإن هذا من القياس الفقهي فلا يثمر قطعا
ونحن نرى القطع برد روايته وفي كلام القاضي في بعض مصنفاته تشبيب بإلحاق هذه المسألة بالمظنونات وهذا ظاهر رأى الفقهاء والذي نراه القطع بالرد كما تقدم
مسألة
في رواية المستور الذي لم يظهر منه نقيض العدالة ولم يتفق البحث الباطن عن عدالته
553 - تردد المحدثون في روايته والذي صار إليه المعتبرون من الأصوليين أنه لا تقبل روايته وهو المقطوع به عندنا
والمعتمد فيه الرجوع إلى اجماع الصحابة فإنا نعلم منهم بمسلك الاستفاضة والتواتر أنهم كانوا لا يقبلون روايات المجان والفسقة وأصحاب الخلاعة ولو ناداهم إنسان برواية لا يبتدروا العمل بروايته ما لم يبحثوا عن حالته ويطلعوا
على باطن عدالته ومن ظن أنهم كانوا يعملون برواية كل مجهول الحال فقد ظن محالا وظهور ذلك مغن عن تقريره وإذا كنا نتعلق في العمل بالرواية بإجماعهم فإن لم نتحقق إجماعهم على التوقف في العمل برواية المستور لم نجد متعلقا نتمسك به في قبول روايته فكيف وقد استمر لنا قطعا منهم التوقف في المجهول المتسور الحال
554 - والذي أوثره في هذه المسألة ألا نطلق رد رواية المستور ولا قبولها بل يقال رواية العدل مقبولة ورواية الفاسق مردودة ورواية المستور موقوفة إلى استبانة حالته ولو كنا على اعتقاد في حل شيء فروى لنا مستور تحريمه فالذي أراه وجوب الانكفاف عما كنا نستحله إلى استتمام البحث عن حال الراوي وهذا هو المعلوم من عادتهم وشيمهم وليس ذلك حكما منهم بالحظر المترتب على الرواية وإنما هو توقف في الأمر فالتوقف عن الإباحة يتضمن الانحجاز وهو في معنى الحظر فهو إذا حظر مأخوذ من قاعدة في الشريعة ممهدة وهي التوقف عند بدء ظواهر الأمور إلى استتبابها فإذا ثبتت العدالة فالحكم بالرواية إذ ذاك
555 - ولو فرض فارض التباس حال الراوي واليأس من البحث عنها بأن يروي مجهول ثم يدخل في غمار الناس ويعسر العثور عليه فهذه مسألة اجتهادية عندي والظاهر أن الأمر إذا انتهى إلى اليأس لم يلزم الانكفاف وانقلبت الإباحة كراهية
556 - فإن قيل أليس روى أن أعرابيا شهد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم
على رؤية الهلال فأمر النبي عليه السلام بالصيام ولم يبحث عن حال الأعرابي قلنا لعله علمه وأحاط به علما فلا يصح التمسك بمثل هذا مع تعارض الاحتمالات فيه والمطلوب القطع
557 - فإن قالوا الأصل نقيض الفسق فليطرد قبول الرواية إلى تحقق الفسق قلنا هذه دعوى عرية عن البرهان وهو في التحقيق اقتصار على ترجمة المذهب فإنا نقول الرواية قبولها موقوف على ظهور العدالة ومن يخالف يزعم أن الرد منوط بظهور الفسق وعلى الجملة لسنا نرتضي التمسك بالتخييلات في مسالك القطعيات وفي كل أصل من الأصول قاعدة كلية معتبرة فكل تفصيل رجع إلى الأصل فهو جار على السبيل المطلوب وكل ما لم نجد مستندا فيه ومتعلقه تخييل ظن فهو مطرح والأصل في العمل بالأخبار إجماع الصحابة وقد قررنا سبيله فما ذكروه ليس قادحا فيه فلا يحتفل به
558 - فإن قيل ثبت في الشرع الأمر بتحسين الظن بآحاد المسلمين إلى أن يظهر ما يناقض ذلك وإذا رددنا رواية المستور كان ذلك منافيا لتحسين الظن به قلنا هذا من الطراز الأول فلا احتفال به
على أنا أمرنا بتحسين الظن حتى لا تطلق الألسنة بالمطاعن فهذا فائدة تحسين الظن فأما أن يقال نبتدر إلى إراقة الدماء وتحليل الفروج برواية كل هاجم على الرواية بناء على تحسين الظن فهذا لا يتخيله إلا خلو من التحصيل والله الموفق
فصل في التعديل والجرح 559 - إذا تقرر أن الفاسق مردود الرواية وواضح أن القبول متوقف على ظهور العدالة ولا يقع الاكتفاء بظاهر الستر فنحن نذكر وراء ذلك التعديل والجرح المعتبرين في الرواة ونقدم على غرضنا أصلا وهو مرجوع الكتاب وأصل الباب في أخبار الآحاد
فنقول قد لاح لنا على السبر والمباحثة أن المعنى المعتمد في قبول الرواية ظهور الثقة بقول الراوي وكل ما لا يجزم الثقة فليس شرطا في الرواية وما يجزم الثقة ففيه الكلام وليس في الرواة والروايات تعبدات شرعية كما وردت توقيفات الشرع بأمثالها في رتب الشهادات ومنازل البينات من نحو اعتبار العدد وألفاظ مخصوصة ومكان معلوم إلى غير ذلك ومن التعبدات المرعية في الشهادة اشتراط الحرية فليتخذ الناظر الثقة في الرواية معتبره فيما يأتى ويذر فعليه إحالة معظم الكلام
والدليل القاطع فيه الرجوع إلى شيم الأولين فإنا نعلم أنهم كانوا يقبلون الرواية عند ظهور الثقة من المرأة والمملوك قبولهم من الحر وقد رددنا على من يتخيل اعتبار العدد في الرواية فإذا تمهد ذلك وستكون لنا عودات إليه فالكلام في التعديل والجرح متفرع علىذلك ونحن ننقل المذاهب فيهما ونؤثر المختار عندنا ونؤكده بالحجاج اختيارا للإيجاز إن شاء الله تعالى
560 - فالتعديل والجرح يقعان على وجهين أحدهما التصريح والثاني الضمن فأما وقوعهما تصريحا فقد قال قائلون لا بد من ذكر أسبابها جميعا ولا يكفى إطلاق التعديل والجرح
قال الشافعي رحمه الله إطلاق التعديل كاف فإن أسبابه لا تنضبط ولا تنحصر وإطلاق الجرح لا يكفي فإن أسبابه مما اختلف الناس فيه فقد يرى بعض الناس الجرح بما لو أظهره لم يوافق عليه فلا بد لذلك من ذكر أسباب الجرح وهذا مذهبه رضي الله عنه في تعديل الشهود وجرحهم
وقال بعض الأصوليين يكفي إطلاق التعديل والجرح جميعا ولا حاجة إلى التعرض للأسباب فيهما
وقال القاضي رضي الله عنه إطلاق الجرح كاف فإنه يخرم الثقة وهي المعتبرة وإطلاق التعديل لا يحصل الثقة حتى يستند إلى أسباب ومباحثات وهذا الذي ذكره القاضي رضي الله عنه أوقع في مآخذ الأصول
561 - والذي أختاره أن الأمر في ذلك يختلف بالمعدل والجارح فإن كان المعدل إماما موثوقا به في الصناعة لا يليق به إطلاق التعديل إلا عند علمه بالعدالة الظاهرة فمطلق ذلك كاف منه فإنا نعلم أنه لا يطلقه إلا عن بحث واستفراغ وسع في النظر فأما من لم يكن من أهل هذا الشأن وإن كان عدلا رضا إذا لم يحط علما بعلل الروايات فلا بد من البوح بالأسباب وإبداء المباحثة التامة
والجرح أيضا يختلف باختلاف أحوال من يجرح والعامى العرى عن
والتحصيل إذا جرح ولم يفصل فلا يكترث بقوله فأما من يثير جرحه المطلق خرم الثقة فمطلق جرحه كاف في اقتضاء التوقف
فهذا بيان المذاهب والإيماء إلى مستند كل فريق وذكر المختار مؤيدا بمعتبر الباب هو بيان التصريح بالتعديل والجرح
562 - ثم قال المحققون يكفي في التعديل والجرح قول واحد وذهب بعض المحدثين إلى اشتراط العدد وهذا مما ليس يحتفل به فإنه قد ثبت أن أصل الرواية لا يعتبر فيه العدد فلا معنى للاحتكام باشتراطه في التعديل والجرح ولا يشك منصف أن الصديق رضي الله عنه وغيره من جلة الصحابة رضي الله عنهم لو فرض انفراده بتعديل أو جرح لما كان أهل العصر يعتبرون انضمام قول اخر إلى قول المعدل أو الجارح وهذا كله مرتبط بالثقة كما تقدم فإذا كان قول الواحد يفيد الثقة كفى وإذا كان الجارح الواحد يخرمها أفاد جرحه ردا أو توفقا
563 - فأما التعديل والجرح الواقعان ضمنا فلتقع البداية بالتعديل فمما عد في التعديل ضمنا إطلاق الرجل العدل الرواية عن الرجل من غير تعرض له بجرح أو تعديل فهذا مما اختلف في المحدثون والأصوليون
فذهب ذاهبون إلى أن إطلاق الرواية تعديل ومنع آخرون ذلك والرأى فيه عندي التفصيل فإن ظهر من عادة ذلك الراوي الانكفاف عن الرواية عمن يتغشاه ريب واستبان أنه لا يروي إلا عن موثوق به فرواية مثل هذا الشخص
تعديل وإن تبين من عادته الرواية عن الثقة والضعيف فليست روايته تعديلا وإن أشكل الأمر فلم يوقف على عادة مطردة لذلك الراوي في الفن الذي أشرنا إليه فلا يحكم بأن روايته تعديل وهذا من أصناف ما يعد تعديلا ضمنا
564 - ومما يذكر في هذا القسم عمل الراوي بما رواه مع ظهور إسناده العمل إلى الرواية وقد قال قائلون إنه تعديل وقال اخرون ليس بتعديل
والذي أرى فيه أنه إذا ظهر أن مستند فعله ما رواه ولم يكن ذلك من مسالك الاحتياط فإنه تعديل وإن كان ذلك في سبيل الاحتياط لم يقض بكونه تعديلا فإن المتحرج قد يتوقى الشبهات كما يتوقى الجليات وهذا ينعطف أيضا على الثقة واعتبارها
وهذا نجاز الكلام في هذا الفن
مسألة
565 - قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه إذا لم نجد معتصما مقطوعا به في العمل بخبر الواحد قطع برده وإن لم يظهر له قاطع ناص في الرد وبنى ذلك على أن معتمدنا في العمل بأخبار الاحاد قطعا إجماع من قبلنا فحيث لا نجد قاطعا لا نحكم بالعمل إذ لو حكمنا به لكنا بانين القطع بالعمل على غير قاطع وهذا لا سبيل إليه
وهذا الذي ذكره وإن كان مخيلا فالذي أراه أنه يلتحق بالمجتهدات ويتعين على كل مجتهد فيه الجريان على حكم اجتهاده
والدليل القاطع فيه أنا نعلم أنه كان يقع في عصر أصحاب رسول الله
صلى الله عليه و سلم أحاديث يقبلها بعض ويتوقف عن قبولها اخرون ثم كان القابلون لها لا يعابون ولا يكثر النكير عليهم من الرادين وكانوا يجرون ذلك مجرى المجتهدات في مظان الاحتمالات فإذا قطعنا بوقوع ذلك منهم وإلحاقهم ذلك بمواقع التحري والتوخي فقد صادفنا قاطعا في وجوب العمل بالاجتهاد في مجال الظن وهذا بالغ حسن فإذا جرت أمثال من المجتهدات أحلناها على هذا القانون
مسألة
566 - جرى رسم الأصوليين بعقد مسألة في فن من التعديل والجرح مشتملة على تعديل صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما تمس الحاجة إليها في أصول الإمامة ولكنها قد تتعلق ببعض مسائل الشرع ففي الفقهاء من طرق مسالك الطعن والغمز إلى أقوام من مشاهير أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كأبى هريرة وابن عمر وغيرهما
ونحن نذكر نكتا قاطعة يتخذها المرء وزره ومعتضدة إذا عارضه طعان يحاول مغمزا في رواة أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصحابة
567 - فمما نصدر القول به الآيات المشتملة على تقريظهم وإطرائهم وحسن الثناء عليهم كاية أهل البيعة بيعة الرضوان فإنه تعالى قال لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة والآيات الواردة في المجاهدين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرة واتفق المفسرون على أن قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس واردة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هم
معدلون بنصوص الكتاب مزكون بتزكية الله تعالى إياهم
568 - ومن أقوى ما يعتصم به على الجاحدين المعاندين سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان يعرف أهل النفاق بأعيانهم لا يخفى عليه مضمر الشقاق بينهم وقد سماهم بأعينهم لصاحب سره ومؤتمنه حذيفة بن اليمان وكان عليه السلام يبجل أهل الإخلاص منهم وينزلهم منازلهم ويحل كلا على خطره في مجلسه وكانوا رضي الله عنهم معدلين بتعديله عليه السلام مزكين أبرارا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتمدهم في نقل آثاره وأخباره ويسألهم عن أخبار غابت عنه وكانوا عنه ناقلين ومخبرين واشتهر ذلك من سيرته صلى الله عليه و سلم فيهم فكان ذلك مسلكا قاطعا في ثبوت عدالتهم بتعديل الرسول عليه السلام إياهم عملا وقولا
569 - ومما يتمسك به في أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر مع تنزهه عن المداراة والمداجاة والمداهنة اعتمده وولاه في زمانه أعمالا جسيمة وخطوبا عظيمة وكان يتولى زمانا على الكوفة وكان يبلغه روايته عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلو لم يكن من أهل الرواية لما كان يقرره عمر رضي الله عنهما مع العلم بإكثاره
وقد اجتمع السابقون على الرواية عن هؤلاء وكذلك الأئمة المعتبرون من أهل الحديث قال محمد بن إسماعيل البخاري روى عن أبي هريرة سبعمائة من أولاد المهاجرين والأنصار وأما ابن عمر فلا يتعرض للقدح فيه إلا
جسور وقد زكاه جبريل عليه السلام إذ قال لرسول صلى الله عليه و سلم نعم الرجل عبد الله
فقد ثبت تعديلهم بنصوص الكتاب وسيرة الرسول عليه السلام واتفاق الصحابة والتابعين وأئمة الحديث رضي الله عنهم أجمعين ولا احتفال بعد ذلك بمطاعن النابغة الثائرين بعد انقراض الأئمة الماضين
570 - فأن قيل ما تمسكتم به من تعديل الرسول عليه السلام إياهم وإكرامه لهم إن سلم لكم فإنه ليس متضمنا نصا بعصمتهم في مستقبل الزمان وقد أحدث بعضهم هنات واقتحموا موبقات يزول بأدناها نعت العدالة واستقامة الحالة وربما اندفعوا في أقاصيص وأحوال جرت في مثار الفتن ولو تتبعناها لطال المغزى والمرام وتعدى الكلام حد الاختصار
فالوجه المحصل لغرضنا القاطع الشغب عنا أن نقول لا يتعلق متعلق بشيء يبغى به طعنا إلا وينقدح مثله متطرقا إلى من يعدله الطاعن ويؤدي مساق إلى الطعن في جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل مسلك يفضي إلى تعميم الطعن في جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو مردود من سالكه فهذا وجه مقطوع به عظيم الوقع والخطر
571 - والذي يعضد ذلك أن من تعلق بشيء من المطاعن في معين من الصحابة فعورض بمثله فيمن يوافق على تعديله فسينتهض الطاعن لحمل ما عورض به على محامل في الجواز وتحسين الظن ويتجه أمثالها وأجلى منها فيمن ذكره وإذا تعارضت الأقوال على نحو واحد وعسر الجمع بينها والقضاء بها ولم يكن بعضها
أولى من بعض فالوجه سقوطها والإضراب عنها والاستمساك بما تمهدت به عدالتهم من المسالك المتقدمة
572 - وإنما تعدينا طور الاقتصار قليلا لسؤال به اختتام الإشكال وفي جوابه تحقيق الانفصال وهو أن قائلا لو قال غايتكم حملكم ما نقل من هناتهم على وجوه ممكنه في الجواز ولستم قاطعين بها بل وافقتم الطاعنين على أنه لا يجب عصمة غير المرسل عليه السلام فإذا ترددت أحوالهم فليقتض ترددها وقوفا عن تعديلهم فإن التردد يناقض الحكم البات
وسبيل الجواب عن هذا أن نقول هذا أولا نزول عن التصريح بالطعن ورضا بأن ينكف عن تعديلهم ففيه ظهور بطلان القطع بالطعن
على أنا نقول ما ذكرتموه مدفوع بالإجماع فإن الأمة مجمعة على أنه لا يسوغ الامتناع عن تعديل جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وما ذكره هذا السائل يوجب التوقف في تعديل كل نفر من الذين لابسوا الفتن وخاضوا المحن ومتضمن هذا الانكفاف عن الرواية عنهم وهذا باطل من دين الأمة وإجماع العلماء فانتهض الإجماع على بطلان هذا الطرف حجة باتة على بناء الأمر على تحسين الظن وردهم إلى ما تمهد لهم من المآثر بالسبيل السابقة وهذا من نفائس الكلام
ولعل السبب الذي أتاح الله الإجماع لأجله أن الصحابة هم نقلة الشريعة ولو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما استرسلت على سائر الأعصار
فصل في المراسيل والمسندات وذكر المذاهب فيها وإيضاح المختار منها 573 - نصدر هذا الفصل بذكر صور المرسلات ثم ننقل المقالات ونشير إلى عمدة كل فريق ونختتم الكلام بالمرتضي المختار عندنا
فمن صور المراسيل أن يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عله وسلم فهذا إضافة إلى الرسول عليه السلام مع السكوت عن ذكر الناقل عنه وهذا يجري في الرواة بعضهم مع بعض في الأعصار المتأخرة عن عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم
وإذا قال واحد من أهل عصر قال فلان وما لقيه ولا سمى من أخبر عنه فهو ملتحق بما ذكرناه
ومن الصور أن يقول الراوي أخبرني رجل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو عن فلان الراوي من غير أن يسميه
ومن الصور أن يقول أخبرني رجل عدل موثوق به رضا عن فلان أو عن رسول الله عليه السلام
ومن صور المراسيل إسناد الأخبار إلى كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما التحق هذا القسم بالمرسلات من جهة الجهل بناقل الكتب ولو ذكر من يعزو الخبر إلى الكتاب ناقله وحامله التحق الحديث بالمسندات فهذه صور المراسيل
حكم العمل بالمراسيل وقبولها 574 - وأبو حنيفة قائل بجميعها قابل لها عامل بها والشافعي رضي الله عنهما لا يعمل بشيء منها ومتعلق أصحاب أبي حنيفة أن الراوي إذا كان في نفسه عدلا ثقة فروايته محمولة على وجه يقتضي القبول ولو عين من روى عنه وعدله وكان من أهل التعديل لقبل تعديله كما قبلت روايته فإذا أرسل الحديث جازما وأطلق الرواية باتة أشعر بنهاية الثقة
575 - وقال بعض أئمة الحديث إذا قال التابعي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ذلك أولى من ذكره معينا منهم فإنه لا يحكم بإثبات قول رسول الله صلى الله عليه و سلم مع السكوت عن ذكر من نقله إلا مع انتفاض قلبه عن الشبهات وطرق الريب وإذا ذكر معينا فكأنه لا يتقلد صحة الرواية وإنما يكل الأمر إلى الناظرين فيمن روى عنه
576 - ومما تمسك به القائلون بالمراسيل أن أخبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبولة وإن كان في بعضها إرسال لا سيما أخبار الذين كانوا صبية في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم وفرت حظوظهم من العلوم بعد انقلاب رسول الله إلى رحمه الله صلى الله عليه و سلم كابن عباس وابن الزبير وغيرهما رضي الله عنهم ثم كانت أخبارهم مقبولة في الصحابة والتابعن مع القطع بأن معظمها مراسيل ونحن نتتبع ذلك على ما ينبغي عند ذكرنا ما نختاره إن شاء الله تعالى
577 - وأما الشافعي رضي الله عنه فإن استدل على رد المراسيل بأن الراوي إذا لم يذكرمن روى له فهو مجهول في حقوقنا وقبول خبر من نجهله ولا نعرفه مستجمعا للصفات المرعية لا وجه له وربما علم الراوي تعديل من روى الحديث ولو ذكره لغيره لعرف المخبر عنه ما لم يعرفه فإذا الإضراب عن ذكر الراوي يخرم الثقة ويطرق إلى القلوب التردد فإذا سمى الراوي من حدثه وعدله وطرد الناظرون الجرح إن وجدوه واستمر الزمن ولم يعثر على سبب جارح فيحصل به الثقة وإذا لم يسم المروى عنه فليست العدالة مقطوعا بها لأن معتمدها أمور ظاهرة وأسباب الجرح أخفى منها والتعديل على الإبهام مع تركه تسمية المعدل لا يتضمن الثقة في حق غير المعدل هذا معتمد الشافعي ويقوى كلامه جدا في بعض الصور كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى
578 - وما اعتمده أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه أولا يعارض هذا المسلك فيوهنه
وما ذكروه من أمر الصحابة رضي الله عنهم وإرسالهم الحديث فقد قال القاضي منتصرا للشافعي ثبوت الاحتجاج بما أطلقه أحداث أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم من الروايات مع ترددها بين الإسناد والإرسال لا يثبت الاحتجاج بما تحقق الإرسال فيه إلا من جهة القياس والأقيسة الظنية المعنوية منها والشبهية يقتضي ما يصح منها على السبر العمل ولا يسوغ استعمالها في القطعيات في النفى والإثبات
حاصل التمسك بذلك اعتبار ما تحقق فيه الإرسال بما تعارض فيه احتمال الإسناد والإرسال فقد بطل على ما زعم هذا المسلك
579 - فإذا وضح اعتبار ما تمسك به النفاة والمثبتون فقد جاز أن نوضح المختار قائلين
وقد ثبت أن المعتمد في الأخبار ظهور الثقة في الظن الغالب فإن انخرمت اقتضى انخرامها التوقف في القبول وهذا الأصل مستندة الإجماع الذي ثبت نقله من طريق المعنى استفاضة وتواترا فإذا سبرنا ما ردوه وما قبلوه يحصل لنا من طريق السبر أنهم لم يرعوا صفات تعبدية كالعدد والحرية وإنما اعتمدوا الثقة المحضة فلتعتبر هذه قاعدة في الباب
ومساقها يقتضي رد بعض وجوه الإرسال وقبول بعضها فإذا قال الراوي سمعت رجلا يقول قال فلان فليس في هذا المسلك من الرواية ما يقتضي الثقة فالوجه القطع بردها وإن قال سمعت رجلا موثوقا به عدلا رضا يقول سمعت فلانا وكان الراوي من يقبل تعديله لعدالته واستقامة حالته وعلمه بالجرح والتعديل ودرايته فهذا يورث الثقة لا محالة
580 - وليست الثقة على قضية واحدة بل هي على أنحاء ولها مبتدأ ومنتهى ووسائط بينهما ويبعد أن يشترط في الراوي أن يعرفه كل من يبلغه خبر مسند حتى يسنده إليه وإذا استحال اشتراط هذا لزم على الاضطرار تعديل حال من يلتزم موجب الإخبار على تعديل الأئمة المشهورين وعرفانهم فإذا قال أخبرني الثقة أو من لا أتمارى فيه خيرا ونبلا فقد أفضى ذلك إلى المطلب المقصود في الثقة أو من لا أتمارى فيه خيرا ونبلا فقد أفضى ذلك إلى المطلب المقصود في الثقة وكذلك إذا قال الإمام الراوي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
فهذا بالغ في ثقته بمن روى له فليطرد الطارد ما ذكرناه طردا وعكسا في صور الإرسال وليحكم في رده وقبوله بموجب الثقة
581 - ثم مخالفة الشافعي في أصول الفقه شديدة وهو ابن بجدتها وملازم أرومتها ولكني رأيت في كلام الشافعي ما يوافق مسلكي هذا وتقر به الأعين
قال رحمه الله مرسلات ابن المسيب حسنة وشبب بقولها والعمل بها وقال في كتاب الرسالة العدل الموثوق به إذا أرسل وعمل بمرسله العاملون قبلته
وقد تعرض القاضي لتفصح كلام الشافعي في هذا الفصل فقال قوله مراسيل ابن المسيب حسنة لست أدري ما الذي يحسنها وقد بلغت عن هذا الحبر أنه قال في بعض مجموعاته تتبعت مراسيل سعيد فألفيت معظمها مسندا من غير طريقه
وهذا فيه نظر فإن التمسك بإسناد من أسند وعليه إحالة العمل والقبول لا على المراسيل فأما العمل إن لم يكن على وفاق فلا وقع له وإن كان على وفاق فالتمسك بالإجماع فهذا معترضه على الشافعي
582 - والذي لاح لي أن الشافعي ليس يرد المراسيل ولكن يبغي فيها مزيد تأكيد بما يغلب على الظن من جهة أن الإرسال على حال يجر ضربا من الجهالة في المسكوت عنه فرأى الشافعي أين يؤكد الثقة فليثق الناظر بهذا المسلك الذي ذكرته فعلى الخبير سقط وقد عثرت من كلام الشافعي على أنه إن لم يجد إلا المراسيل مع الاقتران بالتعديل على الإجمال فإنه يعمل به فكأن
إضرابه عن المراسيل في حكم تقديم المسانيد عليها وهذا إذا اقترن المرسل بما يقتضي الثقة وهذا منتهى القول في ذلك والله أعلم
583 - وقد سمى الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله قول التابعي قال رسول الله عليه السلام وقول تابع التابعي قال الصحابي منقطعا وسمى ذكر الواسطة على الإجمال مرسلا مثل أن يقول التابعي قال رجل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا وليس ذلك متعلقا بفرق معنوي وإنما هو ذكر ألقاب في الباب ذكرناها حتى يطلع الناظر عليها إذا وجدها في كلام الأئمة والقول في الرد والقبول على ما تفصل وتحصل
فصل في تحمل الرواية وجهة تلقيها ومن يصح منه تحملها 584 - فنقول إذا روى الشيخ الذي منه التلقى شفاها ونطق بما سمعه لفظا ووعاه السامع وحواه فهذا هو التحمل والتحميل
585 - ولو كان الحديث يقرأ والشيخ يسمع نظر فإن كان يحيط بما يحرفه القارىء ولو فرض منه تصريف وتحريف لرده فسكوته والأخبار التي تقرأ بمثابة نطقه والحديث يستند بذلك فإن قيل هذا تنزيل منكم للسكوت منزلة القول وهذا من خصائص من يجب له العصمة قلنا إخباره تصريحا ونطقا كان تحميلا للرواية من جهة أنه أفهم بما أسمع السامع من عباراته
فإذا كان الحديث يقرأ وهو يقرر ولا يأبى مع استمرار العادات في أمثال ذلك فهذا على الضرورة حال محل التصريح بتصديق القارىء ومن لم يفهم من
هذه القرائن ما ذكرناه فلا يفهم أيضا من الإخبار النطقي
وأما ما ذكره السائل من أن السكوت إنما ينزل منزلة التقرير ممن يجب عصمته فيقال السكوت مع القرائن التي وصفناها ينزل منزلة النطق ثم النطق ممن لا يعصم عرضة للزلل أيضا ولكنا تعبدنا بالعمل بظواهر الظنون مع العلم بتعرض النقلة لإمكان الزلل وتعمد الخلف والكذب ثم ما ذكرناه يتأيد بإجماع أهل الصناعة فما زالوا يكتفون بما وصفناه في تلقى الأحاديث من المشايخ وهذا إذا كان الشيخ يدري ما يجري
ويلتحق بهذا القسم أن يكون عنده للأحاديث التي تقرأ عليه نسخة مهذبة وكان ينظر فيها فهذا ثبت يكتفي بمثله ولا يشترط استقلال الشيخ بحفظ الأحاديث عن ظهر قلبه
586 - وإذا كان لا يحيط بها وكان لا ينظر في نسخة يعتمدها ولو فرض التدليس عليه لما شعر فإذا قرىء عليه على هذه الصفة شيء من مسموعاته فهذا باطل قطعا فإن التحمل مرتب على التحميل فإذا لم يحمل الشيخ السامع الرواية فكيف يحملها وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتا وأجراسا لا يأمن تدليسا والتباسا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه والغرض المطلوب الفهم والإفهام
وتردد جواب القاضي فيه إذا كانت النسخة بيد غير الشيخ وكانت الأحاديث تقرأ وذلك الناظر عدل مؤتمن لا يألو جهدا في التأمل وصغوه الأظهر إلى أن ذلك لا يصح فإن الشيخ ليس على دراية فيه فلم ينهض مفهما محملا فلئن جاز الاكتفاء بنظر الغير فينبغي أن يجوز الاكتفاء بقراءة القارىء المعتمد من النسخة المصححة فهذا ما يتعلق بالتحمل وفيه بيان الغرض من التحميل
587 - ثم المرعى في صفة المتحمل الاستمكان من الفهم والتحمل والمعتبر في صفته هو المعتبر في صفة متحمل الشهادة ثم إذا نجزت النوبة والشيخ على خبرة مما يجرى فلا حاجة أن يقول الشيخ للقارىء كما قرأت أو أصبت أو ما جرى هذا المجرى من الألفاظ وقد اشترط بعض المحدثين ذلك فإن كان هذا مذكورا للتأكيد والاستقصاء فالأمر فيه قريب وإن ذكر هؤلاء ذلك شرطا في صحة التحمل والتحميل فهو ساقط عند قرائن الأحوال كما تقدم وصفها حالة محل التصريح بالقول قطعا والتعويل على وقوع الإفهام والفهم وتحقق الإحاطة والعلم ووضوح ذلك يغنى الناظر عن مزيد البيان
مسألة
588 - إذا قال الشيخ المتلقى عنه أجزتك أن تروى عني ما صح عندك من مسموعاتي أو عين كتابا وأجاز له الرواية عنه فقد تردد الأصوليون في ذلك
فذهب ذاهبون إلى أنه لا يتلقى بالإجازة حكم ولا يسوغ التعويل عليها عملا ورواية
589 - والذي نختاره جواز التعويل عليها فإن المعتمد في الباب الثقة فإذا تحقق سماع الشيخ وذكر المتلقى منه سماعه وسوغ له إسناد مسموعاته إلى إخباره فلا فرق بين أن يعلق الإخبار بها جملة وبين أن يعلقه تفصيلا وقد تمهد بما تقدم أن إفصاحه بالنطق ليس شرطا فإن الغرض حصول الإفهام وترتب الفهم عليه وهذا يحصل بالإجازة المفهمة
ثم هي على مراتب
أعلاها الإشارة الى كتاب وربطه إجازة الرواية مع الإخبار عن صحة السماع فيه وقد يؤكد بعض المحدثين هذا القسم بالمناولة وهي أن يناول الشيخ المتلقى عنه كتابا ويقول دونكه فاروه عني ولست أرى في المناولة مزيد تأكيد
فإذا فوض المجيز إلى المتلقى تصحيح المسموعات ولم ينص عليها فهذه إجازة مترتبة على عماية والأمر في تصحيحها موكول إلى صحة بحث الراوي عن ثبوت سماع الشيخ مع انتفاض الشيخ عن التحريفات وهذا يعسر دركه ويتطرق إليه جهات من الجهالات تنخرم الثقة بأدناها
فإن كان المتلقى معولا على خطوط مشتملة على سماع الشيخ فلست أرى ذلك مقنعا
وإن تحقق ظهور سماع موثوق به فإذ ذاك وهيهات
590 - ومما يتعلق بتتميم الكلام في هذا أن الذي مستندة الإجازة يعمل بما يتلقاه ويعمل غيره بما رواه على هذه الجهة ولكن اللائق به أن يذكر جهة تلقيه الإجازة فإن ذلك أدفع للبس وأرفع للريب فإن قال حدثني فلان أو أخبرني مطلقا فلست أرى ذلك خلفا محضا لتحقق الثقة وقد تقدم أن نفس لفظ الشيخ ليس شرطا وليس قوله حدثني في الإجازة عبارة مرضية لائقة بالتحفظ والتصون فالوجه البوح بالإجازة
وللمحدثين مواضعات يرتبونها ويقولون في بعضها أخبرني وفي بعضها حدثني وليست على حقائق وليسوا ممنوعين من اصطلاحهم ولكل طائفة في الفن
الذي تعاطوه عبارات مصطلحة
مسألة
591 - إذا وجد الناظر حديثا مسندا في كتاب مصحح ولم يسترب في ثبوته واستبان انتفاء اللبس والريب عنه ولم يسمع الكتاب من شيخ فهذا رجل لا يروى ما رآه
592 - ولكن الذي أراه أنه يتعين عليه العمل به ولا يتوقف وجوب العمل على المجتهدين بموجبات الأخبار على أن تنتظم لهم الأسانيد في جميعها
والمعتمد في ذلك أن روجعنا فيه الثقة والشاهد له أن الذين كانوا يرد عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أيدي نقلة ثقات كان يتعين عليهم الانتهاء إليها والعمل بموجبها ومن بلغه ذلك الكتاب ولم يكن مخاطبا بمضمونه ولم يسمع من مسمع كان كالذين قصدوا بمضمون الكتاب ومقصود الخطاب
ولو قال هذا الرجل رأيت في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري ووثقت باشتمال الكتاب عليه فعلى الذي سمعه يذكر ذلك أن يثق به ويلحقه بما تلقاه بنفسه ورآه ورواه من الشيخ المسمع
ولو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه فإن فيه سقوط منصب الرواية عند ظهور الثقة وصحة الراوية وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول
593 - وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها وهذا هو المعتمد الأصولي فإذا صادفناه لزمناه وتركنا وراءه المحدثين ينقطعون في وضع ألقاب وترتيب أبواب
مسألة
594 - إذا قال الصحابي من السنة كذا فقد تردد فيه العلماء فذهب ذاهبون إلى أن قوله هذا محمول على النقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا فإن السنة إذا أطلقت تشعر بحديث الرسول عليه السلام
وأبي المحققون هذا فإن السنة هي الطريقة وهي مأخوذة من السنن والاستنان فلا يمتنع أن يحمل ما قاله على الفتوى وكل مفت ينسب فتواه إلى شريعة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم مستند الفتوى قد يكون نقلا وقد يكون استنباطا واجتهادا فالحكم بالرواية مع التردد لا أصل له
وكذلك إذا قال أمرنا بكذا فهو بمثابة قوله من السنة كذا فهذا منتهى القول في التحميل والتحمل ويلتحق الان بذلك مسائل
مسألة
595 - إذا نقل الراوي العدل خبرا من شيخ فروجع الشيخ فيه فأنكره
فالذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة وطوائف من المحدثين أن ذلك يوهى الحديث ويمنع العمل به
وأطلق الشافعي القول بقبول الحديث وإيجاب العمل به
وذكر القاضي في ذلك تفصيلا ونزل مطلق كلام الشافعي رحمه الله عليه فقال إن قال اشيخ المرجوع إليه كذب فلان الراوي عني أو قال غلط وما رويت له قط ما ذكر فإذا جزم الرد عليه أوجب ذلك سقوط تلك الرواية
فإن ردد الشيخ قوله ولم يثبت الرد على الراوي عنه ولكنه قال لست إذكر هذه الرواية فهذا لايتضمن ردا ررواية إذا كان الراوي عن الشيخ موثوقا به
596 - فأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم احتجوا بالشهادة على الشهادة فإن الفروع وإن كانوا عدولا إذا شهدوا ولم يمض القاضي قضاءه بشهادتهم حتى روجع الأصول فتوقفوا في أصل الشهادة اقتضى ذلك أبطال شهادة الفروع وامتنع أيضا التمسك بها والفروع في حكم الناقل عن الأصل شهادته وربما أطلقوا استدلالا وقالوا قد ذكرتم أن التعويل على ظهور الثقة ولا شك أن التردد من الشيخ أو تصريحه بالرد على الراوي عنه يوهى الثقة ويخرمها ويتضمن التوقف
597 - وقال الشافعي أما الشهادة فلا يجوز اعتبار الرواية بها لا فيها من التعبدات التي لا يعتبر شيء منها في الروايات فإذا أمكن حمل ما ذكروه في الشهادة على وجه في التعبد فلا يسوغ اعتبار الرواية بها وإن اتجه للخصم تقدير انخرام الثقى استغنى باتجاه ذلك عن القياس على الشهادة
ثم قال الشافعي رحمه الله الذي يؤكد سقوط اعتبار الرواية بالشهادة أنه لا يجوز اعتماد شهادة الفروع مع إمكان مراجعة الأصول ويجوز اعتماد رواية الثقة من غير مراجعة لشيخه فيها فوضح بذلك افتراق البابين في غر ما دفعنا إليه
ولو شبب مشبب بوجوب مراجعة الشيخ في الرواية عند الإمكان لم يترك ورأيه ورد عليه بقاطع لا استرابة فيه وهو أنا نعلم أن الصحابة رضي
الله عنهم كان يروى بعضهم لبعض أحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فيتلقونها بالقبول ولا يلتزمون على الطرد مراجعة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع الإمكان وكذلك القول في رواية بعضهم عن البعض
وهذا الذي ذكره الشافعي تأكيد متغنى عنه والتعويل على ما ذكرناه من حمل أمر الشهادة على التعبد وإمكان ذلك كاف في إبطال الاستدلال به و أما ما ذكروه من ادعاء وهاء الثقة فباطل لا أصل له والقول فيه عندنا يحققه التفصيل الذي أشار إليه القاضي
598 - فإن قال الشيخ لست أذكر هذه الرواية والراوي عنه قاطع بروايته مع ظهور عدالته واستقامة حالته فالوجه حمل تردد الشيخ على الذهول والنسيان ولا يوهن قطع الذاكر تردد غيره فالثقة إذا لم تسقط ولا تنحزم انخراما يسقط الاعتبار بالرواية
ولكن لو فرض تصديق الشيخ الراوي لدى المراجعة لكان ذلك أظهر في الثقة وأوضح في اقتضاء الاعتماد ونهاية الثقة ليست شرطا في أصل القبول وإنما يؤثر تفاوت الدرجات فيها في الترجيحات على ما سيأتي في كتابها وهذا بمثابة إضافة رواية رجل عدل إلى رواية إمام الدهر وموثوق العصر ومن إليه الرجوع في الأمر فلا شك أن رواية العدل تنحط عن مثل هذا الشخص برتب ظاهرة ولا يوجب ذلك رد رواية العدل بل يتعين حملها على القبول
وقد قال الشافعي لو روى عدل خبرا في أثناء خصومة وكان فحواها حجة على الخصم فالرواية مقبولة ولا تجعل للتهمة موضعا إذا كان الراوي عدلا
وكذلك إذا وقعت الرواية جارة منفعة إلى الراوي أو إلى والده أو ولده فلا ترد الرواية مع ظهور عدالة الراوي وإن كانت الشهادة مردودة في أمثال ذلك فإذا لا يعارض تردد من شيخ قطعا من راو عدل معارضة تحبط الثقة المعتبرة
599 - وهذا إذا لم يصرح الشيخ بالرد فأما إذا كذبه أو قطع بنسيته إلى الغلط فقد يظهر انخرام الثقة في هذه الحالة
واعدى القاضي على الشافعي أنه قال ترد الرواية في مثل هذه الصورة
والذي أختاره فيها أن نزل قول الشيخ القاطع بتكذيب الراوي عنه مع رواية الثقة العدل عنه منزلة خبرين متعارضين على التناقض فإذا اتفق ذلك فقد يقتضي الحال سقوط الاحتجاج بالروايتين وقد يقتضي ترجيح رواية على رواية بمزيد العدالة في إحدى الروايتين أو غير ذلك من وجوه الترجيح فلا فرق بين ذلك وبين تعارض قولين من شيخ وراو عنه
فصل في كيفية الرواية وتفصيلها وما يقبل منها وما يرد مسألة
600 - ما ذهب إليه معظم الأصوليين أن رواية الخبر على المعنى من غير اعتناء باللفظ جائزة إذا كان الراوي المترجم عنه قاطعا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه
وامتنع من ذلك معظم المحدثين وشرذمة من الأصوليين
601 - والدليل على الجواز مع القطع وانتفاء الريب أمور
منها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا ينقلون معنى واحدا في قصة واحدة بألفاظ مختلفة ولا محمل لذلك إلا اعتناؤهم بنقل المعنى وها قاطع في فنه ومما تواتر عنهم في ذلك أنهم كانوا يرددون العبارات في محاولة إفهام من لا يفهم وهذا بعينه تعرض للمعنى ومما يشهد له في ذلك أن الرسول عليه السلام كان يحمل رسله تبليغ أوامره ونواهيه ولا يكلفهم حفظ ألفاظه ومن جحد ذلك فهو مباهت فكان أصحابه رضي الله عنهم يصرفون عنايتهم إلى الألفاظ التي يفهموم أنهم متعدبون بتحفظها كألفاظ التشهد وغيرها وكانوا لا يجرون جميع ما يسمعون من أوامر رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا المجرى
والذي يحقق ذلك أنا على قطع نعلم أن الرسول عليه السلام كان يقصد أن تمتثل أوامره وكان لا يبغى من ألفاظه غيرذلك
والذي يوضح ما قدمناه أنه عليه السلام كان مبتعثا إلى العرب والعجم ولا يتأتى إيصال معنى أوامره إلى معظم خليقة الله سبحانه وتعالى إلا بالترجمة ومن أحاط بمواقع الكلام عرف أن إحلال الألفاظ من ثقة محل الألفاظ أقرب إلى الاقصاد من نقل المعاني من لغة إلى لغة
فإن استدل من منع ذلك بما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال نضر الله امرا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها قلنا هذا أولا من أخبار الاحاد ونحن نحاول الخوض في مخاض القطعيات وقد قال بعض المحققين من أذى المعنى على وجهه فقد وعى وأدى والتأويل الصحيح لو رمنا الكلام على الحديث أنه صلى الله عليه و سلم أراد بذلك من لا يستقل بفهم المعنى على القطع وتتميم الحديث شاهد فيه فإنه عليه لسلام قال في اخره فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه
إلى من هو أفقه منه فيشهد مساق الكلام على أن ما قاله فيه إذا كان يتوقع من الناقل زللا ولو ترجم
مسألة
602 - من سمع حديثا مشتملا على أحكام فهل له أن ينقل بعضها دون بعض بقدر مسيس الحاجة ولا يسوق الحديث على وجهه
اختلف العلماء في ذلك فمنع بعضهم الاقتصار على بعض الحديث وهذا قريب من التزام نقل اللفظ على وجهه وأجاز ذلك اخرون
603 - والمرضى عندنا التفصيل فإن كان ما سكت الراوي عنه حكما يتميز عما نقله ولم يكن للمسكوت عنه تعلق بالمنقول وكان لا يختل البيان في المروى بترك بعض الحديث فيجوز تخصيص البعض بالنقل على هذا الشرط وإن كان يختل البيان في القدر المنقول بسبب ترك المسكوت عنه فهذا إخلال في النقل ممتنع
604 - وقد تردد كلام الشافعي على خبرين ونحن نذكر سياق كلامه فيهما وبه يتم غرض المسألة قال الشافعي رحمه الله نل بعض النقلة عن ابن مسعود أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بحجرين وروثة ليستنجي بها فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم الروثة وقال إنها رجس وروى بعض الرواة أنه رمى بالروثة ثم قال ابغ لي
ثالثا والسكون عن ذكر الثالث ليس يخل بنقل الرواية وبيان أنها رجس ولكن قد يوهم النقل على هذا الوجه جواز الاكتفاء بحجرين فلا يجةو مع هذا الإيهام الاقتصار على بعض الحديث ويحمل رواية المقتصر على أنه لم يبلغه غير ما رواه
605 - والذي أختاره في هذا المسلك أن الراوي إن قصد إثبات منع استعمال الروث ونقل ما يدل على ذلك من رمى رسول الله صلى الله عليه و سلم الروثة وحكمه بأنها نجسة فهذا سائغ غير بعيد وإن لم يعلق روايته بقصده منع استعمال الروثة ولكنه استفتح الرواية غير متعلقة بغرض معين فلا يسوغ الاقتصار على ذكر رمى الروثة فإن ذلك يوهم جواز الاكتفاء بحجرين كما ذكر الشافعي فهذا أحد الخبرين
606 - والخبرالثاني في هذا القبيل حديث ماعز في الرجم في مقابلة ما روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم الثيب بالثيب جلد مائة والرجم
قال الشافعي رحمه الله هذا منسوخ بحديث ماعز فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر برجمه ولم ينقل أنه جلده ثم استوفى الشافعي الكلام في صيغة الأجوبة عن أسئلة وجهها على مانسوقها على وجهها قال فإن قيل لعله جلده ورجمه قيل له كانت فصة مشهورة من مشاهير القصص ولو جلد لنقل
فإن قيل رب تفصيل في القصة لا يتفق نقله ودواعي النفوس إنما تتوفر على نقل كليات الأقاصيص وقد صح في الحديث المقدم التصريح بالجلد فلا يعارضه التعلق بعدم النقل في حديث مع اتجاه وجه ترك النقل فيه
قال الشافعي مجيبا الأمر كذلك والحق أحق أن يتبع ولولا أن أبا الزبير روى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا ولم يجلد لكنا نعارض الحديث الأول بقصة ماعز
607 - قال القاضي ما ذكره الشافعي يتأكد بالإجماع على ترك الجلد وليس ما ذكره القاضي مسلما ففي السلف من يجمع بين الجلد والرجم ولولا ذلك لما اعتني الشافعي بالكلام على الحديث ثم قال القاضي وما أرى الحديث الأول إلا هفوة فإن من يقتل الأحجار أي معنى لجلده مائة وهو يدق بالأحجار إلى الموت فلعل الراوي سمع الجلد في البكر فاطرد على ذكره في الثيب ولا نهاية لمواقع إمكان الغلطات في الروايات
وهذا الذي ذكره القاضي لا يسوغ التعلق بمثله في رد رويات الثقات ولكن تقوى به مسالك التأويل وتظهر غلبات الظنون وهذا منتهى القول في ذلك
مسألة
608 - إذا روى طائفة من الأثبات قصة وانفرد واحد منهم بنقل زيادة فيها
فالزيادة من الراوي الموثوق به مقبولة عند الشافعي وكافة المحققين ومنع أبو حنيفة التعلق بها
واستدل الشافعي بأن انفراد بعض الناقلين بالاطلاع على مزيد ليس بدعا والناقل قاطع بالنقل فلا يعارض قطعه ذهول غيره وإذا ظهرت عدالة الراوي ولم يعارض نقله نقل يعارضه فلا يسوغ اتهام مثبت في نقله لعدم نقل غيره والدليل عليه أنه لو شهد جمع مجلس الرسول عليه السلام فنقل بعضهم حديثا ولم ينقل غيره من الحاضرين شيئا منه فهو مقبول ولا يسوغ تقدير الخلاف فيه فإن معظم الأحاديث التي نقلها الاحاد والأفراد عزوها إلى مشاهد لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومجالسه بين أصحابه كان كذلك ولو شرط نقل كل من شهد لرد معظم الأحاديث
والذي يعضد ما ذكرناه أن الشهادات تبر في وجوه من التعبدات على الراويات وهي تضاهيها في أصل اعتبار الثقة ثم لو شهد جمع من العدول رجلا وشهدوا على إقراره لإنسان وانفرد عدلان من الشهود الحضور بمزيد في شهادتهما فهي مقبولة ولا يقدح فيها سكوت الباقين عنها فإذا كان ذلك لا يقدح في الشهادات مع أنها قد ترد بالتهم فالروايات بذلك أولى وليس
ما ذكرناه من فن القياس ولكنا أوردنا ما أوردناه استشهادا في تحقيق الثقة
609 - قال الشافعي من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القران وبين رد الزيادة الت ينفرد بعض الرواة الثقات مع العلم بأن سبيل إثبات القران أن ينقل استفاضة وتواترا فما كان أصله كذلك إذا قبلت الزيادة فيه شاذة نادرة فلأن تقبل فيما سبيل نقله الاحاد كان أولى
610 - وهذه المسألة عندي بينة إذا سكت الحاضرون عن نقل ما تفرد به بعضهم فأما إذا صرحوا بنفى ما نقله عند إمكان غطلاعهم على نقله فهذا يعارض قول المثبت ويوهيه وقد أرى قبول الشهادة على النفي إن فرض الاطلاع عليه تحقيقا
مسألة
611 - كل أمر خطير ذي بال يقتضي العرف نقله إذا وقع تواترا إذا نقله احاد فهم يكذبون فيه منسوبون إلى تعمد الكذب أو الزلل وقد أجرينا هذا في أدراج أحكام التواتر ووجهنا أسئلة مخيلة وانفصلنا عنها
وقال أبو حنيفة بانيا على هذا لا يقبل خبر الواحد فيما يعم به البلوي فإن سبيل ما كان كذلك أن ينقل استفاضة
612 - ونحن نقول رد أبو حنيفة أخبار الاحاد في تفاصيل ما يعم به البلوي وأسند مذهبه إلى ذلك وهذا زلل بين فإن التفاصيل لا تتوافر الدواعي بها على نقلها توافرها على الكليات فنقل الصلوات الخمس مما يتواتر فأما تفصيلها في
الكيفية فلا يقضي العرف بالاستفاضة والدليل القاطع فيه أنه لو كان مما يتواتر لنقل تواترا فإذا لم ينقل نقيضه مع القطع بأنه لا بد من وقوع أحدهما دل على أن ما ورد خبر الاحاد فيهمن قبيل ما لا يجب التواتر فيه على حكم الاعتياد
وتمام البيان فيه أنا إنما نكذب المنفرد بالنقل في كلى متواتر قطعا لو وقع أو في تفصيل يقضي العرف التواتر فيه ثم لا بد أن يتواتر نقيض ما نقله المنفرد بنقله
مسألة
613 - ظاهر مذهب الشافعي أن القراءة الشاذة التي لم تنقل تواترا لا يسوغ الاحتجاج بها ولا تنزل منزلة الخبر الذي ينقله احاد من الثقات ولهذا نفى التتابع واشتراطه في صيام الأيام الثلاثة في كفارة اليمين ولم ير الاحتجاج بما نقله الناقلون من قراءة ابن مسعود في قول الله تعالى فصيام ثلاثة أيام متتابعات
وشرط أبو حنيفة التتابع وتعلق بهذه القراءة ولا يكاد يخفى أولا على ذي بصيرة أن العمل بزيادة في القران بنقل الاحاد يناقض رد ما ينفرد به بعض الثقات من الزيادات في الأخبار التي لا تقتضي العادة نقلها متواترا
614 - والذي يحقق سقوط الاحتجاج بالقراءة الشاذة أمران أحدهما أن القران قاعدة الإسلام وقطب الشريعة وإليه رجوع جميع الأصول ولا أمر في الدين أعظم منه وكل ما يجل خطره ويعظم وقعه لا سيما من الأمور الدينية فأصحاب الأديان يتناهون في نقله وحفظه ولا يسوغ في اطراد الاعتياد رجوع
الأمر إلى نقل الاحاد ما دامت الدواعي متوفرة والنفوس إلى ضبط الدين متشوفة
وهذا يستند إلى ما سبق تمهيده فيما يقتضي تواتر الأخبار فهذا وجه
والوجه الثاني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أجمعوا في زمن أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه على ما بين الدفتين واطرحوا ما داه وكان ذلك عن اتفاق منهم وابن مسعود لما شبب بنكر ناله من خليفة الله تعالى أدب بين ولم ينكر على عثمان في ذلك منكر وكل زيادة لا تحويها الأم ولا تشمل عليها الدفتان فهي غير معدودة في القران
615 - وأما ما يتعلق باختلاف القراءة في اعراب القران فليس مما يحوي المصحف المجمع عليه مخالفة له فإنه لم يثبت في المجموع في الأم قطع في التعرض لذلك فكان الأمر فيه محالا على نقل القراءة تواترا فإن خالج قلب من لم يعن بحفظ القران ريب في تواترها فذلك لأنه ليس من القراء والمرعى في التواتر ما يتلفى من أهل ذلك الشأن والتوار ينقسم منه ما يعم الكافة لاشتراكهم في سببه كنقل الدول والبلدان ومنه ما يختص به طوائف وفرق لاختصاصهم بالاعتناء به
616 - ولا ينبغي أن ينسبنا الناظر والمنهخى إلى هذا المقام إلى تقصير فيما يتعلق بمحل الإشكال في نقل القران العظيم فإنه قطب عظيم لم يشف القاضي فيه الغليل في كتاب الانتصار وإن عد ذلك من أجل مصنافته وفي نفسي أن أجمع من ذلك ما تقر به الأعين إن شاء الله تعالى وحظ هذه المسألة مما ذكرنا أن نقل
الاحاد في القران يلتحق بنقل الاحاد فيما يقتضي العادة في التواتر وهذا كاف
وقد نجزت مسائل الأخبار
-
الكتاب الثاني - كتاب الإجماع
617 - أصدر هذا الكتاب مستعينا بالله تعالى بثلاث مسائل ثم نخوض بعد نجازها في ترتيب الكتاب تأصيلا وتفصيلا
إحدى المسائل الثلاث في تصور الإجماع وقوعا والأخرى في كونه حجة وذكر الخلاف فيه والأخرى في المسالك الدالة على كون الإجماع حجة
مسألة
618 - ذهب طوائف من الناس إلى أن الإجماع لا يتصور وقوعه واشتد كلام القاضي ونكيره على هؤلاء وتعدى حد الإنصاف قليلا
ونحن نسلك مسلكنا في استيعاب ما لكل فريق حتى إذا لاحت نهايات النفي والإثبات وضح منها مدرك الحق
619 - فأما الذين منعوا تصور الإجماع فإنهم قالوا قد اتسعت خظة الإسلام ووقعته وعلماء الشريعة متباعدون في الأمصار ومعظم البلاد المتباينة لا تتواصل الأخبار فيها وإنما يندرج المندرج من طرف إلى طرف بسفيرات ورفيقات
ولا يتفق انتهاض رفقة ومدها مدة واحدة من الشرق إلى الغرب فكيف يتصور والحالة هذه رفع مسألة إلى جميع علماء العالم ثم كيف يفرض اتفاق ارائهم فيها مع تفاوت الفطن والقرائح وتباين المذاهب والمطالب وأخذ كل جيل صوبا في اساليب الظنون فتصور اجتماعهم في الحكم المظنون بمثابة تصور اجتماع العالمين في صبيحة يوم على قيام أو قعود أو أكل مأكول ومثل ذلك غير ممكن في اطراد العادة نعم إن انخرقت لنبي أو ولى على رأى من يثبت الكرامات فنعم وبالجملة لا يتصور الإجماع مع اطراد العادة فهذا قول هؤلاء ثم زاجوا إيهاما اخر فقالوا لو فرض الإجماع فكيف يتصور النقل عنه تواترا والحكم في المسألة الواحدة ليس مما تتوفر الدواعي على نقله
فقد أسندوا كلامهم إلى ثلاث جهات مترتبات في العسر أولها تعذر عرض مسألة واحدة على الكافة والأخرى عسر اتفاقهم والحكم مظنون والثالثة تعذر النقل تواترا عنهم واختتموا هذه بأن قالوا لو ذهب ذاهب من العلماء إلى مذهب فما الذي يؤمن من بقائه عليه وإصراره على مذهبه إلى أن يطبق النقل طبق الأرض فهذه عين كلام هؤلاء
620 - قال القاضي معترضا عليهم متتبعا مسالكهم نحن نرى إطباق جيل من الفار يربى عددهم على عدد المسلمين وهم متفقون على ضلالة يدرك بأدنى فكر بطلانها فإذا لم يتمتنع إجماع أهل الدين على الإحاطه بذلك منهم وإن أردنا
فرض ذلك في الفروه فنحن نعلم إجماع علماء أصحاب الشافعي على مذهبه في المسائل مع تباعد الديار وتنائي المزار وانقطاع الأسفار فبطل ما زخرفه هؤلاء
ثم قال القاضي لا يمتنع تصور ملك تنفذ عزائمه في خظة أهل الإسلام إما باحتوائه على البيضة أو بعلو قدره واستمكانه من إحضار من يشاء من المماليك بجوازم أوامره المنفذه إلى ملوك الأطراف وإذا كان ذلك ممكنا فلا يمتنع أن يجمع مثل هذا الملك علماء العالم في مجلس واحد ثم يلقى عليهم ما عن له من المسائل ويقف على خلافهم ووفاقهم فهذا وجه في التصوير بين لا يتوقف تصوره على فرض خرق العادة فهذا منتهى كلامه
621 - ونحن نفصل الان القول في ذلك قائلين لا يمتنع الإجماع عند ظهور دواع مستحثه عليه داعية إليه ومن هذا القبيل كل أمر كلى يتعلق بقواعد العقائد في الملل فإن على القلوب روابط في أمثالها حتى كأن نواصي العقلاء تحت ربقة الأمور العظيمة الدينية ومن هذا القبيل ما استشهد به القاضي من اجتماع جموع الكفار على ما وقتوه من دينهم ومنه اجتماع أتباع إمام على مذهبه فإن كل من رأسه ازمان يصرف إليه قلوب الأتباع وبذلك يتصل النظام وهذا مستبين في الجلى والخفى
وما ضوره القاضي من إحضار جميع العلماء ليس منكرا فقد تكون أطراف المماليك في حق الملك العظيم كأنها بمرأى منه ومسمع فلا يبعد ما قاله على ما صوره
622 - وأما فرض اجتماع على حكم مظنون في مسألة فردة ليست من
كليات الدين مع تفرق العلماء واستقرارهم في أماكنهم ونتفاء داعية تقتضي جمعهم فهذا لا يتصور مع اطراد العادة فإذا من أطلق التصور أو عدم التصور فهو زلل والكلام المفصل إذا أطلق نفيه أو إثباته كان خلفا ومن ظن أن تصور الاجماع وقوعا في زماننا في احاد المسائل المظنونة مع انتفاء الدواعي الجامعة هين فليس على بصيرة من أمره نعم معظم مسائل الإجماع جرى من صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم مجتمعون أو متقاربون فهذا منتهى الغرض في تصوير الإجماع
المسألة الثانية في كونه حجة إذا وقع
623 - ما ذهب إليه الفرق المعتبرون من أهل المذاهب أن الإجماع في السمعيات حجة وأول من باح بردة النظام ثم تابعه طوائف من الروافض وقد يطلق بعضهم كون الإجماع حجة وهو في ذلك ملبس فإن الحجة عنده في قول الإمام القائم صاحب الزمان وهو منغمس في غمار الناس فإذا استفر الإجماع كان قوله من جملة الأقوال فهو الحجة وبه التمسك
624 - وعمدة نفاة الإجماع أن العقول لا تدل على كون الإجماع حجة وليس يمتنع في مقدور الله تعالى أن يجمع أقوام لا يعصم احادهم عن الخطأ على نقيض الصواب فإذا ليس في العقل متعلق في انتصاب الإجماع حجة فلم يبق إلا تتبع الأدلة السمعية وتعيين انتفاء القاطع فيها والقاطع نص الكتاب أو نص
السنة متواترا والمسألة عرية عنهما فلا دليل إذا على أن الإجماع حجة وهذا الكلام مخيل بالغ في فنه إن لم يسلك المسلك المرضى في تتبعه
625 - ثم تمسك القائلون بالإجماع باى من كتاب الله تعالى ونحن نذكر أوقعها فمما استدل به الشافعي قول الله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الايه ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما نولى ونصله جهنم وساءت مصيرا فإذا أجمع المؤمنون على حكم في قضية فمن خالفهم فقد شاقهم المعترضون وظنى أن معظم تلك الاعتراضات الفاسدة تكلفه المصنفون حتى ينتظم لهم أجوبة عنها ولسن لأمثالها
بل أوجه سؤالا واحدا يسقط الاستدلال بالاية فأقول إن الرب تعالى أراد بذلك من أراد الكفر وتكذيب المصطفى صلى الله عليه و سلم والحيد عن سنن الحق وترتيب المعنى ومن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين المقتدين به نوله ما تولى فإن سلم ظهور ذلك فذلك وإلا فهو وجه في التأويل لائح ومسلك في الإمكان واضح فلا يبقى للمتمسك بالاية إلا ظاهر معرض للتأويل ولا يسوغ التمسك بالمحتملات في مطالب القطع وليس على المعترض إلا أن يظهر وجها في الإمكان ولا يقوم للمحصل عن هذا جواب إن أنصف
626 - فإن تمسك مثبتو الإجماع بما روى عن النبي عليه لسلام أنه قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وقد روى الرواة هذا المعنى بألفاظ مختلفة فلست أرى
للتمسك بذلك وجها لأنها من أخبار الاحاد فلا يجوز التعلق بها في القطعيات وقد تكرر هذا مرارا
ولا حاصل لقول من يقول هذه الأحاديث متلقاة بالقبول فإن المقصود من ذلك يئول إلى أن الحديث مجمع عليه وقصاراه إثبات الإجماع بالإجماع على أنه لا تستتب هذه الدعوى أيضا مع اختلاف الناس في الإجماع
ثم الأحاديث متعرضة للتأويلات القريبة المأخذ الممكنة فيمكن أن يقال قوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتى على ضلالة بشارة منه مشعرة بالغيب في مستقبل الزمان مؤذنه بأن عليه السلام لا ترتد إلى قيام الساعة وإذا لم يكن الحديث مقطوعا به نقلا ولم يكن في نفسه نصا فلا وجه للاحتجاج به في مظان القطع
627 - فإن قيل قد تحقق أن العقول لا تدل على ثبوت الإجماع واستبان أنه ليس في المعيات قاطع دال على أن الإجماع واجب الاتباع فلا معنى بعد ذلك إلا الرد والإجماع عصام الشريعة وعمادها وإليه استنادها
قلنا الإجماع حجة قاطعة والطريق القاطع في ذلك أن نقول للإجماع صورتان نذكرهما ونذكر السبيل المرضى في إثبات الإجماع في كل واحدة منهما إحداهما أن نصادف علماء العصر على توافرهم في أطراف الخطة وأوساطها مجمعين على حكم مظنون وللرأي فيه مضطرب فنعلم والحالة هذه أن اتفاقهم إن وقع لا يحمل على وفاق اعتقاداتهم وجريانها على منهاج واحد فإن ذلك مع تطرق
وجوه الإمكان واطراد الاعتياد مستحيل بل يستحيل اجتماع العقلاء على معقول مقطوع به في أساليب العقول إذا كان لا يتطرق إليه إلا بإنعام نظر وتسديد فكر وذلك لاختلاف الناظرين في نظرهم فإذا كان حكم العادة هذا في النظر القطعي فما الظن بالنظر الظني الذي لا يفرض فيه قطع فإذا تقرر أن اطراد الاعتياد يجيل اجتماعهم على فن من النظر فإذا ألفيناهم قاطعين بالحكم لا يرجعون فيه رأيا ولا يرددون قولا فنعلم قطعا أنهم أسندوا الحكم إلى شيء سمعي قطعي عندهم ولا يبعد سقوط النقل فيه فهذا مسلك إثبات الإجماع في هذه الصورة
628 - فأما الصورة الثانية وهي إذا أجمعوا على حكم مظنون وأسندوه إلى الظن وصرحوا به فهذا أيضا حجة قاطعة والدليل على كونه حجة أنا وجدنا العصر الماضية والأمم المنقرضة متفقة على تبكيت من يخالف إجماع العلماء علماء الدهر فلم يزالوا ينسبون المخالف إلى المروق والمحادة والعقوق ولا يعدون ذلك أمرا هينا بل يرون الاجتراء على مخالفة العلماء ضلالا بينا فإجماعهم على
هذا مع الإنصاف كالقطع في مجال الظن عند نظر العقل فإذا التحق هذا بإجمناعهم قطعا في حكم مطنون قطع به المجمعون من غير ترديد ظن فليكن الإجماع على تبكيت المخالف وتعنيفه مستند قاطع شرعي ولا يبعد أن يكون ذلك بعض الأخبار التى ذكرناها تلقاها من تلقاها من فلق في رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلم بقرائن الحال قصد المصطفى عليه السلام في انتصاب الإجماع حجة ثم علموا ذلك وعملوا واستمروا على القطع بموجبه ولم يهتموا بنقل سبب قطعهم فقد تقرر الان انتصاب الإجماع دليى قاطعا وبرهانا ساطعا في الشرع
المسألة الثالثة
629 - في التنصيص على المسلك الذي ثبت الإجماع به إذ لا مطمع في إسناده إلى العقل وكذلك لا مطمع في إسناده إلى دليل قاطع سمعي هجوما عليه من غير اعتبار واسطة
فإذا الواسطة التي هي العمدة النظر في قضيات اطراد العادات كما سبق تقرير ذلك في الصورتين ثم إذا أنعم الباحث نظره كان متعلقه دليلا قاطعا سمعيا يشعر الإجماع به
فإن قيل ما ذكرتموه إخراج الإجماع عن كونه حجة قلنا هذه الان غباوة فإن ذا التحصيل لا يطمع في كون إجماع الناس حجة لعينه وإنما المطلوب المكتفي به استناده إلى حجة والدليل عليه أن قول المصطفى صلوات الله عليه في نفسه ليس
بحجة ولكنه مشعر بتبليغ قول الله تعالى حقا صدقا وهو المطلوب المقصود وليس وراء الله للمرء مذهب
فصل 630 - الكلام بعد هذه المسائل الثلاث في أربعة فنون
أحدها في عدد المجمعين وصفتهم
والثاني في الزمن لمعتبر في الإجماع
والثالث في كيفية الإجماع قولا أو سكوتا أو فعلا
والرابع فيما يثبت بالإجماع وفيما لا يثبت
631 - فأما الفن الأول فإنه ينقسم إلى مسائل خلافية وفصول مذهبية ومجموع القول فيه يقع في نوعين
أحدهما في صفة المجمعين والثاني في عددهم
فأما الصفة فلا شك أن العوام ومن شدا طرفا قريبا من العلم لم يصر بسبب ما تحلى به من المتصرفين في الشريعة وليسوا من أهل الإجماع فلا يعتبر خلافهم ولا يؤثر وفاقهم وأما المفتون المجتهدون فلا شك في اعتبارهم وأما الذين تبحروا في الأصول وقواعد الشرع وأطراف من الفقه والذين تبحروا في يجمعه مضمون المسألة التي نرسمها إن شاء الله تعالى
مسألة
632 - ذهب القاضي إلى أن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه يعتبر خلافه ووفاقه
والذي ذهب إليه معظم الأصوليين خلاف ذلك فإن من وصفه القاضي ليس من المفتين ومن لم يكن منهم ووقعت له واقعة لزمه أن يستفتي المفتين فيها فهو إذا من المقلدين ولا اعتبار بأقوالهم فإنهم تابعون غير متبوعين وحملة الشريعة مفتوها والملقدون فيها
واحتج القاضي لمذهبه بأن قال من وصفته من أهل التصرف في الشرع وهو ممن يستضاء برأيه ويستهدي بنهجة وأنحائه في مجلس الاشتوار وإذا كان كذلك فخلافه يشير إلى وجه من الرأي معتبر وإذا ظهر على اعتباره في الخلاف انبنى عليه اعتبار الوفاق وعضد ما قاله بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا في النظر في المشكلات لا ينكرون على ذوي الفطن والأكياس من الناس رأيهم إنكار توبيخ وتقريع وتحذير من مخالفة الإجماع وأهله فإن ابن عباس كان يفاوض حلة الصحابة رضي الله عنهم وما كان بلغ بعد مبلغ المدتمهدين
وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر فإنه ما أظهر ابن عباس الخلاف إلا بعد استجماعه خلال الكمال فمن ادعى أنه وقت مخالفته ما كان من المدتهدين فقد أحال قوله على عماية لا تحقق فيها
وعلى الجملة إذا أجمع المفتون وسكت المتصرفون فيبعد أن يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم وأخذ رأيهم فإن الذين لا يستقلون بأنفهم في جواب مسألة ويتعين عليهم تقليد غيرهم فوجوب مراجعتهم محال وإن فرض عدم الإنكار عليهم إذا أبدوا وجها في التصرف إن سلم ذلك فهو محمول على إرشادهم وهدايتهم إلى سواء السبيل وإن أبدوا أقوالهم إبداء من يرغم الإجماع فالإنكار يشتد عليهم
633 - والقول المغنى في ذلك أنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ المجتهدين وليس بين من يقلد ويقلد مرتبة ثالثة فإن قيل إذا أجمع المفتون والمتصرفون الذين لم يبلغوا ذروة الفتوى فهذا إجماع مقطوع به وإذا أجمع المفتون وخالفهم المتصرفون فيلتحق هذا بما لا يقطع بكونه إجماعا وإنما يقوم الإجماع حجة إذا كان النظر مقطوعا به قلنا النظر السديد يتخطى كلام القاضي وعصره ويترقى إلى اعصر المتقدم ويفضي إلى مدرك الحق قبل ظهور هذا الخلاف
فأما التحقيق خالف القاضي أو وافق أن المجتهدين إذا اطبقوا لم يعد خلاف المتصرفين مذهبا محتفلا به فإن المذاهب لأهل الفتوى فإن شبب القاضي بأن المتصرف الذي ذكره من أهل الفتوى في كلامه تشبيب بهذا فنشرح القول في كتاب الفتوى والكلام الكافى في ذلك أنه إن كان مفتيا اعتبر خلافه
مسألة
634 - ذهب معظم الأصوليين إلى أن الورع معتبر في أهل الإجماع والفسقة وإن كانوا بالغين في العلم مبلغ المجتهدين فلا يعتبر خلافهم ووفاقهم فإنهم بفسقهم خارجون عن الفتوى والفاسق غير مصدق فيما يقول وافق أو خالف
635 - وهذا فيه نظر عندي فإن الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره بل يلزمه
أن يتبع في وقائعه ما يؤدي إليه اجتهاده وليس له أن يقلد غيره فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده مخالف اجتهاد من سواه وإذا بعد انعقاد الإجماع في حقه استحال انعقاد بعض حكمه حتى يقال انعقد الإجماع من وجه ولم ينعقد من وجه
فإن قيل هو عالم في حق نفسه باجتهاده مصجق عليه فيما بينه وبين ربه وهو مكذب في حق غيره فلا يمتنع انقسام أمره على هذا الوجه فينقسم حكم الإجماع في حقه قلنا هذا محال فإن الفاسق لا يقكع بكذبه ولا يقطع بصدقه فهو كعالم في غيبته فإن تاب كان كما لو اب الغائب فهذا ما تمس الحاجة إلى ذكره من صفات المجمعين
636 - والقول الضابط في كل ما لم نذكره أن كل ما لا يعتبر عند المفتين فهو غير معتبر في المجمعين كالحرية والذكورة وغيرهما والكافر وإن حوى م علوم الشريعة أركان الاجتهاد فلا معتبر بقوله أصلا وافق أو خالف فإنه ليس من أهل الإسلام والحجة في إجماع المسلمين والمبتدع إن كفرناه لم نعتبر خلافه ووفاقه وإن لم نكفره فهو من المعتبرين إذا استجمع شرائط المجتهدين وقد قبل الشافعي شهادة أهل الأهواء ولم ينزلهم منزلة الفسة فهذا أحد طرفي هذا الفن
637 - فأما الكلام في عدد المجمعين فإن كان علماء العصر بالغين مبلغا لا يتوقع
منهم التواطؤ وهم الذين يسمون عدد التواتر فلا شك في انعقاد الإجماع بوفاقهم وإن فرض نقصان عدد علماء العصر عن هذا المبلغ فهذا موضع التردد
مسألة
638 - ذهب بعض أهل الأصول إلى أنه لا يجوز انحطاط علماء العصر عن مبلغ التواتر فإنهم قومة للملة وحفظة للشريعة وقد ضمن الله قيامها ودوامها وحفظها إلى قيام الساعة ولو عاد العلماء إلى عدد لا ينعقد منهم التواطؤ فلا يتأتي منهم الاستقلال بالحفظ
وقال الأستاذ يجوز بلوغ عددهم إلى مبلغ ينحط عن عدد التواتر ولو أجمعوا كان إجماعهم حجة ثم طرد قياسه فقال يجوز ألا يبقى في الدهر إلا مفت واحد ولو اتفق ذلك فقوله حجة كالإجماع
639 - والذي نرتضيه وهو الحق أنه يجوز انحطاط عددهم بل يجوز شغور الزمان عن العلماء وتعطيل الشريعة وانتهاء الأمر إلى الفترة وهذا نيقصيه في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى فأما من قال إن إجماع المنحطين عن مبلغ التواتر حجة فهو غير مرضى فإن مأخذ الإجماع يستند إلى طرد العادة كما تقدم ذكره ومن لم يحن إسناد الإجماع إليه لم تستقر له قدم فيه
الفن الثاني
فأما الفن الثاني فهو القول في الزمان وتفصيل المذهب في اشتراط
انقراض العصر في انعقاد الإجماع
مسألة
640 - اختلفت مسالك القائلين بالإجماع في اشتراط انقراض المجمعين في انعقاد الإجماع
فذهب أقوام إلى أنه لا يحكم بانعقاد الإجماع ما بقى من المجمعين أحد
ثم هؤلاء يقولون لو أجمع العلماء في عصر ثم لحقهم لاحقون وبلغوا رتبة المجتهدين فلا يعتبر انقراضهم إذ قد يلحقهم اخرون
وهذا يفضي إلى عسر تصوير الانقراض فالمرعى إذا انقراض الذين أجمعوا أولا
ومن مقتضى هذا المذهب أنه لو رجع واحد من المجمعين فهو سائغ وتعود المسألة نزاعية بعد ما كانت تظن إجماعه وإنما يمتنع الخلاف إذا استمروا على الوفاق حتى انقرضوا
ثم قال هؤلاء لو اتفق اجتماع العلماء ومصيرهم إلى مذهب في واقعة ثم خر عليهم سقف على القرب أو عمهم وجه من وجوه الهلاك فقد انبرم إجماعهم في ذلك الحكم وإن كان ذلك في زمن قريب ولو بقوا زمنا طويلا مصمين على ما قالوه لم ينعقد الإجماع ما لم ينقرضوا
وقال القاضي إذا أجمعوا قامت الحجة من غير استئخار وانتظار انقراض ولو فرض خلاف بعد الوفاق كان المخالف خارجا عن حكم الإجماع خارقا ربقة الوفاق
وقال الأستاذ أبو إسحاق وطائفة من الأصوليين إن كان الإجماع قوليا لم يشترط فيه الانقراض وإن كان حصوله بسكوت جماهير العلماء على قول واحد منهم من غير إبداء نكير عليه فهذا النوع يشترط في انعقاده ووجوب الحكم به انقراض العصر خليا عن إظهار الإنكار
641 - والحق المرضى عندنا أن الإجماع ينقسم إلى مقطوع به وإن كان في مظنة الظن وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم
فأما ما قطعوا به على خلاف موجب الاعتياد فتقوم الحجة به على الفور من غير انتظار واستئخار فإنا أوضحنا أن ذلك إذا اتفق فهو محمل على رجوعهم إلى أصل مقطوع به عندهم وتقدير خلاف ذلك مخالف موجب طرد العادة والعادة لا تنخرق لا في لحظة ولا في اماد متطاولة
إن اتفقوا على حكم وأسندوه إلى الظن فلا يتم الإجماع ولا ينبرم مع إسنادهم ما أفتوا به إلى أساليب الظنون ما لم يتطاول الزمن فإن الإجماع على الحكم مع الاعتراف بالتردد في الأصل لا يعد إجماعا وإطباقا ولو فرض من بعضهم إظهار خلاف ما عن لهم على البدار لم يعد ذلك المخالف والحالة كما صورناه عاقا خارقا حجاب الهيبة فإنهم إذا قالوا قالوا قرنوه بما يرخى طول الناظر المتفكر وسوغ له طرق التفكير نعم إن استمروا على حكمهم ولم ينقدح على طول الزمن لواحد منهم خلاف فهذا الان يلتحق بقاعدة الإجماع وهذا عسر التصور فإن المظنون مع فرض كول الزمن فيه يبعد أن يسلم عن خلاف مخالف من الظانين فإذا تصور فالحكم ما ذكرناه فإن امتداد الأيام يبين إلحاقهم بالمصرين ويرفعهم عن رتبة المترددين ويتجه إذ ذاك توبيخ المخالفين ومخاكبتهم بأن ما ذكرتموه لو كان وجها معتبرا لما أغفله العلماء المفتون
وشرط ما ذكرناه أن يغلب عليهم في الزمن الطويل ذكر تلك الواقعة وترداد
الخوض فيها فلو وقعت الواقعة فسبقوا إلى حكم فيها ثم تناوسها فلا أثر للزمان والحالة هذه
ثم إذا لاح أن المعتبر ظهور الإصرار بتطاول الزمن فلو قالوا عن ظن ثم ماتوا على الفور كما تقدم تصوير ذلك فلست أرى ذلك إجماعا من جهة أنهم أبدوا وجها من الظن ثم لم يتضح إصرارهم فهذا هو المغزى
642 - ثم لو روجعنا في ضبك ذلك الزمان فقد أحوجنا إلى كشف الغطاء فإنا سنقول مجيبين المعتبر زمن لا يفرض في مثله استقرار الجم الغفير على رأى إلا عن حامل قاطع أو نازل منزلة القاطع على الإصرار وهذا إذا يمنع تصوير الإصرار مع البوح بالظن في جميع الزمان إلا أن يتكلف متكلف فيه وجها فنقول وقد يفهم ظهور وجه من الظن فإن الأمر البالغ الجلى الظني تبتدره العلماء ابتدارهم اليقين ولكن لا يلوح جلاؤه إلا بالإصرار
وللفطن أن يقول من انتهى إلى هذا المنتهى فقد اعتزر إلى القطع فإن ما بلغ في الوضوح مبلغا يجمع شتات الرأي فهو مسلك متبوع قطعا فليفهم الناظر ما يلقى إليه
643 - وإما إطلاق القاضي القول بقيام الحجة من غير تفصيل ففي أطراف كلامنا ما يدرؤه واشتراط الموت مع طول الزمن لا معنى له والاكتفاء به على قرب لا طائل وراءه
وما ذكره الأستاذ أبو إسحاق من ربط الإجماع السكوتي بالانقراض فغير مرضى فإنا سنوضح أن سكوت العلماء على قول قائل محل الظن لا يكون إجماعا ثم ما ذكره يلزمه اعتبار الزمان إذا باحوا بصدور حكمهم عن
موجب الظن كما قدمناه ثم لا معول على الانقراض فالذي اخترناه استثمار طرق الحق في المسالك كلها فهذا منتهى القول في الزمان وما يتعلق به
الفن الثالث في وجه انعقاد الإجماع
فأما الفن الثالث فمضمونه تفصيل القول في وجه انعقاد الإجماع
644 - والكلام في ذلك تفصله مسائل خلافية وفي أدراجها فصول مذهبية ونرسم المسائل أولا ونذكر ما فيها ونجرى في أثنائها ما يتعلق بحكاية المذاهب ثم إذا نجز الفن ختمناه بضابط يسهل التناول ويبين صور الخلاف والوفاق
مسألة
645 - إذا قال واحد في شهود علماء العصر فكان ذلك القول موافقا لبعض مذاهب العلماء في محل الاجتهاد ومسلك الظن فسكت العلماء عليه ولم يبدوا نكيرا على القائل فهو يكون تركهم النكير تقريرا نازلا منزلة إبداء الموافقة قولا
اختلف الأصوليون في ذلك فظاهر مذهب الشافعي وهو الذي يميل إليه كلام القاضي أن ذلك لا يكون إجماعا
والذي مال إليه أصحاب أبي حنيفة أنه إجماع وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق فنذكر ما تمسك به أصحاب أبي حنيفة ونتتبعه ثم نذكر المختار عندنا
فإن قالوا أهل الإجماع معصومون عن الزلل والعصمة واجبة لهم كما تجب للبني ثم إذا رأى النبي مكلفا يقول قولا متعلقا بأحكام الشرع فسكت عنه ولم ينهه كان ذلك تقريرا منه نازلا منزلة التصريح بالتصديق وإبداء الوفاق
وهذا الذي ذكروه لا حاصل له فإنه أولا محاولة إثبات الإجماع بطريق القياس وهذا ما لا سبيل إليه فإن الأقيسة المظنونة لا مساغ لها في القطعيات وغاية هذا الكلام تشبيه صورة بصورة وقياس حالة من قوم على حالة من الشارع عليه السلام
والذي يوضح فساد هذا المسلك أنه لا يمتنع في مقتضى العقل ورود التعبد باعتقاد تقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم شرعا مع التعبد بالعلم بأن سكوت العلماء لا ينزل منزلة تصريحهم بالقول فإذا لم يكن هذا ممتنعا في حكم العقل ولم يقم دليل قاطع سمعي على تنزيل سكوت العلماء منزلة سكوت الشارع عليه السلام فقد فسد هذا الاعتبار وال حاصلة إلى محاولة إثبات مقطوع به بمسلك هو في مجرى مظنون ثم لا عذر للشارع في السكوت على الباطل فإن الحق عتيد عنده وإن لم يكن فتلقى وجه الحق من مورد الوحى الذي هو بمر صاده هين عليه فأما أهل الإجماع إذا سكتوا في محل ظن حيث يرون للاجتهاد مساغا ومضكربا فسكوتهم محمول على تسويغ ذلك القول لذلك القائل فلاح الفرق مع الاستغناء عنه فإن القطعي لا ينتظم فيه جمع فيحوج إلى الفرق
646 - فالمختار إذا مذهب الشافعي فإن من ألفاظه الرشيقة في المسألة لا ينسب إلى ساكت قول ومراده بذلك أن سكوت الساكتين له محملان أحدهما موافقة القائل كما يدعيه الخصم والثاني تسويغ ذلك القول الواقع في محل الاجتهاد لذلك القائل وهذا ممكن بطرد العرف غير ملتحق بالنوادر
والدليل عليه أنا لو فرضنا اجتماع العلماء في مجلس وقام سئل إلى رجل حنفى وسأله عن مسألة اختلف العلماء فيها فلو أجاب المفتى الحنفي بما يوازى مذهب أبي حنيفة فسكت الحاضرون عليه لابتدرت الأوهام إلى حمل سكوتهم على التسويغ في محل الاجتهاد وتمهيد عذر المفتي المعرب عن مذهبه المسوغ وإذا تردد سكوتهم كما ذكرناه والإجماع هو القول الجازم المبتوت فيستحيل ادعاؤه على صفته وشروطه في محل تقابل الاحتمالات
وهذا يتضح بصورة تناقض صورة الخلاف وهي أن واحدا لو ذكر على رءوس الأشهاد وجمع المفتين قولا خرق به الإجماع وخالف دين الأمة فالمفتون لا يسكتون عليه بل يثورون مبادرين إلى الإنكار عليه وتجهيله وتسفيه عقله وذلك لأن الذي جاد به ليس قولا ينقدح تسويغه لقائل فهذا معنى قول الشافعي لا ينسب إلى ساكت قول
647 - ونحن نصور هذه المسألة في صورتين ونذكر في كل واحدة منها ما يليق بها حتى يستبين الناظر وجوه مجاري الكلام في نظائرهما من مسائل الشرع
فنقول قد يدعى أصحاب أبي حنيفة في بعض المسائل انتشار قول الصحابي في علماء العصر مع سكوتهم وتركهم الإنكار ثم يبنون عليه أن سكوتهم تقرير نازل منزلة التصديق بالقول ولا يستمر لهم إثبات الانتشار وذلك كتعلقهم تقرير نازل منزلة التصديق بالقول ولا يستمر لهم إثبات الانتشار وذلك كتعلقهم بقضاء عثمان رضي الله عنه بتوريث المبتوتة في قصة تماضر زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ويتجه في هذه الصورة وأمثالها أسئلة قبل الانتهاء إلى ابداء الخلاف في المسألة
منه أنا نقول ما ادعيتموه من الانتشار في كافة علماء الأمصار فأنتم منازعون فيه وليس كل قضاء يقضي به إمام أو وال من الولاة يشاع ويذاع في كافة العلماء ومن اعتاص عليه حكم من قضايا مطرد العادة في العصور المنقرضة فليصور
مثله في عصره فإن الأزمنة وأهلها على التداني في أحكام العادات ونحن نعلم في زمننا أن أقضية القضاة لا تنتشر في كافة العلماء وهذا السؤال إذا حققنا المباحثة فيه لم يجد الخصم عنه مهربا ولم يبق بيده مستمسك يحاول به إثبات غرضه فهذا نوع من السؤال متقدم على الخلاف في المسألة التي نحن فيها
648 - والسؤال الثاني أن نقول إن ثبت الانتشار فلعل بعض العلماء أنكر فدعوى سكوتهم لا اعتضاد له بثبت وتحقيق وغاية الخصم فيه أن يقول لو جرى إنكار لاشتهر وعنه جوابات واقعان أحدهما أنه إنما يشتهر كل خطب ذي بال وإنكار واحد من العلماء على قاض من القضاة ليس من الأمور الجسيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها فهذا وجه والوجه الثاني أن نقول لعله اشتهر أولا ثم انصرفت الدواعي عن المواظبة على تذكاره ودرس ما كان متواترا وذلك كثير في العرف وهذه الطلبات لا محيص عنها ولا يتواصل الخصم معها إلى تصوير صورة المسألة من الانتشار وعدم الإنكار على قطع استمرار فإن تأتي له التصوير وهيهات فما قدمناه قاطع من تقابل الاحتمالات فيمحامل السكون ولا سبيل إلى القطع مع التردد فهذه إحدى الصورتين
649 - والصورة الثانية لا يتجه فيها بعض هذه الأسئلة وهي كتعلق أصحاب أبي حنيفة في ترك انتظار بلوغ الأطفال في الاقتصاص بحديث قتل الحسن بن علي رضي الله عنهما عبد الرحمن بن ملجم وفي الورثة صبيان فلا سبيل في هذه القصة إلى ابداء مراء في الانتشار فإن الأمر عظيم والخطب جسيم ولكن ينقدح ادعاء نكير من بعض العلماء من غير انتشار الإنكار وسبيل التقرير ما مضى ثم وراء تسليم ذلك الدليل القاطع الذي قدمناه وين1م إلى تحقيقه حكم الأب في ترك الاعتراض على الأئمة فإنه ليس للعلماء إذا جرى قضاء قاض بمذهب مسوغ أن ينكروا
عليه مع نفوذ قضائه فهذا إذا وجه في الاستحثاث على السكوت فهذا منتهى القول في هذه المسألة
650 - وبعد ذلك كله غائلة هي خاتمة المسألة وغاية سرها ونحن نبديها في معرض سؤال وجواب فإن قيل إن اتجه في حكم العاة سكوت العلماء على قول مجتهد فيه مظنون في مسألة فاستمرارهم على السكوت زمنا متطاولا يخالف العادة قطعا إذا كان يتكرر تذاكر الواقعة والخوض فيها ومن لم يجعل السكوت إجماعا فإنما يستقيم له مطلوبة في السكوت في الزمان القصير ولهذا السؤال اشترط بعض المحققين في الأصول في الإجماع السكوتي انقراض العصر
651 - وأنا أقول لا يتصور دوام السكوت مع تذاكر الواقعة في حكم العادة قطعا وهذه صورة يحيل العقل وقوعها فإن هؤلاء سيخوضون فيها إما بوفاق أو خلاف لما يبدون حكمه وافقوا أو خالفوا فإذا لم يتصور استمرار السكوت حتى يبنى عليه ادعاء القطع ومن عجيب الأمر أن هذا القائل أحال إدامة السكوت من غير قطع ولم يعلم أنهم لو أضمروا القطع لأبدوه ولم يسكتوا إذا تطاول الزمان فرجعت صورة المسألة على الضرورة إلى السكوت في الزمان القصير وفيه الاحتمالات التي قدمناها ولا قطع من الاحتمال وهذا منتهى المسألة تصويرا وتقريرا
مسألة
652 - إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على قولين واستمروا على الخلاف
فالذي صار إليه معظم المحققين أن اختراع قول ثالث خرق للإجماع
وذهب شرذمة من طوائف الأصوليين إلى أن ذلك لا يكون مخالفة الإجماع واستدلوا بأمر تخيلوه على نقيض الصواب فقالوا اختلافهم يناقض الاتفاق ويفيد النازر أن المسألة في محل الظنون والخلاف متطرق إليها ولهذا لا يتضمن المنع من قول ثالث بل لو قيل إنه متضمن جواز الخلاف لكان ذلك قريبا وعضدوا هذا بأن قالوا التنصيص على القولين من غير قطع فريق بتخطئة الاخر بمثابة تصريحهم بأن الأمر مظنون وكل ذي ظن على ظنه
653 - وهذا الذي ذكروه ساقط فإن الذي انتعض معتمدا للإجماع بعد السبر والمباحثة ما تحصل وتنخل من قولنا إن المجتمعين قد يقطعون بما أجمعوا عليه وقد يسندونه إلى الظن فإن قطعوا فالأمر فيه متلقى من حكم العادة وهي قاضية لا محالة بإسناد المجمعين إلى قاطع فإن أسندوا المحكوم به إلى الظن فمعتمد الإجماع في هذه الصورة قطع العلماء في العصر الماضية بتبكيت من يخالف وليس ذلك أمرا معقولا فيستند القطع بالتبكيت إلى قاطع
654 - فإذا تجدد العهد بالمسلك الحق في الصورتين قلنا بعد ذلك إن ذكر علماء العصر قولين وقطعوا بنفي ثالث سواهما ورددوا الظن في القولين فنفيهم الثالث قطع في حصر الحق في القولين فإن فرض من يخترع مذهبا ثالثا فهو مخالف لإجماع مقطوع به وإن لم يصرحوا بنفي ثالث على قطع فتركهم التعرض له وحصرهم التردد في القولين في حكم اتفاقهم على حكم مظنون مع التصريح باستناده إلى الظن والتبكيت يتطرق إلى من قال قولا ثانيا والعلماء
الماضون على خلافه كذلك يتطرق التبكيت إلى من يخترع مذهبا ثالثا لم يصر إليه صائر من المتقدمين وإن كانوا مختلفين
وما ذكره الخصم تلبيس لا حاصل له فإن الصائرين إلى القولين سوغوا الخلاف منحصرا في القولين وهم قاطعون بنفي ما وراءهما أو ظانون وكلا الوجهين في نفي القول الثالث إجماع فقطعه ملحق بالقطع بالحكم الواحد وظن نفي القول الثالث ملحق بالإجماع على مذهب واحد مع الإسناد إلى الظن
655 - فإن رددوا كلاما واستدلوا به شاديا مبتديا فالسبب فيه والوجه في كشفه ما ننبه عليه فنقول
وقد ذكرنا أن القول الواحد المظنون إذا فرضنا الاتفاق عليه لم يكن الاتفاق عليه وهو مظنون إجماعا على القرب حتى يتمادى الزمن عليه على ما سبق تقريره في مسألة اشتراط انقراض المجمعين فإذا كان ذلك والقول واحد فهو أولى أن يعتبر والعلماء على قولين فإن ترديد القولين نهاية في تطريق الظنون ولو قيل تمادى الزمن المعتبر في هذه الصورة يبر على تماديه في اتحاد القول لكان حقا مبينا فهذا مغزى المسألة
مسألة
656 - إذا اختلف علماء العصر على قولين ثم رجع المتمسكون بأحد القولين إلى القول الاخر وصاروا مطبقين عليه فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن هذا إجماع
وذهب القاضي إلى أن هذا لا يكون إجماعا
وإذا انقرض العلماء على سجية الاختلاف ثم أجمع علماء العصر الثاني على أحد القولين فالاختلاف في هذه الصورة أظهر
قال قائلون هذا ليس بإجماع ولو تعلق متعلق بالقول المضرب عنه لم يكن خارقا للإجماع وميل الشافعي رضي الله عنه في أثناء ما يجريه إلى هذا
وقال قائلون هذا إجماع
وأما القاضي فلا شك أنه لا جعل هذا أجماعا ومن مذهبه أن المختلفين في العصر الأول لو رجعوا إلى قول واحد لم يكن ذلك إجماعا فإذا كان هذا غور مذهبه فكيف الظن به والإجماع من أهل العصر الثاني ثم إنه يستدل على تمهيد قاعدته بنكته واحدة فيقول إذا اختلف علماء عصر على مذهبين فقد ظهر اختلافهم في التحليل والتحريم مثلا ثم تضم تقرير كل قوم أصحابهم على مذهبهم إجاعا من كافتهم على أن الخلاف سائغ فيحصل في ضمن الخلاف مع التقرير الإجماع على جواز الخلاف فإذا فرض الرجوع إلى قول واحد فهذا غير منكر عملا ووقعا ولكنه مسبوق بالإجماع على تسويغ الخلاف وهذا يجري في العصر الواحد فإذا جرى فيه فلأن يجري في العصرين أولى
657 - وأما الذين جعلوا الاتفاق على قول من القولين السابقين إجماعا فإن بعضهم يتعلق ويستدل على بعض باجتماع المختلفين على أحد القولين قبل أن ينقرضوا ويقولون أيضا لو وقعت واقعة فاتفق علماء العصر على حكم واحد فيها كان اتفاقهم حجة وإكباقهم على قول واحد يجري هذا المجرى
ولا يستقر لهؤلاء قدم إلا بتخييل هو مكتتهم وعنها صدر ما قدمناه وذلك
أنهم قالوا المختلفون كأنهم بعد على تردد النظر وليس التردد مذهبا محققا وإنما يتلقى الإجماع من استقرار العلماء وليس تردد المترددين حجة على مخالفة قطع القاطعين
658 - والرأي الحق عندنا ما نبديه الان فنقول إن قرب عهد المختلفين ثم اتفقوا على قول فلا أثر للاختلاف المتقدم وهو نازل منزلة تردد ناظر واحد أولا مع استقراره اخرا وإن تمادى الخلاف في زمن متطاول على قولين بحيث يقضي العرف بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين على طول المباحثة لظهر ذلك للباحثين فإذا انتهى الأمر إلى هذا المنتهى فلا حكم للوفاق على أحد القولين وذلك أن ما صورناه من اختلافهم في الزمان مع مشاورة الذكر وترديد البحث يقتضي ما ذكره القاضي من حصول وفاق ضمني على أن الخلاف في هذه المحال سائغ
وشفاء الغليل في ذلك أن رجوع قوم وهم جم غفير إلى قول أصحابهم حتى لا يبقى على ذلك المذهب الثاني أحد ممن كان ينتحله لا يقع في مستقر العادة فإن الخلاف إذا رسخ وتناهى وتمادى الباحثون ثم لم يتجدد بلوغ خبر أو اية أو أثر يجب الحكم بمثله فلا يقع في العرف دروس مذهب طال الذب عنه فإن فرض فارض ذلك فالإجماع فيه محمول على أنه بلغ الراجعين أمر سوى ما كانوا يخوضون فيه في مجال الظنون ثم غاية النظر إن انتهى الأمر إلى هذا أنهم إن قطعوا بذلك فوفاقهم إجماع حملا على هذا وعلى هذا انبنى أصل الإجماع وإن فرض فارض عدم القطع مع الرجوع عن المذهب القديم فهذا يعيد في التصوير وإن تصور ذلك على تكلف فما أرى ذلك بالغا مبلغ الإجماع فإنه لا ينقدح فيه دعوى تبكيت من يتعلق بالقول المرجوع عنه حسب انقداح ذلك في مواقع القطع
وإذا ظهر في التردد زال ادعاء الإجماع فإن الإجماع واجب الاتباع وهو المقطوع به فهذا قولنا مع اتحاد العصر
659 - فأما إذا انقرض علماء العصر مع طول الزمان فإن المعتمد عندنا طول الزمان على الخلاف ثم إذا اجتمع علماء العصر الثاني على أحد المذاهب فالوجه أن لا يجعل ذلك إجماعا لما قرره القاضي من استنباط الإجماع على تسويغ الخلاف وما ذكره الأولون من اعتبار هذه الصورة جمع بترديد ناظر أولا واستقراره اخرا فقول عرى عن التحصيل فإن استمرار العلماء الغواصين المعتنين بالبحث المتدارك على الخلاف قطع منهم بأن لا سبيل إلى القطع فإن اجتمع في العصر الثاني قوم على أحد المذاهب فهو اجتماع وفاقى على مذهب مسبوق بقطع الأولين بنفى القطع وتسويغ الخلاف وأين يقع هذا ممن يتردد أولا ثم يتمم نظره
والذي يحقق ذلك أن المذاهب التي انتحلها الأولون جرت بها أقضية وأحكام ونيط بها سفك دماء وتحليل فروج من غير إنكار فريق على فريق والمتردد في نظره لا ينوط بتردده حكما ومن العبارات الرشيقة للشافعي أنه قال المذاهب لا تموت بموت أصحابها فيقدر كأن المنقرضين أحياء ذابون عن مذاهبهم وتحقيق هذا ما ذكرناه
مسألة
660 - إذا اتفق أهل الإجماع على عمل ولم يصدر منهم فيه قول فقد قال قوم من الأصوليين فعل أصحاب الإجماع كفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سبق تفصيل
المذاهب في أفعال رسول الله عليه السلام
ومتعلق هؤلاء أن العصمة ثابته لأهل الإجماع ثبوتها للشارع فكانت أفعالهم كفعل الشارع صلى الله عليه و سلم
661 - قال القاضي وهذا غير مرضي عند المحققين من أوجه منها أن اجتماع أهل الإجماع على فعل يبعد تصويره فإنهم لا يعصمون عن الخطأ والزلل ولكن وفاقهم على قول حجة على الترتيب المقدم وإن زعم زاعم أنه يجب عصمتهم عن زلل عن الفعل فمعنى ذلك أن العصمة تجب لجميعهم فأما أن تجب لاحادهم عن زلل عن الفعل فمعنى ذلك أن العصمة تجب لجميعهم فأما أن تجب لاحادهم فلا فلم يمتنع صدر الزلل عن بعضهم وإذا كان كذلك فكيف يتأتي في العادة تصور عدد لا يسوغ منهم التواطؤ ثم يطبقون على فعل واحد فإن تكلف متكلف في تصويره فإنما يمكن فرضه إذا اجتمعا في مجلس واحد ثم ان تصور فلا احتفال به فإن متعلق الإجماع في الصورتين المتقدمتين ما قدمناه وليس يتحقق ذلك في الفعل فإنه لا يمتنع إذا فرض جمعهم أن يفعلوا فعلا ويعترف كل واحد منهم بأنه عاص به
662 - والذي أراه أنه إن تيسر فرض أجتماعهم في الفعل فهو حجة وهو خارج على الأصل الذي هو مستند الإجماع فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو جمعهم مجلس وقدم إليهم شيء فتعاطوه وأكلوه فمن حرمه عد خارقا للإجماع وتناهى أهل العصر في تبكيته فإذا يدل فعلهم على ارتفاع الحرج على حسب ما قدمناه في فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا إلى الفعل المطلق فإن تقيد بقرينة دالة على وجوب أو استحباب ثبت ما دلت القرينة عليه
الفن الرابع
في الأمر الذي ينعقد الإجماع فيه وفيما ينعقد الإجماع عنه
663 - فأما ما ينعقد الإجماع فيه حجة ودلالة فالسمعيات ولا أثر للوفاق في المعقولات فإن المتبع في العقليات الأدلة القاطعة فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق
664 - وأما ما ينعقد الإجماع عنه فالقول ينقسم فيه كما تقدم فإن كان المجمعون قاطعين على الحكم في مجال الظنون فلا يتأتى فرض هذا الإجماع إلا عن قاطع وإن أسندوا إجماعهم إلى ظن لم يمتنع أيضا ثم مستند الإجماع في كونه حجة قطع أهل الإجماع بتقريع من يخالف الإجماع
فهذا مجامع القول في الإجماع تفصيلا وتأصيلا وقد حاولنا جهدنا في إدراج مسائل الكتاب تحت التقاسيم وقد شذت مسائل قريبة منها ونحن نرسمها الان مرسلة إن شاء الله تعالى
مسائل متفرقة في الإجماع
مسألة
665 - اختلف الأصوليون في أن الإجماع في الأمم السالفة هل كان حجة
فزعم زاعمون أن إثباته حجة من خصائص هذه الأمة فإنها أمة مفضلة على سائر الأمم مزكاة بتزكية القران قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقال تعالى لتكونوا شهداء على الناس
ومنع مانعون هذا الفرق فقالوا لم يزل الإجماع حجة في الملل
وقال القاضي لست أدري كيف كان ولا يشهد له موجب عقلي على وجوب التسوية ولا على وجوب الفرق ولم يثبت عندنا في ذلك قاطع من طريق النقل فلا وجه إلا التوقف
666 - والذي أراه أن أهل الإجماع إذا قطعوا فقولهم في كل مسألة يستند إلى حجة قاطعة فإن تلقى هذا من قضية العادات والعادات لا تختلف إلا إذا انخرقت فأما إن فرض إجماع من قبلنا على مظنون من غير قطع فالوجه الان ما قاله القاضي لإنا لا ندري أن الماضيين هل كانوا يبكتون من يخالف مثل هذا الإجماع أم لا وقد تحققنا التبكيت في ملتنا
مسألة
667 - نقل أصحاب المقالات عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى اتفاق أهل المدينة يعني علماءها حجة وهذا مشهور عنه ولا حاجة إلى تكلف رد عليه فإن صح النقل فإن البقاع لا تعصم ساكنيها ولو اطلع مطلع على ما يجري بين لابتي المدينة من المجاري قضى العجب فلا أثر إذا للبلاد ولو فرض احتواء المدينة على جميع علماء الإسلام فلا أثر لها فإنه لو اشتمل عليهم بلدة من بلاد الكفر ثم أجمعوا لاتبعوا والظن بمالك رحمه الله لعلو درجته أنه لا يقول بما نقل الناقلون عنه نعم قد يتوقف في الأحاديث التي نقلها علماء المدينة ثم خالفوها لاعتقاده فيهم أنهم أخبر من غيرهم بمواضع الأخبار وتواريخها
مسألة
668 - إذا اتفق علماء التابعين على حكم في واقعة عنت في زمنهم فإجماعهم كإجماع الصحابة رضي الله عنهم
وذهب بعض المنتيم إلى الأصول إلى أن الحجة في إجماع الصحابة
وهذا تحكم لا أصل له فإن الدال على وجوب الإجماع في الأعصار واحد كما تقدم وليس للتحكم بتخصيص عصر وجه لا في عقل ولا في سمع وهو بمثابة قول من يقول لا احتجاج إلا في قياس الصحابة ولولا إرادتنا الإتيان على جميع المسائل وإلا كنا نضرب عن أمثال هذا
مسألة
669 - إذا ذهب معظم العلماء إلى حكم وخال فيه واحد منهم وكان من المعتبر في الخلاف والإجماع فلا ينعقد الإجماع مع خلافه
وقال ابن جرير الطبري لا يعتد بخلافه ويسمى عاقا شاقا حجاب الهيبة وطرد هذا في الاثنين وسلم أن مخالفة الثلاثة معتبرة
وكل ما ذكره مردود عليه فإن الإجماع هو الحجة والذي نحن فيه ليس بإجماع والثلاثة إذا نسبوا إلا ثلاثة الاف كالواحد إذا نسب إلى ألف
مسألة
670 - من فروع القول في اشتراط انقراض العصر من شرط انقراض العصر بالمجمعين فالمذهب الظار لهؤلاء أن علماء العصر لو أجمعوا ثم التحق بهم مجتهدون ناشئة في الزمن وخالفوهم والمجمعون الأولون مصرون وقد
انقرضوا فالمسألة إجماعية فإن التلاحق لو كان يمنع انعقاد الإجماع مع فرض الخلاف من المتلاحقين لما استقرت ثقة بالإجماع فإن العلماء يتلاحقون
وقال قائلون ممن شرط الانقراض خلاف المتلاحقين في بقاء المجمعين
671 - وهذا لعمرى قياس هذه الطريقة وإن كان يفضى ذلك إلى عسر في تصوير الإجماع وإنما قلنا القياس على اشتراط الانقراض هذا لأن اتفاق الأولين ليس إجماعا بعد بل الأمر موقوف فإذا خالف مخالفون كان هذا الخلاف واقعا قبل الحكم بانعقاد الإجماع فأما من لا يشترط الانقراض فلا شك أنه يجعل المخالفين خارقين للإجماع
672 - ومقصود هذه المسألة سؤال وجواب عنه
فإن قال قائل قد أحدث ابن عباس رضي الله عنه أقوالا خالف بها اتفاق جملة الضحابة وما كان ابن عباس في ابتداء العصر من أهل الإجماع فعلى ماذا يحمل ذلك قلنا لا محمل لتسويغ هذا إلا شيئان
أحدهما أن يقدر الصحابة رضي الله عنهم على تردد إلى أن استقل ابن عباس وأظهر مذهبه وكذلك كانوا في معظم مسائل الفرائض فهذا وجه
والوجه الثاني أن يفرض وقوع تلك المسائل في زمن بلوغه مبلغ الاجتهاد وقد كان يجري ابن عباس مذهبه مجرى من يبدى احتمالا ولا يعتقده وحمل على ذلك مذهه في المتعة وتخصيص الربا بالنسيئة
وقال عيسى بن أبان خلاف ابن عباس ومن تابعه من علماء الصابة غير معتبر أصلا وهذا على الإطلاق باطل فإن فصل فالوجه ما قدمناه
مسألة
673 - فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر
وهذا باطل قطعا فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر والقول في التكفير والتبرؤ ليس بالهين ولنا فيه مجموع فليتأمله طالبه نعم من اعترف بالإجماع وأقر بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما أجمعوا عليه كان هذا التكذيب ايلا إلى الشارع عليه السلام ومن كذب الشارع كفر
والقول الضابط فيه أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم أنكره كان منكرا للشرع وإنكار جزئه كإنكار كله والله أعلم
نجز النصف الأول من كتاب البرهان بحمد الله المعين المستعان على يدي حاجبه كاتبه أبي زيد حمد بن جعفر بن بشار رحمه الله في النصف من شوال سنة إحدى وستمائة هجرية النبوية صلوات الله عليه بمحروسة دمشق حماها الله تعالى هذه خاتمة الجزء الأول من النسخه -
البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين ابي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني
-
كتاب القياس مقدمة الكتاب ببيان منزلة القياس وضرورية 676 - القياس مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة وهو المفضى إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع مع انتفاء الغاية والنهاية فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة ومواقع الإجماع معدودة مأثورة فما ينقل منهما تواترا فهو المستند إلى القطع وهو معوز قليل وما ينقله الاحاد عن علماء الأعصار ينزل منزلة أخبار الاحاد وهي على الجملة متناهية ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها
677 - والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى متلقى من قاعدة الشرع والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع القياس وما يتعلق به من وجوه النظر والا ستدلال فهو إذا أحق الأصول باعتناء الطالب ومن عرف ماخذه وتقاسيمه وصحيحه وفاسده وما يصح من الاعتراضات عليها وما يفسد منها وأحاط بمراتبها جلاء وخفاء وعرف مجاريها ومواقعها فقد احتوى على مجامع الفقه
678 - وإن نحن خصصنا هذا الكتاب بفضل بسط فسببه مانبهنا عليه من عظم خطره واشتداد مسيس الحاجة إليه وابتنائه على أفضائه إلى مالا نهاية له مع انضباط مأخذه فليس النظر في الشرع مفوضا إلى استصلاح كل أحد فهي إذا متناهية
الأصول غير متناهية الجدوى والفوائد وهذا قد يحسبه الفطن المبتدىء متناقضا وسيأتي القول فيه مشروطا مشروحا إن شاء الله تعالى
679 - ثم الذي يقتضيه الترتيب أن نبتدىء القول في ماهية القياس ثم نبتني عليه نقل المذاهب في اعتقاد صحته وفساده ونبين المختار عندنا حتى إذا ثبت وجوب القول بالقياس على الجملة رتبنا بعده تراجم الكتاب على نظام وخضنا في الوفاء ببيان الجمل والتفاصيل
الباب الأول -
فصل القول في ماهية القياس 680 - لما كان القول في الصحة والفساد والرد والقبول مبنيا على الإحاطة بماهية الشيء اقتضى الترتيب تقديم هذا الباب
وإذا قيل لنا ما القياس عرفنا أولا أنا لم نسأل عن الصحيح والفاسد وإنما طولبنا بإثبات رسم مشعر بالقياس صحيحه وفاسده قطعيه وظنيه عقليه وشرعية فنذكر أقرب رسم يقرب من الوفاء بالاحتواء على الغرض ثم نذكر ما عداه ونبين وجه تطرق الاعتراض عليه ثم نختتم الفصل بأمرين بهما الختام والتمام
681 - فأقرب العبارات ما ذكره القاضي إذ قال
القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر يجمع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما
فقوله حمل معلوم على معلوم أراد به اعتبار معلوم بمعلوم وذكر المعلوم حتى يشتمل الكلام على الوجود والعدم والنفى والإثبات فإنه لو قال حمل شيء على شيء لكان ذلك حصرا للقياس في الموجودات وسبيل القياس أن يجري في المعدوم والموجود ثم فسر الحمل لما كان فيه ضرب من الإجمال عند تقدير الاقتصار عليه فقال في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما ثم لما علم أن التحكم بالحمل ليس من القياس بسبيل وإنما القايس من يتخيل جامعا
ويبني عليه ما يبغيه مبطلا كان أو محقا ذكر الجامع فقال بجامع ثم صنفه إلى حكم وصفة في نفى أو إثبات
فهذه ترجمة كلامه على الجملة
682 - وذكر غيره عبارات في روم ضبط القياس نائية عن الصواب فمن مقرب مع إخلال ومن مبعد
والمعتبر في العبارات العبارة التي جمعها القاضي وكل من أتى بها فقد طبق غاية الإمكان ومن خرم شيئا منها تطرق إليه على قدر خرمه اعتراض على ما سنبين الان
683 - قال بعض المتأخرين القياس رد فرع إلى أصل بما يجمع بينهما وهذا فيه إيهام من الوجوه التي أخل بها من تقييدات كلام القاضي فإنه لم يتعرض للحكم الذي يطرد القياس له ولم يفصل الجامع
684 - وقال الأستاذ أبو بكر القياس حمل الشيء على الشيء لإثبات حكم بوجه شبه وذكر الشيء يخرج الأقيسة المتعلقة بالنفي وكذلك ذكر إثبات الحكم لم يتعرض لنفيه
وقد يزيد بعض الناس نفيه وهذه الطبقة وإن تطرق إلى كلامهم ضرب من الخلل فهم على المطلوب يحومون وإياه يبغون
685 - ونقل بعض أصحاب المقالات عبارات نائية عن جهة الصواب
بالكلية فنقلوا أنه قال بعضهم القياس إصابة الحق وهذا خرق وخروج عن الحق فإن من وجد نصا لا يسمى قايسا وإن أصاب الحق
وقال بعضهم القياس هو الاجتهاد في طلب الحق وهذا فاسد فإن من كان يجتهد في طلب نص ليس قايسا إلى غير ذلك مما لا نرى التطويل بذكره
686 - وأما ما نرى ختم الفصل به فشيئان
أحدهما أنا إذا أنصفنا لم نر ما قاله القاضي حدا فإن الوفاء بشرائط الحدود شديد وكيف الطمع في حد ما يتركب من النفي والإثبات والحكم والجامع فليست هذه الأشياء مجموعة تحت خاصية نوع ولا تحت حقيقة جنس وإنما المطلب الأقصى رسم يؤنس الناظر بمعنى المطلوب وإلا فالتقاسيم التي ضمنها القاضي كلامه تجانب صناعة الحد فهذا مما لا بد من التنبه له
وحق المسئول عن ذلك أن يبين بالواضحة أن الحد غير ممكن وأن الممكن ما ذكرناه ثم يقول أقرب عبارة في البيان عندي كذا وكذا والفاضل من يذكر في كل مسلك الممكن الأقصى فهذا أحد الأمرين
687 - والثاني أن القياس قد يتجوز في إطلاقه في النظر المحض من غير تقدير فرع وأصل إذ يقول المفكر قست الشيء إذا افتكر فيه ولكن هذا تجوز وأصل القياس اعتبار معلوم بمعلوم وإذا قال القائل قست الأرض فمعناه ذرعتها بمقياس مهيأ لذرعها وبيني وبين فلان قيس رمح أي قدر معتبر بقدر رمح فهذا منتهى القول في ذلك
ونحن نذك بعده المقالات في رد القياس وقبوله وتفصيل القول فيه
فصل القول في ذكر المقالات في قبول القياس ورده 688 - الوجه أن نذكر المذاهب المتعلقة بالأصل ردا وقبولا ثم نذكر مسائل الخلاف على هذا المنهاج ثم نعقد بعد ذلك بابا في المذاهب المقتضية رد بعض الأقيسة الصحيحة عندنا وقبول بعضها
فنبدأ بالكلام على الجملة ونقول في رسم التقسيم القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى عقلى وشرعي ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب
689 - فذهب بعضهم إلى رد القياس وقال الناقلون هذا مذهب منكري النظر والقول في إثباته يتعلق بفن من الكلام وقد أنهينا القول فيه نهايته
690 - وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي وهذا مذهب الأصوليين والقياسين من الفقهاء
691 - وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي وجحدوا القياس الشرعي وهذا مذهب النظام وطوائف من الروافض والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات منهم فإنهم اعترفوا بأطراف من القياس
692 - وصار صائرون إلى النهي عن القياس العقلي والأمر بالقياس الشرعي وهذا مذهب أحمد بن حنبل والمقتصدين من أتباعه فليسوا ينكرون إفضاء نظر العقل إلى العلم ولكنهم ينهون عن ملابسته والاشتغال به
693 - وذهب الغلاة من الحشوية وأصحاب الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي
694 - وأنا أقول أطلق النقلة القياس العقلي فإن عنوا به النظر العقلي فهو في نوعه إذا استجمع شرائط الصحة مفض إلى العلم مأمور به شرعا والقياس الشرعي متقبل شرعا معمول به إذا صح على السبر اللائق به كما سيأتي شرح ذلك في أبواب الكتاب إن شاء الله تعالى
وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى من شاهد فهذا باطل عندي لا أصل له وليس في المعقولات فياس وقد فهم عنا ذلك طالب المعقولات
والأمر المختص بهذا الفن الكلام في الأقيسة الشرعية وذكر الخلاف المتعلق بجملتها
695 - فقد ذهب النظام ومن تابعه من الضلال والحشوية إلى إنكار القياس الشرعي و الذين ردوا القياس اختلفوا في طريق رده فقال بعضهم الخوض فيه قبيح لعينه
696 - وقال اخرون في التعبد به منع الناس من المسلك الأقصد
الأسد وعنوا به أن التنصيص على مواقع الإشكال أقطع للنزاع وأرفع للدفاع وأجلب للطمأنينة وأنفى لرهج الخلاف وأدعى إلى الائتلاف ويجب على الله تعالى وجوب الحكمة أن يستصلح عباده فيما يتعلق بأمر الدين
697 - وقال قائلون الأقيسة متفاوته لا قرار لها في المظنونات وإنما يرجح الظن على حسب القرائح وكل يظن أمرا يليق بمبلغ فكره
698 - وقال قائلون في أصول الشريعة ما لا يصح على السبر كإيجاب العقل على العاقلة وإيجاب ذبح البهائم البريئة بسبب ارتكاب المكلف محظورات الحج واسترقاق أولاد الكفار وإن حكم لهم بالإسلام مع السبي ثم تبقى وصمة الرق في نسلهم ما توالدوا على الإسلام قالوا فلا وجه والحالة هذه إلا اتباع النصوص
699 - وذهب من نفاة القياس طائفة إلى أنه مردود بنصوص الكتاب والسنة
ونحن نذكر مسلك كل فريق ونتتبعه بالنقض ونرسم مسألة في جواز التعبد بالقياس فإذا نجزت عقدنا بعدها المسألة الكبرى في وقوع التعبد بالقياس مسألة في جواز التعبد بالقياس
700 - ذهب علماء الشريعة وأهل الحل والعقد إلى أن التعبد بالقياس في مجال الظنون جائز غير ممتنع وقد ذكرنا مذاهب المخالفين في الجواز فأما من ذهب إلى أن الخوض فيه والأمر به قبيح لعينه فقد تعلق بأن الظنون أضداد العلوم وضد العلم في معنى الجهل والجهل قبيح لعينه وهذا مبنى أولا على التقبيح والتحسين بالعقل وقد صدرنا هذا المجموع بالرد على القائلين
بذلك بما فيه مقنع ثم لو قدرنا تسليم ذلك جدلا فهذا باطل من أوجه
منها أن الغفلة والغشية والبهيمية أضداد منافية للعلوم وهي من خلق الله تعالى ومن رأى هؤلاء أن الله تعالى لا يخلق قبيحا ثم ذكروه جحد للشريعة فإن من أنكر ربط الأقضية والحكومات بالشهادات المستندة إلى بحث قريب وسبر يسير لا يطلع على الباطن من أحوال الشهود فقد أنكر قاعدة من الشرع عظيمة لا يبوء بجحدها من وفر الإسلام في صدره
وكذلك قول المفتين مظنون عند المستفتين والتعويل على قول الثقات في أحكام المعاملات وتصديق الأثبات في أمن السبل والطرقات لا ينكره عاقل فإذا أعضلت الإشكالات وتعارضت الاحتمالات فالرجوع إلى غالب الظن في كل فن دأب ذوي البصائر وهو من ثمرات العقول فكيف يعد من مستقبحاتها ومعظم وجوه الرأي والنظر في العواقب ظنون ومتى لم يتبع صاحبه أرشدها لزم أن يفعل ما يتفق وهو الخرق بعينه نعم الاكتفاء بالظن مع القدرة على ثلج الصدر وطمأنينة النفس قد يعد قصورا أو تقصيرا وخصومنا لم يبدوا في مواقع أقيستنا مسالك في اليقين ينتحونها وإنما يبغون رد جنس الظنون حيث لا يرجعون فيه إلى يقين والنظر يضاد العلم وهو واجب والشك المتقدم على النظر عند أبي هاشم حسن وهو الداعية الجالبة لافتتاح النظر
فهذا وجه الرد على من قبح الخوض فيه لكونه نقيض العلم لعينه
701 - وأما من قال في حمل الخلق على ملتطم الظنون وحجرهم عن درك اليقين ترك استصلاحهم والاستصلاح في الدين محتوم فهذا مبني على التحسين والتقبيح وقد ظهر بطلان مذهبهم فيهما
ثم ما ذكروه باطل بقواعد العقائد فإنها منوطه بدقائق النظر ولا يتوصل إلى أدراكها إلا الأكياس من طبقات الناس ثم انقسام طباق الخلق يوجب ازورار طرقهم في وجوه النظر ومجاري أحوالهم في ذلك أصدق الشواهد والمحن وهو سبب افتراق الفرق ثم معظم الخليقة لا يبغون الحقيقة بل يرجحنون إلى التقليد ولو حمل الله الخلق على الحق المبين باية تظل لها الرقاب خاشعة لأوشك ألا يتفرقوا
ولا يغنى مما ألزمناهم قول القائل مسالك العقول عتيدة والبراهين موجودة والشواهد مشهودة وطرق الصواب معدودة فإن كل ناظر يزعم أن مسلكه الحق وقوله الصدق
ثم إنما كان يستقيم ما ذكروه لو دعونا إلى اليقين وزيفوا بسببه طرق الظنون فأما وهم بعد رد القياس لا يرجعون إلى يقين ومعقل في الدين حصين وغايتهم التعطيل والتبطيل والانسلال عن ربقة التكليف والانحلال عن ربط التصريف وترك الناس سدى يموج بعضهم في بعض على موعد وخبر وقول مزخرف وإمام
منتظر فلا يدعو إلى الخروج من محاسن الشريعة إلى هذه المسالك إلا هازىء بنفسه مستهين بدينه
702 - وأما من قال الأقيسة لا قرار لها وفنون النظر على حسب الفكر فقصاراه ايل إلى تقبيح الظن وإيجاب الاستصلاح وشرع اليقين وقد تكلمنا على المسلكين
ثم الأمر ليس على ما تخيلوه بل للظنون المرعية والأقيسة المعتبرة الشرعية المرضية روابط وضوابط لا يعرفها إلا الغواصون على ما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى
ومن حمل كل ظن على جودة القريحة وحدة الطبع فقد أنكر وجه الرأي وتقريب أرباب الألباب وتطلعهم بالفكر الصائب على حجب الغيوب ولو قيل هو عماد الصلاح في الدين والدنيا ودعامة المراشد لم يكن بعيدا والشارع فيما استن كالعاقل الذي يمهد للطلبة طرق الحكمة ومسالك النفع والدفع ثم يكلهم إلى إتعاب الفكر النقية عن الأقذاء والكدر
ثم إن أضربوا عما رأيناه واجتنبوه فهل معهم يقين إدعوه أم الغرض قطع النظر عن بقية المراشد وانتحاء المقاصد وغمس الناس في غمرات المتاهات
وعلى كل الحالات التشوف بالظن إلى الخير إجتناب الضير أحرى من حل
الرباط وقطع أسباب الاستنباط وتخيير الخلق بين التفريط والإفراط
703 - وأما من أشار إلى أن قواعد في الشرع لا تعقل معانيها كضرب العقل على العاقلة واسترقاق الأطفال
فهذا القائل يتشبث بالوقيعة في الشريعة واتخاذ هذه الجهات إلى المطاعن ذريعة والقياس يعترف بالوقوف عند هذه المواقف وانقسام الشرع إلى ما يجري فيه الأقيسة وإلى ما يجب فيه الانحصار والاقتصار على موارد النصوص فلا يجب من وقوف الرأي في مسلك انحسامه من جميع الوجوه وذلك مستبين بما يعرض للإنسان في ماربه وأوطاره فقد يتغشاه عماية ويستبهم عليه عاقبتها وقد يلوح له وجه الصواب فيما يأتي ويذر ثم العقل لا يحسم طريق الرأي لاستعجامه في بعض الوجوه
فقد بطل جميع ما حاولوه
704 - وأما من إدعى أن القياس مردود بنصوص القران العظيم فقد ادعى أمرا محالا وغايته التلبيس بذكر اية ما سيقت لما دفعنا إليه كقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إلى غير ذلك والمراد أن ينهى عن الحيد عن مدرك اليقين مع إمكانه ومجاوزة مراسم المراشد بالحدس والتخمين
ونحن لا ندعو إلى كل ظن ثم التمسك بالمجملات أو بالظاهر في مواضع القطع باطل ونعارض ما ذكروه بالاى الدالة على الأمر بالنظر والاستحثاث على الاعتبار ويتطرق إلى ما يعارضون به من الأعتراضات ما تطرق إلى ما استدلوا
705 - فإن قالوا وجوب العمل معلوم عندكم مقطوع به وهذا العلم مرتب
على الظن ويستحيل أن ينتج الظن علما
قلنا الأقيسة لا تقتضي العلم بوجوب العمل لأعيانها والعمل لا يقع بها وإنما يقع عندها والعلم بوجوبه مستند إلى أدلة قطعية سنبديها وقد تقرر هذا الفن في مواضع من هذا الكتاب
706 - ومن تمويهاتهم في ذلك قالوا إذا لم يمتنع انتهاض الظن علما بالعمل فينبغي أن تبعدوا أن ينتصب الظن علما في العلم بوقوع الرؤية
قلنا لو قام دليل قاطع على أن وقوع الظن علم ينصبه الله تعالى لوقوع شيء رؤية كانت أو غيرها لم يبعد ذلك ومستند العلم ناصب الظن لا عينه
707 - والذي تمسك به النظام ورهطه وهو معتصم القوم أن العقول لا تدل على وجوب العمل بالظنون وإنما يبغي الناظر ذلك إن كان من ماخذ السمع ثم لا يقع الاكتفاء بالظواهر فإن إثبات القياس عند القائلين به مقطوع به وقواطع السمع نص الكتاب أو نص السنة المتواترة وليس في إثبات القياس نص كتاب ولا نص سنة متواترة
والإجماع قد نفاه النظام أصلا وزعم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوا الناس إلى اتباع الإجماع وراموا أن يتخذوا رءوسا فقرروا الإجماع
وأسندوا إليه ما يرون وأخذوا يحكموا مسترسلين فيما لا نهاية له وأصول الشريعة مضبوطة
ومن قال بالإجماع يقول القول بالقياس مختلف فيه ومعظم الأمة على رده فادعاء الإجماع فيه محال ولا نص ومسالك العقول منحسمة فلم يبق بالقول على القياس دليل
وربما عضدوا ذلك بأن يقولوا الأمارات التي يستنبطها القياسيون لا تقتضي الأحكام لأعيانها فإن الشدة المطربة التي يعتقدها القياسيون علة في تحريم الخمر كانت ثابته قبل الشرع وفي الملل السالفة ولا تحريم وكانت الخمر مباحة في بدء الإسلام مع قيام الشدة والإطراب والقايس لا يتوهمها موجبة لعينها وإنما يتوهم نصب الشارع لها وليس في العقل ولا قواطع السمع ما يدل على ذلك
708 - قلنا مستند وجوب العمل بالقياس الإجماع وما ذكره النظام كفر وزندقة ومحاولة استئصال قاعدة الشرع لأنه إذا نسب حامليها إلى ما هذى به فبمن يوثق وإلى قول من يرجع وقد رد القياس وطرد مساق رده إلى الوقيعة في أعيان الأمة ومصابيح الشريعة فإذا لا نقل ولا استنباط ولا تحصل الثقة على ما قاله باى القران فإنه لا يبعد على المنكر الجاحد إدعاء ما قاله في التحريف والتصريف وكتم البعض وتغيير مقتضى البعض فلم تختص غائلته ومماراته
بالقياس بل عمت قاعدة الشريعة
709 - وأما من اقتصر في قطع ارتباط القياس بالإجماع على قوله القياس مختلف فيه فادعاء الإجماع في محل النزاع محال
فأنا نقول لهؤلاء إنما كان يستقيم ما ذكرتموه لو كنا نحتج عليكم بإجماع أهل الزمان المشتمل عليكم فأما متمسكنا فإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم من أئمة التابعين إلى أن نبغت الأهواء واختلفت الاراء على ما سنقرره الان فخلافكم مسبوق بالإجماع ولا مبالاة به
710 - فهذي قواعد منكري القياس وعيون شبههم وقد تقرر الفراغ من الرد على من ينكر جواز التعبد بالقياس وأوضحنا الرد على من زعم أنه لا طريق إلىإثباته بقاطع عقلي أو سمعي
وقد حان الان أن نبين وقوع التعبد بالقياس وانعقاد الإجماع على العمل به
فصل في وقوع التعبد بالقياس بعد بيان الجواز فنقول والله المستعان
711 - نحن نعلم قطعا أن الوقائع التي جرت فيها فتاوي علماء الصحابة وأقضيتهم تزيد على المنصوصات زيادة لا يحصرها عد ولا يحويها حد فإنهم كانوا قايسين في قريب من مائة سنة والوقائع تترى والنفوس إلى البحث طلعة وما سكتوا عن واقعة صائرين إلى أنه لا نص فيها والايات
والأخبار المشتملة على الأحكام نصا وظاهرا بالإضافة إلى الأقضية والفتاوي كغرفة من بحر لا ينزف
وعلى قطع نعلم أنهم ما كانوا يحكمون بكل ما يعن لهم من غير ضبط وربط وملاحظة قواعد متبعة عندهم وقد تواتر من شيمهم أنهم كانوا يطلبون حكم الواقعة من كتاب الله تعالى فإن لم يصادفوه فتشوا في سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن لم يجدوها اشتوروا ورجعوا إلى الرأي
712 - والذي يوضح ما ذكرناه أنهم مع اختلاف مذاهبهم في مواقع الظنون ومواضع التحري ما كانوا ينكرون أصل الاجتهاد والرأي وإنما كان بعضهم يعترض على بعض ويدعوه إلى ما يراه هو ولو كان الاجتهاد حائدا عن مسالك الشريعة لأنكره منهم منكر وإذا لاح المعنى فترديد العبارات عنه هين
ونحن نوضح المقصد بأسئلة وتخييلات وأجوبة عنها
713 - فإن قيل قد صح من بعضهم التغليظ على بعض في مسائل كقول ابن عباس في رد العول مع من كان يكلمه وقولهم في الرد عليه وقد صح انتهاء القول إلى المباهلة في الأقاصيص المشهورة
قلنا لم ينكر أصل الاجتهاد أحد منهم وإنما كانوا ينتاظرون في الذب عن وجوه الاجتهاد والدعاء إلى غيرها من الاجتهاد وكانوا مجمعين على الأصل مختلفين في التعيين والتفصيل نحو اختلاف علماء الدهر
714 - فإن قيل غايتكم في هذا ادعاء اجتهاد بعضهم وسكون الباقين وقد ذكرتم في مسائل الإجماع أنه لا ينسب إلى ساكت قول
قلنا هذا باطل من أوجه منها أنه لم يخل أحد من علماء الصحابة من الاجتهاد في مسائل وإن لم ينقل عنهم الاجتهاد في مسألة واحدة فقد صح النقل المتواتر في مصير كل واحد منهم إلى أصل الاجتهاد في مسائل قضى فيها أو أفتى بها ثم أحداث قاعدة في الشريعة تستند إليها الأحكام بل يصدر عنها معظم الشريعة مما لا يجوز السكوت عليه لو لم يكن ثابتا وإنما يسوغ السكوت عن المظنونات وليس من تكلم في القياس ردا وقبولا ممن يجترىء بالظن بل كل فريق قاطعون بما يذكرون ويعتقدون وقد ذكرنا مسألة الانتشار وأنه لا يجوز السكوت مع طول الزمان وتذاكر أهله ولو كان الأمر مظنونا فكيف يسوغ في مطرد العرف تصرف علماء الصحابة في مذاهب الاجتهاد على الدوام من غير فتور فيه ثم يسكت عنه من يعتقد بطلانه
715 - فإن قالوا بم تنكرون على من يزعم أنهم كانوا يتلقون الأحكام من استنباطات من الظواهر والعمومات وفحوى الخطاب
قلنا لا أصل لهذه المقالة وهي كمحاولة تسبيع الغزالة فأنى تفى الظواهر ومقتضياتها بالأحكام التي طبقت طبق الأرض والأقضية التي فاتت الحد والعد وقد أوضحنا بالنقل المتواتر عنهم أنهم كانوا يقدمون كل متعلق بنص وظاهر ثم كانوا يشتورون وراء ذلك ويثبتون الأحكام على وجوه الرأي واعتبار المسكوت عنه بالمنصوص عليه
716 - فقد تبين بمجموع ما ذكرناه إجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وم بعدهم على العمل بالرأي والنظر في مواقع الظن ومن أنصف من نفسه لم يشكل عليه إذا نظر في الفتاوى والأقضية أن تسعة أعشارها صادرة عن الرأي المحض والاستنباط ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر
717 - فإن قالوا قد روى عن جمع من أئمة الصحابة رد الرأي والرد على القائلين به قال أبو بكر رضي الله عنه أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيى وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو عملتم بالرأي لحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما أحل الله تعالى إلى غير ذلك من أفراد اثار فقد عورضوا بأضعافها وذكروا أولا إشارة الرسول عليه السلام إلى القياس في الآخبار
منها ما روى أنه عليه السلام سئل عن قبلة الصائم فقال للسائل أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته فكان ذلك منه قياسا للقبلة على المضمضة وقال
عليه السلام لضباعة الأسدية وقد ذكرت له حجا على أبيها وسألته عن إمكان أدائه فقال أرأيت لو كان على أبيك دينا أكنت تقضينه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء وقول ابن مسعود في حديث بروع بنت واشق وقد كانت فوضت بعضها فردد ابن مسعود السائل شهرا ثم قال إني أقول
فيها برأيى فإن أصبت فمن الله تعالى وإن أخطأت فمني ومن الشيطان أرى لها مثل مهر نسائها لا وكس فيه ولا شطط
718 - قال الإمام ومن رام منا أن ننقل اجتهادات الصحابة بطريق الاحاد فقد تكلف أمرا عسرا فإن ما ثبت النقل فيه تواترا عسر النقل فيه من طريق الاحاد ومن أراد أن ينظم إسنادا عن الأثبات بالعنعنة أن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يصلي الفجر ركعتين لم يتمكن منه وهذا يناظر في المعقولات محاولة إثبات الضروريات والمحسوسات بطريق المباحثات فإنه معوز لا سبيل إليه وقد اضطررنا وكل منصف معنا إلى العلم بأن الذين مضوا كانوا يسندون جل الأحكام إلى النظر والرأي وكيف يطمع الطامع في معارضة ذلك بألفاظ محتملة ينقلها الاحاد ولو كانت نصوصا لما عارضت التواتر
719 - ثم ما تمسكوا به من قول الصديق وابن مسعود رضي الله عنهما لا حجة فيه فأما الصديق فإنه قيد كلامه بالرأي في كتاب الله تعالى وأراد به مخالفة المفسرين الذين إلى قولهم الرجوع وهذا ممنوع عندنا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار فلا حجة إذا فيما رووه
عن الصديق رضي الله عنه
وأما قول ابن مسعود فلا متعلق له فإن فيه ما يدل على أن الرأي المجرد لا يطرد إذ قد يلقاه من أصول الشرع ما يمنعه من الجريان فعلى كل ناظر الا يتبع رأيه المحض حتى يربطه بأصول الشريعة ومن أعمل الرأي المجرد أحل وحرم على خلاف الشريعة فلا حجة إذا في قوله
720 - واحتج الشافعي ابتداء بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنهما قال له الرسول عليه السلام لما بعثه إلى اليمن بم تحكم يا معاذ قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيى فقال عليه الصلاة و السلام الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه رسول الله وهو مدون في الصحاح وهو متفق على صحته لا يتطرق إليه
التأويل فإنه رضي الله عنه انتقل من الوحي والتنزيل إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انتقل منهما عند تقديره فقدهما إلى الرأي ولا يجوز أن يقال أراد بالرأي رأي استنباط من كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه السلام فإن ذلك لو كان على هذا الوجه لكان متعلقا بالكتاب والسنة
721 - فإن قيل خبر الواحد لا يقتضي العلم وإثبات القياس يقتضي أمرا مقطوعا قلنا قد ثبت عندنا بالقواطع العمل بخبر الواحد كما قد تقرر في صدر كتاب الأخبار وعرفنا من طريق التواتر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أخبر معاذا أن العمل بالرأي سائغ وأخبر معاذ الذين أرسل إليهم أن النبي عليه السلام أخبرني أن العمل بالرأي إذا لم تكن الواقعة في كتاب ولا سنة واجب كانوا يتبعونه ولو روى الصديق أو غيره من أئمة الصحابة على رؤوس الإشهاد أن الرسول عليه السلام شرع القياس والعمل به لكان الذين لم يبلغهم ذلك يتلقونه بالقبول ويبتدرون إلى
القياس ويسارعون إلى تمهيد قواعده وسبله وإذا كان القياس مغزاه العمل فالدال عليه دال على العمل فلا فرق بين أن يستند القياس إلى قاطع بدرجة وبين أن يستند إليه بدرجات
722 - فهذا منتهى ما أردناه في إثبات القياس وإثبات تجويز التعبد بالقياس والرد على منكريه وإثبات وقوع ما أثبتنا جوازه وتتبع اعتراضات الحاحدين فيه
ونحن نذكر بعد ذلك مسلك النهرواني والقاساني وابن الجبائي في تفصيل ما يقبل ويرد من النظر
مسألة
723 - ذهب النهرواني والقاساني إلى أن المقبول من مسالك النظر في مواقع الظنون شيئان
أحدهما ما دل كلام الشارع على التعليل به ولهذا صيغ منها ربط الحكم بالأسماء المشتقة كقوله تعالى والسارق والسارقة وقوله سبحانه وتعالى الزانية والزاني فما منه اشتقاق الاسم في فحوى الكلام منصوب علما
ومن هذا القبيل ما روى أنه سها فسجد وزنى ما عز فرجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم فالفاء تقتضي ربطا وتسبيبا وذلك مشعر بالتعليل إلى غير ذلك مما يأتي مفصلا في ترتيب الأبواب
فهذا أحد الأمرين
وربما يلحقون بهذا الفحوى نحو قوله تعالى فلا تقل لهما أف ففحوى النهي عن التأفيف يمنع ما يزيد عليه من التعنيف والضرب والإهانة
724 - والأمر الثاني إلحاق ما يكون في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو كقوله عليه السلام لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم قالوا لو جمع جامع بولا في كوز وصبه في الماء الراكد لكان في معنى البول في الماء
وما عدا هذين من سبل النظر فهو مردود عند هؤلاء
725 - وأما أبو هاشم فقد قال بهذين الوجهين وزاد وجها ثالثا وقال إذا ثبت أن المكلف مطالب بشيء واعتاص عليه الوصول إليه يقينا فاعلم أنه مأمور يبذل المجهود في طلبه والتمسك بالأمارات المفضية إلى الظنون فيه ومثل هذا القول بوجوب طلب استقبال القبلة عند إشكال جهاتها فقال يتعين طلبها بالتمكن من جهة الظن ولما أوجب الله تعالى المثل في الجزاء ولم يبينه لنا تبينا أنه كلفنا طلب المثل لما قال تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم
726 - فنقول ما اعترفتم به أنتم مساعدون عليه وهو يلتحق بقبيل النصوص والظواهر والمباحثة وراء هذه الجهات
أفتزعمون أن الفتاوي والأقضية في الأعصار الخالية تنحصر في هذه الجهات فإن قلتم بذلك فقد باهتم وعاندتم مدارك الضرورات فإن ما في النصوص إشعار بتعليله ملتحق بالظواهر وما نراه يبلغ في الكتاب والسنة مائة عدد
وما يذكره أبو هاشم معوز النظير في موارد الشرع والأحكام الجارية في نوادر الوقائع قد عدت العد وجاوزت الحد فأين يقع ما ذكره مما جرت فيه فتاوي المفتين وينجر الكلام إلى المسلك المقدم في المسألة الأولى فإن أبدوا شبهة لم يخل من الوقوع في أحد الشقين إما أن يتعرض لمنع جواز التعبد بالقياس وقد مر
القول فيه مستقصى وإما أن يتعرض لعدم الوقوع مع الاعتراف بالجواز وقد تقدم القول البالغ في ذلك فما استفاد هؤلاء بما أودوه إلا اعترافا بمسائل معدوده والدليل عليهم قائم فيما أنكروه
727 - ثم تتبع المحققون كلامهم فيما وافقوا فيه وأبدوا لهم صفحة الخلاف وطالبوهم بتثبيت ما أقروا به وقالوا لم قلتم إن ما عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم بتعليله في حق البعض فتلك العلة مطردة على الكافة مع القطع بأنها لا تدل لنفسها وإنما تدل بنصب ناصب إياها علما ولا يجب من نصبه علما في حق زيد انتصابه في حق عمرو ولو قال الرجل لمن يخاطبه بع عبدي هذا فإنه سيء الأدب فإنه يبيعه بحكم الإذن فلو أساء عبد اخر أدبه لم يبعه جريا على تعليله بيع الأول بإساءة الأدب
فإن قالوا إذا قال الرجل لولده لا تأكل هذه الحشيشة فإنها سم اقتضى ذلك نهيه عن تعاطي كل سم
قلنا ليس ذلك من حكم اللفظ ولكن ما أظهر من الإشفاق والحث على الحذار من مواقعة الضرر هو الذي اقتضى تعميم الأمر وقد قال المحققون لولا ما تحقق في سياق الخطاب من قوله تعالى ولا تقل لهما أف من نهاية الحث على البر لما أبعدنا النهي عن التأفيف مع الأمر بضرب العنق وقد يأمر السلطان بقتل الرجل المعظم ويتقدم إلى الجلاد بألا يستهين به قولا وفعلا
728 - والغرض مما نذكره يتبين الان بأمر هو الشأن كله فنقول
إن تجرد اللفظ عن القرائن فالقياس بماذا ولا مفزع في إثباته إلا ما اعتصمنا به
في إثبات وجوب النظر فإن تمسكوا به ساقهم إلى القول بوجوب النظر فإن مواقع فتاوي المفتين ليست مختصة بما ذكروه
وإن اقترنت باللفظ قرينة أوجبت التعميم
والذي قبلوه إذا موجب اللفظ وقضية ظاهره وليس من أبواب النظر في ورد ولا صدر فال حاصل الكلام قولهم بتعيين الظواهر
729 - فإن قيل أنتم لا تصححون أيضا كل نظر ومتعلقكم فيما تصححونه الإجماع من الأولين فلا تنقلون فيه لفظا جامعا مانعا حتى يكون مرجعكم فيما تأتون وتذرون وتصححون وتبطلون وإلا فالأقاصيص المتفرقة لا ضبط لها فكيف ينضبط لكم منها ما يصح وما يفسد فقد اعترفتم بأن لا مدرك غير التعلق بما صدر منهم
وهذا سؤال مشكل لا يتأتى الجواب عنه في معرض الأجوبة عن الأسئلة ولكن القدر المتعلق بمقصود المسألة
أنا نعلم ضرورة أن النظر الذي حكموا به زائد على ما اعترف هؤلاء به بأضعاف مضاعفة والاف مؤلفة فقد ثبت نظر أنكروه وليس من شرط توجه الكلام عليهم أن نذكر مأخذنا في التصحيح والإفساد ولو حاولنا ذلك لم
نتوصل إليه إلا بذكر أسباب وتبويب أبواب ورب كلام لا يبينه إلا التفصيل
وتفصيل ما يصح ويفسد واستناد كل دعوى فيها إلى الحق هو لباب القياس ونحن نضمن للناظر الموفق إلا يتنجز الكتاب وفي صدره غلة لم يشفها وعلة لم يداوها والله المستعان
وقد تنجز الكلام الان على الجملة وجاز أن نرسم بعده تقاسيم تشير إلى أغراض الكتاب يتخذها الطالب دستوره والله ولي التوفيق
-
الباب الثاني القول في تقاسيم النظر الشرعي 730 - اعلم أن النظر العقلي لا يفي بتراجم أبوابه وذكر مباديه وأسبابه هذا المجموع فالغرض الان إذا مردود إلى النظر الشرعي
ومجامعه إلحاق الشيء المسكوت عنه بالمنصوص عليه والمختلف فيه بالمتفق عليه لكونه في معناه أو تعليق حكم بمعنى مخيل به مناسب له في وضع الشرع مع رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر وربط حكم كما ذكرناه من غير أن يجد الناظر أصلا متفق الحكم يستشهد عليه وهذا هو المسمى الاستدلال وتشبيه الشيء بالشيء لأشباه خاصة يشتمل عليه من غير التزام كونها مخيلة مناسبة وهو المسمى قياس الشبه
فهذه وجوه النظر في الشرع
731 - فأما إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به لكونه في معناه فمن أمثلته أنه صلى الله عليه و سلم قال لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل به فجمع البول في إناء وصبه في الماء في معنى البول فيه
ومنها قوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم عليه فجرى ذكر العبد والأمة في معناه
ونص الرسول عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت على إجراء الربا في
البر والشعير والتمر والملح وقال القاضي الأرز في معنى البر والزبيب في معنى التمر وهذا القسم يترتب على ما سيلفى مشروحا
732 - والقدر اللائق بغرضنا أن نثبت ما يعلم ثبوته على اضطرار من غير حاجة الى نظر واعتبار وهو كإلحاق صب البول في الماء الراكد بالبول فيه وما أنكر هذا الجنس إلا حشوية لا يبالى بقولهم وهم في الشرع كمنكرى البدائة في المعقولات وهؤلاء داود وطائفة من أصحابه وقد قال القاضي لا يعتد بخلاف هؤلاء ولا ينخرق الإجماع بخروجهم عنه وليسوا معدودين من علماء الشريعة
733 - ومن هذا الفن ما يحتاج فيه إلى فكر قريب وهو ينقسم إلى الجلى البالغ وإلى ما ينحط عنه
فالجلى كإلحاق الأمة بالعبد في الحديث الذي ذكرناه وسبب الوضح أن ما منه اشتقاق العبد يتحقق في الأمة فإذا العبودية تجمعها وقد يقال عبدة للأمة فإذا انضم هذا إلى علم العاقل باستواء أثر العتق في العبد والأمة واعتقاد تماثل السريان فيهما وتشاكل عسر التجزئة ترتب على ذلك القطع بتنزيل الأمة منزلة العبد
734 - وما يتخلف الاشتراك عنه في معنى الاسم فهو دون ما ذكرناه وإن كان معلوما فهو كتنزيل نبيذ الزبيب منزلة نبيذ التمر لو صح حديث ابن مسعود في الحكاية المروية ليلة الجن ولا يأبى هذا الإلحاق ذو حظوة من التحصيل ولسنا نرى إلحاق الأرز بالبر في الربويات من قبيل القطعيات
وإلحاق الزبيب بالتمر أقرب وليس مقطوعا به من قبل أن التمر قوت غالب عام فقد يرى الشارع فيه استصلاحا ولم يبلغنا أن أمة من الأمم كانت تجتزىء بالزبيب
مسألة
735 - ما علم قطعا بهذه الجهات التحاقه بالمنصوص عليه فلا حاجة فيه إلى استنباط معنى من مورد النص وبيان وجود ذلك المعنى في المسكوت عنه بل العقل يسبق إلى القضاء بالإلحاق ويقدره بالمنصوص عليه وإن لم ينظر في كونه معللا بمعنى مناسب مخيل أو غير مخيل ولو قدر معللا فلا يتوقف ما ذكرناه من الإلحاق على تعيين علته المستنبطة
وإذا كان كذلك فقد اختلف ارباب الأصول في تسمية ذلك قياسا فقال قائلون إنه ليس من أبواب القياس وهو متلقى من فحوى الخطاب
وقال اخرون هو من القياس وهذه مسألة لفظية ليس وراءها فائدة معنوية ولكن الأمر إذا رد إلى حكم اللفظ فعد ذلك من القياس أمثل من جهة أن النص غير مشعر به من طريق وضع اللغة وموجب اللسان ولو قال رجل من أعتق نصفا من عبدي فالنصف الأخير منه حر فلو أعتق معتق النصف من أمة لم ينفذ إعتاقه إنشاء ولا سراية لأن لفظه هو المتبع ولم يثبت في حكم اللفظ استرسال أحكام الشرع فتبين أن حكم اللفظ لا يقتضى ذلك وإنما يثبت هذا في لفظ الشارع من حيث تقرر في وضع الشرع أن الأحكام لا تنحصر على الصور بل تسترسل ولو قال الشارع قاطعا لطريق القياس من أعتق شركا له في عبد قوم عليه دون الأمة كان الكلام متناقضا
فوضح أن تلقى ذلك مما تمهد لا من أجل اعتبار المسكوت عنه بالمنطوق به
736 - ثم ينقسم ذلك أقساما ويتنوع أنواعا فمنه الجلى المقطوع به ومنه المظنون الذي لا يثبت فيه العلم فالوجه أن يسمى ذلك قياسا وإن عني من أبي تسمية ذلك قياسا أن لفظ الشارع كاف فيه من غير سبر وفكر فهو صحيح
فهذا القدر كاف في توطئة الكلام في هذا القسم
القسم الثاني قياس العلة
737 - والقسم الثاني من أقسام النظر الشرعي استنباط المعاني المخيلة المناسبة من الأحكام الثابته في مواقع النصوص والإجماع ثم إذا وضح ذلك على الشرائط التي سنشرحها وثبتت تلك المعاني في غير مواقع النص وسلمت عن المبطلات فهذا القسم يسمى قياس العلة وهو على التحقيق بحر الفقه ومجموعه وفيه تنافس النظار وأكثر القول في هذا الكتاب يتعلق ببيان صحيحه وفاسده وذكر الاعتراضات الصحيحة والفاسدة عليه
وأنا أرى أن أصدر القول فيها بالطرد ومعناه وذكر المذاهب في قبوله ورده واختيار المسلك الحق فيه إن شاء الله تعالى
مسألة في الطرد
738 - الطرد هو الذي لا يناسب الحكم ولا يشعر به ولو فرض ربط نقيض الحكم به لم يترجح في مسلك الظن قبل البحث عن القوادح النفى على
الإثبات ولم يكن من فن الشبه على ما نصفه هذا هو الطرد
739 - وقد ذهب المعتبرون من النظائر إلى أن التمسك به باطل وتناهى القاضي في التغليظ على من يعتقد ربط حكم الله تعالى به
740 - وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه حجة من حجج الله تعالى إذا سلم من الانتقاض وجرى على الاطراد
741 - وذهب الكرخي إلى أن التعلق به مقبول جدلا ولا يسوغ التعويل عليه عملا ولا فتوى
742 - وقد أكثر المحققون في وجوه الرد على أصحاب الطرد وحاصل ما ذكروه يئول إلى وجوه منها
أن أقيسة المعاني لم تقتض الأحكام لأنفسها وإنما ظهر لنا من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم التعلق بها إذا عدموا متعلقا من الكتاب والسنة فكان مستند الأقيسة الصحيحة إجماعهم على ما سبق تقريره
والذي تحقق لنا من مسلكهم النظر إلى المصالح والمراشد والاستحثاث على اعتبار محاسن الشريعة فأما الاحتكام بطرد لا يناسب الحكم لا يثير شبها فما كانوا يرونه أصلا فإذا لم يستند الطرد إلى دليل قاطع سمعي بل يتبين أنهم كانوا يأبونه ولا يرونه ولو كان الطرد مناطا لأحكام الله تعالى لما أهملوه وعطلوه فقد استمرت الطريقة قاطعة من وجهين
أحدهما أنا أوضحنا أنه ليس للطرد مستند معلوم ولا مظنون وليس هو في نفسه مقتضيا حكما لعينه
والاخر أنا نعلم إضرابهم عن مثله في النظر في أحكام الوقائع كما نعلم إكبابهم على تطبيق الأحكام على المصالح الشرعية وهذه طريقة واقعة
743 - ومن أوضح ما يعتصم به أن مناط الأعمال في الشريعة ينقسم إلى معلوم ومظنون وما لا يتطرق إليه علم ولا ظن فذاكره ومعلق الحكم به متحكم وقد أجمع حملة الشريعة على بطلان الاحتكام
فإن إدعى الطارد ظنا تبين خلفه وكذبه فإن للظن في مطرد العرف أسبابا كما أن للعلوم النظرية طرقا مفضية إليها ومن ادعى أنه يظن أن وراء الجبل المظل غزالة من غير أن يبين لظنه مرتبطا أو سببا كان صاحب هذه المقالة كاذبا أو مخيلا فإذا بطل التحكم ولم ينقدح ظن ولا علم والذي ربط به ثبوت الحكم لو نسب إلى نفيه لكان كما لو نسب إلى إثباته فلا يبقى للتعلق به وجه
744 - وقد انتهى كلام القاضي والأستاذ في هذا إلى ما نرمز إلى مبادئه فإنهما قالا
من طرد عن غرة فهو جاهل غبي ومن مارس قواعد الشرع واستجاز الطرد فهو هازىء بالشريعة مستهين بضبطها مشير إلى أن الأمر إلى القائل كيف أراد
745 - فإن قيل سلامته عن النقض تغلب على الظن انتصابه علما قلنا هذا الطارد مطالب بتصحيح مطرده فهو الذي طرده والصورة التي فيها النزاع عند المعترض على الطرد نقض للطرد
746 - فإن قال الطارد فقد اطرد في غير محل النزاع
قيل له جريانه في غير محل النزاع لا يوجب القضاء بالطرد في غيره وعلى الطارد أن يثبت كونه علما فيما ادعى جريانه فيه
فإن تمسك بنفس الجريان قيل هذا جريان في مسائل معدودة فلا ينتهض علما ولا يجب منها الحكم على جميع الشريعة فإنما يكون ما ذكره مخيلا لو جرى الطرد في جميع المسائل وساوقه الحكم على حسب طرد الطارد
قال النزاع إلى أن ما جرى على وفاق هل هو علة فإذ ذاك ربما تخيل من لا تحصيل له أن الجاري علة وسنبين أن الأمر ليس كذلك
747 - بعد هذا قلنا إذا كان الطارد منازعا في طرده فكيف يصح أن يستدل بالطرد وحاصل استدلاله أنه يقول الدليل على صحة طردي دعواي اطراده في صور النزاع فلا يبقى بعد هذا الذي عقل تعلق بالطرد المحض في مسائل معدودة
748 - ثم قال القاضي لو كان التمسك بالطرد سائغا لما عجز عنه أحد من طبقات الخلق ولما كان في اشتراط استجماع أوصاف المجتهدين معنى
فإن زعم زاعم أن شرط الطرد أن يسلم من العوارض والمبطلات ولا يتهدى إليها إلا العالم
قيل له ليطرد العامى ثم يراجع العالم فإذا انتهى التصرف في الشرع إلى هذا المنتهى كان ذلك هزءا بقواعد الدين
749 - ثم نقول علماء الشريعة صرفوا مباحثتهم في الوقائع العرية عن النصوص والإجماع إلى ما يرونه مشعرا بالحكم مشيرا إليه مخيلا به وقد ضرب الحليمي لذلك مثلا فقال من رأى دخانا وثار له الظن أن وراءه حريقا كان محوما على الإصباة قريبا من نيلها
فإن قال وقد رأى غبارا إن وراءه حريقا لم يكن ما جاء به علما على ما أنبأ عنه وأقيسة الشريعة أعلام الأحكام وهذا بمنزلة الطارد
فإن تنسم نسيما أرجا فقال إن وراءه حريقا كان ذلك في محل فساد الوضع من حيث إنه استدل بالشيء على نقيضه
وهذا القدر فيه بلاغ ومقنع في الرد على أصحاب الطرد
750 - فأما من جوز الجدل به ومنع تعليق ربط الحكم به عقدا وعملا وفتوى وحكما فقد ناقض فإن المناظرة مباحثة عن ماخذ الشرع والجدل يستاقها على أحسن ترتيب وأقربه إلى المقصود وليس في أبواب الجدل ما يسوغ استعماله في النظر مع الاعتراف بأنه لا يصلح أن يكون مناطا للحكم وغاية المعترض كفى المئونة وعاد الكلام نكدا وعنادا وأضحى لجاجا وخرج عن كونه حجاجا
751 - فأما الطاردون فمما تمسكوا به أن قالوا للشارع أن ينصب الطرد علما وإن لم يكن مناسبا للحكم وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع من المستنبط تقديره
وهذا لا حاصل له فإن للشارع تأسيس الحكم وما يذكره من علم يجري مجرى الحد ولو ذكر الشارع الحكم من غير علة لقوبل بالقبول فإذا حده صدق والمستنبط ممنوع من التحكم بالحكم كما سبق فإن ظن شيئا بمسلك شرعي أبداه وعرضه على القواعد وليس للطارد مسلك ظنى ولا له منزلة الابتداء بوضع الحكم
ولو جاز أن يتحكم بنصب الطرد لجاز أن يتحكم بنصب الحكم وهو في التحقيق كذلك فإن الطارد يتحكم بالحكم في صورة يدعيها وهو منازع فيها
752 - وما عدوه مستروحا لهم أن قالوا المعانى المخيلة المناسبة للحكم لا توجب لعينها كما لا يوجب الطرد الحكم لذاته إذ الشدة التي اعتقدت مخيلة في إثارة التحريم كانت ثابته والخمر حلال فإذا العلل كلها وإن اعتقدت مخيلة إذا كانت لا توجب الأحكام لأعيانها فهي كالطرد
قلنا هذا فاسد لا حاصل له فإنا لا نرتضى المخيل من جهة الإخالة ولكن إذا صادفناه وظنناه موافق لعلل الصحابه ومسالكهم رضي الله عنهم في النظر فهو الدليل على وجوب العمل لا نفس الإخالة ولم يثبت تمسك الصحابة بالطرد فلا يبقى للمستنبط وجه يبنى عليه الظن بأن ما طرده منصوب الشارع فال الأمر إلى التحكم المحض وهو باطل من دين الأمة كما سبق تقريره
مسألة
753 - إذا ذكر المستنبط علة مخيلة مناسبة ولكنها منتقضة فقيدها بلفظ يدرا
النقض فالذين يتمسكون بالطرد المحض لا يمتنعون من التمسك بها والذين ردوا الطرد اختلفوا في ذلك
فذهب المحقون إلى أن ذلك الوصف الزائد الذي لاحظ له في الفقه على حياله ولا على تقدير ضمه محذوف غير محتفل به والدليل على ذلك هو الدليل على إبطال الطرد فإن حاصل القول في الرد على القائلين به نسبتهم إلى التحكم ولا فرق بين التحكم بما هو على صيغة علة وبين التحكم بصيغة تقيدت العلة بها
754 - وهذه المسألة لا تصفو قبل ذكر النقض وحقيقته ورده وقبوله فإن الخصم قد يقول فائدة هذه الزيادة درء النقض فإذا ظهرت فائدته في الكلام خرج عن كونه متحكما به من حيث نتج فائدة وهي اندفاع النقض وليس كما إذا كان الكلام بجملته طردا غير مناسب لأن صاحبه حرى أن ينسب إلى التحكم
فالوجه أن يقال إن كانت المسألة التي ترد نقضا لو حذفت الزيادة تفارق محل العلة بفرق فقهي فالمذكور دونه بعض العلة والاقتصار على بعض العلة لا يجدي فائدة وإن كان لا ينقدح فرق فقهى فالعلة منتقضة لا يعصم فيها لفظ لا يفيد فقها ولا يشعر بفرق معنوي وهو بمثابة تعليل الرجل حكما مع تقييد العلة بنعيق غراب أو ما في معناه مما لا يفيد حتى إذا ألزم شيئا اتخذ ما ذكره مدراه
وهذا من الفن الذي يأنف منه المحقق
وسنعود إلى تحقيق ذلك في باب النقض إن شاء الله تعالى
755 - فإذا ثبت أن التقييد بما لا فقه له لا يفيد فلو فرض التقييد باسم غير مشعر
في وضع اللسان بفقه ولكن مباينة المسمى لما عداه مشهورة عند النظار فهل يكون التقييد بمثل هذا اللفظ محصنا للعلة وهذا كتقييد العلة بالطلاق في قول القائل جزء حله الحل فإضافة الطلاق إليه نافذة كالجزء الشائع
فإذا قال الملزم العلة تنتقض بالنكاح ولفظ الطلاق لا فقه فيه فيكون من جواب المعلل أن الطلاق سلطانه ونفوذه يفارق النكاح إذ تسميته تشير إلى خصائصه فذكره كذكر خاصية تفيد فقها
وهذا مما تردد فيه أرباب الجدل ولعل الأقرب تصحيحه فإن ذلك جار مجرى اصطلاح النظار على عبارات يتواطئون عليها مشعرة بأغراضهم
فهذا مقدار غرضنا الان في الطرد وما يليق به ونحن نذكر بعده تفصيل القول فيما تثبت به علل الأصول
فصل القول في تصحيح علة الأصل في أقيسة المعاني 756 - إذا ثبت حكم في أصل متفق عليه وادعى المستنبط أنه معلل بمعنى أبداه فهو مطالب بتصحيح دعواه في الأصل وادعى بعض الأغبياء أنه لا يسوغ ذلك ولكن على المعترض أن يبطل ذلك برده إن كان عنده مبطل
وهذا قول من لا يحيط بمنازل النظر وحقائق الأقيسة
فإذا ادعى مدعي أن المعنى الذي أبداه علة للحكم فهذه دعوى عرية عن البرهان من جهة أن التحكم ينصب العلل غير سائغ كما سبق في الرد على ----------ج33333333333333333333333333333...........
كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
الطاردين فلا بد من ظهور وجه في ظن المستنبط يوجب تخيل معنى مخصوص في انتصابه علما وهو مطالب بإبدائه فإذا اقتصر على محض الدعوى كان ادعاؤه المجرد في نصب العلل كادعائه الحكم في محل النزاع وكادعائه كون صورة النزاع كمسألة متفق عليها من غير ذكر جامع ومن أنكر أن ادعاء معنى الأصل في حقيقة الدعوى وصورتها فقد جحد الضرورة وإن اعترف الخصم أنها دعوى وألزم قبولها من غير برهان فقد تناهى في الاحتكام وانحط عن رتبة النظار بالكلية
757 - فإن زعم زاعم أني نصبت علما كانت الصحابة تنصبه للأحكام علما قيل له كانوا ينصبون كل عام لكل حكم أو كانوا يرون لذلك مسالك تخصيص بعض الأعلام فإن زعم أنهم كانوا ينصبون كل شيء علما فقد ظهر اجتراؤهم وقصارى كلامهم العود إلى الطرد
وإن سلموا أنهم كانوا يثبتون الأحكام لوجوه هي عللها فيقال لمن ادعى نصب العلم ما الدليل على أن ما نصبته من جنس منصوب الصحابة فيرجع حاصله إلى القول بالمطالبة بالدليل فإن قيل الدليل على ثبوت المدعى علما عجز المعترض عن الاعتراض عليه فهذا كلام سخيف فإن المعترض واقف موقف المسترشد سائل خصمة إثبات دليل فكيف يحسن رد الدليل إلى عجزه وقدرته ولو اعترف بعجزه عن الاعتراض لم ينتهض عجزه علما على انتصاب ما ادعاه المجيب علما
وهذا القدر من التنبيه كاف إذ هو من الكلام الغث ويكفي التنبيه في مثل هذا المقام
758 - فإذا ثبت ذلك اختتمناه بأمر نجعله فاتحة الغرض وقلنا لا بد أن يكون لذلك العلم وجه عند ناصبه ولأجله يفتي به ويلزم العمل بموجبه والمسئول يريد منه أن يبديه وكل ذلك مبني على أبطال الطرد فإذا لا بد من إثبات معنى في الأصل دينا أو جدلا
وقد اضطربت الاراء في السبل التي تتضمن إثبات علة الأصل
مسالك الباحثين في إثبات علة الأصل
ونحن نذكر مسالك النظار في ذلك مسلكا مسلكا ونذكر في كل مكان ما يليق به إن شاء الله تعالى
759 - فمما اعتمده المحققون وارتضاه الأستاذ أبو إسحاق إثبات علة الأصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقته الأصول وعبر الأستاذ عنه في تصانيفه بالاطراد والجريان ولم يعن الطرد المردود فإنه من أشد الناس على الطاردين ولكنه عرض بالإخالة وقرنه باشتراط الجريان وعني بالجريان السلامة عن المبطلات
760 - فإن قيل إذا أبدى المعلل وجها مرتضى في الإخالة قبل وقيل له ليس كل مخيل علما وليس كل استصلاح وجها مرتضى في الأحكام فمن أين زعمت أن ما أبديته من قبيل ما يعتد عليه إذ الإخالات منقسمة ووجوه الاستصلاح منتفية والشرع لا يرى تعلق الحكم بجميعها ولم تضبط الرواة مسالك الظنون للصحابة وأنحائهم
فإذا بطل دعوى التعلق بكل مصلحة ولم يتبين لنا ما اعتمده الأولون فكيف تدل نفس الإخالة
قلنا قد يتبين لنا أنهم رضي الله عنهم في الأزمان المتطاولة والاماد المتمادية ما كانوا ينتهون إلى وجوه مضبوطة بل كانوا يسترسلون في الاعتبار استرسال من لا يرى لوجوه الرأي انتهاء ويرون طرق النظر غير محصورة ثم كان اللاحقون يتبعون السابقين ولا يعتنون بذكر وجوه في الحصر لا تتعدى فعلمنا بضرورة العقل أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي لا نصوص فيها فإذا ظنوها ولم يناقض رأيهم فيها أصل من أصول الشريعة أجروها واستبان أنهم كانوا لا يبغون العلم اليقين وإنما كانوا يكتفون بأن يظنوا شيئا علما
فإذا ظهرا الإخالة وسلم المعنى من المبطلات وغلب الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الأولون قطعا
761 - وأنا أقرب في ذلك قولا فأقول إذا ثبت حكم في أصل وكان يلوح في سبيل الظن استناد ذلك إلى أمر ولم يناقض ذلك الأمر شيء فهذا هو الضبط الأقصى الذي لا يفرض عليه مزيد
فإذا أشعر الحكم في ظن الناظر بمقتضى استنادا إليه فذلك المعنى هو المظنون علما وعلة لاقتضاء الحكم فإذا ظهر هذا وتبين أن الظن كاف وتوقع الخطأ غير قادح ولا مانع من تعليق الحكم كان ذلك كافيا بالغا
762 - ومما يعضد به الغرض أن كل حكم أشعر بعلة ومقتضى ولم يدرأه أصل في الشرع فهو الذي يقضي بكونه معتبر النظر فإن الشارع ما أشار إلى جميع
العلل واستنبط نظار الصحابة رضي الله عنهم وكانوا يتلقون نظرهم مما ذكرته قطعا
فإن قيل فالإخالة مع السلامة هي الدالة إذا
قلنا لا ولكن إذا ثبتت الإخالة ولاحت المناسبة واندفعت المبطلات التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي الله عنهم فالدليل إجماعهم إذا كما تقدم في إثبات القياس على منكريه
763 - فإن قيل قد ثبت من رأيكم أنه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى ما دامت أصول الشريعة محفوظة وثبت أن النظر ليس مسترسلا في وجوه المصالح كلها وماخذ الأحكام مضبوطة والوقائع المتوقعة لا ضبط لها فكيف يستند ما لا نهاية له إلى المتناهى وهذا سؤال عسر جدا
ونحن نقول أولا انضباط الماخذ مسلم والحكم بأن حكم الله يجرى في كل واقعة مسلم مع انتفاء النهاية
والسبيل فيه أن كل فن من فنون الأحكام يتعارض فيه نفى وإثبات ثم لا محالة لا يلفى أصل يعارضه نقيض له إلا والنهاية تنتفى عن أحد المتقابلين لا محالة
وبيان ذلك بالمثال أن الأعيان النجسة مضبوطة محصورة والذي ليس بنجس لا نهاية له فكل ما ثبتت نجاسته اتبع النص فيه وكل ما أشكل أمره فإن كان في وجوه النظر ما يقتضي إلحاقه بالأعيان النجسة إلحق بها وإن لم يظهر وجه يقتضى ذلك التحق بما لا نهاية له من الطاهرات فينتظم من هذه الجملة في النفي والإثبات ما لا نهاية له
وكذلك القول في جميع مسالك الأحكام وهذا من نفائس الكلام
وسنقرره على أحسن الوجوه إن شاء الله تعالى في كتاب الاجتهاد
وهذا منتهى الغرض في إثبات علة الأصل بطريق الإخالة
764 - وأما ما اعتمده الشافعي وارتضاه ولا معدل عنه ما وجد إليه سبيل فهو دلالة كلام الشارع في نصبه الأدلة والأعلام فإذا وجدنا ذلك ابتدرناه ورأيناه أولى من كل مسلك
ثم ذلك يقع على وجوه
منها ما يقع على صيغة التعليل صريحا كقوله تعالى كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم
ومنها ما يتضمن التعليل ويشعر به إشعارا ظاهرا وهو يقع على وجوه نضرب أمثلتها
فمنها قوله عليه السلام لمن سأله عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا يبس فقال السائل نعم فقال عليه السلام فلا إذا فجرى ذلك منه متضمنا تعليلا بنقصان الرطب عن وزن التمر عند الجفاف
وقد تكلم بعض من لا يعد من أهل البصيرة بالعربية على هذا الحديث فقال معنى الحديث أنه إذا نقص فلا يباع الناقص بالتمر الذي لم ينقص وأكد هذا عند نفسه بأن قال إذا يتعلق بالاستقبال والفعل المضارع المتردد بين الحال والاستقبال إذا تقيد بإذا تجرد للاسقبال وانقطع عن احتمال الحال وكذلك جملة نواصب الأفعال المضارعة إذا تعلقت بها فإنها تمحضها للاستقبال فقوله إذا تصرف النهي إلى الاستقبال عند فرض النقصان في الرطب
765 - وهذا قول عرى عن التحصيل من وجوه
منها أن السائل سأله عن بيع الرطب بالتمر في الحال فيبعد أن يضرب عن محل السؤال ويتعرض للاستقبال وكان قد شاع في الصحابة رضي الله عنهم تحريم ربا الفضل فرد الجواب إليه والإضراب عن محل السؤال غير لائق بمنصب الرسول عليه السلام ثم لم يجر لفعل مستقبل ذكر في الحديث فلما جرى السؤال متعلقا بصيغة المصدر فإنه عليه السلام سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال عليه السلام بعد مراجعة السائل وأخذ جوابه فلا إذا و إذا قد تستعمل على أثر جمل ليس فيها لفعل مستقبل ذكر وقد يستعمل متصلا بالفعل غير عامل فيه فإنه يجري عند النحويين مجرى ظننت فإن تقدم واتصل بالفعل عمل كقولك في جواب كلام إذا أكرم زيدا وإن توسط جاز إلغاؤه عن العمل وجاز أعماله كقولك زيدا إذا أكرمه ويجوز أكرمه بالرفع وإن أخرته لم يجز إعماله كقولك زيد أكرمه إذا بالرفع لا غير وإذا لم يعمل كان كالتتمة للكلام والصلة الزائدة التي لا احتفال بها ولا وقع لها في تغير معنى وتخصيصه باستقبال عن حال ولكنه إذا اتصل بكلام مصدر بالفاء اقتضى تسبيبا وتعليلا كما قال عليه السلام فلا إذا ثم السر في ذلك أن الرسول عليه السلام استنطق السائل بالعلة وما كان يخفى عليه عليه السلام أن الرطب ينقص إذا يبس فلما نطق السائل وقع تعليل الرسول عليه السلام مرتبا على نطق السائل على جفاف الرطب معناه إذا علمت ذلك فلا إذا
766 - ومما يجري تعليلا صيغة تتضمن تعليق الحكم باسم مشتق
فالذي أطلقه الأصوليون في ذلك أن ما منه اشتقاق الاسم علة للحكم في موجب هذه الصيغة كما قال تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وكما قال الزانية ولزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة
فتضمن سياق الايتين تعليل القطع والحد بالسرقة والزنا
وهذا الذي أطلقوه مفصل عندنا فإنا نقول إن كان ما منه اشتقاق الاسم مناسبا للحكم المعلق بالاسم فالصيغة تقتضي التعليل كالقطع الذي شرع مقطعة للسرقة والجلد المثبت مردعة عن فاحشة الزنا وفي الايتين قرائن تؤكد هذا منها قوله تعالى جزاء بما كسبا نكالا من الله وقوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله
وإن لم يكن ما منه اشتقاق الاسم مناسبا للحكم فالاسم المشتق عندي كالاسم العلم
وتعلق أئمتنا في تعليل ربا الفضل بالطعم بقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام فوقف على إثبات كون الطعم مشعرا بتحريم التفاضل وإلا فالطعام والبر بمثابة واحدة ولو علق الحكم بهما
767 - وإذا ثبت بلفظ ظاهر قصد الشارع في تعليل حكم بشيء فهذا أقوى متمسك به في مسالك الظنون فإن المستنبط إذا اعتمد إيضاح الإخالة وإثبات المناسبة وتدرج منه إلى تحصيل الظن فإن صحب الرسول عليه السلام كانوا رضي الله عنهم يعلقون الأحكام بأمثال هذه المعاني
فالذي يتضمنه ونظنه أبعد في الإشعار بأن ما استنبطه منصوب الشارع من لفظ منقول عن الرسول عليه السلام مقتض للتعليل
768 - والقول الوجيز أن ما يظهر من قول الرسول عليه السلام في نحو وجهة يتقدم على ما يظهر من طريق الرأي لما تقرر من تقديم الخبر على القياس المظنون فإذا
تطرق إلى كل واحد منهما الظن وانحسم القطع تقدم الخبر لمنصبه واستأخر الرأي وصيغ التعليل ظاهرة في قصد صاحب اللفظ إلى التعليل
وقد ذكرت في كتاب التأويل أنه إذا قصد الشارع تعميم حكم ولاح ذلك وظهر في صيغة كلامه لم يسغ مدافعة مقتضى العموم بقياس مظنون وقد ذكرنا من هذه الجملة في كتاب التأويل ما نحن الان فيه وأوضحنا أن ما يظهر قصد التعليل فيه وإن لم يكن نصا فلا يجوز إزالة ظاهر التعليل بقياس لا يستند إلى تعليل الشارع ظاهرا فإنا لو فعلنا ذلك كنا مقدمين ظن صاحب الرأي على ما ظهر فيه قصد الشارع وهذا محال
وإن استند قياس من يحاول إزالة ظاهر التعليل إلى ظاهر اخر في التعليل يخالف ما فيه الكلام فينظر إذ ذاك في الظاهرين نظرنا في المتعارضين كما سيأتي في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
769 - فإن قيل قد علل رسول الله صلى الله عليه و سلم وجوب الوضوء على المستحاضة بكون الخارج دم عرق فإنه قال عليه السلام توضئي فإنه دم عرق فاقتضى ذلك وجوب الوضوء بخروج الدم من كل عرق
قلنا قال بعض أصحابنا ما ذكره صلى الله عليه و سلم تعليل في محل مخصوص فإنها سألت عن دم يخرج من مخرج الحدث فجرى جوابه عليه السلام حكما وتعليلا منزلا على محل السؤال وكان السؤال عن خروج الدم من محل الحدث ومعظم ما يجري على صيغ التعليل في ألفاظ الشارع لا يكون فيه تعرض للمحل بل يكون طلب المحل محالا على الطالب الباحث وكذلك تلفى تعليلات القرآن كالسرقة والزنا وغيرهما
والجواب المرضى عندنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقصد إيجاب الوضوء والاعتناء بتعليله وإنما غرضه نفى وجوب الغسل ورفع حكم الحيض عند اطراد الاستحاضة ولما اشتبه على السائلة أن الخارج حيض أم لا قصدت السؤال عما أشكل عليها فأبان صلى الله عليه و سلم أن الخارج ليس بالحيض الذي يزجيه الرحم وإنما هو عرق وحكمه الوضوء وهذا بين من فحوى كلامه عليه السلام
770 - فإن قيل لم تركتم تعليل رسول الله صلى الله عليه و سلم تخيير المعتقة بملكها نفسها حتى تقضوا على حسب ذلك بأنها تخير وإن اعتقت تحت حر فإنه عليه السلام قال لبريرة ملكت نفسك فاختاري وهذا تعليل الخيار بانطلاق حجر الرق وهو يجري في العتق تحت الحر جريانه في العتق تحت العبد
قلنا قال المحدثون لا نعرف هذا اللفظ فعلى ناقله التصحيح ثم إن صح فسبيل الكلام عليه أنه لم يرد تعليل الخيار بملكها نفسها فإنه لو أراد أنها ملكت نفسها تحقيقا لما احتاجت إلى الخيار في محل النكاح
قال القاضي إن ملكت محل النكاح فليس للخيار معنى وإن ملكت غير مورد النكاج لم يشعر ذلك بالخيار في محل النكاح فالمراد إذا ترديد العبارة عن ثبوت الخيار لها كما يقال لمن ثبت له حق فسخ عقد ملكت الفسخ فافسخ
فمعنى الحديث إذا ملكت الخيار فاختاري وكانت أعتقت تحت عبد فهذا وجه الكلام
771 - ثم إنا نجري ذكر هذه الأمثلة تهذيبا للأصول وتدريبا فيها وإلا فحق الأصولي ألا يلتفت إلى مذاهب أصحاب الفروع ولا يلتزم مذهبا مخصوصا في المسائل المظنونة الشرعية
فهذا غاية ما أردناه في هذا الفن
السبر والتقسيم
772 - ومما أجراه القاضي وغيره من الأصوليين في محاولة إثبات علل الأصول السبر والتقسيم
ومعناه على الجملة أن الناظر يبحث عن معان مجتمعة في الأصل ويتتبعها واحدا واحدا ويبين خروج احادها عن صلاح التعليل به إلا واحدا يراه ويرضاه
وهذا المسلك يجري في المعقولات على نوعين فإن كان التقسيم العقلي مشتملا على النفي والإثبات حاصرا لهما فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني للثبوت
وإن لم يكن التقسيم بين نفى وإثبات ولكنه كان مسترسلا على أقسام يعددها السابر فلا يكاد يفضي القول فيها إلى علم
وقصارى السابر المقسم أن يقول سبرت فلم أجد معنى سوى ما ذكرت وقد تتبعت ما وجدته
فيقول الطالب ما يؤمنك أنك أغفلت قسما لم تتعرض له فلا يفلح السابر في مطالب العلوم إذا انتهلا الكلام إلى هذا المنتهى
773 - فأما السبر في المسائل الشرعية الظنية فإن دار بين النفى والإثبات ولاح المسلك الممكن في سقوط أحد القسمين كان ذلك سبرا مفيدا كما
سنبين الان معنى السبر وجدواه
وإن كان التقسيم الظني مرسلا بين معان لا يضبطها حصر كما ذكرناه في المعقولات ورددناه فيها فقد قال بعض الأصوليين إنه مردود في المظنونان أيضا فإن منتهاه إحالة السابر الأمر على وجدانه
وهذا غير سديد فإن هذا الفن من التقسيم إنما يبطل في القطعيات من حيث لا يفضي إلى العلم والقطع وإذا استعمل في المظنونات فقد يثير غلبة الظن فإن المسألة المعروفة بين النظار إذا كثر بحثهم فيها عن معانيها ثم تعرض السابر لإبطال ما عدا مختاره فقال السائل لعلك أغفلت معنى عليه التعويل
قيل هذا تعنت فإنه لو فرض معنى لتعرض له طلاب المعاني والباحثون عنها والذي تحصل من بحث السابرين ما نصصت عليه والغالب على الظن أنه لو كان للحكم المتفق عليه علة لأبداها المستنبطون المعتنون بالاستثارة فتحصل من مجموع ذلك ظن غالب في مقصود السابر وهو منتهى غرض الناظر في مسائل الظنون
774 - وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى السبر وتنويعه وما يفيد منه وما لا يفيد فنرجع الان إلى غرضنا في إثبات معنى الأصل فنقول
قد عد القاضي السبر من أقوى الطرق في إثبات علة الأصل وهذا مشكل جدا فإن من أبطل معاني لم يتضمن إبطاله لها إثبات ما ليس يتعرض له بالبطلان فإنه لا يمتنع أن يبطل ما لم يتعرض له أيضا فإنه لا يتعين تعليل كل حكم فعد السبر والتقسيم مما تثبت به العلل بعيد لا اتجاه له
والذي يوضح المقصد في ذلك أنه لو انتصب على معنى ادعاه المستنبط دليل
فلا يضر أن يفرض لذلك الحكم علة أخرى وارتباط الحكم بعلل لا امتناع فيه وإنما تتعارض العلل إذا تناقضت موجباتها فيمتنع الجمع بينها فإذا كانت متوافقة متظاهرة لم تتناقض
فيتبين أن إبطال معان تتبعها السابر لا أثر له في انتصاب ما أبقاه ولو أقام الدليل على كلمة معنى لم يتوقف انتصابه معنى موجبا للحكم على تتبع ما عداه بالإبطال
فلا حاصل على هذا التقدير للسبر والتقسيم في إثبات علل الأصول
775 - والان ينشأ من منتهى هذا الكلام أمو خطيرة في الباب
منها أنه لو ثبت اتفاق القايسين على كون حكم في أصل معللا ثم اتجه للسابر إبطال كل معنى سوى ما راه وارتضاه فلا يمتنع والحال هذه أن يكون السبر مفيدا غلبة الظن في انتهاض ما لم يبطل علما
ومستند ثبوته في التحقيق الاجماع على أصل التعليل ولكن ثبت الإجمع على الأصل مبهما وأفضى السبر إلى التعيين فحصل منه ومن الإجماع ما أراده المعلل
فإن قدر مقدر إبطال ما أبقاه السابر وقد استتب له مسلك الإبطال فيما سواه كان مقدرا محالا مؤديا إلى نسبة أهل الإجماع إلى الخلف والباطل
776 - فإن قيل كيف يكون إجماع القايسين حجة وقد أنكر القياس طوائف من العلماء قلنا الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة فإنهم مباهتون أولا على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه
وأيضا فإن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد والنصوص لا تفى بالعشر من
معشار الشريعة فهؤلاء ملتحقون بالعوام وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ
فهذا منتهى ما اتصل الكلام به
فصل تعليل الحكم بأكثر من علة 777 - ومما يتصل بذلك القول في اجتماع العلل للحكم الواحد
وقد اضطرب الأصوليون في هذا فذهب طوائف إلى أنه لا يعلل حكم بأكثر من علة واحدة
وذهب الجماهير إلى أنه لا يمتنع تعليل حكم بعلل
وذهب المقتصدون إلى أن ذلك لا يمتنع على الجملة لا عقلا ولا شرعا فإن الدم يجوز أن يعزى استحقاقه إلى جهات ومقتضيات كل مقتض لو انفرد بنفسه لاستقل في إثارة الحكم
هذا لا امتناع فيه
وأما إذا ثبت الحكم مطلقا لأصل وكان أصل تعليله وتعيين علته لو ثبت تعليلا موقوفا على استنباط المستنبط فيمتنع أن تفرض علتان يتوصل إليهما بالاستنباط
وللقاضي إلى هذا صغو ظاهر في كتاب التقريب وهو اختيار الأستاذ أبو بكر بن فورك
ونحن نذكر ما يتمسك به كل فريق
778 - فأما من جوز وضعا واستنباطا تعليل حكم بعلل فمسلكه واضح وطريقة لائح وإنما الاعتناء بالتنبيه على مسالك الاخرين
فمما تعلقوا به أن قالوا أجمع أهل القياس على اتحاد علة الربا واتخذ كل فريق إبطال ما يدعيه الاخرون المخالفون ذريعة إلى إثبات ما يدعيه علة ولو كان يسوغ إثبات حكم بعلل لكان هذا المسلك غير متجه ولا مفيد والذي يحقق ذلك أنهم أجمعوا على التعلق بالترجيح وإنما ترجح العلل إذا تعارضت ولو كان لا يمتنع اجتماعها لكان الترجيح لغوا فيها فإن من ضرورة الترجيح الاعتراف باستجماع كل علة شرائط الصحة لو قدرت منفردة فإذا تناقضت يرجح بعضها على بعض وإذا لم يمتنع اجتماعهما لم يكن للترجيح معنى
779 - ومن جوز تعليل حكم بعلتين لم يبعد أن تكون إحداهما أولهى من الأخرى والترجيح لا يفيد إلا تلويحا في ظهور بعض العلل
والكلام على هذا من أوجه
أحدها أن تعليل ربا الفضل ليس مقطوعا به عند المحققين وليس منكر تعليله منتسبا إلى جحد القياس ومن عرف مسالك كلامنا في الأساليب تبين ظهور ميلنا إلى اتباع النص وإلى إثباتنا الربا في كل مطعوم بقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام وربا الفضل في النقدين لا يتعداهما ولا ضرورة تحوج إلى ادعاء علة قاصرة وقد أجريت مسألة الربا على التزام اتباع مذهب الشافعي ومحاذرة مخالفته في تعليله تحريم ربا الفضل في الأشياء الأربعة بالطعم المتعدى في محل النص
780 - وأنا الان أبدى اختياري في منع تعليل ربا الفضل وأبدأ القول في النقدين
فأقول قد وضح إبطال الوزن في النقدين ولم يبق إلا النقدية والعلة القاصرة لا تثمر مزيدا في الحكم ولا تفيد جدوى في التكليف فإن الحكم ثابت بالنص
ومن قال بالعلة القاصرة أبداها وانتحاها حكمة في حكم الشرع ولسنا نبعد ذلك ولكن يتعين في ادعاء العلة القاصرة أن يكون المدعى مشعرا بالحكم مناسبا له مفضيا بالطالب إلى التنبيه على محاسن الشريعة والتدرب في مسالك المناسبات وشرط ذلك الإخالة لا محالة وليست النقدية مشعرة بتحريم ربا الفضل على ما قررت في الأساليب فقد خرجت النقدية عن كونها حكمة مستثارة ومسلكا من محاسن الشريعة ولم يتعلق بها حكم زائد على مورد النص وبطل ما ادعى متعديا ولاح سقوط التعليل في النقدين
وأما الأشياء الأربعة فقد أوضحنا أن الطعم ليس مخيلا بالتحريم وبينا أن قول النبي عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام الحديث لا يتضمن تعليلا بالطعم ما لم يقرر المستدل بالخبر كون الطعم مخيلا مناسبا وحققنا أن المشتق إذا لم يشعر بإخالة حل محل اللقب والسبر قصاراه إبطال ما يدعيه الخصم علة وليس في إبطال مدعى الخصم إثبات لغيره ولم يثبت بالإجماع كون تحريم ربا الفضل معللا وكيف يستقيم دعوى الإجماع في تعليله وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنه تحريم ربا الفضل
782 - وذهب طوائف من القايسين إلى منع التعليل مع الاعتراف بالحكم والترجيح باطل مع تجويز ارتباط الحكم بعلل
فلم يبق إلا طريقة تكلفتها في الأساليب وهي أن الرسول عليه السلام أباح ربا الفضل في الجنسين وحرمه في الجنس الواحد فدل ذلك على ارتباط
حكم التحريم بالمقصود من هذه الأجناس والمقصود منها الطعم لا الكيل والوزن فإن هذه الأجناس لا تقتني لتكال أو توزن وإنما تتخذ لينتفع بها
ثم عد رسول الله من كل جنس فذكر البر لأنه يطعم قوتا والشعير يقتات ويدخر وينتفع به من وجوه والتمر قد يقتني والملح يراد لتطييب الأطعمة واصلاحها فكأنه صلى الله عليه و سلم ذكر الأجناس الغالبة من الأطعمة ونبة بذكرها على ما يجمعها وهو الطعم ثم أبان برفع الحرج عند اختلاف الجنس التعلق بالمقاصد وطردت هذا في مسألة النقدين على هذا الوجه
فهذا وإن صح فهو من فن قياس الدلالة وهو عندي من أبواب الشبه على ما استقصى القول فيه إن شاء الله تعالى
783 - ولكن إنما يستقيم التشوف إلى مثل ذلك لو جرى في الباب سليما وقد رأينا ربا النساء محرما في الجنسين فلو كان التعلق بالمقصود صحيحا للزم طرده في ربا النساء إذ وقوع البر في الذمة ليس ممتنعا إذا لم يكن رأس مال السلم مطعوما فلم امتنع إسلام الشعير في البر مع تفاوت المقاصد وباب ربا النساء فرع ربا الفضل فإذا جرى تعليل في ربا الفضل وجب أن يناسب ربا النساء فيما يليق به
فإذا لا إخالة ولا تنبيه من الشارع ولا شبه بين العقاقير والفواكه وبين الأشياء الأربعة
فقد بطل قياس الدلالة وفسد التعلق بالترجيح وأغنى ذكر النقدين فيما يتعلق بالحكم وأغنى ذكر الطعام عن تكلف استنباط علة فالوجه التعلق بالنهي عن بيع الطعام بالطعام
وإذا حاول الخصم تخصيصا لم يجد دليلا يعضد به تأويلا فثبت الظاهر وقد امتنع تخصيصه أيضا على الخصم وإذا رووا في حديث عبادة بن الصامت وكذلك
ما يكال ويوزن فهو موضوع مختلق باتفاق المحدثين
784 - وإذا قال من لم يزد على الأشياء الستة لو كان تحريم التفاضل في كل مطعوم لكان ذكر الطعام أوجز واوقع وأعم وأجمع فذكره أصنافا مخصوصة يشعر بقصر الحكم عليها
فيقال لهؤلاء لا ينفع ما ذكرتموه مع صحة النهي عن بيع الطعام بالطعام وليس في ذكر بعض الأطعمة ما يتضمن تخصيص اللفظ العام في الطعام إذ الألقاب لا مفهوم لها وقد ذكرنا في أثناء الكلام وجها وأوضحنا أنه لا يمتنع حمل ذكر الشارع لها على إبانة اطراد تحريم الربا في جميع ما يطعم مع انقسامه إلى القوت وغيره
فتبين قطعا أن الربا يجري في كل مطعوم للخبر الوارد فيه وهو وارد في النقدين للنص فيهما
وسبيل المسئول في المسألتين أن يذكر الحكم ويتمسك بالخبر ويحوج الخصم إذا حاول إزالة الظاهر إلى دليل فإذا ابتدر إلى ذكر طريقة في القياس نتبعها بالنقض
وهذا جرى معترضا في الكلام
785 - وقد عاد بنا الكلام إلى أن ما استشهد به من منع ربط حكم بعلتين من تخاوض العلماء في علة الربا باطل في مسلك الأصول فإنا أوضحنا أن ما استشهدوا به مما لا يعلل عندنا
والكلام في التفصيل مع منع أصل التعليل فاسد حايد عن المقصد
ثم لا يمتنع لو قيل بتعليل الربا أن يجمع القايسون في أصل معين على اتحاد العلة
فيه ثم يتنافسوا في طلبها وهذا الإجماع لو فرض في صورة مخصوصة لا يتضمن القضاء بمنع ارتباط حكم في صورة أخرى بعلتين أو بعلل فلا تعلق إذا فيما استشهدوا به من علة الربا
وبما يتمسك هؤلاء بأن يقولوا المتبع في اثبات القياس والعمل به سيرة الصحابة رضي الله عنهم وقد صح عنهم تعليق الحكم بالمعنى الفرد المستثار من الأصل الواحد فاتبعوا فيه
وأما ربط الحكم بعلتين مستنبطتين من أصل واحد بحيث يجري كل واحد منهما في مجاري اطرادهما وينفرد بمجاري أحكامهما فلم يثبت في مثل هذا نقل ولو كان مثل هذا سائغا ممكن الوقوع لا تفق في الزمان المتمادى ولنقله المعتنون بأمر الشريعة ونقل السبر فإذا لم ينقل ذلك دل على أنه لم يقع وإذا لم يقع في الأمد الطويل تبين أن الحكم الواحد لا يعلل إلا بعلة واحدة متلقاة من أصل واحد
فهذا لا حاصل له فإن أصحاب الرسول عليه السلام ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين من نظار الزمان في تعيين أصل والاعتناء بالاستنباط منه وتكلف تحرير على الرسم المعروف المألوف في قبيله وإنما كانوا يرسلون الأحكام ويعقلونها في مجالس الاشتوار بالمصالح الكلية فلو كانوا لا يبدون علة في قضية إلا معتزية إلى أصل معين ثم صح في البحث عن نقل الرواة ما ذكره هذا المعترض لكان كلاما
786 - ومما ارتبك في الخائضون في هذه المسألة أن الذين سوغوا تعليق الأحكام بعلل تعلقوا بتحريم المرأة الواحدة بعلة الحيض والإحرام للصلاة والصيام وقالوا قد يجب قتل الرجل بأسباب كل واحد منها لو انفرد لثبت علة على الاستقلال
وقال من يخالف هؤلاء إنما يناط بالمحل تحريمات ولكن لا يظهر أثر تعددها وقد يتكلف المتكلف فيجد بين كل تحريمين تفاوتا وهذا بين في القتل فإن من استحق القتل قصاصا وحدا فالمستحق قتلان ولكن المحل يضيق على اجتماعهما ولو فرض سقوط أحدهما لبقى الثاني
ولا يكاد يصفو تعليق تحقيق حكم واحد بعلتين تصورا فهذا منتهى المطالب في النفى والإثبات
787 - والذي يتحصل عندنا في ذلك أن الحكم إذا ثبت في أصل ولاح للمستنبط فيه معنى مناسب للحكم فيحكم في مثل ذلك مع سلامة المعنى المظنون منتهضا عن المبطلات بكون الحكم معللا ويتبين له أن ربط الحكم بهذا المعنى الفرد لائح منحصر في مطالب الشريعة ويجوز تعليق الحكم بمثل هذا المعنى فإنه لم يصح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ضبط المصالح التي تنتهض عللا للأحكام ولا إطلاق تعليق الحكم بكل مصلحة تظهر للناظر وذي رأى
فمسلك الضبط النظر في مواقع الأحكام مع البحث عن معانيها فإذا لاحت وسلمت تبين أنه معنى متلقى من أصول الشريعة وليس حايدا عن الماخذ المضبوطة
فهذا هو المسلك الحق في درك وقوع المعنى في ضبط الشرع ولهذا رد الحذاق الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل فإن صاحبه لا يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشرع بمثلها ولو فرض في أصل معنيان فصاعدا لم يترتب عليهما استفادة الضبط ولم يأمن المستنبط وقوع أحدهما خارجا عن حصر الشرع وضبطه وليس واحد من المعنين بهذا التقدير أولى من الثاني فمن هذه الجهة يتعارضان
فلا يمتنع ترجيح أحدهما على الثاني
788 - فإن قال قائلون بم تنفصلون عن الحائض المحرمة الصائمة
قلنا قد قدمنا جوابا عن هذا سديدا عندنا فإنا نقدر اجتماع تحريمات واية ذلك أنا ألفينا التحريم قد استقل به الحيض المحض والمفروض إذا في حكم أصول تجتمع تعليلها وتزدحم أحكامها
789 - ولباب هذا الفصل سيأتي في الاستدلال فلا يعتقدن المرء بأن هذا اختيارنا في هذه المسألة حتى يقف على ما نراه في الاستدلال رأيا
وإن أبى الطالب استعجال الصواب في هذه المسألة فليثق بامتناع علتين لحكم واحد
والدليل القاطع فيه قبل الانتهاء إلى المباحثه عن أسرار الاستدلال أن ذلك لو كان ممكنا وقد طال نظر النظار واختلاف مسالك الاعتبار في المسائل وما اتفقت مسألة إلا والمختلفون فيها يتنازعون في علة الحكم تنازعهم في الحكم ومن تدبر موارد الشريعة ومصادرها اتضح له ما نقول على قرب
790 - فمن أمثلة ذلك مسألة الربا ومن ادعى أنها مختصة من بين سائر المسائل باتفاق الإجماع على اتحاد العلة فيها فقد احال الأمر على إبهام والمنصف لا يستريب في أن خوض النظار في مسألة الربا كخوضهم في غيرها من المسائل
ولما ثبت الخيار للمعتقة تحت الرقيق وكان ذلك مجمعا عليه والإجماع مستند إلى الحديث ثم اختلف العلماء في إثبات الخيار للمعتقة تحت الحر ومنشأ اختلافهم في ذلك من اختلافهم في تعليل الخيار في حق المعتقة تحت الرقيق فاعتل أبو حنيفة
رحمه الله بأنها ملكت نفسها وزعم أن ذلك يجري في حق المعتقة تحت الحر وأبطل الشافعي رحمه الله هذا التعليل واعتل بالضرار على ما يحرره أصحابه
وكذلك الإفتاء في كل مسألة يبحث الناظر عنها
791 - ونحن نقول بعد هذا التنبيه
تعليل الحكم الواحد بعلتين ليس ممتنعا عقلا وتسويغا ونظرا إلى المصالح الكلية ولكنه ممتنع شرعا واية ذلك أن إمكانه من طريق العقل في نهاية الظهور فلو كان هذا ثابتا شرعا لما كان يمتنع وقوعه على حكم النادر والنادر لا بد أن يقع على مرور الدهور فإذا لم يتفق وقوع هذه المسألة وإن لم يتشوف إلى طلبه طالب لاح كفلق الإصباح أن ذلك ممتنع شرعا وليس ممتنعا عقلا ولا بعيدا عن المصالح
وهذه نهاية لا تتعدى في هذا الفن
وإنما نشأ هذا الكلام كله من قولنا في السبر والتقسيم
792 - والان كما عاد بنا الكلام إليه
فإذا أبطل السابر أشياء نص عليها فأخرجها عن كونها عللا ولم يبق إلا واحد اتجه عند ذلك وجهان من الكلام
أحدهما تعين ما بقي للتعليل به
والثاني بطلانه أيضا والتحاق الحكم بما لا يعلل كما سنفصل ذلك إن شاء الله تعالى
وهذا التردد فيما بقي يدل على أن السبر المجرد إذا انتهى إلى معنى واحد ووقف
عنده لم يدل على تعينه للتعليل وإن كان ذلك المعنى غير مخيل فهو يبطل أيضا بكونه طردا فلينجر السبر عليه وليتخذ السابر هذا مسلكا في إبطال ما أبقاه وليحكم بأن الحكم غير معلل ولو استمكن الناظر من إبداء الإخالة في معنى من المعانى مع التزام السلامة لبطل التعليل بغيره من المعانى من غير أن يتجشم سبرا
793 - فإن قيل لو أبدى الخصم معنى اخر مخيلا قلنا هذا لا يكون أبدا وإن صح فيما أبداه أشعرنا بالاختلال للإخالة الأولى اذ لو فرض جريان الإخالة فيهما أدى إلى تعليل حكم بعلتين ولو كان ذلك سائغا لاتفق وقوعه
794 - ويبقى وراء هذا موقف اخر وهو تجويز تقابل مخيلين مع ترجيح أحدهما على الثاني وهذا من أدق مواقف النظر في الترجيح ولا ينبغي للإنسان أن يتعب نفسه في هذا التقدير فإن أرباب النظر وإن ذكروا في مسألة الربا طرق الترجيح فذلك شعبة من الكلام في المسألة ومعظم الاعتناء بإبطال كل فريق علة من يخالفهم ولكن إجراؤهم الترجيح يدل على اعتقادهم امتناع اجتماع العلل
795 - فقد نجز مرادنا من هذا الفصل وقد ابتدأناه ابتداء من يجوز اجتماع العلتين وأردنا أن نفيد الناظر بهذا المسلك كيفية النظر ووجوه ازورار الطرق حتى يقر الحق في نصابه ويتبين تقرير المختار عندنا والتنصيص على لبابه
فصل الطرد والعكس 796 - ومما ذكره الجدليون وتردد فيه القاضي الطرد والعكس فذهب كل من يعزي إليه الجدل إلى أنه أقوى ما يثبت به العلل
وذكر القاضي أبو الطيب الطيري أن هذا المسلك من أعلى المسالك المظنونة وكاد يدعى إفضاءه إلى القطع وإنما سميت هذا الشيخ لغشيانه مجلس القاضي مدة واعتلاقه أطرافا من كلامه ومن عداه حثالة وغثاء
797 - واستدل هؤلاء بأن الغرض الأقصى من النظر والمباحثة عن العلل غلبة الظن وهذا المقصود يظهر جدا فيما يطرد من غير انتقاض وينعكس وكأن الحكم يساوقه إذا وجد وينتفى إذا انتفى وإذا غلب على الظن تعليق الحكم المتفق عليه في الأصل المعتبر بمعنى فلم يبطل كونه علة بمسلك من المسالك فقد حصل الغرض من غلبة الظن وعدم الانقاض وينزل ذلك منزلة الإخالة السليمة لدى العرض على الأصول
وللقاضي صغو ظاهر إلى ذلك
ثم ظهور الدليل يرتبط بالطرد والعكس وهو في العكس أبين من جهة أن الطارد في محل النزاع مدع اطراده وهو منازع فيه لا محالة والدليل يستند ظهوره إلى الاتفاق على الانعكاس
798 - وهذا من غوامض الفصل فإن الانعكاس ليس شرطا في العلل السمعة عند جماهير الأصوليين والطرد شرط ثم الذي هو شرط الصحة وركنها ليس دليلا على الصحة والذي لا يشترط وهو الانعكاس ينتهض دليلا
799 - وذهب بعض الخائضين في هذا الشأن إلى أن الأمر بهما جميعا يتم فإن محل التمسك مساوقة الأمر الذي يقال إنه علة وذلك تقرر بثبوته إذا ثبت
وانتفائه اذا انتفى
800 - وقال القاضي في معظم أجوبته لا يجوز التعلق بالطرد والعكس في محاولة إثبات العلة فإن الطرد لا يعم في صور الخلاف على وفاق إذ لو كان يعم لما ثبت الخلاف في المحل الذي يدعى الطارد الطرد فيه والعكس ليس شرطا في العلة التي تجري دليلا وعلامة فقد صار الطرد واقعا في محل النزاع وبعد اعتبار العكس من جهة أنه غير معتبر كما سنذكره على أثر هذا الفصل ومن التزم نصب شيء علما لم يلتزم نصب نفيه علما في نفي مقصوده كما سيأتي الشرح عليه في مسلك العكس إن شاء الله تعالى
فالطرد إذا متنازع فيه والعكس ليس من مقتضيات نصب الإعلام والعلامات
وقال أيضا معتمدنا في قاعدة القياس تأصيلا وفيما يرد ويقبل تفصيلا ما يصح عندنا من أمر الصحابة رضي الله عنهم فما تحققنا ردهم إياه رددناه وما تحققنا به عملهم قبلناه وما لم يثبت لدينا فيه ثبت تعديناه فإنا على قطع نعلم أن جميع وجوه النظر ليست مقبولة ولا مردودة والعقول لا تحتكم فيها مصححة ولا مفسدة فإنها إنما تحكم على الأنفس وصفاتها وما هي عليه من حقائقها والعلل السمعية لا تدل لذواتها
فإذا ثبت هذا فقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم ينوطون الأحكام بالمصالح على تفصيل لها
فأما الطرد والعكس فلم يؤثر عنهم التعلق به وليس هو من معنى طلب المصالح في شيء حتى يقال استرسالهم في طريق الحكم بالمصالح من غير تخصيص شيء منها يقتضي التعلق بالطرد والعكس
801 - وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر عندي فإن الغاية القصوى في
مجال الظنون غلبتها متعلقة بقصد الشارع والمصالح التي تعلق بها صحب الرسول صلى الله عليه و سلم لم يصادفوا في أعيانهم تنصيصا من رسول الله صلى الله عليه و سلم وتخصيصا لها بالذكر ولو صادفوا ذلك لما كانوا متمسكين بالنظر والرأي فإن معاذا جر الأمة لم يذكر الرأي في القصة المشهورة إلا بعد فقدان كل ما يتعلق به من الكتاب والسنة ولا نراهم كانوا يرون التعلق بكل مصلحة فالوجه في تحسين الظن بهم أنهم كانوا يعلقون الأحكام بما يظنونه موافقا لقول الرسول عليه السلام في منهاج شرعه وكانوا يبغون ذلك في مسالكهم
ولا يكاد يخفى على ذي بصيرة أن الطرد والعكس يغلب على الظن انتصاب الجاري فيهما علما في وضع الشرع
فمن أنكر ذلك في طرق الظنون فقد عاند ومن ادعى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأبون التعلق بطريق يغلب على الظن مراد الشارع وكانوا يخصصون نظرهم بمغلب دون مغلب فقد ادعى بدعا
802 - فإن قال قائل لم ينقل ذلك في عينه فالسبب فيه أنهم كانوا ما أجروا ذكر أصل واستنباطا منه وإن كان ذلك هو الطريقة المثلى عند القايسين وما لا يستند إلى أصل فهو استدلال مختلف فيه ولكنهم ما اعتنوا إلا بذكر المعاني فاكتفوا بإطلاقها عن ذكر أصولها وما تكلفوا جمعا وإن كان الجمع معتبرا باتفاق النظار والمسائل لا تشهد بصورها ما لم تربط الفروع بها والذي تحصل منهم التوصل إلى ابتغاء غلبة الظن في بغية الشارع على اقصى أقصى الجهد
803 - وأنا أقول لو ثبت عندهم أو عرض عليهم انتفاء حكم عند انتفاء
علم وثبوته عند ثبوته لابتدروه ابتدارهم الأخبار لا طرق النظر فإن ما ثبت من ذلك يعزى إلى الشارع في النفي والإثبات وكانوا يحومون على إشارته وتنبيهاته كما يتعلقون يظاهر ألفاظه وصريح عباراته فليقطع المحصل قوله بما انتهى إليه الكلام من الاستمساك بالطرد والعكس
804 - وما ذكره القاضي من كون الطرد متنازعا فيه وكون العكس مستغنى عنه فمن التشدق والتفيهق الذي يستزل به من لا يعد من الراسخين
وسبيل الكلام عليه أن نقول
مجموعهما هل يغلب على الظن انتصاب ما اطرد وانعكس علما أم لا
فإن زعم أنه لا يغلب انتسب إلى العناد وإن سلم إفادته غلبة الظن وقد تقرر أن القايسين غايتهم أن يظنوا ظهور علم على حكم وهم يعترفون بأن الجهات التي تفضي إلى غلبة الظن ليست منحصرة ومن تأمل مجارى كلامهم لم يسترب في أمرين
أحدهما أن الأولين رضي الله عنهم ما كانوا يشيرون إلى أمور محصورة مضبوطة يتبعونها اتباع من يقتفي اثار نصوص وتوقيفات ولو كانوا على ضوابط وحدود يتخذونها مرجعهم لما كانوا ينظرون فيه رأيا وإنما كان رجوعا إلى ضبط الشارع وتوقيفه فهذا أحد الأمرين
والأمر الثاني أنهم كانوا لا يرون حمل الخلق على الاستصلاح بكل رأى وإنما كانوا يحومون على قواعد الشريعة ويستثيرون منها ما يظنونه
فيخرج من هذين الأمرين أن مبتغاهم كان أن يغلب على ظنهم مراد الشارع في علم يرتبط الحكم به
805 - فإن قيل إذا جعلتم الطرد والعكس مسلكا في إثبات علة الأصل فهل تشترطون العكس وما رأيكم فيه
قلنا نعقد في ذلك مسألة وبها حصول الغرض على التمام فيما سبق وفيما سئلنا عنه
مسألة في حكم اشتراط العكس في علة القياس
806 - ذهب بعض المنتمين إلى الأصول إلى أن الانعكاس لا بد منه في العلل وإن كانت مظنونة
وذهب الجماهير إلى أن الانعكاس ليس شرطا في العلل السمعية المظنونة
ونحن نورد ما لكل فريق ثم نوضح الحق والمقام الذي تشعبت منه الاراء
فأما من شرط العكس فقد يأتي بأمر لفظي لا حاصل له ويقول العلل وإن كانت مظنونة فينبعي أن تكون على مضاهاة العلل العقلية القطعية حتى لا يفترقا إلا في كون أحداهما مظنونة والأخرى مقطوعا بها ثم العلل العقلية يجب انعكاسها فلتكن السمعية كذلك
وهذا ساقط لا أصل له ولولا الوفاء بإيفاء ما ذكر في هذا المجموع وإلا كنا لا نذكر أمثال ذلك
فنقول لهؤلاء العلل العقلية لا حقيقة لها ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلة والمعلول ثم يقال لهم ما يسمى علة سمعية فهي أمارة في مسلك الظن وحقها أن تقابل بالأدلة العقلية ثم الأدلة العقلية إذا اقتضت في ثوبتها مدلولاتها لم يقتض انتفاؤها انتفاء مدلولاتها كالفعل إذا دل على الفاعل لم يدل عدمه على عدم الفاعل والإحكام إذا دل على علم المحكم له يدل التثبج على
الجهل وكذلك الأمارات في سبيل الظنون إذا دلت على ثبوت أمر لم يدل انتقاؤها على انتفائه
وهذا مما يستدل به من لم يشترط العكس
807 - وقد تعلق الجمهور بأن العكس لو كان شرطا لوجب ألا يقتل إلا قاتل من حيث كان القتل علة قتل القاتل ولا يقتل المرتد فإذا كان الحكم الثابت لعلة يطرد مع ارتفاعها لثبوت علة أخرى تخلفها عند ارتفاعها دل ذلك على أن الانعكاس ليس شرطا
فإن قيل امتنع الانعكاس لعلة فليقل الطارد وقد نقض عليه طرده إنما تركت حكم الطرد فيما التزمت لعلة فلما كان الطرد شرطا لم يكن بد من الاطراد فلو كان العكس شرطها لتعين ذلك أيضا وكذلك كل حكم يفرض تعلقه بعلل
ولمن يشترط العكس أن يقول القتل الواجب بالقتل يعدم بعدم القتل وإنما الواجب عند عدم القتل قتل اخر ولكن المحل يضيق عن القتلات ويفوت بإيقاع واحد منها به
والدليل على ذلك أنها مختلفة الأحكام على وجه لا يخفى مدرك اختلافه على الفقيه ويستحيل أن تختلف الأحكام في الشيء الواحد فإن ما يطرده هذا القائل في التحريم بالحيض والإحرام والعدة والردة ويزعم أنها أحكام فإذا زالت علة منها زال حكمها بزوالها وإنما الثابت حكم اخر وإن اتسم بسمة التحريم فدخول المختلفات تحت صفة واحدة عامة لا يوجب اتحادها
وإذا ألزم هؤلاء الأدلة العقلية قالوا مجيبين الفعل يدل على الفاعل وعدمه يشعر بانتفاء الفاعلية فإن الفاعلية هي وقوع الفعل على الحقيقة
وأما الإحكام فلا حقيقة له والمثبج في حال تثبيجه محكم على معنى وقوعه على حسب مراد الموقع وبسط القول في هذا لا يحتمله هذا الفن
وإذا خضنا في بيان المختار في ذلك عدنا إلى الأدلة العقلية عودة أخرى ان شاء الله تعالى
808 - ومما يتعلق به من لا يشترط العكس أن يقول انتفاء التحريم ورفع الحرج من الأحكام فإذا تعلق التحريم بعلم لم يجب أن ينتصب عدمه علما لحكم اخر ومن التزم نصب شيء علما لم يلزمه أن ينصب علما في نقيضه
وهذا وإن كان مخيلا فلا تحصيل له فإن الانعكاس معناه انتفاء الحكم وانتفاء الحكم ليس حكما وقد ذكرنا فيما قدمنا أن الحل في التحقيق إن كان بمعنى رفع الحرج فليس بحكم وإن كان المعنى به أنه مخبر عنه في معنى حكم الحل فهو في هذا الحكم ملحق بالشرع على معنى أنه لم يتصل بالعقلاء قبل ورود الشرع خبر من له الأمر وإلا فالحرج منتف قبل ورود الشرع وقياس التحريم أن يثبت التحريم ثم أصل انعكاسه انتفاء التحريم لا ثبوت حكم اخر مناقض للتحريم فقد وهت هذه الطريقة
809 - ومما تمسك بن بعض من نفى اشتراط الانعكاس ما قدمناه في أدراج الكلام من الأدلة العقلية فإنها إذا دلت بوجودها على مدلول لم يدل
عدمها على عدمه ولا يخطر لم يعد نفسه حبرا في الأصول تفص عن هذا فإن الدليل العقلي مشعر بالمدلول قطعا والأمارة الظنية مشعرة بالمظنون ظنا ولو لم يشعر الدليل القاطع بمدلوله لم يكن دليلا عليه ولا شك أن إشهار القاطع بمتعلقه فوق إشعار الأمارة بالمظنون فإذا قوى الإشعار في الطرد كان اقتضاؤه الانعكاس أظهر ومع ذلك لم ينعكس الدليل فالمظنون بذلك أولى
وهذا على وضوحه ساقط فلن يحيط بالانفصال عنه من لم يتلقف من حقائق النظر
810 - والقدر الذي يحتمله هذا الكتاب أن تعليق الدليل العقلي بمدلوله لا حقيقة له والعلوم كلها ضرورية والنظر تردد في أنحاء العلوم الضرورية والعلم المسمى ضروريا هو الذي يهجم العقل عليه من غير فكر والنظر الأول الذي يلي البديهي الهجمي هو الذي يحوج إلى أدنى فكر وتجريد تفكر العقل نحو المطلوب ثم ينبني على الدرجة الأولى ثانية وعلى الثانية ثالثة فالسوابق تلتحق بالضروريات الهجميات
811 - ولا بد من ضرب مثال يستعين به الناظر في هذه المسألة وفي نظائرها إذا انجر الكلام إلى الأدلة القطعية فنقول إذا تغير الجوهر فتغيره مدرك معلوم من غير مسيس الحاجة إلى فكر ثم يربط هذا الناظر فكره بأن هذا التغير جائز هو أم واجب فنعلم على القرب جوازه ولا ينتصب عليه شيء يتعلق بالجواز ولكن الطالب بفكره يدرك وهو ممثل بما يتأتى بناظر البصر بعض التأتي فإنه قد يحدق
نحو بصره قليلا ثم إذا أدركه التحق بالمدركات التي تقرب منه ثم إذا علم جوازه فكر في أنه يقع بنفسه أم يستند إلى مقتض فيترتب عليه غير بعيد ويعلم على اضطرار أن الجائز لا يقع من غير مقتض ويلتحق هذا بالمراتب الضرورية ثم يفكر في تعيين المقتضى إلى حيث ينتهي نظره
812 - ومثال ذلك في الهندسيات أن الأوليات المذكورة في المصادرات أمور تسليمية كقول القائل الكل أكثر من الجزء وكل شيئين يساوي كل واحد منهما ثالثا فهما متساويان ثم يبني الأشكال على أمثال هذه المقدمات وإذا أدركه كان العلم بها على نحو العلم بالمقدمات ولا معنى للدليل إلا بناء مطلوب على مقدم ضروري
وقد يحتاج الناظر الى قليل فكر وذلك يختلف باختلاف القرائح فقد يجرى الجواد جريانا لا نحس في أثنائه وقفاته إن كانت وقد يطول تردد البليد
ومما يطرق الخلل إلى النظر الحيد عن السنن المفضي إلى مقصده وبيانه بالمثال أن الذي يبغي مقتضيا إذا حاد عن طلب الجواز وأخذ يفكر في الطول والعرض وللون فهذا حائد لا ينتهي إلى مقصده
وقد يؤتى الناظر من نسيان المقدمات وإلا فالمشكل انقطاع مدركه كمدرك المقدمات في المقالة الأولى من كتاب الاستقصات
813 - فخرج من هذا التنبيه العظيم أن دليل العقل ليس شيئا متعلقا بمتعلق حتى يفرض فيه إشعار في الطرد ونقيض له في العكس
والأمارات الشرعية مصالح تقتضى أحكامها وهي على التحقيق متعلقة بها
فقد بان افتراق البابين
والمطلوب بعد من حقيقة المسألة بين أيدينا
وقد قالوا إذا كانت العلامات الشرعية لا تقتضي أحكامها لأعيانها وإنا وجه اقتضائها لها نصب الشارع إياها وإن صح في ذلك نقل فهي علل منقولة وإن لم يثبت نقل وظنها المستنبط كان نصب الشارع إياها مظنونا فهي إذا كيف فرضت منصوبة تحقيقا أو ظنا
ومن قال لمن يخاطبه إذا أومأت إليك فاعلم أني أريد منك أن تقوم فعدم الإيماء لا يدل على عدم إرادة القيام فقد يريد منه القيام بعلامة أخرى وقد ينصب على الشيء الواحد أعلاما
وهذا على التحقيق حكم العلل الشرعية وهذا هو التدليس الأخير
وإذا نحن أوضحنا مسلك الحق فيه استفتحنا بعده تمام الكشف عن غاية البيان واختتمنا المسألة على وضوح لا مراء بعده
814 - فنقول هذا القبيل الذي ذكره السائل من فن مالا يخيل ولا يناسب المستدعي فإن الإشارة لا تختص باقتضاء القيام لا عن علم ولا عن غلبة ظن وهي بالإضافةإلى القيام كهى بالإضافة إلى القعود فليفهم الناظر ذلك أولا وليتفطن له
815 - ثم نقول بعد هذه الصفات إذا نصبت أعلاما فإنها في غالب الأمر تذكر في مساق شرط أو على قضية تعليل فإن ذكرت على مساق لشرط فقد قررت في مسألة المفهوم أن انتفاء الشرط يتضمن انتفاء المشروط ومن خالف في القول بالمفهوم لم يخالف في الشرط واقتضائه نفى المشروط عند انتفاء الشرط
فإذا لا نسلم أن ما يجري من هذه الصفات في مساق الشرط لا يقتضي انتفاء عند فرض الانتفاء وإن لم يجر صيغة الشرط في عينها وجرى في معناها فالأمر يجري هذا المجرى فهو بمثابة أن تقول إذا أومأت إليك فقم فإذا وإن لم تكن من أدوات الشرط فمعناه الشرط مع اقتضاء التأقيت على ما سبق الرمز إليه في معانى الحروف
وإن جرت على صيغة التعليل فالتعليل أبلغ في اقتضاء النفى عند فرض انتفاء العلة وهذا مما سبق القول فيه أيضا في المفهوم فما ادعاه السائل من أن نصب الأعلام لا يقتضى انتفاء الأحكام عند انتفائها ساقط لا أصل له وهو إذا تأمله المتأمل مردود إلى القول بالمفهوم في الشرط والعلة
فهذا صدر الكلام في ذلك
816 - ولكنا مع ذلك لا نبعد أن تعلق المتعلق مشروط بأفراد شرائط بحيث يستقل ذلك المشروط بكل واحد منها مثل أن يقول أن أتيتني أو كاتبتني أو ذكرتني بخير على ظهر الغيب أكرمتك فالإكرام متعلق بكل شرط من هذه الشراط من غير أن يشترط اجتماعها وإذا كان التعلق على هذا الوجه لم يبعد أن ينتفي الإتيان ويثبت الإكرام لمكان المكاتبة أو لشرط اخر يفرض
817 - فإذا لاح هذا انعطفنا على الغرض وبحنا بالمقصود وقلنا سيأتي في تفصيل الاعتراضات الصحيحة أن النقض مفسد للعلة في بعض الصور قطعا وفي بعضها
بضرب من الاجتهاد وطرق القطع منحسمة ولكن النقض على حال ممثل بالخلف في الوفاء بالمشروط عند ثبوت الشرط
فإذا قال قائل إن جئتني أكرمتك فإذا جاءه ولم يكرمه كان ذلك في حكم الخلف ولو جرى إكرامه من غير مجيء كان هذا مخالفا لحكم الشرط من طريق التضمن ولم يكن معدودا خلفا صريحا فيفارق الطرد العكس مثل ما يفارق الخلف الوفاء بالمشروط عند وجود الشرط في إثبات مجىء المشروط دون الشرط
وإذا قال القائل إن جئتني أكرمتك وإن لم تجئني أكرمتك فالذي جاء به وإن كان على صيغة الشرط فهو خارج عن باب الشرط باتفاق أهل اللسان والتقدير أكرمك إن جئتني أو لم تجئني
818 - ونحن الآن نقول من حكم كل ما يثبت علة أن ينعكس وأن يكون لوجوده على عدمه مزية ولو لم يكن كذلك لما كان لكون الشىء علة معنى ثم إذا كان الشىء مخيلا وثبت كونه علة شرعا فجهة اقتضاءه النفى عند انتفائه من جهة تأثير الإخالة وإن لم يكن مخيلا وثبت كونه علة شرطا فجهة اقتضائه النفى عن انتفائه كونه شرطا كما تقرر في قاعدة المفهوم
ومع هذا كله لا يمتنع أن تنتفى العلة ويثبت الحكم بعلة أخرى
وكذلك القول في الشرط من حيث أنه يجوز ربط مشروط بآحاد شرائط فإن لم يصح تعليل الحكم الواحد بعلل فيتعين العكس في كل علة
ولكنه لو امتنع العكس لخبر أو إجماع فهذا الان يستدعي
مقدمة في النقض مقدمة في النقض
819 - فلو اطردت العلة على صور المعاني وتلقتها صورة تخالف حكمها في مقتضى الطرد وكان حكمها غير معلل ففي بطلان العلة بذلك كلام سيأتي مشروحا
820 - فعدم الانعكاس لخبر أو إجماع موضع الخلاف فمن رأى ما قدمته نقضا اضطربوا في مثل هذه الصورة في العكس
فذهب الأكثرون إلى أنه غير ضائر فإن الانعكاس ضمن العلة كالمفهوم والنقض في حكم الوارد على نص الكلام
وصار صائرون إلى أنا نتبين بتقاعد العلة عن مقتضاها بطلانها في طردها فهذا موضع الخلاف في المسألة
821 - والمختار إذا انتهى الكلام إلى هذا المجر أن هذا غير مبطل للعلة ولكن ينشأ من هذا الموضع فصل جدلي ممتزج بأمر ديني فنقول
أولا دينا حق على كل مجتهد ان يفتى بعكس العلة إذا لم يمنع من ذلك مانع ولم يحجز حاجز فإن اقتضى الانعكاس جهة في الاجتهاد فلا يجوز تعطيله ولكن إذا طولب في النظر فالوجه ألا يلتزم ما لأجله ترك العكس فإنه إذا ثبت جوازه ترك العكس بسب
والكلام في محل العكس خارج عن محل الخلاف فمطالبة المعلل بإبداء العذر في
ترك الانعكاس خروج عن المسألة إذ محل الطرد هو المعنى
وسر المسألة قصر الكلام على المقصود وحصره في أوجز الطرق حتى تجدى وتثمر على قرب وكثب
وكمال البيان فيه إن من طرد علة فانتقضت علته ولاح الفرق بين صورة النقض ومحل التعليل فالعلة باطلة قطعا فإن ما انتهض فرقا صيغة في التعليل أخل المعلل بذكره فكأنه ذكر بعض العلة ولو تقاعدت العلة عن العكس وظهرت علة تقتضي امتناع العكس لم ينقدح ذلك في العلة بل كان ذلك عذرا عاما في عدم الانعكاس
وقد نجز غرضنا من الكلام في الانعكاس الان
822 - وإنما أجرينا ذكر هذا الطرف وإن كان لائقا بباب الاعتراضات لاتصاله بالقول بالعلتين وبه تم إيضاح الغرض من هذا الفن
وتقرر أنا لم نلف حكما متفقا عليه مرتبطا بعلتين مع تحقيق الاتحاد في الحكم
وإذا كان كذلك فالحكم الثابت مع انتفاء العلة إن لم يستند إلى نص أو إجماع فهو مساو للحكم الأول في الاسم ومخالف له في المأخذ والحقيقة وهو كتعليلنا تحريم المحرمة بإحرامها ثم إذا حلت وكانت حائضا فهي محرمة وإن زال الإحرام ولكن تحريم الحيض مخالف لتحريم الإحرام في وصفه وكيفيته وكذلك إذا علل المعلل إباحة الدم بالقتل الموجب للقصاص ثم لم تنعكس العلة لمكان الردة أو غيرها من مقتضيات القتل فليس هذا من عدم الانعكاس فإن القتل الواجب بالقتل ينتفى بانتفاء القتل
823 - فإن قيل قد أنكرتم وجدان حكم معلل بعلتين فما قولكم في الولاية المطردة على الطفل والمجنون وهي قضية واحدة معللة بالجنون والصبا
قلنا الولاية الثابته على المجنون ضرورية إذ لا يتوقع من المجنون تصرف وفهم ونظم عبارة والولاية على الصبي المميز لمكان الغبطة وطلب الأصلح فإن الصبي يعقل ما يقول ويفعل ومن كان انسا بتفاصيل الولايات لم يعدم فرقا بين الولاية على المجنون والولاية على الصبي المميز فإن فرض صبي غير مميز فهو المجنون بعينه ولا أثر للصبا ولا يقع به تعليل فإن الولاية الحقيقية بالصبا هي ولاية الاستصلاح
824 - وقد تناهى الشافعي في الغوص على ما ذكرناه حتى لا يرى توريث ذي قرابتين بالقرابتين جميعا إذا كانت إحداهما أقرب من الأخرى وقال القرب الأقرب يعدم أثر القرب الأبعد حتى كأنه ليس قريبا وكذلك الصبا مع سقوط التمييز ليس معتدا به
وهذا اخر القول في تأصيل قياس المعنى وما تثبت به علل الأصول
وقد حان الان أن نحوم على قياس الشبه
فصل القول في قياس الشبه
825 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به تصوير قياس الشبه وتمييزه عن قياس المعنى والطرد و لا يتحرر في ذلك عبارة خدبة مستمرة في صناعة الحدود ولكنا لا نألوا جهدا في الكشف
فقياس المعنى مستندة معنى مناسب للحكم مخيل مشعر به كما تقدم
والشبه لا يناسب الحكم مناسبة الإخالة
وهو متميز عن الطرد فإن الطرد تحكم محض لا يعضده معنى ولا شبه
826 - وإنما يتضح القول في ذلك بالأمثلة ثم بالحجاج
فإذا قلنا طهارة عن حدث أو طهارة حكمية فافتقرت إلى النية كالتيمم لم يكن قولنا طهارة عن حدث مقتضية من طريق الإخالة للنية ولكن فيه شبه مقرب لإحدى الطهارتين من الأخرى وقد عبر الشافعي عن تقريب إحداهما من الأخرى فقال طهارتان فكيف تفترقان
وكذلك إذا قلنا غسل حكمى فلا يتعدى الظاهر إلى داخل الفم كغسل الميت فهو تشبيه مقرب وليس بمثابة الطرد الذي لا يخيل ولا يثير شبها مغلبا على الظن
827 - ثم الشبه ينقسم إلى تشبيه حكمى وإلى تشبيه حسى
فالحكمى ما ذكرناه والحسى كقول أحمد أحد الجلوسين في الصلاة فكان واجبا كالجلوس الأخير
وكقول أبي حنيفة تشهد فلا يجب كالتشهد الأول
وفي الشرع تعبد بالنظر إلى الأشباه الحسية الخلقية كالقول في جزاء الصيد
والقيافة مبناها على النظر إلى الأشباه الجلية والشمائل الخفية
828 - ولا ينتهي هذا المقدار إلى تمام البيان في تصوير قياس الشبه ونحن نزيد فنقول
إلحاق الشيء بالمنصوص عليه لكونه في معناه متقبل مقطوع به وإن لم يكن الحكم
المنصوص عليه معللا أو كان معللا ولم يطلع الناظر بعد على ذلك من حاله وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا
فما قرب من المنصوص عليه جدا بحيث يحصل العلم بالتحاقه فهو في الرتبة العليا وما بعد قليلا وعارض العلم نقيضه من ظن أو شك فهذا مما يغلب على الظن الالتحاق به من غير معنى وهو الشبه
ثم تعليلات الظنون في درجات المظنون على مراتب فإذا تناهى البعد وثار بحيث لا يلوح مقتضى ظن ولا موجب علم فهو الطرد المردود
829 - والشبه ذو طرفين
أدناه قياس في معنى الأصل مقطوع به
وأبعده لا يستند إلى علم ولا ظن
وكل طارد ذاكر شبها حسيا أو حكميا لا يخيل ولا يغلب على الظن
ومن أصدق ما تميز به الطرد عن الشبه أن تعليق الحكم بما يعد طردا يضاهى في مسلك الظن تعليق نقيضه به فلا يترجح أحدهما على الثاني إلا من جهة اطراد أحدهما فيما يبغيه الطارد ويدعيه والشبه يتميز عن هذا
ونحن نبين ذلك بمثال يحوي المقطوع به في الرتبة العليا والشبه الذي نحن في محاولة تصويره والطرد الذي نرده
قلو ثبت مثلا كون النية شرطا في التيمم لكان الوضوء في معناه قطعا وإلحاق الوضوء بالتيمم تشبيه ولا يليق بقول القائل طهارة حكمية نفى النية فانماز الشبه المقبول به عن نقيضه
وإذا قال الحنفى طهارة بالماء فأشبهت إزالة النجاسة كان ذلك طردا
ولو قيل طهارة بالماء فافتقرت إلى النية لم يكن في هذا بعد يناقض نفى النية حتى يقال نفي النية أليق اللفظ من إثباتها
وإن انتصروا لذلك فغايتهم أن يقولوا ما ذكرناه شبه خلقي وقد هذى بعض المتأخرين فقال الماء طهور بجوهره
وغرضنا التنبيه على المنازل فإن استقام للخصم وجه من الشبه فالأصولي لا يعرج على مذاهب أصحاب الفروع ثم نزيد الكلام إن ناضل الخصم بشبيه إلى الترجيح وسننبه على مسلكه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى
830 - ومما ذكره القاضي في تمثيل تعارض الأشباه القول في أن العبد المملوك هل يملك
فمن زعم أنه يملك شبهه في إمكان صدور التصرف منه بالحر واعتضد بأنه عاقل في جنسه يتأتى منه السياسة والإيالة والضبط والقيام على المملوكات وإنما يملك من يملك لذلك وللعبد فيه شبه بالحر وهذا يعتضد بتصوير ملك النكاح له
ومن أبى تصوير الملك له تعلق بأنه على شبه المملوكات في استحالة الاستقلال وفي نفوذ تصرف المالك فيه على حسب تقدير النفوذ في المملوكات جمع فشابه المملوك الذي يقام عليه ولا يقوم بنفسه
831 - وهذا الذي ذكره ليس من قياس الشبه عندي فإن كل متعلق في المسألة في شقى النفى والإثبات منخرط في سلك المعنى المخيل المناسب ثم الإخالات على رتب ودرجات فمنها الخفى ومنها الجلى ومنها المتوسط بين الخفاء والجلاء
ولعلنا أن نأتي في ضبك مداركها بأقصى الإمكان إن شاء الله تعالى
832 - ومما أجراه القاضي في ضبط تصوير الشبه أن قال قياس المعنى هو الذي يستند إلى معنى يناسب الحكم المطلوب بنفسه من غير واسطة وقياس الشبه هو الذي يستند إلى معنى و ذلك المعنى لا يناسب الحكم المطلوب بنفسه ولكن ذلك المعنى يغلب على الظن أن الأصل والفرع لما اشتركا فيه فهما مشتركان في المعنى المناسب وإن لم يطلع عليه القايس
833 - وهذا الذي ذكرناه على حسنه لا يضبط قياس الشبه فإنا نجري قياس الشبه حيث لا يعقل معناه فيه تقريبا له من الذي يقال فيه إنه في معنى الأصل فإذا كان القياس الشبهي يجري حيث لا معنى فلا توجه لضبطه بالإشعار بالمعنى المناسب
وقد ينقدح في محل إمكان المعنى فيما ذكره القاضي فضل نظر فإن دركه إذا كان ممكنا للمجتهد لم يجز له الاجتزاء بالشبه بل عليه أن يبحث عما لا يشعر به الشبه من المعنى فإذا لاح للناظر الشبه المشعر بالاجتماع في المعنى كان ذلك في حكم السابقة المقتضية تتمة النظر
وسنعود إلى تفصيل ذلك بكلام يشفى الغليل ونأتي على كل تفصيل إن شاء الله تعالى وإنما نحن الان في تصوير الشبه ثم الكلام يقع وراء ذلك في الرد والقبول وإثبات الحق
فصل
834 - ومما أرى تقديم رسمه ربط الأحكام بالأحكام وهو كثير الجريان والجولان في أساليب الظنون كقول القائل من نفذ طلاقه نفذ ظهاره إلى ما ضاهى ذلك
وهذا ينقسم إلى ما يشعر بالمعنى المخيل المناسب إشعارا بينا وإلى ما يستعمل شبها محضا
فالمشعر بالمعنى كما ضربناه من المثال استدلالا على نفوذ الظهار بنفوذ الطلاق فإنه يجمعهما اقتضاء كل واحد منهما تحريم البضع مع كون الزوج مالكا للبضع متمكنا من التصرف فيه والتحريم على وجه ينفرد باستدراكه أو على وجه مبين يستدعي رفعه عقدا مجددا والظهار محرم كالطلاق فربط أحدهما بالاخر يلوح منه المعنى الجامع بينهما
835 - وهذا القسم سماه بعض المتأخرين قياس الدلالة من حيث إنه يتضمن شبها دالا على المعنى
وهؤلاء قسموا الأقيسة
إلى قياس المعنى وهو الذي يرتبط الحكم فيه بمعنى مناسب للحكم مخيل مشعر به
وإلى قياس الدلالة وهو الذي يشتمل على ما لا يناسب بنفسه ولكنه يدل على معنى جامع
وإلى قياس الشبه المحض وهو الذي لا يشعر بمعنى مناسب أصلا ولا يكون في نفسه مناسبا
ثم اختيار النظار قياس الدلالة لإعرابه عن المقصود على القرب فإن المعنى لو أبداه المعلل ونوزع فيه وفي مناسبته وطريق اعتباره وإشعاره لقال التحريم إلى الزوج والله المحرم كتحريم الطلاق بالإضافة إلى الطلاق فإذا كان عقبى الكلام يستدعي الاستشهاد بالطلاق فذكر الطلاق أول مرة على الابتداء يتضمن المعنى ويصرح بالاستدلال عليه
836 - فأما الحكم الذي هو شبه محض فهو كقول القائل قربة ينقضها الحدث فيشترط فيها الموالاة قياسا للطهارة على الصلاة فانتقاض القربة بالحدث حكم وربط الموالاة بالحدث من طريق الشبه فليس في بطلانها بهذا الحكم ما يشعر باشتراط المتابعة على التحقيق
837 - وقد يقرب من هذا القسم تشبيه الوضوء بالتيمم وتشبيه غسل الجنابة بغسل الميت
ومما يلتحق بهذا القسم تصوير الشبه اعتبارنا التكبير في حكم التعيين وامتناع قيام غيره مقامه بالركوع الذي لا تقوم هيئة من الهيئات مقامه وإن تضمن خشوعا واستكانة تامة
838 - والقاضي أحيانا يقول ليس هذا بقياس فإن تعيين التكبير متناه على انحسام مسلك القياس وتحرير القياس في منع القياس مناقضة والتباس
ولكن صاحب هذا المذهب يقرر ابتناء الصلاة على الاتباع ويوضح بعدها
عن المعاني
ونضرب في ذلك الأمثال للإيضاح لا للقياس
وهذا يضاهي من سبل المعقولات المخاوضة في الضروريات فإن الاستدلال فيها محال ولكن المتمسك بدعوى الضرورة قد يبسط المقال ويضرب فيه الأمثال ويبغي بإيرادها اجتزاء مخالفة خصمه وارعواءه عن جحده وعناده
وأحيانا يقول هذا قياس الشبه فيما لا يعقل معناه والجوابان متقاربان لا يظهر بينهما اختلاف المعنى
839 - ومن تمام القول في تصوير ما نحن فيه أن المعنى الذي ادعاه المعلل علة وعلما لم يظهر كونه مخيلا وإنما أثبت المتمسك به انتصابه علما من جهة الطرد والعكس ورأيت ذلك مسلكا في انتصاب المعنى علة فهذا في أصح أجوبة القاضي يلتحق بالشبه فإن المعنى هو المناسب وما يغلب على الظن انتصابه من غير إخالة فمسلكه الشبه
فهذا بيان صورة قياس الشبه وما يلتحق به وهذا منتهى غرضنا من هذا التصدير في محاولة التصوير
وقد حان أن ننقل المذاهب في رد قياس الشبه وقبوله ونوضح الحق عندنا
مسألة
840 - قال القاضي في كثير من مصنفاته قياس الشبه باطل وإلى هذا صغوه الأظهر وتابعه طوائف من الأصوليين
وذهب معظم الفقهاء إلى قبول قياس الشبه والقول به
فأما من رده فمتعلقه أن الشبه ليس مناسبا للحكم ولا مشعرا به فشابه الطرد فإن الطرد إنما رد من جهة أنه لا يناسب الحكم
وإن زعم القائل بالشبه أنه مناسب فليس من شرط الأصولي أن يتكلم في تفاصيل الفقه ولكنه يقول إن كان مناسبا على شرط الفقهاء فهو قياس المعنى ونحن لا ننكره وإنما ننكر قسما سميتموه الشبه وزعمتم أنه زائد على المعنى المخيل المناسب
فهذا لباب كلام القاضي حيث يرد قياس الشبه وسنرد عليه في خاتمة الكلام
841 - وإنما أخرنا ذلك لأن الغرض لا يلوح دون ذكر معتصم القائلين بقياس الشبه وقد أكثر الفقهاء وما أتوا بكلام يفلح المتمسك به
والذي نرتضيه متعلقا في الشبه أمران
أحدهما أن نقول قد أوضحنا في مواضع أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وعن قضية تكليفية وسنكشف الغطاء فيه في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
وإذا تمهد ذلك قلنا من مارس مسائل الفقه وترقى عن رتبة الشادين فيها ونظر في مسالك الاعتبار تبين أن المعنى المخيل لا يعم وجوده المسائل بل لو قيل لا يطرد على الإخالة المشعرة عشر المسائل لم يكن مجازفا وهذه الطريقة إنما يدريها من توغل في مسائل الفقه فأمعن النظر فيها وهذا واضح جدا بالغ الموقع
وعضد القاضي في التقريب هذه الطريقة بمناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفرائض سيما مسائل الجد
وفي هذا نظر فإنها معان بيد أنها تكاد تتعارض وإنما تعب المجتهدون فيها بالترجيح فهذا مسلك مقنع جدا
842 - والمسلك الثاني أن الغرض من قياس المعنى غلبات الظنون وكل مسلك في قبيله وجنسه ما ستعقب العلم عند قرب النظر فإذا بعد وأثار ظنا كان متقبلا في المظنونات وقد ذكرنا أن إلحاق الشيء على قرب بالمنصوص عليه وهذا الذي يسمى القياس في معنى الأصل معلوم مقطوع به والشبه على فنه ومنهاجه غير أنه لا يتضمن علما ويتقضي ظنا وهذا كأقيسة المعاني فإن الشارع لو نص على تعليل الحكم بعلة على وجه لا يتطرق إلى تنصيصه تأويل فهذا في فنه مقطوع به
وإن لم يفرض نص ولا إجماع ولاح في الحكم المنصوص عليه معنى مناسب فهذا مظنون الالتحاق بما فرضناه معلوما في هذا الطريق فيترتب مسلك الظن في قياس المعنى على النص على المعنى ترتب الشبه على الذي يقال إنه في معنى الأصل
ومستند كل فريق في البابين أصل لو ثبت كان مقتضيا علما وليس هذا الذي ذكرناه قياسا في إثبات نوع من القياس فإن هذا ليس بالمرضى عند من يحيط بمأخذ الأصول ولكنا رسمنا القسمين معلوما ومظنونا
843 - ونحن نقول وراء ذلك إنا لا يمكننا أن ننص على مسلك معين أو مسالك وندعى أن نظر الصحابة ومن بعدهم كان منحصرا فيه والذي يسمى المعنى ليس يقتضي الحكم لعينه وليس كل مخيل عله في الحكم
والقدر الذي ثبت أنهم كانوا يلحقون ما لا ذكر له في المنصوصات
بالمنصوصات إذا غلب على ظنهم أنه يضاحيها بشبه أو بمعنى
وليس من يدعى حصر النظر في المعاني بأسعد حالا ممن يدعى حصر المعاني في الأشباه
واستتمام الكلام فيه بما ذكرناه مقدما حيث قلنا النظر في الشبه يوقع في مستقر العادة غلبة الظن كما أن النظر في المعنى يوجب ذلك
ومن أنكر وقوع الظن كان جاحدا للعلم على قطع فإن العلم بوقوع الظن مقطوع به وإذا انتظم ظن في إلحاق الشيء بأصل الشرع ولم يدرأه دارىء وألفى قبيله إذا ظهر مقتضيا علما فليس بعد هذا التقرير كلام مع ما تقدم من أن الرجوع إلى المجمعين حتم ولم يثبت في ماخذهم ضبط
844 - فإن قيل لسنا نسلم إفضاء الشبه إلى غلبة الظنون
قلنا هذا الان عناد منكم ونكد فإن من أنكر وقوع الظن بكون الوضوء كالتيمم وكل واحد منهما معنى يراد معين للصلاة والحدث استباحة أو رفعا فقد راغم
وإذا قيل له قياس المعنى لا يفيد ظنا لم يرجع في تحقيق ذلك إلا إلى مثل ما ذكرناه والسر فيه أن جحد الظن في هذه المسالك مراغمة للعلم بالظن
845 - وما ذكره القاضي في تقسيم القول بأن الشبه مناسب للحكم أو غير مناسب فهذا أوان الجواب عنه
فنقول الشبه مع ما ادعيت من انقطاع المناسبة أيغلب على الظن أم لا فإن أبى
حصول غلبة الظن فقدره أجل وأعلى من هذا وإن اعترف به راجعناه في المعنى الذي تحصل غلبة الظن لأجله ولا مناسبة
وعندي أن الأشباه المغلبة على الظن وإن كانت لا تناسب الأحكام فهي تناسب اقتضاء تشابه الفرع والأصل في الحكم فهذا هو السر الأعظم في الباب فكأن المعنى مناسب للحكم من غير فرض ذكر أصل نظرا إلى المصالح الكلية والأصل يعني لانحصار المصلحة في أصول الشريعة فإن كل مصلحة لا تنتهض علة والشبه لو جرد لا يقتضي الحكم كما لو لم يفرض إلا الوضوء لم يكن في قول القائل طهارة حكمية أو عن حدث اقتضاء النية لا علما ولا ظنا وإذا ثبت التيمم فذكر الحدث يناسب مشابهة الوضوء للتيمم والشبه من ضرروته مشبه ومشبه به والمعنى مستقل إذا ناسب اقتضاء الحكم لو ثبت الاستدلال والقول به
846 - وهذا منتهى القول في الشبه تصويرا واحتجاجا واختيارا
وقد اشتمل ما ذكرناه على تقسيم الأقيسة المظنونة
ونحن نذكر بعد ذلك فصلا مما جمعه الأصحاب في تقاسيم الأقيسة ونطرد ما قالوه ونسوقه على وجهه ثم نذكر ترتيبا حسنا ينبه الناظر على جميع قواعد القياس ثم نذكر ما يعلل وما لا يعلل ثم نذكر طريق الاعتراضات الصحيحة منها والفاسدة ثم نذكر قولا بالغا في الاستدلال ثم نختتم الكتاب بالمركب وما فيه وينتجز به القياس إن شاء الله تعالى
فصل في مراتب الأقيسة 847 - يحوي ما يعد منها وفاقا وما يختلف في عده منها ويتضمن بيان ترتيبها في الجلاء والخفاء
ونحن نذكر أجمع طريقة الأصحاب وأحواها ثم نذكر ما عندنا في معناها ومغزاها
قالوا أولها إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من طريق الفحوى والتنبيه المعلوم كإلحاق الضرب وأنواع التعنيف بالنهي عن التأفيف فهذا في الدرجة العليا من الوضوح
وقد صار معظم الأصوليين إلى أن هذا ليس معدودا من أقسام الأقيسة بل هو متلقى من مضمون اللفظ والمستفاد من تنبيه اللفظ وفحواه كالمستفاد من صيغته ومبناه ومن سمى ذلك قياسا فمتعلقة أنه ليس مصرحا به والأمر في ذلك قريب
848 - والقسم الثاني ما نص الشارع على تعليله على وجه لا يتطرق التفصيل والتأويل إليه أصلا وقد ثبت لفظ الشارع قطعا فإذا ثبت الحكم واستند إلى النص القاطع في تعليله فمن ألحق بالعلة المنصوصة المسكوت عنه بالمنطوق به كان قياسا
قال الأستاذ أبو بكر هذا ليس بقياس وإنما هو استمساك بنص لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن لفظ التعليل إذا لم يقبل طرق التأويل عم في كل ما تجرى العلة فيه وكان المتعلق به مستدلا بلفظ ناص في العموم
849 - القسم الثالث إلحاقك الشيء المنصوص عليه لكونه في معناه وإن لم تستنبط علة لمورد النص وهو كإلحاقك الأمة بالعبد في قوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم عليه
وهذا القسم مما اختلف في تسميته قياسا أيضا كما تقدم ذكره
850 - والقسم الرابع قياس المعنى وهو أن يثبت حكم في أصل فيستنبط له المستنبط معنى ويثبته بمسلك من المسالك التي قدمناها و لم يصادفه غير مناقض للأصول فيلحق كل مسكوت عنه وجد فيه ذلك المعنى بالمنصوص عليه وقد تقدم استقصاء القول فيما يثبت به علل الأصول
وشرط هذا القسم أن يكون المعنى مناسبا للحكم مخيلا مشعرا به على ما تقدم
وهذا القسم هو الباب الأعظم في أقيسة الشرع وفيه نزاع القايسين وتعارض أقوالهم
851 - والقسم الخامس قياس الشبه ونحن على قرب عهد بوصفه
852 - وألحق ملحقون قياس الدلالة بهذه الأقسام واعتقدوه قسما سادسا
ولا معنى لعده قسما على حياله وجزءا على استقلاله فإنه يقع تارة منبئا عن معنى وتارة شبها وهو في طوريه لا يخرج عن قياس المعنى أو الشبه
فهذه تقاسيم كلية ذكرها من حاول ترتيب الأقيسة
853 - والرأي عندنا أن نجري الترتيب على خلاف ذلك فنقول
مطلوب الناظر ينقسم إلى معلوم ومظنون
فأما المعلوم فلا معنى لذكر الترتيب فيه فإن العلوم لا تتفاوت عند وقوعها
فإن فرض تفاوت في القرب وبعد المأخذ وطول النظر فهو من مقدمات العلوم وإلا فلا يتصور علم أبين من علم
854 - والأقسام الثلاثة المقدمة من المعلومات ومن أنكرها كان جاحدا وقد استجرأ على جحد بعضها أقوام يعرفون بأصحاب الظاهر ثم إنهم تحزبوا أحزابا وتفرقوا فرقا فغلا بعضهم وتناهى في الانحصار على الألفاظ وانتهى به الكلام إلى أن قال من بال في إناء وصبه في ماء لم يدخل تحت نهى الرسول عليه السلام إذ قال لا يبولن أحدكم في الماء الدائم
وهذا عند ذوي التحقيق جحد الضرورات ولا يستحق منتحله المناظرة كالعناد في بدائه العقول
ومما يحكى في هذا الباب ما جرى لابن سريج مع أبي بكر بن داود قال له ابن سريج أنت تلتزم الظاهر وقد قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين
فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة
فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وظهر خزيه
وبالجملة لا ينكر هذا إلا أخرق ومعاند
855 - وأما المظنون فينقسم إلى قياس المعنى والشبه ثم قد يتردد بين القسمين ما يلتحق تارة بالمعنى وتارة بالشبه على ما نفصله
856 - وأما قياس المعنى فهو الذي يناسب كما سبق وصفه ثم هذا القسم في نفسه يترتب رتبا لا تقبل الضبط فمنها الجلي ومنها الخفى ثم الجلاء والخفاء
فيها من ألفاظ النسبة فكل محتوش بطرفين جلي بالإضافة إلى ما دونه خفى بالإضافة إلى ما فوقه
والسر في ذلك يتبين بفرض تعارض معنيين لو قدر انفراد كل واحد منهما بالإضافة مستقلا لاقتضى حكما لاستجماعه عند استقلاله شرائط الصحة فإذا عارضه معنى مقتضاه نقيض مقتضاه كمعنيين يتعارضان في التحليل والتحريم فسيأتي سبيل النظر فيهما
ويئول الكلام إلى حالتين إحداهما أن يرجح أحد المعيين على الثاني بوجه من وجوه الترجيح على ما سنشرح الترجيحات في كتابها
857 - وتقاسيمها يضبطها في غرضنا شيئان
أحدهما أن يكون أصل المعنى في وصفه أوضح وأبين والاخر أبعد فهذا ترجيح من نفس المعنى
والثاني أن يعضد أحد المعنيين بما يؤيده ويعضده على ما سيأتي
فإن اختص أحد المعنيين بالظهور في أسلوب النظر واحتاج مبدى المعنى الاخر إلى تكلف في إبدائه فيقال فيهما إن أحدهما أجلى من الثاني
وهذا ممثل بالعقليات المفضيات إلى القطع فالذي يقرب من العلم البديهي إذا قيس بما يبعد عنه بعض البعد كان أجلى فهذان يضربان مثلين للجلى من المظنونان والخفي منها
فما قرب من الأصول القطعية فهو الجلي بالإضافة إلى ما بعد من العلم فلتكن العلوم السمعية مستند الخفاء والجلاء
والإنسان يعلم ثم يتجاوز محل العلم قليلا فيظن ظنا غالبا ثم يزداد بعدا فيزداد الظن ضعفا
فهذا وجه التفاوت في الظنون
وهو فيه إذا كان ظهور الترجيح من ظهور المعنى في نفسه ولو كان الترجيح في الاعتضاد فالمعنيان في أنفسهما متقاربان فأسباب العضد في أحدهما إذا رجحته على معارضه أثبت له رتبة الجلاء بالإضافة إليه ورجع حاصل القول إلى أن الجلاء والخفاء راجعان إلى الترجيحات والترجيحات يحصرها القرب من المعلوم والاعتضاد بالمؤيدات ثم لا يتأتى في ذلك ترتيب وحصر حتى يحصره بعد أو حد وإن كانت في الحقيقة مضبوطة معدودة
فهذا قولنا في مراتب المظنونات المعنوية
858 - ثم جمله أقيسة المعاني مقدمة على أعلى رتبة تفرض في الشبه والسبب فيه أن المقيس على أصل بمعنى مشابه له فيه وزائد عليه بالإخالة على الشبه على وجه لو صح الاستدلال لا ستقل دليلا دون أصله
ثم بعد اخر مرتبة من مراتب المعاني لاستفتاح الأشباه وهي على مراتب ودرجات كما ذكرناه في ترتيب المعنويات
859 - وقد اتخذنا المعاني المعلومة أصولا ورتبنا عليه المعاني المخيلة قربا وبعدا فنتخذ ها هنا كون الشيء في معنى أصله أصلا ونفرض النزول عنه إلى الأشباه فما قرب منه فهو مقدم على ما بعد عنه
ثم كما يعتمد قياس المعنى الجلاء والخفاء في الإخالة فالشبه يعتمد أمرين
أحدهما وقوعه خصيصا بالحكم المطلوب وهو نظير الجلى الظاهر من نفس المعنى
والاخر اعتضاده بكثرة الأشباه وهذا يناظر اعتضاد أحد المعنيين بما يؤازره ويظافره
وبيان ذلك بالمثال أن كون الوضوء حكما غير متعلق بغرض يختص باشتراط قصد يصرفه إلى جهة امتثال الأمر إذ لا غرض ومهما لاح اختصاص الشبه فيكاد أن يكون مناسبا و الجافي قسم المعنى ولكن الشبه لو التزمه معنى فقد يعسر عليه كرده على شرائط المعانى فيصير الإيماء إلى المعنى مقدما للشبه ومقربا وإن كان مسلك المعنى لا يستقل فيه
وأما كثرة الأشباه فلا حاجة إلى ضرب مثال فيها وستأتي أبواب الترجيح حاوية لها منطوية عليها إن شاء الله تعالى
860 - وقدم الأصوليون أشباه الأحكام على الأشباه الحسية وليس الأمر على هذا الإطلاق فأن الأمر يختلف بالمطلوب فإن كان المطلوب أمرا محسوسا فالشبه الحسي أخص به وأمس له كطلب المثل في الجزاء وإن كان المطلوب حكما فالشبه الحكمى حينئذ أقرب
861 - وأقصى الامكام في هذا المجال الضيق التنبيه ودرك الحقائق موكول إلى جودة القرائح فإذا قارنها التوفيق بان المعنى والشبه فقياس الدلالة مقدم على الشبه المحض من جهة إشعاره بالمعنى
وما يثبت الطرد والعكس مقدم على الشبه الذي لا يتصف بذلك فإن الطرد والعكس يجريان في مجال الظنون والحسيات مجرى ظهور لفظ الشارع والشبه يبعد من هذا
فليتخذ الناظر هذه المراسم قدوته وإمامه
ولو قيس المخيل السديد بالمطرد المنعكس فهو مقدم على المطرد المنعكس لتحققنا كون مثله معتمد الصحابة رضي الله عنهم ولتكلفنا إلحاق المطرد المنعكس به ومنه ثار الخلاف المتقدم في أن الطرد والعكس مما يسوغ الاحتجاج بهما أم لا
862 - وليعلم المنتهى إلى هذا الموضع أن المعنى قد يتناهى في الخفاء ويظهر للمجتهد جريان الطرد والعكس وإن عن للمجتهد في مثل هذا المجال تقديم العكس فلا بأس فإن المعنى إذا تناهى خفاؤه فإنه يكاد يخرج عن حكمنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكمون به والظاهر في الانعكاس ملتحق بظواهر ألفاظ الشارع
863 - ثم لا ينبغي أن يظن ظان أن القول في هذا ينتهي إلى القطع بل هو
موكول إلى نظر النظار واجتهاد أصحاب الاعتبار
وكيف لا يكون كذلك والتقديم والتأخير مستنده الترجيح ومنشأ الترجيح الظن
وعلى هذا قد يعرض تقديم الشبه الجلي على المعنى الخفي والعلة فيه أنه إذا انتهى الخفى إلى مبلغ يحول الكلام في إخراجه على جنس الإخالة والشبه الذي فيه الكلام لا ينقدح في إخراجه عن قبيل الشبه قول فإذ ذاك ينظر الناظر ويردد رأيه في تقديم ما يقدم وتأخير ما يؤخر
مسألة
864 - قال القاضي ليس في الأقيسة المظنونة تقديم ولا تأخير وإنما الظنون على حسب الاتفاقات
وهذا بناه على أصله في أنه ليس في مجال الظن مطلوب هو تشوف الطالبين ومطمع نظر المجتهدين قال بانيا على هذا إذا لم يكن مطلوب فلا طريق إلى التعيين وإنما المظنون على حسب الوفاق
وهذه هفوة عظيمة هائلة لو صدرت من غيره لفوقت سهام التقريع نحو قائله وحاصله يئول إلى أنه لا أصل للاجتهاد وكيف يستجيز مثله أن يثبت الطلب والأمر به ولا مطلوب وهل يستقل طلب دون مطلوب مقدر ومحقق فليت شعري من أين يظن المجتهد فإن الظنون لها أسباب
فمن أقدم إقدام من لا يعتقد تشوفا ولا تطلبا كيف يظن ثم فيما ذكره خروج عظيم عن ربقة الوفاق فإنا على اضطرار نعلم من عقولنا أن الأولين كانوا يقدمون مسلكا على مسلك ويرجحون طريقا على طريق وكيف يسنح للمجتهد مسالك فيرى بعضها أقرب من بعض ولو تمكنت بمبلغ جهدي من إخفاء هذا المذهب والسعي في انمحاقه لبذلن فيه كنه جهدي فإنه وصمة في طريق هذا الحبر وهو على الجملة هفوة عظيمة وميل عن الحق واضح ... فصل فيما يعلل وفيما لا يعلل
اختلف أهل الأصول فيما يعلل وفيما لا يعلل
865 - من أحاط بما قدمناه من الطرق التي تتضمن إثبات العلل هان عليه مدرك هذا الفصل واطرد له النفى والإثبات على أقرب وجه وتمام الغرض يحصل بهذا النوع من النظر مع الالتفات إلى تقاسيم الأقيسة
والذي تمس الحاجة إليه الان النظر في قياس المعنى وقياس الشبه فمهما أراد الناظر وقد ثبت حكم في الشرع أن يتبين أنه معلل بمعنى بحث على المعاني المناسبة فإن وجد في محل الحكم معنى مناسبا للحكم فطرده ولم يبطل ولم يتناقض أصلا عرف كون الحكم معللا
ومن لطيف الكلام في ذلك أن يتوصل إلى الكلى والجزئي بهذا النوع من
النظر ليتبين بما ذكرناه كون الحكم معللا ويتحقق عنده مع ذلك تعيين العلة وإن اعتضد ذلك بإيماء الشارع كان ذلك بالغا أقصى المراد فيه
866 - فإن نظر الناظر ولم يلح له معنى مناسب للحكم مخيل به فيعلم أن الحكم ليس معللا بمعنى ويرتد نظره إلى قياس الشبه وهذا أوسع الأبواب فإنه يجري عند إمكان المعنى وسيثمر أيضا عند عدم المعنى ولا ينحسم قياس الشبه إلا عند إشارات النصوص إلى قطع الأشباه
وبيان ذلك بالمثال أن قياس الشبه على منهاج ما يسمى في معنى الأصل غير أنه معلوم والشبه يبعد عنه بعض البعد وإن كان على شبه
وقد ضرب بعض المحققين لهما مثلين فقال
الملتحق بالمنصوص لكونه في معناه يضاهي ارتباط العلم بقرائن الأحوال وإذا ظهرت مخايل خجل أو وجل وأحاط بهما الناظر تبين من المنظور إليه أمرا وإن كانت تلك الأحوال لا تتحرر عبارة عن اقتضائها العلوم فهذا مثال ما يعلم
ومثال الشبه المظنون الذي لا يبلغ مبلغ العلم أحوال تدانى ما ذكرناه ويتطرق إليه الاحتمال كمثل الذي يرى رجلا قد احمر وجهه وقد أسمعه مسمع شيئا فقد يغلب على الظن غضبه وقد يجوز الناظر أنه فزع بما سمع وإن رأى في نفسه تغيظا وتكرها فهذا مثال الأشباه
867 - وقد ينحسم الشبه وما يقال إنه في معنى الأصل بقضية لفظية أو أمر متعلق بحكاية حال
وبيان ذلك بالمثال أن سهل بن أبي حثمة روى القصة المشهورة في حديث حويصة ومحيصة وعبد الله بن سهل وأن عبد الله قتل بخيبر القصة وقد عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم اليمين ابتداء على المدعين ثم اتخذ الشافعي رضي الله عنه هذا الحديث معتمده ورأى البداية بالمدعين في الدماء عند ظهور اللوث ولم يجر في لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا في ألفاظ الذين رفعوا القصة إلى مجلسة تعرض للوث ولا مطمع في استناد اشتراط البداية بالمدعين باللوث إلى معنى صحيح على السبر مستجمع للشرائط المرعية ولكن الشافعي نظر إلى القصة فراها في اللوث وأن الإحن والذحول كانت عتيدة بين اليهود والمسلمين فلم ير البداية بالمدعى منقاسة في الخصومات وعلم أن هذا المقدار من التلويح في الإشعار بظهور صدق المدعين كاف في منع إلحاق القتل العرى عن اللوث بالواقع منه على مظنة اللوث
ومبنى المسألة على الشبه فقطع بتخييل اللوث إلحاق غيره وأوضح
بانحسام مسالك الأشباه في محاولة إلحاق غير اللوث باللوث
فمهما ثبت حكم بنص ولم يكن فيه معنى مناسب وظهر للناظر اختصاصه بحالة تمنع تخيل الإلحاق بالمنصوص علما أو تشبيها ظنيا فلا يتحقق الإلحاق في الشبه ويتعين الاقتصار على مورد النص فليتأمل الناظر ذلك فيما يأتي ويذر
868 - وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه أن الذي لا يعلل أصلا هو الذي لا ينقدح فيه معنى مناسب ولا شبه وقد ذكرنا ما يقطع الشبه والمعلل هو الذي ينقدح فيه معنى مخيل أو شبه على شرط السلامة
مسألة
869 - نقل أصحاب المقالات عن أصحاب أبي حنيفة أنهم لا يرون إجراء القياس في الحدود والكفارات والتقديرات والرخص وكل معدول به عن القياس
وتتبع الشافعي مذاهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشيء من ذلك
فنسرد كلام الشافعي على وجهه ثم نعود إلى مراسم الحجاج والخلاف واختيار الحق
870 - قال الشافعي أما الحدود فقد كثرت أقيستكم فيها حتى عديتموها إلى الاستحسان وقد زعمتم في مسألة شهود الزنا أن المشهود عليه مرجوم وما يجري الاستحسان فيه فهذا أعوص على مذاهب القائلين به من الأقيسة فلا يمتنع جريان القياس فيه
871 - وأما الكفارات فقد قاسوا فيها الافطار بالأكل على الإفطار بالوقاع وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عامدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا
وأما المقدرات فقد قاسوا فيها ومما أفحشوا فيه تقديراتهم بالدلو والبئر من غير ثبت ولا استناد إلى خبر أو أثر
872 - وأما الرخصة فقد قاسوا فيها وتناهوا في العبد فإن الاقتصار على الأحجار في الاستجمار ومن أظهر الرخص ثم اعتقدوا أن كل نجاسة نادرة كانت أو معتادة مقيسة على الأثر اللاصق بمحل النحو وانتهوا في ذلك إلى نفى استعمال الأحجار مع قطع كل منصف بأن الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فهموا هذا التخفيف منه في نجاسة ما يعم به البلوى عملا وعلما وكانوا على تحرزهم في سائر النجاسات على الثياب والأبدان
ثم قال الشافعي من شنيع ما ذكروه في الرخص إثباتهم لها على خلاف وضع الشارع فيها فإنها مبنية تخفيفا وإعانة على ما يعانيه المرء في سفره من كثرة أشغاله فأثبتوها في سفر المعصية مع القطع بأن الشرع لا يرد بإعانة العاصي على المعصية
فهذا الذي ذكروه يزيدونه على القياس إذ القياس تقرير المقيس عليه قراره وإلحاق غيره به وهذا قلب لموضع النص في الرخص بالكلية
873 - وأما المعدول عن القياس فقد ضرب الشافعي في الاستجمار فيه
مثلا وهو بين من جهة أن النجاسة إنما يعفى عنها عند فرض تعذر الاحتراز وليس الأمر كذلك في غير نجاسة البلوى فإن استعمال الماء يسير لا عسر فيه
وقال زعمتم أن القهقهة تبطل الصلاة واعتقد تم ذلك معدولا عن القياس ثم زعمتم أنها تبطل صلاة ذات ركوع وسجود ولا تبطل صلاة الجنازة ولم ينقدح لكم فرق معنوي ولكنكم اعتقدتم قضية جرت لو صحت في صلاة من الصلوات الخمس ورأيتم أن تقتصروا على مورد النص ثم قلتم القهقهة تبطل صلاة النفل وإن لم تكن القضية في النفل
فليت شعري ما الذي عن لكم في التخصيص من وجه والإلحاق من وجه
874 - وقال في مساق هذا الكلام اعتمدتم في الوضوء بنبيذ التمر الخبر وقد جرى في الوضوء واعتبرتم الغسل به ولم تعتبروا نبيذ الزبيب بنبيذ التمر مع اشتمال كلام الرسول عليه السلام لو صح الحديث على التنبيه لذلك فإنه قال عليه السلام ثمرة طيبة وماء طهور
فهذه جمل جمعها الشافعي في مساق هذه المسألة عليهم
وبالجملة ليس معهم من علم الأصول قليل ولا كثير وإن أقام واحد منهم لقب مسألة فسننقضها في تفصيل الفروع فإن صاحبهم ما بنى مسائله على أصول وإنما أرسلها على ما تأتي له فمن أراد من أصحابه ضبط مسائله بأصل تناقض عليه القول في تفصيل الفروع
875 - ونحن نرد الكلام إلى الحجاج فنقول لهم لم منعتم إجراء القياس في هذه الأصول
فإن قالوا الحدود تدرأ بالشبهات والأقيسة مظنونة فلا ينبغي أن نهجم على إثباتها بمظنون والظان معترف ببقاء إمكان وراء ظنه فيحصل بذلك الإمكان الدرء
876 - وهذا الذي ذكروه يعارضه القصاص لأنهم لم يمتنعوا من إجراء القياس فيه وإن كان يندرىء بالشبهات ويبطل ما ذكروه بالعمل بخبر الواحد في الحدود فإنه ليس مقطوعا به ولا خلاف في قبوله والذي ذكروه إنما كان يستمر أن لو كانوا لا يثبتون الحد في مظنون وهذا باطل قطعا
ثم الجواب فيه أن وجوب العمل بالقياس ليس مظنونا وقد تمهد ذلك في مواضع من الكتاب فسقط ما ذكروه
ثم إن كانت الحدود تسقط بالشبهات والكفارات تجب معها فلم يمتنع إجراء القياس فيها وهي بمثابة سائر المغارم
877 - وأما المقدرات فقد قالوا فيها لا تتعدى العقول إلى معان تقتضيها
فلا يجري القياس فيها
قلنا إن كان ينحسم فيها المعاني المخيلة المناسبة فلم ينسد مسلك الأشباه
878 - وأما الرخص فقد قالوا فيها إنها منح من الله تعالى وعطابا فلا نتعدى بها مواضعها فإن في قياس غير المنصوص على المنصوص في الأحكام الاحتكام على المعطى في غير محل إرادته
وهذا هذيان فإن كل ما يتقلب فيه العباد من المنافع فهي منح من الله تعالى ولا يختص بها الرخص
فإن قيل فما الذي ترون
قلنا قد وضح بما قدمناه ما يعلل وما لا يعلل ونحن نتخذ تلك الأصول معتبرنا في النفي والإثبات فإن جرت مسالك التعليل في النفي والإثبات أجريناها وإن انسدت حكمنا بنفي التعليل ولا يختص ذلك بهذه الأبواب
879 - ومما نختتم القول به أن التعليل قد يمتنع بنص الشارع على وجوب الاقتصار وإن كان لولا النص أمكن التعليل وهو كقوله تعالى إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين وقال عليه السلام وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كيوم خلق الله السموات والأرض وقال لأبي بردة بن نيار وقد جاء بعناق وكان لا يملك غيرها فأراد التضحية بها رغبة في مساهمة المسلمين تجزىء عنك ولن تجزىء عن أحد بعدك فمهما منعنا نص من القياس امتنعنا وكذلك لو فرض إجماع على هذا النحو
وهو كالاتفاق على أن المريض لا يقصر وإن ساوى المسافر في الفطر
فإذا لم يكن منع من هذه الجهات فالمتبع في جواز القياس إمكانه عند الشرائط المضبوطة فيه والمتبع في منعه امتناعه وعدم تأتيه على ما يشترط فيه
880 - فهذه جملة كافية فيما يعلل وما لا يعلل
ونحن نختتمها بكلام نفيس قائلين
رب شيء يمنع فيه جريان القياس وامتناعه في أمرين وأمور ولن يصفو هذا الفصل على ما نحب ونؤثر إلا باستقصاء القول في ذلك
ومثاله أن الكتابة فيها أمور لا تنقاس وأمور يتطرق إليها القياس وكذلك القول في النكاح والإجارة والمعاملة المسماة قراضا مع النظر في المساقاة
وحق الناظر أن يتدبر هذه المواقف ويتبين المواقع التي يجري فيها القياس والمواقف التي يقف عندها ولا يطرد فيها القياس نظرا إلى محل الوقف وكذلك لا يطلق إثباتا نظرا إلى المحل المنقاس
وكل كلام مفصل في موضع فإطلاق النفي والإثبات فيه خلف إن كان نصا أو ظاهرا مؤولا
فالكتابة مع اعتقاد ثبوتها عقد من العقود مستند إلى الإيجاب والقبول والتراضي منطو على عوض من شرطه أن يكون معلوم الوصف والمقدار
فهذه الأصول جارية على قياس سائر المعارضات فمن قاس عليها في هذه الأحكام معاوضة أو قاسها على معاوضة فهو قايس في محل القياس
والذي لا ينقاس من الكتابة أصلها فإنها على الحقيقة معاملة الملك بالملك فمن سوغ معاملة متضمنها ذلك ورام قياسا على الكتابة كان قايسا في محل لا يجري القياس فيه
881 - ثم القول في ذلك ينقسم إلى ما ينقدح فيه مصلحة كلية تصلح لتمهيد الأصول والقواعد وإلى مالا يتجه فيه ذلك على ظهور
فأما ما يظهر فيه أمر كلي فهو كخواص النكاح فإنها مربوطة بأمر ظاهر في استصلاح العباد فتلك الأمور لا يلفى لها نظير في غير النكاح فإنا إنما نتكلم في خواص النكاح ولو قدرنا وجدان نظير لها لما كان ما فيه الكلام خاصا ولما تحقق تميز الأصول بخواصها وتحيزها بمقاصدها ولصارت القواعد كلها في التكليف تحت ربقة واحدة ضابطة في طريق الاستثناء وهذا محال
فمن اعترف بأصل وأراد أن يعتبر خاصيته بأمر اخر فهو خارج عن الاعتبار المرضي والقياس الكلي والجزئي ومن أراد إثبات أصل منازع ذي خاصية فإنه لا يلقى لما بينته نظيرا إن حاوله
فإن حاول إثبات ذلك ولم يكن في ثبوته بد من أحد أمرين فإما أن يسنده إلى ثبت من قول الشارع وإما أن يتمسك بالاستدلال إن صح القول به ولو ثبت أصل ذو خاصية فأراد الناظر أن يثبت أصلا مشتملا على قريب من تلك الخاصية فهذا متقبل عند الشافعي في طريق القياس
882 - وبيان ذلك بالمثال أن القراض مقتطع عن سائر المعاملات بخاصية
فيه مقصودة وهو أنه لا يتأتي استنماء المال وتثميره من كل واحد منهما وإنما يعرفه من يعرف التجارات ووجهها ولو أثبت للمنصوب للتجارة أجرا معلوما وهو مستحق ربح أو خسر فقد لا يجد جده إذا كان لا يرقب لنفسه حظا من الربح فيثبت القراض مشتملا على الربح على حسب التشارط والتراضي
فرأى الشافعي المساقاة في معنى القراض في خاصية القراض فاعتبرها به واحترز عن الإجارات في المزارع وغيرها ثم اعتبر ذلك بعد الاستظهار بالحديث الذي راه نصا في المساقاة
883 - ثم أجرى في المسألة كلاما بدعا فقال لم يعهد القراض في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأول ما جرى هذا الضرب من المعاملة في زمن عمر رضي الله عنه في قضية مشهورة لابنيه رضي الله عنهما فقال الشافعي لا ينقدح الإجماع من غير ثبت ولو كان في القراض خبر لذكر وعنى بنقله فلا معنى لجواز اعتقاده حقا بسبب أصل واحد من الأصول ولا سيما إذا كانت المعاملة عامة والحاجة فيها مطردة والناس كانوا يعتنون بنقل الأصول العامة على قضية واحدة
ثم بعد مساق كلامه قال لا أدري للقراض أصلا إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في المساقاة
884 - فإن قيل هذا منه قلب لمجاري القياس فإن المختلف فيه يعتبر بالمتفق عليه
والذي ذكره اعتبار اعتبار المتفق عليه بالمختلف فيه
قلنا الشافعي يرسل تصرفه على قواعد الشريعة غير معرج على موضع الوفاق والخلاف ثم ما ذكره ليس بقياس وإنما هو يتعلق على حصول الغرض بمسلك أصولي لا يهتدي إليه غيره فإنه أثبت أن الإجماع لا يعقد هزلا ثم مزجه بماخذ العادات وهي من أعظم القواعد في أصول الشريعة وما يتعلق بالنقل وعدم النقل
885 - ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له قبل الكلام في تحرير المسائل وضرب الأمثال أن خواص الأصول لو اعتبر بعضها ببعض لكانت كل خاصية بدعا بالإضافة إلى الأخرى ولكن لو استد نظر الموفق ورأى كل شيء على ما هو عليه تبين له أن النظر السديد يقتضي تقرير كل خاصية وعدم اعتبارها بغيرها
وبيان ذلك أن الإجارة موضوعها يقتضي أعلام المنافع بالمدة أو بالعمل الموصوف فإنها من عقود المعاوضات والمكايسات ولو أثبت المنافع فيها مجهولة لكان إثباتها كذلك خارجا عن مقصود العقد والنكاح أثبت مؤبدا والتأبيد يجر جهالة ولكن هذه الجهالة منطبقة على مقصود النكاح إذ الغرض منه الوصلة والاستمتاع على الائتلاف وهذا ينتقض بالتأقيب وليست منافع البضع متمولة له حتى يدعى لمكان أعواضها تقديرها وليست المناكحات من عقود المغابنات فإذا خاصية كل عقد وإن خالفت خاصية اخر فمعناها في موضوعها كمعنى الأعلام في موضع الأحكام فليس الإعلام موضوعا لعينه وإنما عين لعوض يقتضيه
فكل كلام يجريه القايس ويسوقه يخالف موضوع المعاملة وإن كان يجد لما
ذكره شواهد وأمثلة في غير الموضع الذي ينظر فيه فذلك الكلام حائد
886 - وإذا تعارض معنيان وترجح أحدهما بالأمثال واعتضد الاخر بما يشعر به خاصية الأصل فهو ارجح عند الشافعي على ما سيأتي مشروحا في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
وهذا كله فيه إذا كان الأصل لا ينقدح فيه توجيه معناه كليا
وقد ثبت أصل لا يتجه فيه استصلاح عام ظاهر كالكتابة فإنها مائلة جدا عن الأصول وأقصى ما يذكر فيها استحثاث السادة على الإعتاق والعبيد على الكسب في تلك الجهة وهذا في حكم أمر خفى يرد على أمر جلي على حكم المناقشة فإن المالكية لها قضية جلية في منع معاملة العبيد والأمر الخافي في توقع العتق ليس مضاهيا في مراتب المعاني لقضية المالكية فإن مقتضى الملك أجلى
وليست الكتابة فيما ذكرناه كالنكاح المختص بخاصية عن البيع فإنهما أصلان كل واحد منهما منقطع عن الثاني وليس واحد منهما واردا على الثاني على حكم المعارضة والمناقضة ورود الكتابة على المالكية فما كان كذلك فهو المنتزع عن القياس من حيث أنا تخلينا لأحكام الملك جريانا ثم الكتابة صرفتها عن جريانها بخلاف الأصول الواقعة أفرادا
فالان لو أراد مريد أن يلحق معاملة بالكتابة إلحاق الشافعي المساقاة بالقراض وسنح له في المعاملة التي نذكرها المعنى الخفي الذي يتخيله الناظر من الكتابة فهذا إن كان معنى فهو على أخفى المراتب وإن كان شبها فهو أبعد الأشباه
ونحن نرسم في ذلك مسائل ونذكر ما فيها من دقائق الكلام إن شاء الله تعالى
مسألة
87 - ما صار إليه جماهير العلماء مع التزام القياس والعمل به أن طهارة الحدث ليست معقولة المعنى
وذهب أبو حنيفة ومتبعوه إلى أن إزالة النجاسة معقولة المعنى وبنوا على هذا الفرق بين طهارة الحدث إذ تعين الماء لها وبين إزالة النجاسة فإن الغرض منها رفع عينها واستئصال أثرها ومهما حصل ذلك بمائع رافع قالع فقد حصل المعنى المعقول
888 - واضطرب متبعو الشافعي فذهب بعض المتأخرين إلى أن طهارة الحدث معقولة المعنى والغرض منها التنقى عن الأدران والنظافة من الأوساخ وأوضحوا ذلك بتخيل يبتدره من يكتفي بظواهر الأمور
فقالو الأعضاء الظاهره في المهن والتصرفات فضلا الوجه واليدان إلى المرفقين والقدمان وأطراف من الساق والإنسان في تصرفاته وتلفتاته يصادم الغبرات وغيرها فورد الشرع بغسل هذه الأعضاء في مظان مخصوصة ومواقيت معلومة ومحاسن الشريعة تئول في نهايتها الى أمثال ذلك
والرأس مستور بالعمامة غالبا وإنما تبدو الناصية والمقادم من المستروح إلى تنحية عمامته إلى هامته فلما كان ذلك أبعد اكتفى فيه بالمسح
889 - وعضد هؤلاء ما ذكروه بقوله تعالى في سياق اية الوضوء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ولا مسلك في الظنونات إلى إثبات العلل أوقع وأنجع من إيماء الشارع إلى التعليل وقوله تعالى ليطهركم ظاهر في التعليل بالتعبد بالتنقي والتوقي عن القاذورات والغبرات
890 - ثم وجه هؤلاء على أنفسهم أسئلة وتكلفوا أجوبة عنها ونحن نستاقها على وجهها فإنها وإن لم تفض إلى حق نرضاه ففي التنبيه على أمثالها معرفة التدرب في أساليب الظنون ومسالك الفكر
891 - منها أن قائلا لو قال إن استقام ما ذكرتموه في الوضوء فما وجهه في التيمم وهو تغبير الوجه وذلك يناقض ما استروحتم إليه
فيقال له إن خرج التيمم عن كونه معقول المعنى لم يلزم من خروجه خروج الوضوء ومن يبدي في الوضوء معنى لا يلزم طرده في التيمم فهذا وجه
والوجه الاخر أن التيمم أقيم بدلا غير مقصود في نفسه ومن أمعن النظر ووفاه حقه تبين أن الغرض من التيمم إدامة الدربة في إقامة وظيفة الطهارة فإن الأسفار كثيرة الوقوع في أطوار الناس وإعواز الماء فيها ليس نادرا فلو أقام الرجل الصلاة غير طهارة ولا بدل عنها لتمرنت نفسه على إقامة الصلاة من غير طهارة والنفس ما عودتها تتعود وقد يفضى ذلك إلى ركون النفس إلى هواها وانصرافها عن مراسم التكليف ومغزاها فهذا سؤال والجواب عنه
892 - فإن قال قائل لو توضأ المرء وأسبغ وضوءه ثم عمد إلى تراب فتعفربه أو تطلى بالطين وصلى صحت صلاته فلو كان الوضوء متعينا للتنقي لوجب أن ينتقض بما وصفناه لأنه إذا وجب الوضوء بتوقع الغبار فبتحققه أولى وهذا واقع على هذه الطائفة
وقد تكلفوا جوابا عنه
فقالوا الأصول إذا تمهدت على قواعدها واسترسلت على حكم العرف
المطرد فيها فلا التفات إلى ما يشذ ويندر وضربوا لذلك أمثلة مبنية على مغمضات من قضايا الأصول منها
إن النكاح شرع لتحصين الزوجين من فاحشة الزنا وغيره من المقاصد والحرة محتاجة إلى التحصين بالمستمتع الحلال كالرجل ثم حق عليها أن تجيب زوجها مهما رام منها استمتاعا ولا يجب على الرجل إجابتها وغرض الشارع في تحصينها على قضية واحدة ولكن لما خص الرجل بالتزام المؤن والمهر والقيام عليها اختص بالاستحقاق ومنه الاستيلاء والملك فاكتفى الشارع في جانبها باقتضاء جبلة الرجل والإقدام على الاستمتاع
والأمر مبني على أحوال الملتزمين الشريعة والمعظمين لها ومن انحصر مطلبه في الحلال واستمكن منه واستحثته الطبيعة عليه وتغلب عليه المغارم فإنه سيعتاض عنها قضاء أربه ومستمتعه
وكذلك يقل في الناس من يطلى ويتضمخ بالقاذورات فكان ذلك موكولا إلى ما عليه الجبلات
وإنما الذي قد يتسامح فيه أهل المروءات إقامة الطهارات من غير مصادفة الغبرات تخفيفا فخصص الشارع الأمر بالتنقي بالأحوال التي لا يظهر استحثاث الطبع فيها
893 - ومن الأصول الشاهدة في ذلك أن البيع إنما جوزه الشرع لمسيس الحاجة إلى التبادل في الأعواض ثم لم ينظر الشارع إلى التفاصيل بعد تمهيد
الأصول فلو باع الرجل ما يحتاج إليه واستبدل عنه مالا يحتاج إليه فالبيع مجرى على صحته فإن هذا لا يعم وقوعه وما في النفوس من الدوافع والصوارف في ذلك وازع كامل وتكثر نظائر ذلك في قواعد الشرع
894 - فإن قال قائل ما بال الوضوء يختص وجوبه بوقوع الحدث وأجمع علماء الشرع على أن الأحداث موجبة للوضوء وليست ملطخة أعضاء الوضوء والذي ثبت موجبا وفاقا غير ملطخ ولم يحوج إلى غسل الأعضاء والذي يلطخ الأعضاء لا يوجب الوضوء
فقالوا مجيبين غاية هذا السؤال خروج وقت الوضوء عن كونه معقول المعنى وهذا لا ينافى كون أصله معقولا
وأما ما أدرجوه في أثناء الكلام من أن تلطيخ الأعضاء لا يوجب تنقيتها وغسلها فهذا هو السؤال الذي انتجز الجواب عنه الان
895 - وقد تكلف بعض النظار في ذلك كلاما وقال لا تدخل الأحداث تحت الحجر واعتمادها من غير أرب يناقض دأب أهل المروءة فجمع الشارع بين الأمر بالوضوء للغرض الكلي في التنقي وبين تأقيته بالأحداث حتى ينتهض مطهرا طاهرا ومردعة عن الأحداث من غير إرهاق مسيس حاجة
ثم هذا النظر يتضمن منعا من غير تحريم وإذا استمر المكلف على هذه المراسم انتظم له منها محاسن الشيم في كل معنى
فهذا الباب ما جاء به الفريقان اعتراضا وجوابا في هذا الطرف
896 - فأما ما ذكره أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في أن إزالة النجاسة معقولة
المعنى فيتوجه عليهم في هذا الشق سؤال لا ينقدح لهم عنه جواب فإنه يقال لهم إزالة النجاسة لا تجب لغير الصلاة فما علة وجوبها للصلاة وهلا صحت الصلاة معها
فإن تكلفوا في تعليل وجوب الإزالة كلاما فغايتهم أن المصلى مأمور أن يأخذ للصلاة أنقى زي وأحسن هيئة والأمر بالتطهر مندرج تحت هذه الجملة
فهذا غير مستقيم دليلا وهذاعلى الحقيقة أعادة للمذهب والسؤال قائم فلم يجب التنقى وهلا احتمل ذلك كما احتمل في غير الصلاة وهذا ينعكس بستر العورة ثم ما بالها لم تؤثر في سائر العبادات فلا يكادون يرجعون إلى حاصل وهو أجلى مما ادعاه الذين عللوا وجوب الوضوء بما ذكرناه
فإذا لم ينتظم في وجوب رفع العين معنى ولم يظهر في وجوب إمساس أعضاء الوضوء بمائع معنى فهلا قام في الوضوء كل مائع مقام الماء كما قام مقامه في الإزالة
فإن قالوا الإزالة متحققة حسا بالخل
قلنا فاستيعاب الوجه وغيره من أعضاء الوضوء على حكم الوضاءة حاصل بماء الورد حسا وهذا سيئول إلى تدقيق وهو أنه إن فرض الماء أرق المائعات وأدفعها فقد يعتقد مع ذلك أنه لا يقوم غيره مقامه في حقيقة الرفع فأما حيث لا مرفوع وإنما الغرض إمساس أعضاء وهذا المعنى يحصل بكل مائع إلى غير ذلك من فصول تطول
ولم نذكر هذه الطريقة لنعتقدها ولكنا أصيبنا أن نصير هذه المسألة ومسائل
يعدها أمثالا لفائدة سنربطها إن شاء الله تعالى بغرضنا في التحقيق
فلينظر الناظر في هذه المسألة واللواتي بعدها نظر من يعدها أمثالا ويستعدها لما يستعقب المسائل به إن شاء الله تعالى مسألة
897 - قال الخائضون في هذا الفن رب أصل يتطرق إليه التعليل من وجه ويتقاعد عنه التعليل من وجه وضربوا لذلك أمثلة ونحن نذكر منها مثالا أو مثالين ثم يقيس الناظر بما نذكره ما لم نذكره
فمن أمثلة ذلك اختصاص القطع بالنفيس وهذا على الجملة معلل بأمر ظاهر وهو أن أربا العقول لا يهجمون على التغرير بالأرواح والمخاطرة بالمهج بسبب التافه الوتح وإن غرر مغرر فإنه يربط قصده بمال نفيس
قالوا هذا معلوم على الجملة ويشهد له القواعد الزجرية التي تستحث الطبائع على الهجوم على الفواحش فيها فانتصبت الحدود مزحزحة عنها والمحرمات التي لا صغو ولا ميل للطبائع إليها لم يرد الشرع في المنع عنها بحدود بل وقع الاكتفاء بما في جبلات النفوس من الارعواء عنها مع الوعيد بالعذاب الشديد والتعرض للآئمة والخروج عن سمة العدالة في الحالة الراهنة
ثم قال هؤلاء القياس وإن اقتضى الفصل على الجملة بين التافه والنفيس فليس فيه التنصيص على النفيس ومبلغه فكان ذلك موكولا إلى الشرع ونصاب السرقة منصوص عليه
898 - ومن أمثلة ذلك النصب في أموال الزكاة والأقيسة قد ترشد إلى اختصاص وجوب الإرفاق بالأموال المحتملة له المتهيئة لارتفاق مالكها فيكون الإرفاق في مقابلة الاستمكان من الارتفاق ثم القدر المرفق لا ينص عليه الرأي فاتبع القايسون فيه مراسم الشريعة وإن عللوا الأصل تعليلا كليا
899 - ثم لما ذكر القاضي ما ذكرناه من مسالك الفقهاء انعطف عليه فقال كيف يطمع الطامع في الميز بين الخسيس والنفيس وذلك يختلف بهمم النفوس والخسة والنفاسة لا يتصف بها مبلغ بعينه بل هما من أحكام النسب والإضافات فقد يستعظم الفقير الفلس ولا تكثر القناطير في حق الملك وهذا ينسحب على النصب فإن القانع بالبلاغ قد يجتزىء بالارتفاق عما ينقص عن النصاب وذو البسطة والعيلة والذرية الضعاف لا ترففه العشرون والمائتان من التبرين
فإن قال قائل بنى الشارع الأمر على الوسط وهو شوف الاعتدال في كل شيء فإن طرفي الاعتدال لا ينضبطان بل هما مردودان إلى حكم الوسط فيقال له أوسط الناس لا يكثر في أعينهم الربع ولا الدينار في مقابلة ما يلقون من الإغرار وإن وقع الفرض في ذوي الغرامة الذين انتهى بهم الاستجراء إلى اقتحام العظائم فهؤلاء قد يصادمون الأغرار مستقبلين من غير مارب ظاهرة ولا يكاد ينضبط في ذلك معنى
900 - ثم وجه القاضي على نفسه السؤال المعروف في الخمر فإنها لا
تغنى عن مرارتها لعينها وإنما تعني لما لا يحصل إلا عند الاستكثار منها وهي النشوة والطرب والسكر ثم يتعلق بتعاطي القليل منها من الحد ما يتعلق بتعاطي الكثير
وقد تكلف الفقهاء وجوها من الكلام لا نراها ونقتصر على أقربها متناولا وذلك أنهم قالوا قليل الخمر داع إلى الكثير وليس في الإكثار منها عند الاستمكال من جنسها ركوب خطر واقتحام غرر فلو لم يوضع الحد في القليل لدعا إلى الكثير منه والغرر في المهج مع قلة المال كاف في الورع
فهذا منتهى المطلوب في ذلك
وإذا لاح مسلك الكلام في النفي والإثبات في هذه المسائل فنحن نذكر بعدها كلاما وجيزا يتخذه الناظر معتبره ويرقى به عن تعارض وجوه الكلام في فن يقصد منه بغية القطع فنقول
الباب الثالث في تقاسيم العلل والأصول
901 - هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة ونحن نقسمها خمسة أقسام
أحدها ما يعقل معناه وهو أصل ويئول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري لا بد منه مع تقرير غاية الإيالة الكلية والسياسية العامية وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص في أوانه فهو معلل بتحقق العصمة في الدماء المحقونة والزجر عن التهجم عليها فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في أصل القصاص تصرف فيه وعداه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى فيه وهو الذي يسهل تعليل أصله ويلتحق به تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا ايل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيق معناها في احاد النوع وهذا ضرب من الضروب الخمسة
902 - والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة وهذا مثل تصحيح الإجارة فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ ضرورة الشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس لنال احاد الجنس ضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس ما ينال الاحاد بالنسبة إلى الجنس وهذا يتعلق
بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الان
903 - والضرب الثالث ما لا يتعلق بضرورة حاقة ولا حاجة عامة ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وأزالة الخبث
وإن أحببنا عبرنا عن هذا الضرب وقلنا ما لاح ووضح الندب إليه تصريحا كالتنظيف فإذا ربط الرابط أصلا كليا به تلويحا كان ذلك في الدرجة الأخيرة والمرتبة الثانية البعيدة في المقايس وجرى وضع التلويح فيه مع الامتناع عن التصريح وضع حمل المكلفين على مضمونه مع الاعتضاد بالدواعي الجبلية كما سبق تقرير هذا في المسالك السابقة والصور الممثلة
904 - والضرب الرابع ما لا يستند إلى حاجة وضرورة وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء وفي المسلك الثالث في تحصيله خروج عن قياس كلي وبهذه المرتبة يتميز هذا الضرب من الضرب الثالث
وبيان ذلك بالمثال أن الغرض من الكتابة تحصيل العتق وهو مندوب إليه والكتابة المنتهضة سببا في تحصيل العتق تتضمن أمورا خارجة عن الأقيسة الكلية كمعاملة السيد عبده و كمقابلته ملكه بملكه والطهارات قصاراها إثبات السبب وجوبا إلى إيجاب ما لا تصريح بإيجابه وليس فيها اعتراض على أصل اخر سوى ما ذكرناه من التصريح والتلويح وقد مثلناها بوضع الشرع النكاح على تحصين الزوجين
905 - والضرب الخامس من الأصول ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا
ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة وهذا يندر تصويره جدا فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيله كليا ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية ولكن لا يبعد أن يقال تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم الانقياد وتجديد العهد بذكر الله تعالى ينهى عن الفحشاء والمنكر وهذا يقع على الجملة ثم إذا انتهى الكلام في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد الركعات وما في معناها لم يطمع القايس في استنباط معنى يقتضي التقدير فيما لا ينقاس أصله
فهذا بيان ضروب الأصول على الجملة
906 - ونحن الان تعطف عليها ونذكر في كل أصل ما يليق بمذهب القياسين إن شاء الله تعالى
فأما الضرب الأول فهو ما يستند إلى الضرورة فنظر القايس فيه ينقسم إلى اعتبار أجزاء الأصل بعضها ببعض وإلى اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل إذا اتسق له الجامع فأما اعتبار الجزء بالجزء مع استجماع القياس لشرائط الصحة فهو يقع في الطبقة العليا من أقيسة المعاني
ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه وإن كان جليا إذا صادم القاعدة الكلية ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية
وبيان ذلك بالمثال إن القصاص معدود من حقوق الادميين وقياسها رعاية التماثل عند التقابل على حسب ما يليق بمقصود الباب وهذا القياس يقتضي ألا تقتل الجماعة بالواحد ولكن في طرده والمصير إليه هدم القاعدة الكلية ومناقضة الضرورة فإن استعانة الظلمة في القتل ليس عسيرا وفي درء القصاص عند
فرض الاجتماع خرم أصل الباب
وحاصل القول في ذلك يئول إلى أن مقابلة الشيء بأكثر منه ليس يخرم أمرا ضروريا فهذا معنى تسميتنا لهذا جزئيا وإلا فالتماثل في الحقوق المغربة إلى الادميين من الأمور الكلية في الشريعة غير أن القاعدة التي سميناها كلية في هذا الضرب مستندها أمر ضروري والتماثل في التقابل أمر مصلحي والمصلحة إذا لم تكن ضرورة جزء بالإضافة إلى الضرورة وهذا يعضد فيما أجريناه مثلا في القصاص بأمر اخر وهو أن مبنى القصاص على مخالفة الأعواض جمع وأن أعواض المتلفات مبناها على جبران الفائتان كالمثلى إذا تلف وضمن بالمثل وكالقيمة إذا جبرت متقوما متلفا فالقصاص لا يجبر الفائت ولا يسد مسده والغالب فيه أمر الزجر وحظ مستحقه منه شفاء الغليل وهذا ميل قليل بالقياس إلى مارب الناس في الأعواض فلما خرج أصله عن مضاهاة الأعواض هذا الخروج احتمل فيه الخروج عن قياس التماثل لدى التقابل
907 - وإذا قسنا الأطراف عند فرض الاشتراك في قطعها بالنفوس كان ذلك واقعا جليا معتضدا بالمعنى الأصلي وهو الضرورة في الصون مع اجتماع الأطراف والنفوس في كونها مصونة بالقصاص
وهذا في نهاية الوضوح لا يغض شيء منه إلا فرض صدور القطع من شخصين مع تمييز أحد الفعلين عن الثاني فإنه إذا جرى ذلك لم يقطع يد واحد منهما
فإن منع مانع ذلك وقال يقطع من يد كل واحد من الجانبين مثل ما قطعه من يد المجني عليه فهذا انفصال على وجه ولكن يبقى مع ذلك أن يد المجني عليه مبانة باشتراكهما ولا يبان يد واحد من الجانبين والإبانة معصومة بالقصاص وإذا كان القطع مما يقبل القسمة فقد يتناوش المتناظران عند ذلك الكلام ( و ) يتجاذبان أطراف النظر
فهذا هو اعتبار الجزء بالجزء في الضرب الأعلى من القياس 908 ولو أراد القايس أن يعتبر قاعدة أخرى بقاعدة والضرورة الكلية تجمعهما فهذا متقبل معمول به أيضا فإذا اعتبر القايس حدا واجبا بقصاص أو قصاصا بحد فذلك حسن بالغ وكذلك إذا اعتبر معتبر عقدا تمس الضرورة إليه بالبيع كان حسنا على شرط السلامة فخرج من مجموع ذلك جريان القياس من الوجهين في هذا الضرب أحدهما الجزء بالجزء والضرورة شاملة لهما والثاني اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل والجامع الضرورية الكلية 909 وأما الضرب الثاني وهو ما يبنى على الحاجة كالإجارة فلا خلاف في جريان قياس الجزءمنه على الجزء فأما اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل مع جامع الحاجة فهذا امتنع منه معظم القياسين 910 ونحن نرى أن ننبه قبل تبيين القول فيه على أمر وهو أن الإجارة ( جازت ) خارجة عن الأقيسة التي سميناها جزيئة في القسم الأول فإن مقابلة العوض الموجود ( بالعوض ) المعدوم خارج عن القياس المرعي في المعاوضات فإن قياسها ألا يتقابل إلا موجودان ولكن احتمل ذلك في الإجارة لمكان الحاجة وقد ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في ( حق ) آحاد الإشخاص
والبيع يلتحق بقاعدة الضرورة من جهة مسيس الحاجة إلى تبادل العروض والعروض لا تعني لأعيانها وإنما تراد لمنافعها ومتعلق تصرفات الخلق في الأعيان محال منافعهم منها وإذا أطلق الفقيه ملك العين أراد به الاستمكان من التصرف الشرعي على حسب الإرادة ما بقيت العين ثم المنافع إذا قدرت نوعا من العروض وظهر مسيس الحاجة ( إليها ) في المساكن والمراكب ( وغيرها ) التحق هذا بالأصول الكلية واشتراط مقابلة الموجود بالموجود من باب الاستصلاح والحمل على الأرشد والأصلح ولا يظن تعلق هذا الفن بالحاجة ولهذا يسمى ( القياس ) الجزئي وليس المراد بكونه جزئيا جريانه في شخص أو جزء ولكن الأصل الذي لا بد من رعايته الضرورة ثم الحاجة والاستصلاح في حكم الوجوه الخاصة في حكم الجزء عند النظر في حكم الضوابط الكلية فإذا القياس على الإجارة إذا استجمع الشرائط لا يدرؤه إلا الاستصلاح الجزئي في مقابلة الموجود بالموجود وهذا كقياسك النكاح مثلا في وجه الحاجة إلية على الإجارة
911 - ومن قال الإجارة ( خارجة ) عن القياس فليس على بصيرة في قوله فإنها إن خرجت بخروجها عن الاستصلاح فهي جارية على مقتضى الحاجة والحاجة هي الأصل والاستصلاح بالإضافة إليها فرع
912 - وأنا أضرب لذلك مثلا تقديرا فاقول من سبق عقده قبل ورود الشرائع إلى تقدير ورودها بالمصالح فإنه يسبق مع هذا العقد إلى درء الحاجات والضرورات ويختبط في وجوه الاستصلاحات فإنه يتعارض فيها الظنون بالإضافة إلى الحالات والدرجات فيتوقف لا جرم فيها الضبط على ورود الشرائع ثم إذا تمهد باب من الاستصلاح بالشرع جرى القياس فيه ومستنده يكاد أن يكون غيبا لا يطلع
العقل على حقيقته فيكله إلى فاطر البرية سبحانه وتعالى ثم قد يظهر الاستصلاح وهو مع ذلك جزئي فإن متضمنة حجرة على مطلق من غير حاجة ولا ضرورة في أمر تطرق المطلق فيه إلى البدل الكلي من غير منع ولا حجر ولكن ضنة النفوس وازعة مع وفور عقلها عن السرف والبذل العرى عن العوض وقد يحملها السرف وفرط الشره على أغرار وأخطار في المعاملات مغباتها وخيمة وغوائلها عظيمة والله تعالى عليم بها فسيصلح الله عباده بما علمه من غيبهم ولو تطرق إلى العقل الوازع عن البدل العرى عن العوض خلل طرد الشارع حجرا ولهذا يطرد الحجر على الصبيان والسفهاء فإذا باب الاستصلاح غايته تقليد وتفويض الأمر إلى مالك الأمر وهو باب محاسن الشريعة وقد يعيب ( كلى ) الاستصلاح ( وجزؤه ) عن الناظر ومن هذا القبيل عندي تحريم ربا الفضل والحجر المتمهد في ربا ( النسيئة )
913 - ومن دقيق ما يجري في هذا الفن وهو العلق النفيس في هذا القبيل أن الشافعي ألحق إثبات الخيار والأجل ( بأبواب ) الرخص من جهة أن ( قياس ) التقابل في المعاوضات أن يخرج العوض عن ملك أحد المتعاقدين حسب دخول مقابله في ملكه وإذا حل أحد العوضين وتأجل الثاني كان ذلك خارجا عن هذا القانون وكذلك الخيار الطارىء على العقد المبني على اللزوم في حكم الرخص والتأجيل أثبت فسحة ( لمن لا يملك الثمن ) ( في الحال ورجاء أن يتمحله ) إلى منقرض الآجال والخيار أثبت لتروي من لا بصيرة له وعدم
الدراية في السلع أعم وأغلب من المعرفة بها
914 - والقول في ذلك عندنا أن ( أصل ) البيع مستندة الضرورة أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة واللزوم ( فيه ) بمطلق البيع قد لا يستند إلى الضرورة نعم لو قيل لا يفضى البيع قط ( إلى لزوم ) جر ذلك ضرارا بينا من حيث لا يثق المتعاوضان بما يتقابضان وكان من الممكن أن يقال إذا تراضى المتعاقدان على الإلزام لزم وإن أطلقاه فالحكم ( بلزومه ) من غير تراضيهما ( فيه ) مصلحى وليس ضروريا ( وكذلك ) المصير إلى اقتضاء مقتضى العقد حلول العوضين مصلحى فإذا تمهد ذلك فشرط الخيار والأجل لا يخرم أمرا ضروريا فليفهم الفاهم ذلك وليتئد إذا انتهى إلى هذا المقام
915 - ولكن الشافعي نظر إلى تعبدات الشارع فقد مهد في العقود تمهيدا عاما وإن لم يكن مستنده إلى ضرورة مدركة بالعقول أو حاجة ثم رأى ما يطرأ عليها بمثابة ما يطرأ على وظائف العبادات ( من ) الرخص والتخفيفات وإن كانت العبادات في أصولها غير مستندة إلى أغراض وإلا فالقاعدة الكلية اتباع الحاجة ( والضرورة ) أو أتباع رضا المطلقين فإن ( ألحق ملحق الخيار ) والأجل بالرخص من جهة ( ندورهما ) بالأضافة إلى ( ما ) تمهد في التعبد والاستصلاح في العقود وإلا فاتباع الرضا من غير اقتحام أمر كلي أمس للقياس الكلي من الاستصلاحات
وأنا أذكر ( الأن ) مسألة كلية يقضى الفطن العجب منها فأقول ( مسألة )
916 - لو درست تفاصيل الشريعة وتعافى نقلتها وبقيت أصولها على ( بال ) من حملة الدين فالذي يقتضيه التحقيق تصحيح كل بيع استند إلى رضا ولو لم يقل به وتفاصيل الاستصلاحات لا تطلع عليها العقول ولا يحسم باب البيع ففى انحسامه ضرورة عظيمة وقد ذكرت طرفا من هذا ( في ) الكتاب ( الغيائي ) والغرض منه الآن أن الكلى ما يتطرق إليه العقل مع نسيان التفاصيل وهذا كاف في هذا الضرب
917 - وأما الضرب الثالث وهو ما لا ينتسب إلى ضرورة ولا إلى حاجة وغايته الاستحثاث على مكارم الأخلاق ووضع الاستصلاح ( ينافي ) إيجاب ذلك على كافة في عموم الأوقات ( لعسر ) الوفاء به والقدر الذي على يقتضيه الاستصلاح لا ينضبط بقدر أفهام المكلفين ( ودرك المتعبدين ) فإذا عسر الضبط وتعذر الإيجاب العام فيثبت الشارع وظائف ( تدعو ) إلى مبلغ المقصود الواقع في ( علم ) الغيب وإن كان لا ينضبط
هو في عينه لنا ويعضد هذا ( القسم ) في غالب الأمر وبأمور جلية حتى كان الشريعة تتأيد بموجب الجبلة والطبيعة فيكل إليها قدرا ويثبت للوظائف قدرا وهذا كالوضوء فليس ( ينكر ) العاقل ما فيه من إفادة النظافة ( والأمر بالنظافة ) على استغراق الأوقات ( يعسر ) الوفاء به فوظف الشارع ( الوضوء ) في أوقات وبنى الأمر على ( أفادته ) المقصود وعلم الشارع أن أرباب العقول لا يعتمدون نقل الأوساخ والأدران إلى أعضائهم البادية منهم فضلا فكان ذلك نهاية في الاستصلاح ومحاولة الجمع بين ( تحصيل ) أقصى الإمكان في هذه المكرمة ورفع ( التضييق في التدنس والتوسخ ) إذا حاول المرء ذلك فهذا وضع هذا الفن
918 - ولكن إزالة النجاسة أظهر في هذا الفن من النظافة الكلية المرتبة على الوضوء فإن النجاسات تتقذر في الجبلات واجتنابها أهم في المكارم والمروءات من اجتناب ( الشعث ) والغبرات ولهذا ذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه يحرم على الإنسان التضمخ بالنجاسات من غير حاجة ماسة والشافعي نص هذا في الكثير وقد ردد ( في ) مواضع من ( كتبه ) تحريم لبس جلد الميتة قبل الديباغ وحرام على المرء لأن يلبس جلود الكلاب والخنازير فتميز ظهور الغرض في إزالة النجاسة عن النظافة الكلية المعينة في الوضوء ولهذا خصص الشافعي الوضوء بالنية من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض وضاهى العبادات ( البدنية )
919 - ثم هذا الضرب الذي يفضى الكلام إليه يضيق نطاق القياس فيه فليس للناظر أن يؤسس في هذا الضرب أصلا يتخيل فيه مثل هذا المعنى الذي تكلفنا نظم العبارة ( منه ) لمعتبره بالقاعدة الثانية والسبب فيه ان هذا يدق مدرك النظر فلا يستقل بالتطرق إليه القوى البشرية ولا ينبغي أن يؤتى الإنسان عن خداع فإن مجال الظنون متسع لما يظهر ويدق فإنا لم نؤمر بربط الحكم لكل مظنون
920 - فالقول الوجيز فيه ان المعنى الذي ذكرناه في هذه القاعدة الثانية محال على غيب ينفرد بعلمه الشارع وعليه ابتني الإيهام الكلى بين التصريح والتلويح المذكورين في الطهارة ( فإنا قلنا ) تعميم الأمر بالنظافة عسر ورفعه مناقض للمكارم والمحاسن والقدر المعين لا تدركه أوهام البشر ولا عسر في أمتثال أمر الشارع في طهارات متعلقة بأوقات ( ثم الفطن ) يظن أنها في علم الشارع منطبقة على القدر المقصود الواقع في الغيب وليس من الممكن ربط الظن به فضلا عن دركه يقينا
921 - فإذا كان هذا مبنى الأصل الثابت فكيف يطمع الطامع في تأسيس أصل ( وتقعيده قاعدة ) تضاهى الطهارة في ( وفائها ) بالغرض الغيبي ولهذا نقول في هذا الضرب لا يجوز قياس غيره عليه وليس كالضرب الأول والثانى المتعلقين بالضرورة ( والحاجة ) فإن أمرهما بين ودركهما سهل ثم للشرع تصرف في الضروريات به يتم الغرض في القسمين الأولين وذلك أن
الذي لا يستباح إلا بالضرورة لفحشه أو بعده عن الحل فقد يرعى الشرع فيه تحقق وقوع الضرورة ولا يكتفى بتصورها في الجنس وهذا كحل الميتة ورب شئ يتناهى قبحه في مورد الشرع فلا تبيحه الضرورة أيضا بل يوجب الشرع الانقياد للتهلكة والانكفاف عنه كالقتل والزنا في حق المجبر عليهما
922 - فإذا الضرورات على ثلاث أقسام فقد لا تبيح الضرورة نوعا يتناهى قبحه كما ذكرناه وقد تبيح الضرورة الشيء ولكن لا يثبت حكمها كليا في الجنس بل يعتبر تحققها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير والقسم الثالث ما يرتبط في أصله ( بالضرورة ) ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص وهذا كالبيع وما في معناه وإنما كان كذلك لأنه لا أثر للفكر العقلي في تقبيح البيع والتبادل في الأعواض فكفى تخيل الضرورة في القاعدة ولا التفات إلى الآحاد فإن الأمر في ذلك مبنى على قاعدة كلية وليس البيع قبيحا في نفسه عرفا أو شرعا
923 - فأما الطهارات وما يضاهيها فقصاراه تحصيل أمر بوظائف واجبة من غير تصريح بوجوب المقصود فلا جريان للقياس في هذا الباب على معنى أن يعتبر غير الباب بالباب
وعلى هذا ينبنى سد باب القياس في الأحداث فإنها مواقيت الطهارات وثبتها الشرع في أمر مغيب عن دركنا ولم يثبت الطهارة عامة بل خصصها تخصيصا نقدر نحن بظنوننا أنها تأتى على تحصيل النظافة
فكيف نستجيز إثبات وقت فيما لا نطلع على إثبات أصله
924 - ثم ( قال ) القاضي رحمه الله كما لا تثبت الأحداث بالقياس فلا مجال للقياس أيضا في نفي الأحداث وهذا ( علق مضنه ) فليقف الناظر عنده ليقف عليه فإن احتكم محتكم باثبات حدث من غير ثبت فلا حاجة إلى قياس في درء مذهب الخصم ( وإن ) عزاه فيما زعم إلى قياس فالوجه أبطال قياسه وقد ذكرنا بطلان القياس في إثبات الحدث
925 - وإن تمسك بظاهر يتعرض مثله للتأويل في غير هذا الباب وأراد المعترض إزالة الظاهر بقياس فقياسه مردود فإن القياس كما لا يهتدي إلى تأقيت الطهارة لا يهتدي إلى نفي تأقيتها ولو ظن الظان أن القياس ألا ينتقض الطهر بشئ فهذا قول يصدر عن قلة البصيرة كما ذكرناه في استبهام الأمر في أوقات الطهر فإذا استبهم ثبوت الشئ استبهم نفيه وإذا صودف ظاهر لزم اتباعه ولم يثبت في معارضته قياس ومن ينفي الحدث فليكن ( متمسك المطالبة ) بثبت فيه والظاهر معتصم معمول به ( والعبادات ) وإن استرسلت في جريانها فتجري في هذه المضايق مجرى التنبيهات للقرائح الذكية والفطن فإذا حاصل كلام الراد إلى المطالبة بالإثبات فإذا وجد شيء يعمل بمثله سقط ما كان يتمسك به وليس معه ثبت في النفي
926 - ومما يتعلق بتمام الكلام في هذا الفصل أن القياس الجزئي في الأصل الذي فيه نتكلم لا يتصور أن يجري معنويا
نعم لا ينحسم فيه قياس الشبه فإن كل ما يتطرق إليه العلم يتطرق إليه الظن فإذا ينبني على هذا أن إثبات كون الملامسة حدثا بالقياس على خروج الخارج من السبيلين لا مطمع فيه فإنه لا يجمعهما معنى ولا شبه
927 - فأما اعتبار أصحاب أبي حنيفة خروج النجاسات من غير السبيلين بما يخرج من السبيلين ففيه فقه وغايتهم في ذلك تشبيه نجاسة تنفصل من محل الخلاف بالنجاسة التي تنفصل عن أحد السبيلين فإذا أحسنوا الإيراد قربوا الشبه واعتبروا الخارج بالخارج والمخرج بالمخرج
928 - ولأصحاب الشافعي أن يقولوا لا نسلم فإن خروج النجاسة من أحد السبيلين لا يقتضي الوضوء لأمر يتعلق بالنجاسة فإن الذي يبتدر إلى الفهم من أمر النجاسة رفعها عن محلها وإزالتها عن موردها فأما ربط إيصال الماء إلى غير مورد النجاسة عند اتصال النجاسة بمحل آخر فلا محمل لذلك إلا التأقيت ثم الذي يليق ( بالتأقيت ) على ما تمهده القول فيه أن يربط ( سبب نظافة ) الأعضاء البارزة فضلا بما يتكرر في الجبلة على اعتياد لائق به حتى تنتهض الطهارة وظيفة مكررة متعلقة بأوقات يغلب تكررها فأما الرعاف وما في معناه فليس في حكم ما يتكرر
929 - وليعلم الناظر أنهم وإن شبهوا على الظاهر فقطع شبههم بما ذكرناه أقيس للغرض وأقرب إلى الدرك وخاصيه النجاسة ساقطة الاعتبار في الأصل والفرع ( المعتبر به ) المتفق عليه
930 - نعم ( بحق ) ردد الإمام ( المطلبي ) قوله فيه إذا انسد المسلك المعتاد وانفتح سبيل آخر للنجاسة المعتادة الخارجة من المحل على ما يفصله الفقيه والسبب فيه أن هذا الان يشبه النجاسة المعتادة الخارجه من المحل المعتاد من جهة أن الطبيعة تقتضى تكرر دفع الفضلات من السبيل المنفتح فهذا منتهى الغرض في ذلك
931 - وأما الضرب الرابع فقد مثلناه بالكتابة فهو في الأصل كالضرب الثالث الذي انتجز لبفراغ الفراغ منه في ان الغرض المخيل الاسحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها بل ورد الأمر بالندب إليها فان العتق في الابتداء محثوث عليه مندوب إليه فهذا الضرب يتميز عن الضرب الثالث المقدم عليه فإن الشرع احتمل فيه خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة المالك عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعاوضات ولم يجر مثل ذلك في الضرب الثالث وإن اختص الضرب الثالث بإيجاب الطهارة ولا تجب الكتابة على رأي معظم العلماء
932 - وذهب مالك رحمه الله في طوائف من السلف إلى وجوبها وإسعاف العبد إذا طلبها ووجد فيها خيرا ومأخذ مذهبه في ذلك يقرب من إيجاب الطهارات مع العلم بأن النظافة في نفسها لا تجب بأمر مقصود وتعلق أيضا بظاهر الأمر في قوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا
933 - والشافعي رحمه الله رأي الإيتاء واجبا كما أنبا ( عنه ) قوله تعالى ( وآتوهم من مال الله فكان هذا مما اعترض به عليه إذ أجرى إحدى الصيغتين
على أقتضاء الإيجاب وحمل الأخرى على الاستحباب
934 - فأما ما أشرنا إليه من تشبيه هذا الضرب على رأي مالك ( بالطهارات فهو ) يصلح لعقد المذهب وإلا فقد مهدنا أن القياس لا يجرى في محاولة تأصيل الأصول على هذا الوجه وإنما يجري ( طرف ) من التشبيه في ( جزيئات ) النوع من غير خروج عنه وأما التعلق بالظاهر فأوجه ولكن الشافعي لم يعتمد في ايجاب الإيتاء مجرد الظاهر لكن عول على سير الصحابة رضي الله عنهم وما كان منهم ونقل آثارا مطابقة لمعتقده وضم إليه أن الكتابة يتضمنها إرفاق من كل وجه والإيتاء منه وقد رآه الأولون على الاطراد يتضمنها والتبرعات لا تطرد سيما في الأموال والكتابة تلزم في حق السيد ومن متضمنها الرفق المنقول وما تقرر يلزم شيئا إذا صح لم يلزم الإقدام عليه على أن لا أرى مذهب الشافعي مسألة أضيق ( مسلكا ) من الإيتاء
935 - ونحن نقول وراء ذلك أما مالك فسوى بين الكتابة وبين باب الطهارات في إثبات إيجاب الأصل ولاح على أصله ( إجراء ) قسم الكتابة في وضع الشرع على باب الطهارات ( باحتمال ) أمور خارجة عن أقيسة المعاوضات فيها والشافعي لم يوجب الكتابة وقال للشرع تعبد في الإيجاب متبع وإن لم يكن منقاسا كإيجاب الطهارة وإن لم تجب النظافة وللشارع أحكام في رفع حجره وإطلاق حجر القياس اطراده كما جرى في الكتابة فكان احتمال الشرع لهذا في الكتابة على خلاف القياس ( مضاهيا لإيجاب الشرع الطهارة على خلاف القياس )
ويخرج من ذلك تعادل الضربين في خروج الطرفين عن القياس فانتهض إيجاب الطهارة ( محصلا ) لمكرمة النظافة كما انتهض رفع الحجر في الكتابة مرعيا في تحصيل العتاقة ثم قال الشافعي في رفع الحرج في الكتابة ترغيب مالي يتعلق بغرض بين في تحصيل الكسب فإن العبد يحرص إذا ( طمع ) في العتاقة ( والسيد ) يتحصل على كسب كان لا يتحصل له بغير الكتابة بظاهر الظن فخرجت الكتابةعن قبيل القرب لظهور الغرض منها ولم يكن في الطهارات غرض ناجز ( فلاق ) بها ترغيب في الثواب وهذا يقتضي إلحاقها بالقرب المفتقرة إلى النيات فهذا تأسيس القول في البابين ونحن الآن نرسم مسألة في قسم الكتابة تمس إليها حاجة الفقيه مسألة
936 - قد ثبت أن الكتابة الفاسدة تثبت فيها أحكام مشابهة لأحكام الكتابة الصحيحة فرأى أصحاب أبي حنيفة أن يعتبروا البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة وقضوا بأن البيع الفاسد يفيد الملك إذا اتصل به القبض على تفصيلهم المعروف وقد امتنع طوائف من أئمتنا من قبول هذا القياس ونحن نكشف الغطاء فيه مستعينين بالله تعالى بعد ذكر مسلك الفريقين اعتراضا وجوابا
937 - قال الشافعي رحمه الله لا يقبل القياس في الفرعين فان الكتابة
الصحيحة خارجة عن قياس المعاملات ( والفاسدة ) متفرعة عليها فإذا انحسم مسلك القياس في الأصلين ترتب عليه امتناع القياس في الفرعين فقال أصحاب أبي حنيفة إذا ثبتت الكتابة والتحقت بالمعاوضات الصحيحة فلا ننظر بعد ثبوتها إلى خروجها عن القياس ولكنها يقضي فيها وعليها بقضاء المعاوضات حتى نقول يشترط في المعاوضات ولا تنحسم الأقيسة في التفاصيل مع إمكانها بخروج أصل الكتابة عن قياس المعاوضات واعتبار البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة من النظر في التفاصيل بعد تسليم الأصل وتنزله على حكم التوقف والفاسد في كل باب حائد عن موجب التعبد لذلك فسد فإذا لم يمتنع التحاق الفاسد بالصحيح في الكتابة مع حيد الكتابة الفاسدة عن الصحيحة فينبغي ألا يمتنع مثل ذلك في البيع وكل أصل مقر على قانونه منقاسا كان أو غير منقاسى والفاسد في كل باب حائد عن مراسم الشرع فذا منتهى كلام الفريقين مع فضل بيان شاف في الإيراد لا يستقبل به فقيه ليس له حظوة وافرة من الأصول
938 - ونحن الآن نقول هذا الجمع لا ينتظم في مناظم المعاني ولا يستبد في ذلك قياس معنوي من جهة أن شرط المعنى اتجاهه أو انقداحه في الأصل ثم إذا تقرر في الأصل معنى واطرد في الفرع فإذا ذاك يجمع الجامع بالمعنى وليس ( معنا ) معنى فقيه يتضمن تنزيل الكتابة الفاسدة منزلة الكتابة الصحيحة فإن الذي ( لا ) يتمارى فيه الناظر في الدرجات الأول من نظره أن الفاسد ليس مطلقا للشرع والاحكام تثبت إذا جرت أسبابها موافقة الشرع ويهون على الرشيد االفطن تقرير خروج الكتابة الفاسدة في نزولها منزلة الكتابة الصحيحة عن القياس المعنوي والاعتبار الكلي وإذا فعل ذلك ألخسم مطمع الخصم في قياس المعنى وآل النظر إلى التشبيه
939 - فإن تفطن الخصم وسلم انحسام المعنى واجتزأ بالتشبيه وقال البيع الفاسد بالإضافة إلى الصحيح في تشبيه الكتابة الفاسدة بالإضافة إلى الصحيحة ولا يلتزم إبداء معنى في الأصل وإظهاره في الفرع فعلى الناظر في ذلك وقفة وإمعان نظر فيما يدرأ هذا المسلك وهو النقض الصريح فإن لم ننزل كل فاسد منزلة الصحيح إذ النكاح الفاسد ليس كالصحيح في إثبات حق لا على جواز ولا على لزوم وأقرب من ذلك البيع نفسه فإن فاسده من غير قبض لم ينزل منزلة صحيحة والتشبيه شرطه الطرد وأحق قياس بالبطلان والنقض قياس الشبه فإن المتمسك بالمعنى قد يعن له طرد المعنى ما لم يمنعه مانع وأما الشبه فقصاراه ظن على بعد فإذا عارضه نقض وهى وانحل فهذا فن من الكلام واقع يضطرهم إلى النزول عن الشبه والترقي إلى معنى وعن هذا قالوا ما اتسع طرقه فالفاسد أحد طرقه وزعموا أن الاتساع يشعر بإحلال الفاسد محل الصحيح ومهما اضطروا إلى المعنى وحاولوه افتضحوا واجترءوا ولا يكاد يخفى إبطال هذا المسلك وما في معناه فإذا بطل الجمع المعنوي وانتقض الشبه لم يبق لمتمسكهم بالكتابة الفاسدة وجه
940 - ومما نذكره في ذلك أن الكتابة الفاسدة في وضعها مخالفة للبيع الفاسد على رأى المخالف فإن المكاتب كتابة فاسدة يتسلط على أكسابه ( بنفس العقد ) تسلطا صحيحا وتنفذ تصرفاته فيها على الصحة نفوذها في الكتابة الصحيحة وليس البيع الفاسد كذلك وإن اتصل بالقبض وهذا يستعمل أيضا في ( معرض النقض ) المعنوي
941 - ومن دقيق القول في ذلك أن تحصيل العتاقة بوجود الصفة مما يجب القضاء بصحته فإن تعليق العتاقة على أداء العوض الفاسد صحيح وإن فسد العوض ثم التعليق إذا صح فقياسه ألا يرفع وأثر فساد الكتابة في رفع وجوب التعليق وهذا خارج ظاهر الخروج عن قياس بابين أحدهما حكم المعاوضة والثاني حكم تعليق العتق والعتق أنفذ التصرفات وأغلبها فالوجه استيلاء حكمه فإن مؤقته يتأبد ومبعضه يتمم فكيف اكتسب ما ليس يفسد وإن ذكر على صيغة الفساد ( قضية ) الفساد ( من ) معاملته واهية بالفساد والجواز فهذا يمنع من ( التشبيه ) ويعارض ما يأتي به ( المشبه ) وينزل في المظنونات منزلة بعد الشيء وإن عن التحاق بالمنصوص عليه لكونه في معناه وقياس الشبه مستند إلى القياس الذى يقال فيه إنه في معنى الأصل فهذا منتهى كلام الفقهاء
942 - وأنا أذكر مسلكا أصوليا يغنى عن جميع ذلك فأقول وقد مهدت أن القوانين المبنية على المكارم الكلية لا يجرى فيها تمهيد أصل قياسا على أصل وإنما الأقيسة في الأصول إذا لاحت المعانى وإنما تظهر المعانى في الضرورات والحاجات وأقرب قطاع الشبه تعدد الأصول فيما لا ينقدح فيه جامع ضروري أو حاجى
والذى نختتم به الكلام أن أصلين مستندهما المحاسن والمكارم لا تشبه فروع أحدهما فروع الثاني من جهة تعلق كل واحد بأمر ( غيبي لا يضبطه الفكر إذ لا يجري كل مقصود في الغيب على قضية واحدة
943 - فإذا لاح ذلك وتجدد العهد به فالبيع من الضروريات فكيف ينقدح تشبيه فاسده بفاسد قسم لا ضرورة فيه ولا حاجة وهذا قاطع للشبه بالكلية فإذا انقطع ( الشبه ) ولم يلح معنى لم يرتبط الأصل بالفرع
944 - نعم إذا كفى الشافعي احتجاج الخصم ( بالكتابة ) بقيت عليه غائلة في انتقاض ما يطرده ( من ) معناه بالكتابة فان قال المعنى حيد الفاسد عن وضع الشرع والمصير إلى أن الفاسد غير معتد به ولا تنتقل الأملاك إلا بمسلك شرعي وإذا نحن اعتمدنا ذلك صدمتنا الكتابة الفاسدة نقضا فلا وجه إلا مسلكان في دفعه أحدهما أن يدعى أن الكتابة صحيحة في جهة مقصودها وقد تناهينا في تقريب ذلك في ( الأساليب ) والمسلك الثاني وهو الأصولي ألا يلتزم في أقيسة المعاني النقض بالمنتزع عنها كما سنمهده في باب النقض إن شاء الله تعالى
945 - والضرب الخامس متضمنه العبادات ( البدنية ) التي لا يلوح فيها معنى مخصوص لا من مآخذ الضرورات ولا من مسالك الحاجات ولا من مدارك المحاسن كالتنظيف في الطهارة والتسبب إلى العتاقة في الكتابة ولكن يتخيل فيها أمور كلية تحمل عليها المثابرة على وظائف الخيرات ومجاذبة القلوب بذكر الله تعالى والغض من العلو في مطالب الدنيا والاستئناس بالاستعداد للعقبى فهذه أمور كلية لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولا يمتنع أيضا أن يتخيل فيها أمر آخر وهو أن الإنسان يبعد منه الركوب إلى السكون فالقوى المحركة تحركه لا محالة فإن تركت تحركت في جهات الشهوات وإذا استحثت بالرغبة والرهبة على العبادات انصرفت حركاتها إلى هذه الجهات وهذا فن لا يضبطه القياس ولا يحيط به نظر المستنبط والأمر فيه محال على أسرار الغيوب والله تعالى المستأثر به فلا يسوغ اعتبار ضرب إحداها في جهة اختصاصها ولا يسوغ اعتبارها في إثبات قضيتها الخاصة بغيرها من الضرورب فإنا منعنا اعتبار ضرب بضرب فيما لا يستند إلى ضرورة وحاجة وإن كان يغلب على الظن ( تعين ) مقصود منه على منهاج الأمر بالمحاسن فلأن يمتنع ذلك من العبادات التي لا يتعين منها مقصد ( أولى وأحرى )
946 - فأما اعتبار ( البعض من هذا الضرب بالبعض ) فقد ينقدح فيه معان فقهية نحو اعتبار القضاء بالأداء في أشتراط تبييت النية والجامع أن النية قصد ومرتبطه الحال أو ( عزم ) ومتعلقه الاستقبال وقد أمرنا بإيقاع الصوم أداء وقضاء وعبادة والعبادات إنما تقع على قضية التقرب بالقصد وما مضى لا على حكم القرب يستحل انعطاف القصد والعزم عليه فهذا من ( أجلى ) المعانى المعتمدة وكذلك ما ضاهاها
947 - فأما ما يثبت برسم الشارع ولم يكن معقول المعنى فلا يسوغ
القياس فيه وهذا كورود الشرع بالتكبير عند التحريم والتسليم عند التحليل ومن هذا القبيل اتحاد الركوع وتعدد السجود فمن اراد أن يعتبر غير التكبير بالتكبير مصيرا إلى أنه تمجيد وتعظيم فقد بعد بعدا عظيما وزال من القاعدة الكلية فإن إيجاب الذكر عند التحليل ليس معقول المعنى
948 - وإذا قال الحنفي معنى التكبير معقول قيل ( له ) اشتراط ما يتضمن تمجيدا عند التحريم غير معقول ولا ينفع الاكتفاء يكون التكبير معقول المعنى فإن هذا يرجع إلى وضع اللسان ومعنى الصيغ وليس هذا من معاني الشرع في ورد ولا صدر
949 - قال الشافعي رضي الله عنه في مجاري كلامه في رتب النظر من قال لا غرض للشارع في تخصيص التكبير وفي الاستمرار عليه ولا غرض لصحبة ومن بعدهم من نقله الشرائع والقائلين بها في التكبير على التخصيص وقد استتب الناس عليه مع تناسخ العصور واعتقاب الدهور قولا وعملا وتناوله الخلف عن السلف حتى لو فرض عقد الصلاة بغيره لعد نكرا وحسب هجرا ( فمن ) قال والحالة هذه لا اثر لهذا الاختصاص وإنما هو أمر ( وفاقي ) فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة وقضايا مقاصد المخاطبين فيما يؤمرون به وينهون عنه ولو كان غير التكبير كالتكبير لكان ذكر الشارع التكبير كلاما عريا عن التحصيل نازلا منزلة قول القائل ابتداء أيحرم على الجنب سورة آل عمران مع القطع بان
غيرها من السور بمثابتها ولا ينطق المبتدئ بها إلا ويبين لغوة على عمد إن لم يكن ساهيا
950 - فإذا ثبت قطعا أن تخصيص التكبير ثابت فإن اعترفوا بتعيينه ( بدءا ) ثم طعموا في اعتبار غير التكبير بالتكبير بجامع التمجيد وهو بعينه جار في الاستحباب فقد طعموا في غير مطمع فالخصم بين أمرين أحدهما أن ينكر قصد التخصيص من الشارع فيكون مباهتا قريبا ممن يجحد الضرورات في المعقولات وإن اعترفوا بالتخصيص في وجه وأرادوا الجمع في وجه آخر ينقضه ما سلموه من التخصيص فقد تناقض كلامهم ويخرج مما ذكرناه أن التكبير مخصوص غير معقول الاختصاص فرفع الاختصاص مع ثبوته محال
951 - ومن نظر نظر ذي غرة فقاس غير التكبير على التكبير أوطأه إذ ذاك تطرق فاحشة لا يبوء بها من وقر الدين في صدره وهو إقامة عمد الحدث مقام التسليم من جهةان التسليم يناقض الصلاة مناقضة الحدث إياها ومن استجاز في محاسن الشريعة أن يلحق عمد الحدث بما يجيزه الشارع من التسليم في أختتام الصلاة فهو بين معاند يظهر خلاف ما يضمر وبين من أعمى الله تعالى بصيرته نسأل الله تعالى التوفيق ونعوذ به من الانهماك في أوضار التقليد
952 - ثم أن أجرى مجر ( في ) هذا القسم كلاما ( ظاهره ) التشبيه مثل أن يقول تعين الركوع كتعين التكبير وامتناع إقامة السجود مقامه يضاهي امتناع إقامة غير التكبير مقامه فقد تردد كلام الشافعي في ذلك
فتارة يسميه استشهادا والمعنى به أن ذلك يذكر تقريبا وتحقيقا لمنع القياس ويضرب أمثالا وهو مشبه بتقرير الضرورات على من يجحدها فإنه لا ( يجدي ) مع جاحدها مسلك نظري والوجه في مكالمته إن ريم ذلك تقريب الأمر بضرب الأمثال فهذا مسلك وقد ويقول الشافعي هذا من مآخذ قياس الشبه فإن الاختصاص بالتكبير مأخذه مأخذ الاختصاص في الركوع واذا شبه احدهما بالثاني كان ذلك من قياس الشبه وإن كان ( نتيجته ) منع القياس فإن الاختصاص حكم مطلوب والقياس الشبهي جار فيه نعم القياس المعنوي لا يجري إذ الاختصاص معناه ( نفي ) المعنى المتعدي من محل التخصيص والتنصيص ( فطلب ) المعنى حيث لا معنى بعيد هذا وقد نجز غرضنا من تقاسيم هذه ( الضروب ) فان عدنا إلى تقاسيم المعنى بعد ذلك كان ذلك لغرض آخر ونحن نرى أن نقف حيث انتهينا ونستفتح القول في الاعتراضات
( الباب الرابع ) ( الاعتراضات وأقسامها ) 953 - ونقسمها قسمين أحدهما يشتمل على ما يصح عند المحققين ولا احتفال بما يشذ من خلاف منقول عمن لا اكتراث به والقسم الثاني يحتوي على ما يفسد من الاعتراضات عند المحققين
فصل القول في الاعتراضات الصحيحة 954 - الأول منها المنع وهو يتوجه على الأصل ويقدر متوجها على الفرع فأما المنع في الأصل فإنه يجري من وجوه أحدها منع كون الأصل معللا فإن الأحكام تنقسم باتفاق النظار إلى ما يعلل وإلى مالا يعلل فمن استمسك بأصل فهم مطالب بتثبيت كونه معللا وهو عندي إنما يتوجه على من لم يذكر تحريرا بعد فأما إذا حرر فإنه قد ادعى أن ما أبداه من الوصف علة في حكم الأصل فان الفرع في العلة ( المحررة ) يرتبط بالأصل بمعنى الأصل وهو الجامع وسبيل افتتاح النظر من طريق القياس أن يبين الرجل حكما في الأصل ويطلب علته فاذا صحت عنده علة الحكم والفاها متعدية أصلها موجودة في غيره فإنه يحكم فيما توجد العلة فيه بحكم الأصل الذي ثبت عنده
تعليله فاما إذا لم تظهر علة ( فلم يات بديل ) فلا وجه ( لعد ) المنع في هذا المقام اعتراضا فإن المسئول إذا ذكر الأصل واقتصر عليه فلا ينتهض السائل للاعتراض بل يرتقب استتمام الكلام وما ذلك إلا لانه لم يدخل وقت الاعتراض بعد وان اقتصر على ذكر الأصل وضم إليه ادعاء كون الفرع بمثابه عد عريا عن التحصيل من جهة أنه لم يذكر ربطا ولم يأت بصيغة قياس بعد فسبيل مكالمته إذا تردد وتبلد أن ينبه على اقتصاره على بعض صيغة القياس فإن ذكر معنى ادعاه علة فإن استمكن منه ففى ضمنه إثبات القول كونه معللا
955 - ومن لطيف القول في ذلك أن تعيين العلة وإثبات أصل التعليل مسلك واحد فإن الإنسان يستبين كون الشيء معللا بأن يتجه فيه معنى يصلح لكونه علة وليس من الممكن أن يعرف بطريق الاستنباط كون الشيء معللا على الجملة نعم إن انعقد عليه إجماع أو ورد فيه نص فيستند ( الأعتقاد ) إليهما وإن كان التلقي من الاستنباط فتعيين العلة وتثبت الأصل في التعليل يثبت بمسلك واحد فهذا تحقيق القول في المطالبة بكون الأصل معللا وبيان محله ومنصبه في الجدل
956 - والنوع الثاني من المنع إنكار وجود ما ادعاه المستنبط علة وهذا كثير التداور في المركبات فإن من قاس على انبه خمس عشرة سنة فقد يدعى بلوغها فينكره الخصم فهذا وما يضاهيه إنكار وجود العلة وعلى المطالب فيه ان
( يثبت ) بطريقة على ما سيأتى ذلك في تقاسيم المركبات إن شاء الله تعالى
957 - والنوع الثالث منع الحكم في الأصل فإذا توجه ذلك على المسئول تعين عليه إثباته فإن ( أثبته ) بطريق إثباته استد قياسه وكان بانيا والبناء مقبول ( من المسئول ) ولو رددنا إلى حكم الدين فليس فيه ما يمنع سائلا من نصب دليل ولكن مواقف النظار وأهل الجدال على مسلك رأوه اقرب المسالك ( إلى الدرك ) وأقصدها فأثبتوا الدليل والبناء والابتداء للمسئول وأقاموا السائل مقام المعترض حتى ينتظم على القرب غرض ويلوح في المطلوب مدركه فلو تصدى كل واحد للدليل والاعتراض لانتشر الكلام وطال المرام ولا ينقضى مجلس ( عن ) فائدة ثم المسئول لا يدل في كل موضع بل يدل حيث ( يبنى ) ولو اعترض على علة ابداها السائل معارضا معترضا أو مسندا إليها تأويل ظاهر فإذا أورد المسئول عليها نقضا فمنعه السائل لم يكن للمسئول إثباته بالدليل فإنه بإثباته النقض لا يستفيد إثبات مذهبه الذي سئل عن إثباته وإنما يستفيد إبطال علة السائل وهو في هذا المقام معترض والاعتراض والبناء إذا اجتمعا انتشر الكلام ووقع المعنى المحذور الذي لأجله أقام الجدليون بانيا ومعترضا ثم قد يأتى السائل بما يصلح للبناء وهو يبغي به الأعتراض بطريق المعارضة كما سيأتي ذلك فأما المسئول فيضطر إلى الاعتراض ( بطريق المعارضة ) إذا عارض السائل
958 - والنوع الرابع من المنع المنع من كون ما أبداه المسئول علة فيقال ما الدليل على أن ما أظهرته علة فيتمسك المسئول بما يثبت به العلل وقد مضى القول فيه مفصلا
959 - فوجوه المنع إذا على ما نظمه هؤلاء أربعة المنع من أصل التعليل والمطالبة بتعيين 0 التعليل ) والمطالبة بتحقيق ( وجود ) ما ادعاه المعلل علة ومنع الحكم والمطالبة بإثبات ما عينه
960 - وزاد بعض المتكلفين منع القياس والمطالبه بإثبات أصل القياس وهذا ليس بشيء ( فإنا ) في الاعتراضات على القياس وقد ثبت اصله على منكريه فهذه وجوه المنع في الأصل
961 - فأما المنع في الوصف فلا يتجه فيه إلا منع واحد وهو منع وجود علة الأصل في الفرع وباقي الوجوه توجه على الأصل فإن من وجوه المنع في الأصل المطالبة بأن ما أظهره والمستنبط يصلح لكونه علة وهذا حقه أن يخصص بالأصل إذ منه الاستنباط وإليه الرد به والاعتبار إذا ثبت صلاح ذلك المعنى لكونه علة لم يحتج إلىذلك في الفرع وقد انتجز الفراغ منه فلا يبقى مع الفراغ من مطالبات الأصل إلا ممانعة في أن المعنى الذي ثبت علة في الأصل غير موجود في الفرع وهذا يسمى منع الوصف وقد انتهى غرضنا من القول في المنع
والثاني من الأعتراضات الصحيحة طلب الإخالة
962 - ذا وهذا من أهم الأسئلة وأوقعها في الأقيسة المعنوية فعلى المتمسك بما يدعيه معنى أن يوضح ( مناسبته ) للحكم وإقتضاءه له وإشعاره به فإذا عجز عن ذلك مع ادعائه المعنى كان ذلك انقطاعا منه بينا
963 - قد وقد قال القاضي رحمه الله في بعض مجاري كلام ليس هذا من الأسئلة والاعتراضات بل حق على كل مسئول أن يبدأ بإظهار الإخالة قبل أن يطالب بها فإنه لا يكون آتيا بصورة القياس المعنوي إلا على هذا الوجه ولو سكت عن إظهاره كان مقتصرا على بعض العلة نعم لو ضمن تعليله لفظا ظاهرا أشعر بالإخالة كفى ذلك فإن وجه السائل طلبا كان منسوبا إلى القصور عن درك لفظ التعليل هذا إذا كان تمسكه بقياس المعنى
964 - فأما إذا تمسك بقياس الشبه فلا مناسبة ولا إخالة على الوجه المذكور في المعاني ولكن قد يحتاج المشبه إلى إظهار الشبه الخصيص المغلب على الظن فيكون الطلب بذلك والجواب عنه على حسب ذلك كما إذا شبهنا الوضوء بالتيمم فقد التزمنا أن نذكر شبها أو أشباها تقرب الفرع من الأصل وإن كان لا يقتضي الحكم اقتضاء الإشعار والإخالة ولا يقع الاكتفاء بأمور عامة لا تغلب على الظن ولا يتعرض المشبه لأمر عام إلا وينتقض عليه تشبيهه وإذا تصون عن النقض بارتياد خصوص الأشباه فقد خصص شبها مغلبا على الظن و ( الثالث ) من الاعتراضات الصحيحة القول بالموجب
ولا شك أنه إذا استد على شرطه أسقط الاستدلال وقطع المستدل ثم الأصوليون تارة يقولون القول بالموجب ليس اعتراضا وهو لعمرى كذلك لأنه لا يبطل العلة لأنه إذا جرت العلة وحكمها متنازع فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى ولكن المتمسك بها في محل النزاع منقطع فإنه أبداها محتجا بها وهو يروم إثبات المتنازع ( فيه ) وقد تبين أن الأمر على خلاف ما قدر وهو بمنزلة ما لو رام إثبات المختلف فيه ونصب علة في غير محل النزاع
966 - ثم القول بالموجب ينشأ من اعتناء المعلل بموجب الحكم ولا يتصور قول ( بالموجب ) ومضمون العلة نفي حكم وإثبات حكم فإن المعلل يثبت ما ينفيه الخصم من الحكم أو ينفي ما يثبته فكيف يتصور المطابقة والأمر كذلك نعم إذا قال الحنفي في مسألة ماء الزعفران ماء طاهر خالطه طاهر فالمخالطة لا تمنع صحة الوضوء قال السائل ( الشافعي ) المخالطة لا تمنع ثم ينقسم في هذا مقام السائل فقد ينقدح له ( إبداء مقتضى ) آخر سوى ما ذكره المعلل مع الاستمرار على الخلاف في الحكم فهذا إن اتفق فهو الغاية في هذا الفن من الاعتراض والغالب في ذلك أن يكون المعلل ذاكرا لبعض ما هو ( علة ) عند السائل فيبين المعترض أنه ليس موجبا على حياله وهو كما ضربناه مثالا الآن فإن المخالطة لها أثر عند الشافعي ولكنها بمجردها لا توجب منع الاستعمال فإن زادالمسئول فقال المخالطة المغيرة لا توجب منع الاستعمال ألزم السائل القول بالموجب أيضا فإن المخالطة المغيرة لا تمنع التوضؤ فإن زاد وقيد الاعتلال بتفاحش
التغيير وإمكان الاحتراز لم يجد أصلا يقيس عليه فإن حذف التعرض للموجب فقال ماء طاهر خالطه طاهر فيجوز التوضؤ به انتقضت العلة كماء الباقلاء إذا كان مغليا بالنار وهذا مضيق يدفع فلا يجد المعلل محيصا عن التعرض للنقض أو القول بالموجب
967 - ومما يطرأ في هذا الفن شيء ليس للرد والقبول فيه مجال وقد ينتهي الأمر بين المعترض والمجيب إلى قريب من الإلباس ونحن نبين الوجه فيه ( فإذا ) قال الشافعي في مسألة تمكين العاقلة مجنونا جنون أحد المتواطئين لا يوجب درء الحد عن الموصوف بالعقل كجنون الموطوءة فقد يقول الحنفي الجنون ليس دارئا وإنما الدارئ خروج وطء المجنون عن كونه زنا فليست المرأة ممكنة زانيا فيقول المجيب إن صح ما قلت فالجنون هو الذي أخرج فعله عن هذه التسمية وغرضي اسقاط أثر الجنون فيقول المعترض نصبت الجنون علة وهو عندي علة العلة وإطلاق التعليل ( بالجنون ) يشعر بكونه مماسا للحكم من واسطة فيجر التفاوض لبسا والذي يختاره المعلل ان ( يقي ) ( علته ) مواقع اللبس حتى لا يكون متمسكا بما يلتحق بمجملات الألفاظ على ما سنعقد في ذلك فصلا إن شاء الله تعالى
968 - فالوجه إذا أن نقول لا ينتهض الجنون سببا فإن قيل بموجب علته أمكن الدفع فإنما يؤثر وإن كان لا يستقل يسمى سببا وإن كان لا يحسن تسميته موجبا ما لم يستقل وحفر البئر سبب الهلاك في الشرع وتسمية سببا لا يجحده أحد من حملة الشريعة وإن كان لا يستقل ما لم ينضم إليه أسباب وإذا قال القائل ثبت هذا الحكم بأسباب كان كلاما منتظما ومعناه أنه أثبت باجتماع أسباب ولا يحسن أن يقال ثبت هذا الحكم بعلل إذا كانت كل واحدة لا تستقل بالاقتضاء فإن العلة المركبة من أوصاف يجوز أن يسمي كل وصف منها سببا في الحكم من حيث إنه لا بد منه وليس كل وصف علة وإنما العلة مجموع الأوصاف وإذا قال القائل لا ينتهض كذا سببا وكان لما ذكره أثر عند الخصم ولا يستقل الحكم دونه فلا يمكنه والحالة هذه أن يقول بموجب العلة و ( الرابع ) من الاعتراضات والنقض
969 - وهو تخلف الحكم في بعض الصور مع وجود ما أدعاه المعلل ( علة ) ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة وحكى أصحاب المقالات عن طوائف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله أنهم قالوا ليس النقض من مبطلات العلل ولكن متى عورضت علة المعلل بنقض فعليه تعليل تلك المسألة التي ألزمها نقضا والفصل بينهما وبين ( المسائل ) التي ادعىاطراد العلة فيها
ونحن نذكر مسالك الفريقين ولا نتعدى مسلكا حتى نتبعه بما عندنا فيه ثم نذكر عند نجاز المسألة ما هو الحق المبين عندنا
970 - فأما الصائرون إلى أن النقض يبطل العلة فقد تمسكوا بطرق منها أنهم قالوا النقض يلحق العلة بعد أن نقضت بالقول المتكافئ والأقوال المتكافئة ساقطة وبيان ذلك بالمثال أن من قال في محاولة إثبات تحليل النبيذ مائع فيحل ( كالماء ) والمعلل غير مبالي بدخول الخمر وغيرها نقضا والمعترض يقول مائع فيحرم كالخمر وهو أيضا لا يحتفل بما يرد عليه من النقض وليس أحد المسلكين بأولى من الثاني وهذا فيه نظر عندنا من جهة أن بطلان المسلكين كان لوقوعهما طردين خارجين عن مسالك المعاني والأشباء المعتبرة فلا يكاد يقوى التعلق بهذا والمعترض متمكن من إبداء وجه من الإبطال سوى ما ادعاه المتمسك بالطريقة
971 - ومما تمسك به هؤلاء أن قالوا من يدعى علة لا يخلو إما أن يدعيها عامة أو يدعيها خاصة ( فإن ادعاها خاصة ) فلتنحصر على محل النص وإن ادعاها عامة ولم تعم فليست وافية بحكم العموم فإنها إذا تعدت لم يكن محل في تعديها أولى من محل وهذا على رشاقته لا يستقل دليلا فإن للمعترض أن يقول أطردها ما لم يمنعي مانع فإن ظهر مانع عللته واستمرت على الطرد في غيره
972 - ومما تتعلق به هذه الطائفة أن من يطرد العلة مدع جريانها متحديا
باطرادها مشبه بمدعى النبوة المؤيدة بالمعجزة فإنه يتحدى بها قائلا لا يأتي أحد بمثلها فلو أتي آت بها بطل تحديه وهذا تخيل لا حاصل له من جهة أن من يعلل النقض لا يتحدى بعموم العلة والمعجزة لا تدل على الصدق قطعا مع فرض صدورها من كذاب
973 - وربما يستدل القاضي رحمه الله لهؤلاء بكلام منشؤه الأصل والقاعدة المعتبرة في الباب وهو أنه قال قد عرفنا تمسك الأولين بالمعاني الجارية فاتبعناهم ولم يثبت عندنا أن معانيهم كانت تنقض ولا ينفكون عنها فهذا مما لا يقطع بثبوته عن الأولين ولا معتصم في إثبات العمل بالقياس إلا الإجماع والاتباع وهذا الكلام وإن كان آثر مما تقدم فقد ينقدح فيه أن يقول قائل ما صح عندنا أنهم كانوا يحذرون ويحترزون ويتصونون تصون المتأخرين ولكنهم يطلقون المعاني ثم إن عن مخالف عللوه وميزوه عما فيه الكلام ( إذ ) كان كلامهم تأسيسا وابتداء ولم يكن كلامهم محررا يدور في النفوس ( منضجا ) بنار الفكر متقدا بذكاء السبر فلا وجه لما ذكره القاضي إذا
974 - وأما من لم يرد النقض مفسدا للعلة فإنه يتمسك بوجوه منها أن الصيغ العامة الواردة لا يمتنع تخصيصها إذا قامت دلالات تقضي التخصيص فإن لم تقم جرت الصيغة على عمومها ولفظ المعلل لا يزيد منصبه على لفظ الشارع ثم المتمسك بالصيغة العامة من لفظ ( الشارع ) يتعلق بها وهي على تجويز أن يخصص بدلالة
975 - وقد قال القاضي هذا إنما يلزم من يثبت للعموم صيغة ولست منهم وقال أيضا في إلزام المعتزلة البيان عندكم لا يتأخر عن مورد الخطاب ويقتضي ذلك أن تقترن القرائن المخصصة باللفظ فهو مع قرائنه محمول على الخصوص وهذا يناظر في علة المعلل ما يتقيد بقرينة مخصصة حذرا مما يفرض نقضا واردا على اللفظ العام وقال أيضا متحكما على من أثبت للعموم صيغة التخصيص على رأي هؤلاء هو الاطلاع على قرينة ولو فرضت صيغة عامة في وضعها متجردة عن القرائن اللفظية والحالية لكانت نصا في اقتضاء العموم فإذا ليس للتخصيص معنى إلا ذهاب المخصص عن قرينة مخصصة ثم اطلاعه عليها
976 - والذي ذكره القاضي في إلزام من منع تأخير البيان عن وقت مورد الخطاب لازم كما ذكره وأما الاحتكام على المعممين بأن الصيغة لو قدر ورودها مجردة لكانت نصا ففي كلام الشافعي رحمه الله رمز إلى التزام ذلك والذي نراه رأيا على مذهب المعممين أن اللفظة إن كانت مجردة عن قرائن الحال والمقال فليست نصا في اقتضاء العموم ولكنها ظاهرة والصيغ منقسمة إلى ما يقع نصا في الوضع وإلى ما يقع ظاهرا والصيغة المجردة في العموم من الظواهر فإن من أطلقها في محاوراته ثم زعم أنه لم يرد بها الاستغراق المحقق لم يكن آتيا منكرا ولكن يقدر مؤولا نعم إن اقترنت بالصيغة قرينة لفظية أو حالية
تحسم مواد التأويل والتخصيص فالصيغة إذ ذاك نص لاقترانها بما يلحقها بالمنصوص عليه وقد مضى في ذلك قول شاف في كتاب العموم والخصوص
977 - والجواب إذا عن استمساك هؤلاء بتخصيص العام أن تخصيصه ليس انحرافا عن موجب اللسان واقتضاؤه العموم ليس نصا قاطعا ولو رددنا ( القياس ) لما علمنا بموجب ظاهر مع تعرضه للتأويل فإن العمل المبتوت لا يرتبط بمشكوك فيه أو مظنون والعمل بموجب الظاهر معلوم ولا يترتب العلم على الظن والعمل بالظاهر مستنده إجماع الماضين وهو مقطوع به ثم تبين منهم التأويل والتخصيص عند قيام الأدلة المعارضة لوجه الظن في الظاهر كما تقرر في كتاب التأويل قوانين الكلام فيما يقبل ويرد
978 - وأما المعلل فإنه مستنبط علة مظنونة ومعتمدة في استنباطها ظنه لصلاحها فإذا طرأت مسألة ( قاطعة لها ) مانعة من طردها انبتر ظنه وبطل مستند استنباطه إذ ليست العلة التي استنبطها معولة في نفسها على ظاهر أو تنصيص فلا معنى للتعلق بالعموم على أن ما نحاوله في النفي والإثبات محاولة القطع وتأسيس الأصول والأقيسة لا تجول في مواضع القطع وإنما تجولها في المظنونات
979 - ومما تعلق به من يجوز تخصيص العلة أن قال إذا لم يبعد تخصيص العلة بزمان لم يبعد اختصاصها بمسائل وأراد بذلك أن الشدة المطربة علة في تحريم الخمر ولم تكن علة قبل نزول تحريمها وهذا كلام
ساقط فإن المعاني الظنية في الأقيسة العملية لا تقتضي الأحكام لأعيانها ولكن تتبع في موارد الشرع بها أو بأمثالها وكان الشرع متبعا فيها ويجوز تقدير النسخ عليها والذي نحن فيه من ( فن ) الاستنباط المظنون بعد قرار الشريعة والانتقاض يوهي ظن المستنبط على تحقيق فأين يقع هذا من جواز تبديل الأحكام
980 - ومما تعلق به هؤلاء جواز تخصيص علة الشارع قالوا فإذا لم يمتنع ذلك في علة الشارع والصدق ألزم له فلا يلزم المستنبط ما لم يلزم الشارع وهذا أيضا كلام غث فإن الشارع إذا علق الحكم بعلة لا تناسب صح وإن كان ذلك طردا لو صدر من المستنبط وسيكون لنا كلام في تخصيص علة الشارع في مسألة معقودة إن شاء الله تعالى فهذه عيون كلام الفريقين
981 - والمسلك الذي نختاره أن المستنبط إذا نصب علة فورد على مناقضة طردها نقض فإن كان ينقدح من جهة المعنى فرق بين ما يرد نقضا وبين ما نصبه المعلل علة له فإن علته تبطل بورود النقض والسبب فيه أنه إذا نظم فرقا بين ما ألزم وبين محل العلة فيصير ما عكسه في محل العلة قيدا لما أطلقه علة ويتبين بهذا أنه ذكر في الأبتداء بعض العلة وأظهر أنه علة مستقلة فإذا أراد التقييد وانتظمت له علة ( مقيدة ) فالعلة الآن سليمة ولكنه منقطع من جهة ادعائه في أول الأمر وابتدائه أن ما جاء به دليل مستقل ( و ) لو لم يصرح بكونه دليلا تاما فالحالة المعهودة بين النظار قرينة مصرحة ( بذلك ) فإنه يسأل أولا عن الحكم فإذا أبان مذهبه ( فيه ) طولب بالدليل عليه فإذا ذكر كلاما في أسعاف السائل المطالب
بالدليل وقطعه وسكت على منقطعه كان ذلك مشعرا بادعائه أن ما جاء به كلام تام ولو جلس الناس يشتورون باحثين فذكر ذاكرا معنى وسبره وخبره فلم يطرد فقيده تقيدا فقهيا كان كذلك له إذ هو في مهلة النظر ومحاولة استتمام الاجتهاد فهذا حقيقة القول في ذلك
982 - ولو اعترضت مسألة على العلة نقضا وكان لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة فإن لم يكن الحكم فيها معللا مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمى غير أن المعلل استثناها بمذهبه فعلته تبطل فإنه مناقض لها وتارك للوفاء بحق العلة فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع قصده
983 - وإن طرأت مسألة إجتماعية وكان لا ينقدح بينها وبين العلة فرق فهذا موضع الأناة والاتئاد فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علة المعلل معللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلةالجريان وعارضها بفقه وهي آكد في اقتضاء بطلان علة المعلل من المعارضة كما سيأتى فإن المعارضة لا تهجم على الطرد بالقطع بل يستقى حكمها من أصل آخر لا ينقض طرد العلة بل يصطدم موجب العلة على التناقض في محل البحث فإذا كانت المعارضة وهي على هذه الصفة ناقضة فالتي ترد مناقضة وقاطعة للطرد أولى بالإبطال
984 - وإن طرأت المسألة قاطعة للطرد ولم ينقدح فرق وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقهية ( فهذا ) موضع التوقف
985 - وقد ذكر القاضي على الجملة ترددا في أن القول ببطلان العلة بما يقطع طردها من القطعيات أو من المجتهدات حتى يقال كل مجتهد فيه مصيب أو مؤاخذ بحكم اجتهاده والذي أراه في ذلك أن الصور التي قدمناها قواطع ومبطلات قطعا وإنما النظر والتوقف في المسألة المانعة من الطرد التي لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة ولا يتأتى في تعليل حكمها على المناقضة معنى وكانت تلك المسألة مما يقال فيها إنها لا يعقل معناها فإذا تصورت ( المسألة بهذه الصورة انقسم القول فيها عندي أيضا فإن كان حل العلة من المسألة اللازمة واقعة ( موقع ) ما يكون في معناه علما وقطعا فالعلة تبطل أيضا من جهة أن التحاق ما في معناها ( بها معلوم ) وأصل وضع العلة مظنون ولا يعارض ظن ( علما ) وإن لم يكن محل العلة منها بهذه المثابة وإنما جرت تلك المسألة شاذة فعند ذلك قد يظن الظان أنها تقطع العلة وتنقضها من جهة أن المستنبط إذا عثر عليها وهى ظنه في نصب ما ظنه علة إذا وجد في الأصل الشرع ما يخالف ذلك ويجوز أن ينقدح له ما عينه علة مناط الحكم إلا أن يمنعه استثناء شرعي لا يعقل معناه
986 - والقاضي إنما تردد في هذه الصورة وهي لعمري موضع التردد والذي نراه فيها أن ورودها لا يقطع العلة إذا كانت العلة ( فقهية ) مناسبة وإنما يلزم المعلل إجراء المعنى ما استمكن منه
والدليل عليه أنا نجد في الشريعة عللا فقهية متفقا عليها في الصحة وقد طرأ عليها استثناء الشرع في مواقع لا تعلل وهذا كجريان العلة في اختصاص كل متلف أو متعد أو ملتزم بالضمان ولا أحد ينكر جريان هذا المعنى في الشرع مع العلم بأن العاقلة تحمل العقل وحملها له خارج ( عن القاعدة ) فإذا وجد أمثال ذلك ( في ) قاعدة الشريعة بنينا عليه طرد المعنى الفقهي المناسب ولم نكع عن التمسك به لورود شيء لم يعلل وأنا فيما ذكرته على قطع فإن معتمدنا فيما نأتي ( ونذر ) ونقبل ونرد من طريق العلل الاتباع للإجماع وقد علمنا قطعا جريان هذه العلل ( في الكليات ) وإن استثنى الشارع منها ما استثنى فمنكر هذه المعاني وقد تأيدت باللإجماع كمنكر أصل القياس والسر في ذلك أن مالا يعقل معناه في مستثنى الشارع والمستثنى لا يقاس عليه وكأنه منقطع عن كثر الشريعة ولا يعتبر شئ منه ولا يعترض به على شئ فهذا سبيل إجرائها فإن كان ينقدح فيها معنى على حال فهو ملتحق بالإقسام المبطلة التي تقدم ذكرها فهذا بيان الأصل ونحن نضرب أمثالا وننزل عليها تحقيق ما نبغيه نفيا وإثباتا
987 - فنقول إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة لمختص بسببها و ( مقتضيها ) طردناها غير ملتزمين بتحميل العاقلة على قطع وتحملهم لا
يعترض على ما تمهد من المعنى فلو ظن ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى يصلح على السبر مأخوذ في المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا 0 من ) القتل الواقع خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة في الشريعة إنما تجب إذا كان المعان معسرا وعلى هذا نظمت أبواب النفقات ( والكفارات ) فالقاتل خطا يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس لمثل هذه التخييلات اعتبار
988 - وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات التي تتشابه أجزاؤها فألزمنا عليها إيجاب رسول الله صلى الله عليه و سلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتفل بهذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا أن اللبن ( المحتلب ) في أيام ابتلاء الغزارة والبكاءة يقع مجهول القدر فرأى الشافعي رضي الله عنه فيما ورد الشارع فيما يقل ويكثر إثبات مقدر من جنس درءا للنزاع فإن هذا لا جريان له أصلا ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم فيه وإن أمثال هذه المعاني البعيدة إنما تثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنها لو كانت كذلك أيضا لكانت من المعاني الكلية التي لا تتخلص في مسالك العرض على السبر ثم تعيين جنس التمر كيف يهتدى إلى تعليله وإنما المطلوب فيما فرضنا الكلام في الجنس المعدول إليه لا في المقدار فإن
ما ذكر من دوام النزاع يقدر انقطاعه بتقدير مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الأمثال فاطرد إذا ما ذكرناه واستبان أن أمثال هذه المستثنيات لا تعترض على القياس المعنوي
989 - ومما يضرب مثلا الكتابة الفاسدة فإذا قال الشافعي الملك لا ينتقل إلا بمسلك شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة غير واقع الموقع المطلوب في الشريعة فلا وقوع له في مقصود العقد الصحيح كان ذلك كلاما بالغا حسنا فإن ألزم ( الخصم ) عليه الكتابة الفاسدة فإنها في تحصيل مقصود الكتابة نازلة منزلة الكتابة الصحيحة والوجه أن يقال للملزم أتعترف بخروج الكتابة الفاسدة عن قاعدة المعاني أو تدعي جريان المعنى فيها فان ادعى جريان المعنى ( فيها ) فلا يفي بإظهاره إذ ليس في يدي من يتمسك بالكتابة الفاسدة إلا تشبيه محض ولا يستقل معنى بصحيحه السبر في إحلال الكتابة الفاسدة محل الكتابة الصحيحة فإن قال الملزم ليس على المناقض أن يبدي جامعا معنويا بين صورة النقض وبين محل علة الخصم فتكليفكم إيانا إبداء معنى التكليف شطط فإن النقض يلزم من جهة قطعة طرد العلة لا من جهة انتظام رابط بينه وبين محل النزاع وهذه مزلة يجب التثبت عندها فإنا نقول للخصم ما رأيك في علة يطردها الطارد ومضمونها ألا تزر وازرة وزر
أخرى فهل تبطل عندك بتحمل العاقلة العقل فإن سبق إلى مذهب ( من ) يبطل العلة بورود مثل ذلك عليه بطل عليها مذهبه بما تقدم ونسب إلى رد باب عظيم من العلل المتفق على صحتها فإن الأمة قاطبة مجمعون على طرد هذه العلة ( مع أعترافهم بما شذ منها ولا يحكمون على هذه العلة في هذه القاعدة الكلية بالفساد لشذوذ مسألة عن القاعدة ورأى ذوى الأبصار ألا يحكموا بالشاذ على الكل ولكنهم لا يتركون الشاذ على شذوذه ويعدونها كالخارج عن المنهاج
990 - وإن قال الملزم أسلم أن ما ذكرتموه لا يبطل بتحمل العاقلة قلنا لهم والكتابة الفاسدة عندنا بهذه المثابة وآية ذلك أن معناها الجلي يجري في الكتابة الفاسدة وإن فسد عوضها فليس يفسد معنى تعليق العتق فيها وهذا يشير إلى فرق قلنا ما ذكرته خارج عن الطريقة فإنه إيماء إلى وجه من الصحة لو استمر القول فيه والذي نحاوله ألا يثبت للفاسد حكم أثبت للصحيح لجلب مسألة
991 - وإن قال الخصم خذوا الكتابة في منزلة المناقضة شبها فإن الشبة في الأقيسة صحيح مع افتقارها إلى الجوامع فلأن يلزم مسلك الشبه نقضا أولى وليس على الناقض جمع قلنا هذا أوان كشف الغطاء في هذه المحال فنقول لا مشابهة بين صحيح الكتابة وصحيح البيع فإذا لم يتشابها في منزلة الصحة فكيف يتشابهان في الفساد وإن ( قنع ) الملزم بلفظ يجمع البابين ألزم على مقصوده إيراد تحمل العاقلة على أبواب الغرامات
فلاح بما تمهد أنه لا متمسك للخصم بالكتابة الفاسدة على وجه لا على سبيل التعليل ولا على سبيل المناقضة
992 - ومن أمثلة هذا الفصل الاكتفاء بالخرص على من يدعونا إلى التقدير بالكيل أو الوزن الضابطين فالأصل الضبط بالممكن في كل جنس ولكن الخرص أثبته الشرع لحاجة في قضية مخصوصة فهو من المستثنيات ولكن قد ينقدح في هذا المحال أن الوزن أضبط من الكيل ثم الكيل متعين في بعض الأشياء مع أمكان الوزن فالخرص في محل الحاجة كالكيل في المكيل ( بالأضافة إلى الوزن ) فلا يتضح خروج الخرص بالكلية عن القانون حسب أتضاح خروج تحمل العاقلة والكتابة الفاسدة والسبب في ذلك ما جاء ( به ) من المعنى من شوائب التعبد في تعين الكيل مع إمكان الوزن ولكن وإن كان الأمر كذلك فالأصل الرجوع إلى العرف فيما يعد تقديرا فالخرص معدود من الحدس والتخمين المجانب لمدارك اليقين وعلى الجملة بين الداعى إلى التقدير وبين ملزم الخرص تجاذب وتداور من مثل ما ذكرناه والوجه درء الخرص بالمسلك الذي ذكرناه كما تقدم
993 - فإن علل معلل في قطع الخيار عند ظن ( صفة في العبد المبيع ) من غير تصريح والكلام مفروض في ظهور مخايل وأمارات مشعرة بالصفة المطلوبة فثبوت الخيار عند التصرية إذا قال به المعلل ( ينقض تعليله ) فإن إشعار التصرية بإبداء
غزارة اللبن واضح وليس ببعيد عن مسلك المعنى تعليل الخيار فيه وإذا لم ينقض تعليله ببعد التعليل ( على ) حال لزم ما يجري التعليل فيه نقضا فآل مآل الكلام إلى أن ما يورد نقضا إن كان لا ينقدح فيه وجه سديد على جلاء أو خفاء في المعنى فقد استمسك المعلل بالمعنى ولا مبالاة بما وقع مستثنى عن المسلك الذي ارتضيناه فإن كان يثبت فيه معنى وإن خفي وبلغ خفاؤه مبلغا لو عورضت علته بعلة في رتبة علة المعلل لكانت رتبة علة المعلل مرجحة فالالتباس بين الرتبتين لا ينتهض دارئا للنقض ولا احتفال بتخيل معنى ( كلي ) يظنه الظان على بعد كالمعاونة في تحمل العقل وسبيل تداينه من الكتابة الفاسدة فهذه مجامع الكلام في ذلك
994 - وقد رسم القاضي رحمه الله مسألة في أن الحكم ببطلان العلة عند ورود النقص وصحتها قطعي أو ظني وقد ظهر ميله إلى إلحاق ذلك بالظنيات وقد ذكرنا فيما تقدم أن القاضي إنما وقف إذ كان النقض لا يعلل وقد بينا في التفصيل الذي انتجز الآن مدرك الحق وهو مقطوع به عندنا فليتبع الناظر تأمله وليستعن بالله تعالى مسألة
995 - اختلفت مذاهب الأصوليين في أن علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف طردها
فذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع في علة الشارع من جهة أن قوله متبع في تخصيصه وتعميمه و لا معترض عليه إذا خصص علة بمحل ولم يعملها في غير ما نص عليه والمستنبط معتمدة ظنه وإذا تقاعد المستنبط عن الجريان ضعف مسلك ظنه وليس له أن يحتكم بتخصيص العلة
996 - وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن علة الشارع يجب طردها كما يجب في العلة المستنبطة
997 - وهذه المسألة عندنا قريبة المأخذ نزرة الفائدة ليس فيها جدوى من طريق المعنى والوجه فيها أن ما نصبه الشارع على صيغة العلة إن لم يكن نصا في كونه علة بل كان ظاهرا في هذا الغرض فإذا ورد عليه ما يمنع جريان العلة فيظهر منه أن الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك منه في مقتضى لفظه وتخصيص الظواهر ليس بدعا
وأن نص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل تصدى في ذلك نوع آخر من النظر وهو أن ما نصبه علة إن عم نصبه على صفة لا يتطرق إليها تخصيص ببعص الصور التي تطرد العلة فيها فلا مطمع في اعتراض ما يخالف طرد العلة وقد ثبت والأمر على ما صورناه على القطع أمران
أحدهما انتصاب المعنى المذكور علة والآخر جريانه على اطراد من غير اعتراض مخالف ونص الشارع لا يصادم
وإن نص الشارع على نصب شيء على الجملة ونص على تخصيصه في كونه علة بمسائل معدودة ومواقع محدودة فليس يمتنع ذلك على هذا الوجه فإن علل الأحكام لا تقتضيها لذواتها وأعيانها وإنما تصير أعلاما عليها إذا نصبت ثم إذا نصبها الشارع في محال على الخصوص دون غيرها فلا معترض عليه في تنصيصه وتخصيصه ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم يجر في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يؤول ولا تنصيص على التخصيص بمواقع مخصوصة فحكم هذا اللفظ الإجراء على العموم ولكن لا يمنع قيام دليل على تخصيص العلة ببعض الصور
998 - فأما ما ذكرنا أن للشارع أن يصرح بالتخصيص ولا يكون في تصريحه بالتخصيص تناقض مع التنصيص على التعليل في موقع الخصوص فإذا كان لا يمتنع التصريح ( بهذا وليس في اللفظ ما يأباه إباء النصوص وليس يمتنع إزالة الظواهر ) فيخرج من مجموع ذلك أنه لا يمتنع تخصيص العلة ببعض المسائل
999 - والأستاذ أبو إسحاق يمنع النص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل مع تجويز التخصيص ويقول إن تعرض اللفظ لقبول الخصوص في جريانه لزم أن يكون في وضعه متعرضا للحمل على غير قصد التعليل ولو كان نصا في قصد التعليل فهو نص في قصد التعميم إذ لو لم يكن كذلك لكان خروجه عن حكم العلة في بعض المسائل متضمنا خروجه عن حقيقة العلة في أصل الوضع وذلك يخالف موجب التنصيص على كونه علة وهذا الذي ذكره يعترض عليه التنصيص على النصب مع التنصيص على
التخصيص ببعض المسائل فإن ذلك سائغ في الوضع ولو كان التخصيص ببعض المحال مخرجا للمنصوب عن كونه علما لكان الجمع بين التنصيص على النصب والتخصيص متناقضا وفي كلام الأستاذ تشبيب بمنع هذا وهو في مجاري كلامه جسور هجوم على منع ما لا سبيل إلى منعه فإن قدر منه القول بهذا رد الكلام معه إلى ما تقدم ذكره من كون هذا غير ممتنع من جهة أن أعلام الأحكام لا تقتضيها لأعيانها وإنما معنى كونها عللا أنها أعلام تنتصب بنصب الشارع وإذا كان كذلك ( فلا معترض ) على من ينصب علما في تعميمه وتخصيصه ولذلك لا يمتنع أن ينصب الشارع علما مثله متى طرده ولم يتضمن إشعارا ولا شبها مقبولا
1000 - فهذا منتهى القول في هذا الفصل وعلى الجملة تخصيص المستنبط علة ينفصل عن تخصيص الشارع فإنه ليس للمستنبط وضع العلل على اختياره وإنما له النظر إلى درك ما يتخيله موضوعا بمسلك الظنون وإذا لم تجر العلة عامة فقد وهى ظنه على ما فصلنا القول في ذلك كما نفصل القول فيه قبل أن بينا المختار فيما يجوز ويمتنع
فصل ( في ) توابع القول في النقض جدلى يعين على مدرك المقصود المعنوي
1001 - فإذا نصب الناصب علما مستنبطا وذكر لفظا مقتضاه العموم فطرا نقص فقال أخصص لفظي بغير المسألة الواردة نقضا فإن ( تقييد ) اللفظ إلى فكيف السبيل إلى ذلك والقول في هذا يتصل الآن بتفسير العلم وما يقبل منه وما لا يقبل وأما التخصيص فيترتب الأمر فيه على ما يسوغ ويمتنع من طريق المعنى أولا فإن خصص تخصيصا يمنعه فهو غير مقبول منه وقد ( ذكرنا ) في تفصيل المعنى المقصود من هذا الفصل ما يبطل العلة من ( النقوض ) وإن كان ذكر تخصيصا لو صرح به لم يمتنع مثل أن تكون المسألة الواردة غير معللة وقد تقرر أن ما لا يعلل في حكم المستثنى فإذا أطلق المعلل ( لفظه ) عاما ثم لما ورد عليه مثل ما وصفناه الآن حاول تخصيص ( عموم لفظه فهذا الآن تعلق بالجدل فإن المسألة الواردة ليست مبطلة من طريق ) المعنى فقال قائلون من الجدليين إطلاقه لفظه إشارة في بناء الكلام منه فإنه معمم للكلام ملتزم طردا فإذا وردت المسألة بإزائه لم يف بما التزمه
1002 - ونحن نقول الأحسن أن يشير إلى ما يرد تصريحا وتلويحا مثل أن يقول هذه علة ما لم يستثن الشارع فإن لم يتعرض لهذا فلا معاب فإن
العلل إنما يلتزم المستنبط طردها إذا لم يحتكم الشارع في استخراج بعض المسائل فليس على من يطرد علة في الغرم على المتلف أو علة في نفي الغرم على من لم يتلف التعرض للعاقلة وحملها وهذا يظهر في الذي طرأ استثناؤه والقول في ذلك كله قريب من المعنى واعتقاد كون الوارد غير خارج
1003 - ومما يتعلق بالتفسير أن المعلل إذا ذكر لفظة مجملة ثم استفسر السائل ففسرها فقد اختلف الجدليون في ذلك فجوزه بعضهم وامتنع منه المحققون فإن الغرض من المناظرة التفاوض بما يعلم ويفهم ومن ذكر لفظا مجملا وسكت عنه فحاله مشعر بإسعافه على قطع السائل الطالب بالدليل ومن حكم إسعافه إياه أن ( يفهمه ) ما طلبه وإذا لم يفهمه فقد أظهر أنه مسعف والأمر على خلاف ما أظهر فإن ذكر لفظا مفهوما في وضعه واستراب السائل فيه واستفسر فالذي يأتي به المجيب من إرشاد وهداية ليس تفسيرا وإنما هو تنبيه للسائل على قصوره عن درك ما هو مفهوم في وضعه ويخرج من جملة ذلك أنه ليس على المعلل تفسير فيما ذكرناه فإن أتى بمجمل فقد قصر وعد ذلك من سوء الإيراد وإن لم يكن منقطعا في المعنى فإن أتى بلفظ مستقل مفهوم في وضع اللسان فلا حاجة إلى التفسير والذي نذكره عند ( الاستبهام ) على السائل سبر تقصير لا سبر تفسير وقد ( نجز القول ) في النقض وهو في التحقيق تخلف الحكم مع وجود العلة المدعاة
ونحن نبتدىء الآن القول في تخلف العلة مع جريان الحكم ( الخامس من الاعتراضات )
1004 - وهو الاعتراض المترجم بعدم التأثير ونحن نجري في رسم هذا الفن على مسالك الأولين وتقسيمهم ثم نذكر بعد نقل مراسمهم وجه التحقيق إن شاء الله تعالى
1005 - قال أصحاب الجدل عدم التأثير ينقسم إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها ( فأما ) الواقع في ( الوصف ) فهو عدم الانعكاس وقد سبق في ذلك قول بين بالغ يطلع على الأسرار والنهايات ونحن نذكر الآن ما يليق بهذا المقام ولا نغادر مضطربا معنويا ولا جدليا فنقول العلة ( المعنوية ) إذا اطردت فإنها كما تشعر بالحكم في إطرادها فقد يشعر عدمها بعدم الحكم ( على حال ) ولكن لا يبلغ ( إشعار ) العدم بانتفاء الحكم ( مبلغ ) إشعار الوجود بالوجود وسبب ذلك أنه لا يمتنع في وضع المعاني ارتباط حكم بعلل تجويزا وإن كنا ادعينا فيما تقدم أن ذلك غير واقع وأن ما ظنه الخائضون في هذا الفن حكما معللا بعلل في التحقيق أحكام
وهو كقولهم تحريم المحرمة الصائمة المعتدة الحائض معلل بهذه العلل المزدحمة وقد ذكرنا أن كل قضية من هذه القضايا توجب حكما مغايرا لحكم القضية فلا يعدم الأنيس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف وقد يظن الظان ( في هذا المقام ) أن المسئول إذا فرض الكلام في طرف من أطراف المسألة لغرض وإيضاح كلام فصورة الغرض تختص بعلة وتشبهها مع سائر الأطراف علة عامة وإذا كان كذلك فقد علل الحكم في هذا الطرف بعلة خاصة هي مقصود الفارض وعلة عامة وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر
1006 - وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الغرض فأقول إذا قدم الغاصب الطعام ( المغصوب ) إلى إنسان مضيفا فأكله المضاف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المقدم ومعتمد هذا القول تقدير التغرير وكون ( الغرور ) مناطا للضمان وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا ( موجرا ) كما إذا كان مختارا في التناول فإذا فرض الفارض الكلام في صورة ( الإكراه ) فهذه الصورة لا يجرى فيها
عموم التعليل بالتغرير إذ الإجبار ينافى الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض الاختيار في المغرور مع استناد اختياره إلى اغتراره فأما المجبر المكره فلا يتصور تصوره مغترا وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى فهذا النوع من الفرض غير معنى من جهة أنه يجانب محل السؤال أولا ( والفرض ) المستحسن هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل وذلك محمول على استشعاره انتشار الكلام في جميع الأطراف وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها فإذا فرض المجيب فيستفيد بالفرض فيه التعريف على قرب ومهما تعرض المجيب للكلام فيما لم يشتمل عليه سؤال السائل لم يكن للكلام وجه إلا البناء إذ له أن يثبت كلاما في غير محل السؤال ثم يبنى عليه محل السؤال وليس ( ذلك ) من الفرض وإنما هو بناء ولست أرى في البناء في المسألة التي فرضناها وجها فإنه إذا ثبت ( أن ) الضمان لا يستقر على المكره فكيف ينبنى عليه عدم القرار على المختار الطاعم ولا معتمد في التقدير على المختار إلا الاغترار وهو مفقود في ( الإجبار ) وشرط البناء جمع فقيه بين ما عليه البناء وبين محل السؤال نعم أساء أبو حنيفة رحمه الله إذ قرر الضمان على من لا اختيار له إساءة لا ارتباط لها بمأخذ الكلام في صورة الغرور
1007 - ونحن نفرض صورة من الفرض المستحسن يتبين بها قصارى المقصود فنقول إذا سأل السائل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعم المعتق المعسر والموسر ( و ) إذا رأى المسئول ( فرض الكلام ) في المعسر فمحمل كلامه يندرج تحت سؤال السائل والفارض يستفيد بالفرض في المعسر أمرين أحدهما دفع أسئلة قد يعتاص الجواب عنها على ( البكى ) الذي لا تطاوعه العبارة فإن من أسئلة الخصم سريان العتق إلى ملك الشريك فإذا كان يسرى سلطانه إلى غير ملك المعتق فقد يبعد عن محل ملكه مع صحة عبارته فإذا وقع الفرض في المعسر فلا يلزم في أطراف الكلام سريان العتق فإن عتق المعسر غير سار على أصل الشافعي فهذه فائدة وأعلى منها أن الخصم قد يتمسك في أطراف الكلام في أن قيمة العبد في فرض المالية نازلة منزلة العبد فليس الراهن المعتق ( مفوتا على المرتهن ) غرضه من الاستيثاق بالمالية فإذا أقام قيمة العبد رهنا مقامه فهو غير معترض على محل حق المرتهن وهذا الفن من الكلام لا حقيقة له إذ ليس هو معنى من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إقامة القيمة مقامه بل سبب نفوذه صحة عبارته
وثبوت ملكه فيستفيد الفارض بفرضه دفع هذا الكلام الواقع فضلة لا أثر لها ( فليكن ) قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك
1008 - والآن نذكر في هذا الفن الغرض الذي استفتحنا القول في الفرض لأجله فنقول يتجه للفارض في المعسر أن يقول استأصل المعتق المعسر لو نفذ عتقه حق المرتهن بكماله مشيرا إلى أنه لا يجد ما يبذله غارما فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية وهنا وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول من منع نفوذ العتق يكتفى بما يقرره بأن نفوذ العتق لو قبل منه أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في عين الرهن فإذا كفى هذا فأي حاجة إلى التعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة يوشك لو تفطن الفارض أنه يقع في المحذور الذي نبهنا عليه الآن وهو النطق بما لا اعتناء به ولا وقع له فإن قال قائل ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة إحداهما قطع المالية بالكلية والثانية قطع حق المرتهن عن العين المخصوصة فيكون امتناع النفوذ معللا بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق عن عين العبد ( فإن ) هذا مما يعم الموسر والمعسر وإنما تتبعنا هذا الكلام مع فوائد جمة لهذا الغرض
1009 - ونحن نقول هذا ليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في حق المرتهن وإنما المعتبر حق استيثاقه بعين يتمسك به إذا اعترض له توقعات العسر
في الذي يقع في الذمم وهو ( يأنس ) مستوثقا بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الرهن وإذا لم يكن الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الرهن ولهذا السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الراهن إتلاف الرهن فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع إثبات الضمان جبرانا لكل فائت فلا ينبغي أن تعد قضايا الشرع في مظان الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول وهذا يناظر عندي مسلكين في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقى العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف أحد العوضين
1010 - وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة في ( الأساليب ) وهذا زلل في سوء مدرك فإن العقد ما انبنى على التوزيع وإنما هو أمر ضروري أحوج إثبات الشفعة إليه وهو إذ ذاك أقرب معتبر
1011 - وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صار إلى أن الراهن إذا كان موسرا نفذ عتقه ويلزمه إحلال القيمة محل العبد وإن كان معسرا لا ينفذ عتقه لتعذر تغريمه وإفضاء الإعتاق فيه لو قدر نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه ( ذلك ) بتفصيل مذهبه في تسرية عتق الشريك إذا كان موسرا ومنع تسريته إذا كان معسرا فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوف إلى اعتبار انقطاع علقة المرتهن من غرض الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من غير الراهن عنده وقع أصلا ولذلك يبعد عتق الموسر الراهن فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة
الفرض
1012 - ومما نجريه مثالا في ذلك أن الشافعي رحمه الله إذا فرض ( من هو على مذهبه ) الكلام في مسألة ضمان المنافع في طرف الإتلاف وطرد ما يرتضيه فيه فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع في هذا الفرض معنيان أحدهما الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك ( اختار ) الفارض ( تعيين هذا ) الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت اليد العادية وهذا أقرب مسلك في تخيل اجتماع معنيين لحكم واحد
1013 - ونحن نقول فيه العلة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإن التلف ( الحاصل ) تحت اليد العادية إنما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد ومنعه الحق مستحقه فصار الضياع الذي وقع مساويا في أطراد منع المعتدى مشبها بالإتلاف فإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال
1014 - وأنا أشبه هذا المساق من الكلام بمسألة أصولية ذكرناها في أوائل هذا المجموع وهي قوله صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فقد ذهب ذاهبون إلى أن الصيغة عامة في نفي الكمال والجواز وهذا زلل فإن العموم إنما يتحقق إذا أمكن اعتقاد اجتماع المسميات تحت قضية اللفظ المقدر
عاما حتى يكون اللفظ شاملا لها وهذا لا يتحقق فيما فيه الكلام فإن الجواز إذا انتفى لم يتحقق مع انتفائه تخيل نفى الكمال إذ من ضرورة نفى الكمال ( إجزاء ) الشيء وجوازه على حكم النقصان وقد قررنا ذلك بما فيه أكمل مقنع
1015 - وقد تبين بمجموع ما ذكرناه في تقاسيم الفرض أنه لا يكاد يجتمع معنيان وقوعا يصلح كل واحد منهما لتعليل الحكم الواحد ولكن إن لم يقع هذا ولم يتفق فليس في العقل عند النظر في قواعد الشرع بالتعبد ما يحيل ذلك ولو قدرنا وقوع هذا المجوز لما اقتضى انتفاؤه معنى عدم الحكم إذ الحكم في هذا التقدير مستقل بما بقى من المعاني فليس إشعار عدم المعنى بانتفاء الحكم على نحو إشعار ثبوت المعنى بثبوت الحكم
1016 - وأقرب مثال فيما نحاوله من الفصل بين الإشعارين أن نقول العلة المفردة المعنوية تناسب الحكم مناسبة الاستقلال بالاقتضاء ولو فرضت علة مركبة من صفات فقهية فلا يناسب وصف واحد من الأوصاف الحكم واقتضاءه مناسبة العلة المفردة المستقلة ولكنه لا يعرى عن مناسبة لائقة بالحكم مستمدة من قضية فقهية الأوصاف فلو قدرنا عللا وقدرنا انتفاء جميعها ولم يرد شرع باطراد الحكم مع انتفاء جميع العلل فإن الحكم ينتفى عند ارتفاض العلل جميعا إذ يستحيل
( تقدير ) بقاء الحكم غير مرتبط بوصف أو علة وإذا زال بعضها كان لزوال البعض أثر في ( النفس ) يضاهي زوال ترجيح وتأكد ونحن لا ننكر اجتماع الترجيحات وزوال وصف واحد من العلة ( المركبة من الأوصاف تتضمن انتفاء الحكم لاختلال العلة ) إذ هي مركبة وشرطها تكامل أوصافها فكان انتفاء الحكم محالا على ( اختلال ) العلة أصلا ولم ( نورد ) الوصف الواحد مثلا ونحن ( نريد أن نشبهه ) في كل الوجوه بآحاد العلل عند ( تقدير ) اجتماعها وإنما أوردناه لانحطاط حظه من الإشعار عن حظ العلة المستقلة عند تكامل الصفات فكل وصف من أوصاف العلة عند توافيها على حظ وكل علة من العلل التي قدرنا اجتماعها إذا انتفت على حظ من اقتضاء الانتفاء فشابه خفاء إشعار انتفاء علة من علل بانتفاء الحكم خفاء إشعار آحاد الصفات عند توافيها بالحكم
1017 - وإذا تقرر ما ذكرناه فنقول بعده إذا طرد المعلل علة فاطردت له وهو يعتقد اتحاد العلة ولو يقم عنده توقيف في ثبوت الحكم عند انتفاء العلة فإنه يعتقد لا محالة انتفاء الحكم عند انتفاء العلة ويلتزم ذلك غير أنه لا يلزمه في مراسم الجدل أن يبدي توقيفا مقتضيا منع الانعكاس إن كانت العلة لا تنعكس
1018 - وهذا يستدعي مزيد كشف الآن فنقول والله المستعان قد ذكرنا ترددا في أن العلة إذا امتنع اطرادها بمسألة غير معللة مستندها توقيف فهل يتضمن ( ذلك ) بطلان العلة وهل يوهى مسلك ظن المستنبط في روم الطرد فمن سبق إلى اعتقاد كون هذا قاطعا للطرد لا يقول إذا قام توقيف مانع من
الانعكاس تضمن ذلك بطلان روم الطرد وذلك الإشعار لا يحط الإشعار بالعكس عن الإشعار بالطرد على أنا ذكرنا أن الطرد لا ينقطع بمواقع الاستثناء أصلا ومن اعتقد انقطاعه فقوله أقرب من قول من يصير إلى عدم الانعكاس متضمن بطلان الطرد فليفهم الناظر ما يلقى إليه من تفاوت المراتب في مآخذ النظر إن كانت مستوية في عقده ولهذا المعنى نقول إذا اعترضت مسألة على مناقضة الطرد غير معللة فعلى المتمسك بالعلة أن يبين خروج المسألة المعترضة عن المعللات والتحاقها بالمستثنيات في أدب الجدل وليس على من ألزم عدم الانعكاس أن يبين السبب التوقيفي المانع من الانعكاس فإن ذلك لو فرض الخوض فيه كان داعية إلى انتشار الكلام والخروج عن الضبط الجدلي وإن كنا نرى أن العلل غير مجتمعة وقوعا وعلى المجتهد فيها أن يبحث عن طرق المناظر في الطرد والعكس وليس كل ما يلتزمه المجتهد في ترددات اجتهاده يذكره في مفاوضة من يناظره
1019 - فإن قيل هل يسوغ أن يضع المستدل كلامه مبنيا على الدعاء إلى العكس قلنا لا يستقل في هذا كلامه المطلق بل يحتاج إلى أن يقرر معناه ويبين فساد ما عداه مما انتحله الخصم وادعاه ثم يشير إلى ( انتفاء ) التوقيف المانع من الوفاء بالعكس فينتظم من مجموع ذلك الدعاء إلى العكس لما ذكرناه من الإشعار ( الخفى ) به وعليه يخرج التعلق بالعلة القاصرة حيث يصح ويظهر بطلان ما يقدر متعديا فيدعو المتمسك بالعلة القاصرة خصمه إلى الوفاء بمقتضى
العكس وسيكون لنا إلى ذلك عودة إن شاء الله تعالى عند الكلام في العلة القاصرة فهذا هو الذي أردنا إيراده في حقائق العكس في هذا المقام وقد يخرج ذلك في الاستدلال أيضا وكل ما ذكرناه معدود عند أصحاب الجدل من عدم التأثير في الوصف ( الكلام عن عدم التأثير في الأصل )
1020 - فأما ما عد من عدم التأثير في الأصل فنحن نمثله ونتكلم عليه فنقول إذا علل الشافعي منع نكاح الأمة الكتابية وقال أمة كافرة فلا يحل لمسلم ( نكاحها ) كالأمة المجوسية ولا أثر للفرق في الأصل ( فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس يستقل بإثارة منع النكاح والرق مستغنى عنه وذكر الرق عديم التأثير في الأصل ) والذي صار إليه المحققون فساد العلة بما ذكرناه وذهب ذاهبون إلى أن التمسك بذلك صحيح من جهة أن للرق أثرا على الجملة في المنع فذكره مع التمجس ليس عريا عن إشعار وإن كان لا يحتاج إليه وزعم هؤلاء أن هذه الزيادة مع ما فيها من الإشعار بالمنع على خفاء مشبهة بشهادة شاهد ثالث وقد استقلت الحكومة بشهادة عدلين وهذا غير سديد فإن الرق في الأصل ليس علة ولا وصفا لعلة فوقع التعرض له لغوا ولا حكم له لما فيه من الإشعار على بعد إذ كان لا ينتهض علة ولا ركنا
لعلة وليس هذا كما استشهد به من يصحح ذلك في شهادة الشاهد الثالث فإن ذلك استظهار في الحكومة والشاهد الثالث متهيء لأن يقدر أحد الشاهدين الواقعين ركنا ولا يتصور أن يقع الرق المجرد ركنا في محاولة التحريم على التعميم فقد نأى ما نحن فيه عما استشهد به من تقدم وتعين القول قطعا من سقوط العلة
1021 - وما ذكرناه فيه إذا كان للوصف أثر على بعد في أصل الحكم المطلوب وإن كان لا يؤثر في تفصيله فأما إذا كان الوصف الزائد غير محتاج إليه ولم يكن معه إشعار نظر فإن لم يكن في ذكره غرض فهذا لغو لا وقع له ولا يقضى بأنه يبطل العلة إذا كانت مستقلة مع حذف الزيادة ولكن ينسب ذاكرها إلى الهذر وذكر ما لا يحتاج إليه وهذا في مراسم الجدل كترك السنن والهيئات في العبادات ولو كانت العلة تنتقض لو قدر حذف الزيادة والزيادة لا إشعار لها فهي عند المحققين منحذفة غير عاصمة من النقض وذهب القائلون بالطرد إلى قبول هذا ورأوا ذلك أولى من الطرد المجرد من حيث انطوت العلة على فقه على حال ووجه ولصاحب هذه الزيادة درء النقض
1022 - ونحن نقول إن كان النقض ينفصل عن محل العلة فذاكر العلة غير آت بتمام العلة ولا يقع الانفصال بالزيادة التي أثبتها والعلة باطلة وإن كانت المسألة المعترضة ( غير معللة فلا ضير في ذكر الزيادة فإنها منبهة على كون المسألة المعترضة ) ملتحقة باستثناء الشارع وقد جرى التنبيه على ذلك
وتقدم فهذا تمام القول فيما أردناه
1023 - وعلينا الآن فضل كلام في فصل الأصحاب بين عدم التأثير في الوصف ( وعدم ) التأثير في الأصل فنقول عد الجدليون عدم التأثير في الوصف قولا في العكس كما تفصل وفسروا عدم التأثير في الأصل بذكر صفة لا تستقل علة وعلة الأصل تستقل دونها والذي نراه أن القسمين ينشآن من الأصل فإن فرض الأصل معللا بعلل ( فالعلة ) الواحدة لا يتضمن انتفاؤها انتفاء الحكم وهذا منشؤه من تعدد العلة في الأصل وإن اتحدت العلة جر ذلك الانعكاس والقول في ذلك كما مضى فوضح أن تقسيم الكلام إلى الأصل والوصف لا حاصل له
1024 - ونحن الآن نسرد في بسط المقالات كلاما مجموعا في الخلاف والوفاق حتى يجدها الناظر مجموعة فقد أطلنا ( التقرير ) بعض الإطالة فنقول ذهب شرذمة إلى اشتراط الانعكاس جملة وهذا مذهب مهجور وعلى قلة البصيرة محمول ولست أعدها مقالة معتدا بها فأما التزام الانعكاس مع اتحاد العلة وانتفاء توقيف مانع منه فلا بد
منه عندنا وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يلزم لأن إشعار النفي كالمنفى والمقصود طرد خفي لا استقلال له والإنصاف في ذلك أن يقال إنه لا يلزم في الاجتهاد والمطالبة به لا تحسن في الجدل والمعلل إذا ألزم فله الاكتفاء برد الأمر إلى إبهام في المانع من العكس فهذا بيان المقالات في العكس
1025 - فأما ما به قوة عدم التأثير في الأصل فينقسم إلى مخيل وإلى ما لا يخيل فأما الصفة المشعرة إذا كانت علة الأصل يستقل دونها الحكم وهي لا تستقل علة فالوجه القطع ببطلانها ومن الجدليين من لم يبطلها وإن لم تكن مناسبة ( ولا ) حاجة فهي من اللغو كما مضى وإن رام المعلل بها دفع نقض فهذا على ما تقدم شرحه فمن الناس من قبله والمختار عندنا أن النقض إن كان فقهيا لم تغن هذه الصفة والوجه ذكر الفقه الفاصل بين ما اعترض به وبين محل العلة وإن كان الغرض من ذكرها التنبيه على مسألة غير معللة فهذا مستحسن ولكنه لا يلزم الذكر في الرأي الواضح فهذه مجامع المذاهب وقد نجز بنجازها القول في عدم التأثير و ( الخامس ) من الاعتراضات فساد الوضع
1026 - وهو على أنحاء وأقسام ( وحاصل ) القول فيه يحصره نوعان أحدهما أن يبين المعترض أن القياس موضوع على خلاف ما يقتضيه ترتيب الأدلة وهذا يشمل فنونا وقد تقدم القول فيها أحدها أن يكون على مخالفة الكتاب والآخر أن يكون على مخالفة السنة والكتاب والسنة مقدمان على قياس المستنبط وكذلك القول في الخبر الذي ينقله الآحاد على الصحة المألوفة في أمثالها فخبر الواحد مقدم كما تقدم ذكره ومن هذا الفن محاولة الجمع بالقياس بين شيئين فرق بينهما الخبر أو محاولة الفرق بين شيئين اقتضى الخبر الجمع بينهما ولا معنى لتعديد وجوه المخالفات فإنها ترتبط بالتزام عد مقتضيات الشرع ولا معنى للإسهاب بعدها ويكفى فيما نرومه أن القياس إذا خالف وضعه موجب متمسك في الشرع هو مقدم على القياس والقياس مردود فاسد الوضع ( فهذا أحد النوعين )
1027 - والنوع الثاني أن يقع المعنى الذي ربط القايس الحكم به مشعرا بنقيض قصد القايس وهذا بالغ في إفساد القياس وهو زائد على إفساد القياس على الطرد وقد قدمنا أن الطرد إنما يرد من جهة أنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به ( فالذي لا يشعر به ) بل يشعر بخلافه ( أولى ) أن يرد وهذا كذكر سبب يشعر بالتغليظ في روم تخفيف أو على العكس من ذلك
مسألة
1028 - إذا اعتبر القايس القصاص بالدية في الثبوت على الشركاء حيث يبغى ذلك أو اعتبر الدية بالقصاص في السقوط حين يلتمسه أو قاس الحد على المهر ( في طلب الثبوت أو المهر على الحد ) في محاولة السقوط فقد أطلق طوائف من الجدليين أقوالهم بفساد القياس صائرين إلى أن العقوبات تدرأ بالشبهات وأروش الجنايات تثبت الشبهات فاعتبار أحد البابين بالآخر فاسد الوضع
1029 - وسنبين القياس الصحيح باعتبار ما يسقط بالشبهة ( بما ) لا يسقط بها أو على العكس وهذا أطلقه حذاق في كتبهم وليس الأمر عندي كذلك على الإطلاق فإن المهر وإن كان قد يجب مع الشبهة فلا يقضى الشرع بثبوته أبدا ولكنه قد يسقط في بعض الأحوال ( وكذلك القصاص ) فإن كان يتعرض للسقوط بالشبهة فلا شك أنه ( يجب ) في بعض الأحوال فإذا تعرض القايس لحالة يقتضى حكم الإخالة فيها اجتماع القصاص والدية في السقوط واجتماعهما في الثبوت فقد تعرض جاريا لتبيين الرشاد والسداد وليس يلتزم القايس في التفصيل قياس باب القصاص على باب الدية فلو حاول ذلك لكان مبطلا فتحصل من مجموع ذلك أن المتبع في هذا أن اعتبار الباب بالباب مع افراقهما في أصل الوضع محال متناقض لما عليه وضع الشرع
وذلك إذا التزم الجامع أن يجب القصاص حيث تجب الدية أو تسقط الدية حيث يسقط القصاص
1030 - فأما إذا كان القياس جزئيا ناصا على بعض الصور فينظر في الجامع فإن أخال وصح على الطرد حكم بصحته وإن لم يخل أو صادف صورة يقتضى وضع الباب مفارقة أحدهما الثاني في صورة الجمع فالقياس فاسد في وضعه وعلى هذا النسق لا يطلق القول ببطلان قياس الرخص على الوظائف الثابتة ولا ننكر أيضا عكس ذلك
1031 - والغرض من مضمون هذه المسألة أن افتراق البابين على الجملة فيما نحن فيه ليس يوجب افتراقهما أبدا بل إن أطلق ذلك فالمراد به الافتراق في خصوص أحكام في صورة معينة فليجتنب الجامع في جمعه محل افتراق البابين وليلزم مع هذا الاجتناب شرائط الأقيسة فهذا الرشد والمسلك القصد و ( السادس ) من الاعتراضات القلب
1032 - وهو ينقسم إلى قلب فيه التصريح بالحكم وإلى قلب وضعه إبهام الغرض فأما القلب الصريح فقد مثله أهل هذا الشأن ( بأن ) الشافعي إذا قال عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر الفرض فيه بالربع قياسا على سائر الأعضاء فيقول الحنفي عضو من أعضاء الطهارة فلا يكتفي فيه بما ينطلق عليه الاسم قياسا على سائر الأعضاء وهو مما ظهر فيه الاختلاف
1033 - فذهب ذاهبون إلى رده وتمسكوا بأن ما جاء به القالب ليس مناقضا لمقصود المعلل ومقصود المعلل نفى التقدير بالربع وضده أن يتقدر بالربع فلا يستمكن القالب من ذلك أبدا فإن أصل المعلل والقالب واحد ولا يتصور أن يشهد أصل واحد على التصريح بنقيضين وإن فرض إجزاء ذلك فالأصل يشهد لأحد الوجهين دون الثاني فالقلب إذا حائد عن مقصد المعلل ومحل العلة وهو في حكم معارضة في غير محل التعليل والمعارضة إذا لم تجر على المناقضة المحققة بموجب العلة فهي غير قادحة لوقوعها مجانبة لمقصود العلة
1034 - ومن قال إن القلب قادح استدل بأن العلة وقلبها في الصورة التي ذكرناها مشتملان على حكمين لا سبيل إلى الجمع بينهما فإن من يكتفي بالاسم لا يقدر ومن يقدر لا يكتفي بالاسم فإذا كان كذلك فقد تحقق اشتمال العلة والقلب على أمرين لا يتأتى التزام جمعهما على الموافقة فكان ذلك كالتصريح بالمناقضة
1035 - ثم للقلب عند القائل به مرتبة على المعارضة من جهة أن العلتين المتعارضتين تعتزى كل واحدة منهما إلى أصل لا يشهد للعلة الأخرى والأصل متحد في العلة وقلبها ( فكان ذلك أبين ) في التناقض ومن أسرار هذا أن القالب لا يأتي بالقلب وهو يجوز كونه متعلقا بما يريده ولو كان رام ذلك لكانت العلة قلبا لما يبغيه فإن كان القلب قادحا من جهة كونه قلبا فعلة الخصم قلب القلب فإذا وضع القالب على الإبطال وهو في حكم معارضة الفاسد بالفاسد وإبانة عدم شهادة الأصل على المراد فالعلة إذا عورضت بأخرى فلا يمتنع ارتباط الحكم بإحداهما للترجيح كما سيأتي مفصلا إن شاء الله تعالى
فهذا مغزى قول الفريقين
1036 - ونحن نقول ما وقع الاستشهاد به في حكم مسح الرأس باطل ( لا ) من جهة القلب ولكن من جهة جريان الكلام من الجانبين طردا فإن إطلاق اسم العضو لا يشعر بمقصود المعلل ولا مقصود القالب فخرج الكلامان عن رتبة الإشعار ووقعا طردين فإن قيل إن لم ( يستد ) القياس المعنوي فهلا قدر أحد الكلامين شبها وهلا قدرا شبهين متعارضين قلنا ما نرى الأمر كذلك فإن أعضاء الوضوء غير متشابهة لا في أقدار محل الفرض ولا في كيفية تأدية الفرض إذ بعضها مستوعب وبعضها غير مستوعب وبعضها مغسول وبعضها ممسوح فإذا قال القائل عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر فرضه بالربع فليس الذي جاء به من الشبه في شيء إذ ليس في عضو من الأعضاء ما ينافى تقديرا وإنما لها أوضاع في الشرع وفاقية وهي في وضع الشرع على التقارب فمن يبغى شبها في التسوية في نفي أو إثبات فليس كلامه واقعا في مظنة التشبيه فإن عاود معاود بأن الأعضاء الثلاثة التي هي أصل القياس متساوية في عدم التقدير بالربع والمطلوب التشبيه في هذه الخصلة قيل له هي وإن لم تتقدر ففرضها
مختلف الأقدار في وضعها فلم يتأصل فيها شبه في ثبوت ولا نفى وما ( يتخيله ) القائل على بعد يصادمه ما تقرر من وقوع فرائضها على التفاوت في الشرع والمتمسك بما لم يقع في جميعها لا حاصل له إذ لم يقع في الوجه واليدين ما وقع في الرجلين ولم يقع في الرجلين ما وقع في الوجه واليدين لما ذكرناه من ابتناء الأصل على التفاوت فلم ( يمنع أن ) يتفق الربع في الرأس ولا يقع في سائر الأعضاء
1037 - نعم لو قال القائل ورد ذكر الرأس محلا للمسح وثبت بالسنة المأثورة أن الاستيعاب غير واجب ولم يثبت توقيف في مقدار والتقدير استنباط واعتبار ( والتحكم ) به محال فيبقى اسم المسح مطلقا مع بطلان المصير إلى طرفي الاستيعاب والتقدير فيتعين والحال هذه حمله على أقل مقتضيات الاسم فهذا مسلك حسن بالغ في المسألة ولكنه ليس من القياس بسبيل وإنما هو متلقى من الكتاب والسنة وإبطال ( الاحتكام ) بالتقدير فليس قياسا ولا يستقل في هذا الطريق ظاهر الكتاب ولا يقتضى ما نقل أن النبي عليه السلام مسح بناصيته وظاهر عمامته ولا يختص إبطال مذهب الخصم في التقدير بل لا بد من التعرض لإبطال اشتراط الاستيعاب بالسنة وإبطال التقدير وإذا بطلا وانحسم جواز فهم كل واحد منهما من ظاهر الخطاب لم يبق للمسح مصرف إلا التنزيل على أقل مقتضى التسمية وأين يقع هذا من القياس وإنما هو مسلك بدع جدا لا يعهد له نظير
1038 - فإن قيل لو قدر التعليل الذي ذكرتموه مثلا مخيلا مناسبا وقدر القلب مناسبا في غرضه فماذا كنتم تقولون قلنا هذا أولا لا يتصور فليثق الفاهم بهذا فإن الأصل الواحد لا يجوز أن يدل على حكمين نقيضين ويشعر بكل واحد منهما وإذا كان لا يتفق وقوع الشيء فلا معنى لتقدير بفرض الكلام عليه فإن كانت إخالة فإنها تختص بالعلة ويقع القلب طردا ويختص بالقلب وتقع العلة طردا ثم يبطل ما وقع طردا ولا معنى والحالة هذه لابتغاء مسلك في البطلان وراء ما ذكرناه فإن الطرد ليس على صيغ الأدلة حتى يتوقع فيه اعتراض وإنما هو دعوى عرية بمثابة دعوى المذاهب
1039 - ولو تكلف متكلف في محال الأشباه استمساك المعلل والقالب بوجهين من الشبه يطابق في طريق الظن كل وجه من الشبه مراد صاحبه في الوجه الذي أبداه معللا أو قالبا فهذا إن تشبثوا به موضع الكلام وتلتبس به الحظوظ المعينة بالمراسم الجدلية فلا يشك ذو نظر أن القلب لا يعارض العلة معارضة المضادة ومناقضة النفي للإثبات بل يقع القلب للعلة في طرفين فيتجه من طريق الجدل إذا كان المسئول هو المقلوب عليه أن يقول للسائل لم تتعرض لمقصود علتي وأنت محمول على حصر كلامك في الاعتراض على مساق كلامي ممنوع عما يكون فرضا وتخصيصا للكلام بجانب من جوانب المسألة فهذا وجه لائح من وجوه الجدل
1040 - وإن قال السائل اتباع المقاصد أولى من التمسك بالصيغ والألفاظ فالعلة وقلبها يعسر الجمع بينهما مذهبا ومعنى والمعارضة المناقضة على التصريح إنما
كانت اعترافا من جهة استحالة الجمع بينها وبين العلة وإذا تحقق عسر الجمع بين مقتضى العلة وموجب القلب كان القلب في وجه قدح المعارضة كالمعارضة وقد تحقق هذا النوع من الكلام بأن المجتهد إذا استنبط علة لعمل أو فتوى وعن له وجه من القلب فلا يحل له إمضاء الاجتهاد بموجب العلة ( ما لم ) يدفع القلب وإذا كان كذلك فشرط سلامة العلة السلامة من القلب والمسئول قد التزم الإتيان بعلة سليمة من الاعتراضات فعليه الوفاء بالملتزم ويقع القلب على هذا التقدير مطالبة بتسليم العلة عما يقدح فيها وإذا اتجه هذا المسلك المعنوي لم تقف له تلفيقات الجدليين
1041 - ومما يحقق الغرض والمقصد منه أن منصب السائل في وضع الجدل يمنعه من الدليل ويحصر كلامه في التعرض للاعتراضات ثم إذا عارض علة المسئول بعلة فهو في مقام المستدلين ولكن قبل ذلك لوقوع ما أتى به اعتراضا
1042 - فهذا منتهى كلام الجدليين وأصحاب المعاني من الأصوليين ولى بعد المسلكين نظر آخر وهو مختارى فأقول إن كان مضمون القلب تعرضا لطرد لا يناسب مضمون العلة من طريق المعنى ولكن اتفق مذهب الخصم في الطرفين على مقتضى في نفي أو إثبات ولا يمتنع أن يفرق بينهما فارق فيثبت أحدهما وينفى الثاني ولكن القائل قائلان أحدهما يثبت أمرا والثاني ينفيه ولو قدر مصير صائر إلى إثبات أحدهما ونفى الثاني لم
يكن ذلك متناقضا فإذا وقع القلب والعلة على هذا النسق فالقالب فارض وقلبه غير قادح ( لا ) جدلا ولا معنى إذ لا تعلق لواحد من الطرفين بالثاني وكأن المسئول فرض الكلام في طرف وفرض السائل الكلام في طرف آخر وهذا ممنوع لا شك فيه ويمكن أن نمثل ( هذا ) بما قدمناه في العلة والقلب في مسح الرأس لو أخذنا بكونهما شبهين فإن المعلل قال في حكم علته لا يتقدر الفرض بالربع وقال القالب لا يكتفى بالاسم ( ولا يمتنع من طريق المعنى ألا يتقدر بالربع ولا يكتفى بالاسم ) وهذا يقوى جدا إذا صح مذهب معتبر غيرهما والأمر كذلك في المسح فإن مالكا رضي الله عنه أوجب الاستيعاب فلا ينتهض اتفاق مذهبي ( الخصمين ) في الطرفين على نفي وإثبات سببا في توجه الاعتراض إذا لم يكن الكلام في وضعه قادحا فأما إذا كان في القلب تعرض من طريق المعنى لمناقضة مقتضى العلة أصلا وسياقا وتفريعا فهذا إذ ذاك قدح من جهة تلاقي العلة والقلب على قضية التناقض ضمنا وإن لم يتلاقيا صريحا وهذا بمثابة قول القائل مكث في محل مخصوص فلا يكون قربة لعينه كالوقوف بعرفة وغرض المعلل اشتراط الصوم في الاعتكاف ولكنه لم يستمكن من اشتراط ذلك صريحا لأنه لو صرح به لم يجد أصلا فإذا قال الشافعي مكث فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفة
فهذا القلب لم يتعرض للعلة تعرضا بينا فكان قادحا
1043 - والقول الضابط في ذلك أن قول القائل لا يستقل بإثبات مذهبة من جهة أنه لا يكتفى بانضمام كل عبادة إلى الاعتكاف ولكن لم يتأت له التصريح فأبهم وأثبت طرفا من المذهب فإذا استمكن القادح تصريحا في مصادمته فيما ( شبب ) به تلويحا كان ذلك قدحا معينا
1044 - وفي القلب شيء يجب التنبه له وهو أن الصوم عبادة مستقلة فوقوعها شرطا بعيد وهي عبادة معينة في ذاتها والخصم لا يكتفي بانكفاف المعتكف عن المفطرات حسب أكتفاء المصلي الصائم بالإمساك والذي وقع القياس عليه لا يشترط فيه قربة مستقلة بل هو ركن من عبادة فكان لزوم القلب متجها
1045 - ولو علل الشافعي بما ذكرناه على صيغة القلب فقال مكث في مكان مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفه فقال الحنفي فلا يقع بمجرده قربة كالوقوف بعرفة فهذا معترض لعله الشافعي من جهة أن متضمن القلب ( إنكار ) وقوع المكث المحض قربة فعلى الشافعي أن يدرا هذا القلب ودرؤه ممكن بأن يقول الوقوف جزء في عبادة وليس الاعتكاف من الصوم ولا الصوم من الأعتكاف إذ ليسا عبادة واحدة واشتراط عبادة في عبادة بعيد خلا الإيمان فإنه أصل ولا يعقل ملابسة فرع دونه وليس القلب في صورته ( مبطلا إبطالا ) لايستدرك كالنقض فإنه لا ينفع بعد اتجاهه فرق ولا تعليل فإن القلب وإن اتجه فهو في معرض المعارضة وإذا
عورضت علة المجيب وتمكن من إبطال ما عورض به وترجيح علته سلمت العلة واندفعت المعارضة فهذا منتهى الكلام في القلب المصرح به
1046 - فأما القلب المبهم فينقسم قسمين أحدهما إبهام في غير تسوية والآخر إبهام بالتسوية فالإبهام من غير تسوية مثل أن يقول الحنفي صلاة شرع فيها الجماعه فلا يثنى فيها الركوع في ركعة واحدة قياسا لصلاة الخسوف على صلاة العيدين فيقول القالب فجاز أن تختص بزيادة كصلاة العيدين إذ فيها تكبيرات زائدة فهذا قلب مبهم
1047 - والقاضي رحمه الله قضى بإبطال هذا القلب وذكر وجوها ( نسردها ) ونتتبعها ) منها أنه قال هذا الذي ذكره القالب ينقلب عليه فإن المعلل يقول لا تختص بزيادة وهي ركوع وإذا كان كذلك فالقلب لو كان فادحا لوجب أن يفسد من حيث يقدح إذا أمكن قلب القالب وإذا فسد لم ينقدح وهذا الذي ذكره غير سديد فإن هذا الذي فرضه قلبا للقلب هو إعادة العلة
وليس أمرا زائدا عليها ولا قلب في عالم الله تعالى إلا وهو بهذه الصفة وغرض القالب أن يورد ما يقتضي تعارضا وإذا ذكر المعلل علته في معرض القلب فهو ( مقرر ) لوجه التعارض وهو القادح وهو بمثابة ما لو عورضت علته بعلة أخرى فأعاد المجيب علته على صيغة المعارضة لما عورض به فثمرة هذا اعترافه بتعارض العلتين
1048 - ومما تمسك به القاضي أن قال المصرح مرجح على المبهم فلو قدر القلب معارضة لوجب سقوطه من جهة ( ظهور ترجح الصريح ) عليه وهذا غير سديد أيضا فإن ما ذكره إن كان وجها في الترجيح فقد يعارضه ترجيح أقوى منه فرب مبهم أفقه من صريح فلا ينبغي أن يحتكم بتقديم كل صريح على كل مبهم ويرد الأمر في هذا إلى منازل الترجيح وفي المصير إلى هذا قبول القلب والنظر إلى الترجيح
1049 - ومما تمسك به القاضي أيضا أن قال المبهم قاصر النظر والمصرح تام النظر ولا يعارض نظر قاصر نظر تاما فإن النظر القاصر لا يناط به حكم وهذا تلبيس من جهة أن القالب ناط بقلبه ما يجوز أن يكون معتقدا مستقلا ومذهبا تاما في النفي والإثبات وإنما يقصر الاجتهاد ( مالا ) يشعر بمذهب تام مستقل ثم غرضه ( مما ) أتى به القدح فإذا ظهر ما أتى به القادح تلاقي القلب والعلة علي قضية المناقضة فقد ظهر غرض القادح
10550 - فإن قيل فما المرضي عندكم
قلنا قدمنا أنه لا يجري في مواقع الظنون علة وقلبها إلا وهما طرديان أو أحدهما طردي وإن كانا معنويين فلا تلاقي بينهما بل يقعان في طرفين لا يمنع إثبات أحدهما ونفي الثاني فإن تلاقيا على قضية متناقضة فلا بد أن يكونا طردين أو يكون أحدهما فقهيا والثاني خليا عن الفقه نعم قد يفرض الفطن في مجال الأشباه اشتمال كل واحد منهما على شبه فإن اتفق ذلك فالقلب وإن كان مبهما إذا ناقض فقد عارض فتعين الاعتناء بدفعة بما يندفع به معارضة العلة فهذا قسم من الإبهام في القلب
1051 - فأما القسم الثاني وهو قسم التسوية فمثاله أن يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف قاصد إلى لفظ الطلاق فأشبه المختار فإذا قال الشافعي فيستوى إقراره وإنشاؤه كالمختار فهذا الفن مختلف فيه وكل ما ذكرناه في القلب المبهم الذي لا تسويه فيه يعود في ذلك فإن التسوية لا بد فيها من الإبهام وقد أخذ فصل الإبهام ( بحظه ) ولقالب التسويه مزية مزيد يتعرض لها فإن الشيئين اللذين سوى القالب بينهما لو فصل غرضه فيهما لكان مطلوبه مناقضا لحكم الأصل فإن الشافعي ( يبغي ) بالتسوية بين اقراره وإنشائه ألا يقع الإنشاء ولا ينفذ في الفرع كما لا ينفذ الإقرار وهما جميعا نافذان في الأصل فصار صائرون ممن يقبل القلب المبهم إلى رد التسوية لهذا المعنى
1052 - والأستاذ أبو إسحاق رحمه الله يختار قبول قلب التسوية ويقول
غرض القالب التسوية المبهمة وهي على قضية معقولة معتقدة وإذا ثبتت جرت على المسائل ردا وقبولا وبيانه فيما ضربناه مثلا أن الإقرار والإنشاء يظهر تساويهما على تعين المثارات ويستفيد بإثباتهما أمرا واقعا في الاقرار فاتجه مراده ( ولا احتفال ) بما ذكره الرادون من مناقضة الأصل إذ لا مناقضة في مقصود التسوية والأمر على ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق وهو الحق المبين عندنا ولكن القالب في الصورة التي ذكرناها أراه طاردا فإن التقييد بالتكليف لا أثر له إذ يستوى من غير المكلف إقراره وإنشاؤه طاردا ووجه قبول التسوية استرسالها على عموم الأحوال فلينظر الناظر في منازل القلب نظرا أوليا في الطرد والإخالة ثم لينظر ثانيا في التلاقي على التناقض وعدم التلاقي وليحصر إمكان القلب إن كان في ملتطم ( الأشباه ) ثم ليعقده مبهما كان أو مصرحا به وليتكلم عليه كلامه على المعارضات وتندرج التسوية تحت المبهمات وقد نجز القول في القلب و ( السابع ) من الاعتراضات المعارضة
1053 - فإذا نصب المجيب علة التحريم فأتى السائل المعترض بعلة في التحليل كان ما جاء به اعتراضا صحيحا في نوعه ثم هو مقبول منه في رسم الجدل وذهب بعض الجدليين إلى أن المعارضة غير مقبولة من السائل لأنه ينتهض مستدلا والذي تقتضيه مراسم الجدل أن يحصر السائل كلامه في الاعتراضات المحضه والعلة التي عارض بها على صيغة الأدلة والسائل يحتاج في الوفاء بإثباتها إلى تقرير
علتها بالأدلة فان القياس لا يستقل إذ ثبتت علة أصله ( بمسلك ) من المسالك المتقدمة في إثبات علل الأصول وإن لم يات السائل بذلك كان ما جاء به أمرا غير مثمر وإن أثبت علة الأصل ( مصورة ) بصورة ( البانين ) وخرج عن رتبة السائلين الهادمين
1054 - وهذا مسلك ضري به طوائف من المنتمين إلى الجدل وهو عرى عن التحصيل عند ذوي التحقيق من وجوه منها أن المعارضة اعتراض من جهة أن العلة التي تمسك بها المجيب لا تستقل ما لم يسلم عنها وقد حصل الوفاق على تسليم الاعتراض للسائل وهو لم يبد العلة ثانيا مثبتا لمذهبه وإنما أبداها معترضا بها والذي حاول منها في الاعتراض محقق ( كائن ) فليسغ منه المعارضه اعتراضا والذي يكشف الحق في ذلك أن المجيب لما كان بانيا فلو عارضت علته علة عسر عليه إفسادها وترجيح علته على ما عورض به كان ذلك مبطلا لغرضه والسائل إذا عارضه لايلتزم وراء المعارضة إفسادا ولا ترجيحا لأنه جرد قصده إلى الاعتراض فتبين أن ما أتى به اعتراضا فهو اعتراض واقع وإنما ( الممتع ) من السائل أن يعارض ويضم إلى المعارضة الترجيح أو أفسادا وراء المعارضة كدأب من يبني ويثبت هذا إن فعله كان مجاوزة لمراسم الجدل
1055 - ومن الدليل على قبول ( العلة و ) المعارضة أن المجيب التزم إذ نطق بالعلة ( تصحيحها ) والوفاء بإتمام هذا هذا الغرض منها ( في مسلك الظن ) ولن يتم
هذا الغرض ما لم تسلم العلة عن المعارضة ولو قيل أظهر الاعتراضات وأكثرها وقوعا المعارضات في تقابل الظنون لكان ذلك ترجيحا فالمقصود أنه لا يتطرق الكلام ما لم يغلب على الظن ثبوت علة المجيب ومن ضرورة ذلك درء المعارضات عنها والسائل مرتب في مراسم النظر لإيراد ما يقدح لو ثبت فإذا فعل ما رتب له شيئا تصدى المجيب لدفعه والجواب عنه فيكونان متعاونين على البحث اعتراضا وجوابا والذي ذكره هؤلاء ( من ) أن السائل ممنوع من الإتيان بصورة الدليل لا طائل وراءه فإن صورة الأدلة ما امتنعت من حيث إنها تسمى أدلة وإنما امتنعت إذا كان السائل مضربا عن قصد الاعتراض آتيا بكلام على الابتداء ليس اعتراضا فهذا يخرم شرط الجدل من جهة أن السائل إذا كان كذلك مع المسئول لا يتلاقيان على مباحثة والغرض من المناظرة التعاون على البحث والفحص
1056 - وبالجملة إذا كان يقبل من السائل اعتراض لا يستقل في نوعه كلاما فلأن يقبل منه كلام ينقدح ويستقل اعتراضا أولى ولم يختلف أرباب النظر قاطبة في أن المجيب إذا تمسك بظاهرة فللسائل أن يؤوله فإذا كان التأويل مقبولا منه فمن ضرورته اعتضاده بدليل وإذا جاء بما يعضد التأويل فهو دليل فإن قبل من جهة كونه عضد التأويل الواقع اعتراضا فليقبل معارضة القياس بالقياس على قصد الاعتراض وإن تشبث متسبث بمنع قبول التأويل من صاحب التأويل فقد تصدى لأمرين عظيمين
أحدهما أن يقبل التأويل منه من غير دليل وهذا خرق فإن المستدل معترف بتوجه التاويل ( وإمكانه ) مقر بأن متمسكه ظاهر وليس بنص فهذا أحد أحد الأمرين والثاني أن يفسد باب التأويل على السائل ويتوخى المناظرة بذكر المسئول ظاهرا وهذا اقتحام عظيم وأن التزم السائل أن يعارض الظاهر بالظاهر فقد يقدمه ( في هذا المقام ) ثم في هذا اعتراف بقبول المعارضة فليجر مثله في الأقيسة
1057 - فإذا تبين أن المعارضة من أقوى الاعتراضات الصحيحة المفسدة فالجواب عنها ينحصر في مسلكين أحدهما أن يتصدى المجيب لإفساد ما عورض به تمسلك من المسالك المذكورة في الاعتراضات الصحيحة والثاني أن يرجح علته على ما عورض به على ما سيأتى شرح قواعد الترجيح وتفاصيلها في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى فإذا لم يتأت أحد المسلكين كان منقطعا
1058 - ومن أسرار المعارضات أنه إذا غلب على الظن استواء العلتين فسدتا فلو قال قائل ترجيح السائل غير مقبول ابتداء وانحسام الترجيح يفسد ما جاء به وليس بين هذين المسلكين مسلك قيل هذا منتهى غرض السائل ومنه قال المحققون معارضة الفاسد بالفاسد اعتراض صحيح وعند ذلك يتبين تحقيق المعارضة الصادرة من السائل إذ غرضه الإفساد المحض لا البناء
1059 - ثم مما يتصل بأحكام المعارضة أن المجيب إذا رجح علته لم ينحسم على السائل مسلك معارضه الترجيح بالترجيح فليفعل ذلك وليجرد قصده إلى طلب المساواة فإنها إذا ثبتت فسد بها كلام المسئول ومن خرق السائل أن يتشوف إلى الزيادة على قصد المساواه فإنه إذا فعل ذلك كان ذاهبا إلى مضاهاة قول البانين ولا يبعد أن ينسب فيه إلى الجهل بمراسم الجدل فلو ذكر المسئول ترجيحا فعارضه السائل بترجيحين وفي أحدهما كفاية في طلب المساواة فهو مجاوز لسواء القصد وإن عارض بترجيح واحد ( ولكنه أوقع ) من كلام المسئول فهذا يقبل منه فإنه قد لا ( يجد ) غيره ومنعه من الإتيان به يمنعه من معارضة العلة بعلة أجلى منها وأظهر في بوادي الظنون والسبب في قبول هذا الفن أن ما في الترجيح من مزية القوة والظهورلا يمكن قطعه من الكلام وهو إذ جيء به اعتراض فليقبل اعتراضا إذ لم يقبل بناء وابتداء فهذا منتهى الكلام في ذلك
1060 - ومما يتعلق بالمعارضة وهو مفتتح القول في الفرق أن السائل إذا اقتصر على معارضة علة الأصل بعلة أخرى ( بحكم الأصل ولم ) يأت بعلة مستقلة ذات فرع وأصل على ما نعهده من صيغ التعليل فهذا يستند أولا إلى ماسبق تمهيده من أن الحكم الواحد هل يعلل بعلتين وقد مضى في ذلك قول بالغ فمن لم يمنع تعليل حكم بعلتين لم يعتد بما جاء به السائل اعتراضا من جهة أن ثبوت ما أورده السائل ( علة ) منتهى مراده ولو سلم له ما يحاوله لم يندفع دليل المسئول وقد ذكرنا ما نختاره في ذلك وأنهينا الكلام غاية انفصل القول عنها مع
القطع بأن الحكم الواحد لا يعلل بعلتين فليقع التعويل على المختار ووراءه عرض الفصل فإنا رأينا امتناع ذلك وقوعا وإن كان لا يمتنع من ناحية التجويز العقلي فينشأ من ذلك قضية جدلية لطيفة مشوبة بحقائق الأصول مسألة
1061 - إذا قبلنا من السائل معارضة العلة بالعلة المستقلة فلو عارض علة الأصل التي جعلها المسئول رابطة القياس بعلة أخرى وزعم أن العلة ما أبداها معترضا لا ما أتى به المعلل جامعا رابطا فمن الجدليين من يرى ذلك اعترضا واقعا وأوجب على المجيب الجواب عنه ومنهم من لم يره اعتراضا فالمذهبان جميعا في المسألة المعقود مبنيان على منع تعليل الحكم بأكثر من علة واحدة
1062 - فأما من { رأى ذلك اعتراضا فوجهه أن من شرط سلامة علة الخصم عروها عن المعارضة من جهة امتناع ( تعدد ) العلة فإذا أبدى المعترض علة أخرى فقد عارض معارضه يمتنع معها لو صحت تقديرا ثبوت علة المجيب كما يمتنع ذلك في العلتين المستقلتين الجاريتين على التناقض في التعارض وحقيقة هذا المذهب آيل إلى أن المعلل لا يستقل كلامه ما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به فإذا علل ولم يبسر فعورض في معنى الأصل بعلة فكأنه طولب بالوفاء بالسبر وتتبع كل ما سوى علته بالنقض
1063 - ومن لم ير ذلك اعتراضا استدل بأن إبداء معنى آخر من المعارض
على صورة دعوى عرية عن الدليل وقد سبق المسئول في إثبات معنى أصله بالدليل إما معتنيا به بعد طرد العلة ومضمنا ذلك علته من جهة إشعارها ووفقها وإخالتها والسائل إذا ابدى معنى غير مقرون بدليل على تهيئة وصلاحه لكونه علة للحكم فصيغة كلامه معارضة كلام مدلول عليه بدعوى فهذا القائل لو أبدى المعنى وقرنه بما يعد دليلا على إثبات المعنى كانت معارضة مقبولة ويتعين إذ ذاك على المسئول الجواب عنه
1064 - فيرجع مطلب المسألة المبينة على امتناع تعليل الحكم بعلتين فصاعدا إلى أنا هل نوجب على المعلل بعد إثباته ( علته ) التتبع والسبر أم لا وذلك يجري وكلام السائل دعوى محضه ولو أتى السائل بدليل على ما أبداه من معناه فيتعين الجواب عنه على هذا الأصل وهذه المسألة التي ذكرناها متصلة بالمعارضة وتحقيقها ( يعود ) في الفرق وحقائق القول فيه الثامن من الاعتراضات فصل في الفرق
1065 - فأما الفرق فقد ظهر خلاف أرباب الجدل ( فيه ) قديما وحديثا فذهب ذاهبون إلى أنه ليس باعتراض وسبق إليه طوائف من الأصوليين وذهب جماهير الفقهاء إلى أنه من أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به فأما من لم يعده اعتراضا مقبولا فإن متعلقه وجوه منها أن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع للأصل في كل القضايا وإنما مغزاه
ومنتهاه إثبات اجتماع الأصل والفرع في الوجه الذي يبغيه فإذا استتب له ما يريده من ذلك وينتحيه وكان وجها يعترف به الفقيه في قصد الجمع ويرتضيه فالفرق يقع وراءه وهو قار على حاله وصاحب الجمع معترف بأنه غير ملتزم اجتماع الفرع والأصل في كل ورد وصدر وكل سؤال استمكن المعلل من الاعتراف بمقتضاه مع الاستمرار على مقصده من العلة فليس قادحا وإنما الاعتراض القادح ما يرد مناقضا لمقصود المسألة نعم إن تمكن من ( وقف موقف الفارقين ) من إبطال الجمع فذاك السؤال اعتراض مقبول وليس فرقا وإنما يتحقق هذا بان يخرم ما جاء به المعلل زاعما أنه مناسب مخيل فيتبين أن الذي تعلق به غير مشعر بالحكم ويلتحق كلامه بالطرد المقضى ببطلانه فإذا تمكن السائل من ذلك فلا حاجة به إلى الفرق وإنما الفرق هو الواقع بعد سلامة فقه الجمع فينبغي ألا يلتزم لما سبق من أنه غير مناقض لمقصود المعلل
1066 - وذهب معظم المحققين إلى قبول الفرق وعده من الأسئلة الواقعة واحتج القاضي رحمه الله بأن متبوعنا في الأقيسة والعمل بها وما درج عليه الأولون قبل ظهور الأهواء واختلاف الآراء ولقد كانوا يجمعون ويفرقون وثبت اعتناؤهم بالفرق حسب ثبوت تعلقهم بالجمع وقد ثبت ذلك في وقائع جرت في مجامع من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم منها القصة الجارية في إرسال عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسوله وتحميله إياه تهديد مومسة واجهاضها بالجنين لما بلغها الرسالة ثم أنه رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم في الجنين فقال عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه إنه مؤدب ولا أرى عليك بأسا فقال علي رضي الله عنه إن لم يجتهد فقد
غشك وإن اجتهد فقدأخطأ أرى عليك الغرة قال القاضي رحمه الله كانوا رضى اللة عنهم لا يقيمون مراسم الجمع والتحرير ويقتصرون على المرامز الدالة على المقاصد فكأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب ضمانا وجعل الجامع أنه فعل ما له أنه يفعله فاعترض عليه علي رضي الله عنه وشبب الفرق وأبان أن المباحات المضبوطة النهايات ليست ( كالتعزيرات ) التي يجب الوقوف فيها دون ما يؤدى إلى إتلافات ولو تتبع المتتبع مناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسائل الجد وغيرها من قواعد الفرائض لألفى معظم كلامهم في المباحثات جمعا وفرقا ويهون على الموفق تقدير جريان الجمع والفرق من الأولين مجرى واحدا في طريق النقل المستفيض
1067 - فهذا كلام القاضي ولا يتبين مدرك الحق إلا بتفصيل نبديه وفيه تبين مدرك الحق في الفرق فنقول رب فرق يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع فقهيا فما كان كذلك فهو مقبول لا محالة غير معدود من الفروق التي يختلف فيها ومن آية هذا القسم أن الفارق ( يعيد ) جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره ومثال ذلك أن الحنفى إذا قال في مسألة البيع الفاسد معاوضة جرت على تراض فتفيد ملكا كالصحيح فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع ( فنقلت ) الملك بالشرع بخلاف المعاوضة الفاسدة فينتهض هذا الكلام إذا وفي صاحبه بتحقيقه مبطلا إخاله كلام المعلل وما أدعاه من إشعاره بالحكم فهذا النوع مقبول ومن خصائصه إمكان البوح منه بالغرض لا على سبيل الفرق بأن
يقول السائل لا تعويل على التراضي بل المتبع الشرعي في الطرق الناقلة إلى حد ما يعرفه الفقيه
1068 - ومما يقع مدانيا لهذا أن الحنفي إذا قال طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فالفارق يعيد كلامه ويزيد قائل المعنى في الأصل أنها طهارة بالماء عينيه والوضوء طهارة حكمية ومقصودة أن ( يخرم ) فقه الجامع ويلحقه بالطرد وهذا محطوط عما استشهدنا به أولا من جهة أنا نرى مدار الكلام في هذه المسألة على الأشباه وقد يظن الحنفي أن الطهارة بالماء أشبه بالطهارة بالماء والفارق يدعى مسلكا فقهيا وإنما يبغي تشبيها ومدار الكلام في المسألة الأولى على اتباع التراضي أو اتباع الشرع فليفهم الفاهم ما يلقى إليه من حقائق الكلام
1069 - ومما نجريه مثلا أن المالكي إذا قال الهبة عقد تمليك فيترتب على صحة الإيجاب والقبول فيها الملك ( كالمعاوضة ) فإذا قال الفارق المعاوضة متضمنها النزول عن المعوض والرضا بالعوض وذلك يحصل بنفس العقد والتبرع عقد لا يقابله عوض فيشترط فيه ( الإقباض ) المشعر بنهاية الرضا لم يكن هذا الفرق مبطلا بالكلية فقه الجمع ولكن سره أن الجامع أبدا يجمع بوصف عاموالفارق يفرق بوجه خاص فإن لم يبطل ما أبداه من خصوص الفرق في عموم الجمع فهذا مما تنازع فيه الأصوليون وإن أبطل فقه الجمع فلا شك في كونه اعتراضا
1070 - ثم الفرق والجمع إذا ازدحما على فرق فاصل في محل النزاع
فالمختار فيه اتباع الإخالة فإن كان الفرق ( أخيل ) أبطل الجمع وإن كان الجمع ( أخيل ) سقط الفرق وإن استوى أمكن أن يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتا على صيغة التساوي وأمكن أن يقال الجمع مقدم من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له والجامع يقول لم ألتزم انسداد مسالك الفرق كما ذكره الذين ردوا الفرق فالأوجه اتجاهه ووجوب الجواب عنه
1071 - فإن قيل هلا قلتم الفرق يشتمل على معارضة معنى الأصل ثم معارضة العلة بعلة مستقلة في جانب الفرع فهو على التحقيق سؤالان قلنا قد قال بقبول المعارضة كل معتبر عليه معول ومضى في معارضة معنى الأصل ما فيه مقنع والكلام في الفرق وراء ذلك فإنه ينتظم من مجموع كلام الفارق فقه يناقض قصد الجامع وهو خاصية الفرق وسره ومن رد الفرق لا يرد المعارضة بل يرد خاصية الفرق
1072 - وحاصل القول في مذاهب الجدليين يئول إلى ثلاثه مذهب أحدها رد الفرق جملة وإنما يستمر هذا المذهب مع المصير إلى رد المعارضة في جانبي الأصل والفرع جميعا وخاصيه الفرق مردودة هذا عند القائل بما سبق تقريره من أن الجامع إذااستمر جمعه لم يحتفل بالافتراق في وجه لم يقع له التعرض ورد الفرق على الإطلاق يستند إلى إبطال المعارضة في الأصل والفرع وعدم المبالاة بوقوع الفرق من وجه بعد استمرار الجمع من الجهة التي أرادها الجامع فهذا مذهب وهو عند المحصلين ساقط مردود
1073 - والمذهب الثاني وهو معزو إلى إبن سريج وهو مختار الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله أن الفرق ليس سؤالا على حياله واستقلاله وإنما هو معارضة ( معنى ) الأصل بمعنى ومعارضة العلة التي نصبها المسئول في الفرع بعلة
مستقلة ومعارضة العلة بعلة مقبولة فإن تردد المترددون في معارضة معنى الأصل فالفرق عند هذا القائل آيل إلى ما ذكره والمقبول منه المعارضة وقد مضى القول بالغا في قبول المعارضة
1074 - والمذهب الثالث وهو المختار عندنا وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن الفرق صحيح مقبول وهو وإن اشتمل على معارضة معنى الأصل ومعارضته علة ( الفرع ) بعلة فليس المقصود منه المعارضة وإنما الغرض منه مناقضة الجمع ثم الصحيح المقبول منه ينقسم على الوجه المقدم إلى ما يبطل فقه الجمع رأسا ويلحقه بالطرد وهذا على التحقيق ليس هو الفرق المطلوب فإنه أبدى سقوط فقه علة الخصم على صيغة مخصوصة ومنه مالا يحيط فقه الجمع بالكلية ولكنه يشتمل على فقه آخر مناقض لقصد الجامع ثم ذلك ينقسم إلى زائد في الإخالة على العلة وإلى مساويها كما سبق
1075 - والقول الوجيز فيه أن قصد الجمع ينتظم بأصل وفرع ومعنى رابط بينهما على شرائط بينة والفرق معنى يشتمل على ذكر أصل ( وفرع ) وهما يفترقان فيه وهذا يقع على نقيض غرض الجمع ومن ضرورته معارضة معنى الأصل والفرع ولكن الغرض منه مضادة الجمع بوجه فقه أو بوجه شبه إن كان القياس من فن الشبه فعلى هذا إذا لو سمى ( مسم ) الفرق معارضة لم يكن مبعدا ولكن ليس الغرض منه الإتيان بمعارضة على الطرد والعكس لاتصال أحدهما بالآخر بل القصد منه فقه ينتظم من معارضتين يشعر بمفارقة الأصل للفرع على مناقضة
الجمع فهذا سر الفرق وسنبين أثر ذلك في التفاصيل
1076 - ومن وفر حظه من الفقه وذاق حقيقته استبيان أن المعارضة الكبرى التي عليها تناجز الفقهاء وتنافس الكلام على الفرق والجمع أبدا يأتي بما يخيل اقتضاء الجمع ويكون ما يأتي به في محل يأتي الفرق صفة عامة بالإضافة إلى الفرق ويأتي الفارق بأخص منه مع الاعتراف به ويبين أن الفرع والأصل إذا افترقا في الوجه الخاص كان الحكم بافتراقهما أوقع من الحكم باجتماعهما للوصف العام ثم يتجاذبان أطراف الكلام فهذا قول بالغ في تحقيق المذهب وسر كل رأي وبيان المختار الذي ينتحيه المحققون وما مهدناه يتهذب بمسائل نذكرها تترى إن شاء الله تعالى ( مسائل في الفرق ) مسألة
1077 - إذا ذكر الفارق معنى في الأصل مغايرا المعنى المعلل وعكسه في الفرع وربط ( به ) الحكم مناقضا لحكم علة الجامع فهل يشترط رد معنى الفرع إلى الأصل على القول بقبول الفرق ذهب طوائف من الجدليين إلى أن ذلك لا بد منه وهذا ينبني على أصلين أحدهما المصير إلى إبطال الاستدلال على ما سيأتي القول فيه مشروحا بعد نجاز القول في القياس إن شاء االله تعالى ومن ينفي الاستدلال لا يجوز الاستمساك قط بمعنى غير مستند إلى أصل وإن كان مناسبا مخيلا فهذا أحد
الأصليين و ( الأصل ) الثاني أن الغرض من الفرق المعارضة ( والمعارضة ) ينبغي أن تشتمل على علة مستقلة فهذا مأخذ هذا المذهب
1078 - قال القاضي رحمه الله رأينا تصحيح الاستدلال على ما سيأتي ولو كنت من القائلين بإبطال الاستدلال لقبلته على صيغة الفرق فإن الغرض ( من الفرق ) إبداء فقه يناقض غرض الجامع وهذا يحصل من غير رد إلى أصل ثم قد يقع الكلام وراء ذلك في ترجيح العلة على ما أبداه الفارق من حيث إن العلة مستندة إلى أصل وما أظهره الفارق لا أصل له وفيه كلام يطول استقصاؤه في الترجيح فآل حاصل القول في هذه المسألة إلى أن من يري الفرق معارضة ينزل منزلة المعارضات ومن يرى خاصية الفرق ( في ) مضادة جمع الجامع فلا يشترط فيه ما يشترط في العلة المستقلة مسألة قريبة المأخذ من التي تقدمت
1079 - ذهب ذاهبون من الذين صاروا إلى أن شرط الفرق استناده في جانب الفرع إلى أصل ( إلى ) أن الفارق إذا أبدى في الأصل معنى مغايرا لمعنى المعلل فينبغي أن يرد ذلك أيضا إلى أصل فيأتي في كلامه في شقي الفرع والأصل بأصلين ولا شك أن صدر هذا الكلام عن رأي من ينكر الاستدلال ولا يراه حجة وذهب آخرون ممن يشترط استناد الفرع إلى الأصل إلى أن ذلك غير مشروط في الأصل
واحتج كل فريق على مخالفة بما عن له
1080 - فأما من لم يشترط ذلك فتمسك بأن الغرض الأظهر من الفرق معارضة معنى الأصل والتحاقه في محل النزاع فإذا ( أيد ) ذلك بأصل فقد وفى بالمعارضة في محل الخلاف فكفاه ذلك وأيضا فإنا لو ( كلفناه ) إلحاق معناه الذي أبداه في جانب الأصل بأصل فقد لا يمتنع في ذلك الأصل الذي نقدره معارضه معنى آخر ثم قد ينقدح رد ذلك المعنى إلى أصل ثابت ويلزم من مساق ذلك أن يقال إذا عورض معنى الأصل فعلى المسئول وقد عورض معناه بمعنى غيره أن يأتي بمعناه الذي ادعاه بأصل ( آخر ) فإنه والمعترض تساويا في ادعاء معنيين فليس أحدهما ( بالاحتياج ) إلى إبداء أصل آخر أولى من الثاني إذ المسألة فيه ( إذا ) لم يبطل أحدهما معنى صاحبه بل اقتصر على معارضته ثم لا يزالان كذلك في كل مستند وتتعطل المسألة عن غرضها وتحوج المعلل والمعترض إلى أصول لا ينتهي القول فيها إلى ضبط وهذا ظاهر البطلان
1081 - وقد نقل بعض النقلة أن من صار إلى التزام ذلك يذهب إلى أن الكلام لا يقف أو ينتهي الكلام إلى أصل يتحد معناه ولا يتأتي معارضة فيه وهذا تكلف عظيم وأمر معوص ومن شرط ذلك يقول كل كلام لا أصل له فهو استدلال مردود وإذا تأتي معارضة معنى الأصل بمعنى آخر فقد صار معنى الأصل متنازعا فيه فلا بد من تأييد الكلام بأصل غيره
1082 - والكل عندنا ضبط وتخليط ومن احاط بسر الفرق واستبان أن الغرض منه هذا لم يتخيل كل هذا الانحلال ولم يشترط في الفرق إلا ما يليق ويطلب منه وهو مضادة قصد الجامع كما سبق تقريره مسألة
1083 - وإذا تمكن الفارق من إبداء معنى في الأصل مغاير لمعنى الجامع وعكسه في الفرع من غير مزيد فهو الفرق الذي فيه الكلام وإن احتاج إلى إبداء مزيد في جانب الفرع فقد ظهر اختلاف الجدليين فيه ولا معنى للتطويل فمن اعتقد الفرق معارضة فمقتضى مذهبه أن الزيادة ممتنعة فإن الفارق معارض والمعارضة تنقسم إلى ما يذكر على صيغة الفرق وإلى ما يذكر ابتداء ولا أثر لاختلاف الصيغ عند هذا القائل والغرض المعارضة المحضة
1084 - ومن طلب من الفرق الخاصية التي ذكرناها وهي مضادة الجمع فيخرم هذه القضية عند مسيس الحاجة الى ذكر زيادة ومزية في جانب الفرع فإنا قد أوضحنا أن الفارق مستمسك بجهة خاصة مرتبة على الجهة العامة التي جمع بها الجامع مشعرة باقتضاء الافتراق فإذا كان عكس معنى الأصل على قضية الخصوص غير مشعر بنقيض ما أشعر به الوصف العام لم يكن الفرق مستقلا بذاته جاريا على حقيقته وخاصيته فإن كان يتأتى مع مزية في إشعار بالافتراق فهو على تكلف وبعد فإن صفوة الفرق مأخوذة من متلقي النفي والإثبات والطرد والعكس من غير احتياج إلى مزيد ولا شك ( أن ) المزيد المذكور في جانب الفرع يقع خارجا عن قضية الفرق إذ ليس لها في جانب الأصل ذكر على الثبوت إذ لو كان لها ذكر لكان الفرق جاريا على سداده
وقد يذكر الفارق مزيد الدرء قاعدة ولو لم يذكرها لو ردت تلك القاعدة نقضا فيقع عند ذلك الكلام في أن القواعد هل تنقض الأقيسة إذا كانت مستقلة وقد قدمنا في ذلك أبلغ قول في فصل النقض فلا حاجة إلى إعادته مسألة
1085 - مما ذكره الذاكرون على صيغة الفرق وليس هو على التحقيق فرقا وإن كان مبطلا للعلة ما ننص عليه الآن فنقول إذا جمع الجامع ( بين ) مختلف فيه ومتفق عليه في تفصيل حكم ( وأصل ) ذلك الحكم منفي في الأصل مثل أن يقول الحنفي في منع اشتراط ( تعيين ) النية ما تعين أصله لم يشترط فيه تعين النية كرد الغصوب والودائع فنقول أصل النية ليس مرعيا في الأصل وهو معتبر في محل النزاع وهذا قد نورده على صيغة الفرق وليس بفرق ولكن الجمع باطل باتفاق الأصوليين فإن الكلام في تفصيل النية يقع فرعا لتسليم أصل النية وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراعي التعيين مع اشتراط أصل النية صائرا إلى أن أصل النية كاف مغن عن التفصيل والتعيين فكيف يتأتى الاستمساك بما لا يشترط أصل النية فيه ولا يعد من قبيل القربات فهذا إذا باطل من قصد الجامع وصيغة الفرق تقرر الجمع ويقع وراءه أفتراق في أمر ( أخص ) منه كما تمهد ذكره فيما سبق
فصل في الاعتراض على الفرع مع قبوله في الأصل 1086 - والقول الوجيز في ذلك أن كل ما يعترض به على العلل المستقلة فقد يذكر فرضه موجها على القول الفارق في جانب الفرع ونحن وإن كنا لا نرى الفرق معارضة فمستنده إلى صورة معارضة ثم تلك الصورة في النفي والإثبات تثبت خاصة كما سبق تقريرها فإذا بطل مستند الفرق بطل الفرق فأما الكلام المظهر في جانب الأصل فحاصله ادعاه معنى آخر وينتظم عليه الخلاف القائم في أن الحكم هل يعلل بعلتين فمن لم يمتنع من تعليل الحكم بعلتين فقد يقول أنا قائل بهما وإنما يتأتى ذلك إذا استمكن من طرد المعنى الذي أبداه الفارق في جانب الأصل على وجه يطابق مذهبه وأما نحن فلا نرى تعليل حكم بعلتين أمرا واقعا وإن لم نستبعده في مساق الأقيسة أن لو قدر وقوعه والأولون يرون الفرق سؤالين ( وقول ) المعلل في الأصل بالمعنيين إذا جرى له ذلك غير كاف فإن الكلام في جانب الفرع قائم بعد والسؤالان على هذا الرأي لا ارتباط لأحدهما بالثاني فكأن الفارق وجه سؤالين فتعرض المعلل للجواب على أحدهما
1078 - ونحن نقدر الآن لانفسنا مذهبا لا نعتقده ونبني عليه سرا هو خاتمة الكلام في الفرق فنقول لو كنا من القائلين بتعليل حكم واحد بعلتين لما رأينا مصير المعلل إلى القول بهما جوابا عن سؤال من جهة أن الفرق وإن اشتمل على كلامين فهو في
حكم سؤال واحد وقد استقل كلام الفارق وجرى مرامه في الإشعار بالفرق فإذا قال المعلل بالعلتين في الأصل لم يخرم ذلك غرض الفارق والجواب الخاص عن الفرق الواقع السالم عما يعترض على المعاني والمعلل عدم إشعاره بإثارة الفرق أو يتبين ترجيح مسلك الجامع عن طريق الفقه في اقتضاء الجمع على مسلك الفارق مسألة
1088 - إذا لم يذكر الفارق معنى ( في ) الأصل معكوسا من الفرع ولكنه أطلق في جانب الأصل حكما ونفاه في الفرع فهذا مما طول فيه القاضي نفسه والكلام عندنا فيه قريب وقد ذكرنا وقع ذلك في العلل ابتداء وسميناه فيما يظن قياس الدلالة أو قريبا من الأشباه فإذا قال القائل من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فليس ما جاء به من فن المعاني المختصة المشعرة بالحكم وإن كان مقبولا فإذا وقع الفرق على هذه الصفة نظر فإن كانت العلة على نحوها قبل ذلك في الأصل ووقع الكلام في التلويح والترجيح وتقريب الأشباه فإن كان القياس معنويا فقهيا وجرى الفرق على صيغة إلحاق حكم بحكم فهذا من الفارق محاولة معارضة المعنى المناسب بالأشباه أو ما هو في معناها ولا يقع ذلك موقع القبول فإن أدنى المعاني المناسبة يتقدم على أعلى الاشباه المظنونة وهذا يهذبه الترجيح إن شاء الله تعالى وقد انتهى غرضنا في القول في الفرق وانتهى بانتهائه الكلام على الاعتراضات الصحيحة في قواعدها
فصل القول في الاعتراضات الفاسدة 1089 - ما يفسد من الاعتراضات لا ينحصر وفي ضبط ما يصح منها كما تقدم حكم بفساد ما عداه وإنما نعقد هذا الباب للكلام على اعتراضات استعملها بعض من لابس الجدل وهي باطلة عند المحققين فلا نذكر صيغا منها إلا وفيها خلاف ونحن نرتبها ونرسمها مسائل أن شاء الله تعالى مسألة
1090 - إذا استنبط القايس علة في محل النص وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه فالعلة صحيحة عند الشافعي رضي الله عنه ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقديه وهي مختصة بالنقدين لا تعدوهما وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه إذا لم تتعد العلة محل النص كانت باطلة والمعتمد في صحة العلة أنها مستجمعة شرائط الصحة إخالة ومناسبة وسلامة عن الاعتراضات ومعارضات النصوص وهي على مساق العلل الصحيحة ليس فيها إلا ( اقتصارها ) وانحصارها على محل النص وحقيقة هذا يئول إلى أن النص يوافق مضمون العلة ويطابقها وهذا بأن يؤكد العلة ويشهد بصحتها أولى من أن يشهد على فسادها وليس يمتنع في حكم الله تعالى ووضع شرعه أن تكون العلة المستثارة هي العلة المرعية ( الشرعية ) في القضية التي ثبت حكمها بالنص فإذا لم يمتنع ذلك وقوعا ولم يوجد إلا موافقة النص ومطابقته لموجب العلة فلا وجه
( للحكم ) بفسادها
1091 - ويتوجه وراء ذلك سؤالان والانفصال عنهما يبين حقيقة المسألة أحدهما أن قائلا لو قال العلة تستنبط وتستثار لفوائدها ولا فائدة في العلة القاصرة فإن النص يغني عنها ولسنا نمنع الظان أن يظن حكمه في مورد النص ومن اكتفى بهذا التقدير سوعد وليس ذلك محل الخلاف المعنى بالصحة والفساد فإن الغرض إبانة كون العلة القاصرة مأمورا بها ومعنى صحتها موافقتها الأمر ومعنى فسادها عدم تعلق الأمر بها ولا حرج على المفكرين في استنباط حكم إذا لم يكن استنباطهم مناطا لأمر فيخرج من ذلك أن القائل بالعلة ( القاصرة ) إن لم يظهر لها فائدة لزمه الاعتراف بكونها ساقطة الاعتبار خارجة عن تعلق الأمر الشرعي ولقد أضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى
1092 - ونحن نذكر المختار من طرقهم ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه ثم ننص على ما نراه قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس ( إذا جرت نقودا وهذا خرق من قائله وضبط على الفرع والأصل فإن المذهب أن الربا لا يجري في الفلوس ) إن استعملت نقودا فإن النقدية الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها ثم أن صح هذا المذهب قيل لصاحبه إن كانت الفلوس داخلة تحت أسم الدراهم فالنص متناول لها والطلبة بالفائدة قائمة وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذا والمسألة مفروضة في العلة القاصرة
1093 - وقال قائلون العلة القاصرة تفيد بعكسها فإذا ثبتت النقدية علة في النقدين فالنص مغن عن محل طرد العلة ولكن عدم النقدية يشعر بانتفاء تحريم الربا والنص على ( اللقب ) لا مفهوم له فهذا وجه إفادة العلة ويتوجه على هذا وجوه من الكلام واقعة لا استقلال بالجواب عنها منها أن الانعكاس لا يتحتم في علل الأحكام ولا يمتنع ثبوت علة يناط الحكم بها مع انتفاء العلة المعينة وإذا كان ذلك لا يمتنع فالعكس يضطر إلى إبطال ما يدعيه الخصم من العلة في معارضة العكس فإن لم يقدر على ذلك لم يستقل كلامه وإن تمكن من افساد ما يبديه الخصم من العلل المتعدية فلا حاجة أيضا إلى تكلف العكس فإن الأحكام تثبت غير متعلقة بدلالة وأمارة فليكتف الناظر بالنص في محل إثبات الحكم ( ثم يكفيه في محل العكس عدم الدلالات على ثبوت نقيض الحكم ) الذي يشهد عليه النص في محله ورجع حاصل القول إلى تكلفة طردا وعكسا من غير فائدة ومما يوضح الغرض في ذلك أن العلة إنما تنعكس ويتعين التعلق بها في إثبات نقيض حكم الطرد وبعكسها بشرطين أحدهما أن تكون مخيلة في الطرد والعكس يشعر العدم فيها بالعدم كما يشعر الوجود فيها بالوجود والآخر ألا تخلف العلة الزائلة في الثبوت علة فإن لم تخلف علة وأحال النفي في الانتفاء إحالة الثبوت في الإثبات فإذ ذاك يتصور محل الطرد
والعكس بصورة مسألتين مشتملتين على علتين وكل واحدة منهما سليمة عما يشترط سلامة العلل عنها وإذا كان الأمر كذلك فلتكن النقدية مخيلة حتى يتخيل فيها الانعكاس وليست النقدية مخيلة فقهية فقد سقط طلب إفادتها من جهة الانعكاس
1094 - فإن قال قائل إذا سلمتم أن العلة اذا لم تفد فلا يحكم عليها بصحة ولا فساد ولا تقدر متعلقا لأمر ولا نهي وعدت خطرة في مجاري الوسواس وخرجت عن الرتب المعول بها في الأقيسة فإين تستعمل هذه العلة القاصرة قلنا إن كان كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل فلا نرى للعلة القاصرة وقعا ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها لما ذكرناه في صدر المسألة وإنما ( يفيد ) إذا كان قول الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن تقدير حمله على الكثير مثلا دون القليل فإذا سنحت علة توافق الظاهر فهي تعصمه عن التخصيص بعلة أخرى لا تترقى ( في ) مرتبتها على المستنبطة القاصرة
1095 - ثم في ذلك سر وهو أن الظاهر إذا كان يتعرض للتأويل ولو أول لخرج بعض المسميات ولارتد الظاهر إلى ما هو نص فيه فالعلة في محل الظاهر كأنها ثابتة في مقتضى النص متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه حيث عصمته عن التخصيص والتأويل فكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا فلا يتجه غير ذلك في العلة القاصرة فليفهم الفاهم ما يرد ( عليه من ) ذلك
1096 - فإن قيل قول الرسول علسه السلام لا تبيعوا الورق بالورق الحديث نص أو ظاهر فإن زعمتم أنه نص فالتعليل ( بالنقدية ) باطل وإن كان
ظاهر فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فقد صار بقرينة الاجماع نصا فأي حاجة إلى التعليل فهذا منتهى القول فيه فنقول أما الحظ الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على الفروع فإن تخلفت مسألة فلتمتحن بحقيقة الأصول فإن لم تصح فلتطرح
1097 - فإن قيل ما ذكرتموه تصريح بإبطال التعليل بالنقدية قلنا لم نر أحدا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده ونصدره والصحيح عندنا أن مسائل الربا شبهية ومن طلب فيها إخالة اجترا على العرب كما قررناه في مجموعاتنا ثم الشبه على وجوه فمنها التعلق بالمقصود وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة الطعم والمقصود من النقدين النقدية وهي مقتصرة لا محالة وليست علة إذ لاشبه لها ولا إخالة فيها ولكن لما انتظم فيها اتباع المقصود عد من مسالك الاشياء الأربعة وليس بعد هذا نهاية
1098 - السؤال الثاني فإن قال قائل النص مقطوع به والعلة مستنبطة مظنونة ومجال الاجتهاد عند انعدام القواطع فلتبطل العلة القاصرة من حيث إنها مظنونة وهذا قريب المأخذ من السؤال الأول فإن غايته ترجع إلى أن لا فائدة فيها ولا أثر لها وما اخترناه يدرأ هذا فإنا بينا أن العلة إنما تستنبط ولفظ الشارع ظاهر ثم نبهنا على التحقيق
1099 - وقد ذكر بعض المنتمين إلى الأصول وهو الحليمي طريقة
( وأخذ ( يتبجج بها وقال من ينشئ نظره لا يدري أيقع على قاصرة أم متعدية فإن العلم بصفة العلة غير ممكن حالة إنشاء النظر فيجب النظر من هذه ( 5 ) الجهة وقائل هذا قليل ( النزل ) فإن الخصم لا ينكر هذا وإنما الخلاف فيما تحقق قصوره فما قول هذا الشيخ إذا انكشف النظر والعلة قاصرة ولا مزيد إذا على ما تقدم
1100 - ثم تكلم القائلون بالعلة القاصرة إذا عارضتها علة متعدية وثبت بمسلك قاطع من إجماع أو غيره اتحاد العلة في مورد النص فأي العلتين أقوى فذهبت طوائف من الفقهاء إلى أن المتعدية أقوى من حيث إنها المفيدة والقاصرة يغنى النص عنها وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن القاصرة أولى فإن النص شاهد لحكمها وامتنع آخرون من الترجيح من جهة التعدي والقصور وكل ذلك عندنا خارج عن حقيقة المسألة ومن أطلع على ما قدمناه هانت
عليه هذه المدارك وآل القول إلى أن القاصرة والمتعدية إذا سنحتا في مورد ظاهر والظاهر شاهد للقاصرة وهو أيضا شاهد في مضمونه للمتعدية فإن المتعدية تستوعب محل الظاهر وتزيد فقد استويا في الشهادة واختصت المتعدية بالإفادة وهي المعتبرة في تقدير توجه الأمر بالقياس فإذا جرت المتعدية سليمة لم يقدح فيها غير معارضة القاصرة
1101 - والذي يظهر عندي أن المتعدية أولى وهذا إذا استوتا في المرتبة جلاء وخفاء وسيعود هذا الفصل بعينه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى وما قدرناه لا يجري في ( النقدين ) فإن العلة التي عداها الخصم فيها باطلة من وجوه سوى المعارضة وإنما الذي ذكرناه كلام مرسل حيث يتصور سلامة القاصرة والمتعدية ولو فرضت كل واحدة منهما مفردة مسألة
1102 - ومن الاعتراضات الفاسدة أنه إذا تعلق المتعلق بما يدل على فساد في الفرع واستشهد به على فساد الأصل كان ذلك مقبولا عند المحققين وقد يناكد في مدافعه ذلك بعض الجدليين ويقول التفريع تسليم الأصل وخوض في تسليم الفرع والتصرف في الفرع اعتراف بصحة الاصل وثبوته فإذا قلنا نكاح لا يفيد الحل مع إمكان الاستمتاع وجهوا هذا السؤال وهذا الاعتراض فاسد لا خفاء بسقوطه فإن ( صحة ) الأصول إذا كانت
تقتضي صحة الفروع ( ففساد الفروع ) يدل على فساد الأصول وإنما يستمر هذا الاعتبار إذا قدر المعتبر أن الأصل إذا صح مقتضاه نقيض ما ثبت في الفرع في محل الاعتلال وإذا ثبت ذلك كان ذلك باعتبار حكم الفرع في نهاية الظهور وغاية القايسين الوصول إلى غلبات الظنون ولا مزيد على ما فيه الكلام فإذا ثبت اقتضاء أصل حكما وتبين أن ذلك الحكم غير ثابت ظهر أن الأصل لم يثبت على الصحة ولا يبقى مع هذا الإلحاح الجدلي ولجاجة في عبارة الأصل والفرع معنى
1103 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن من لا يقول بالاستدلال ويزعم أن كل معنى يستدعي الاستناد إلى أصل وإن كان مخيلا فالذي يقتضيه قياسه أن يستثني هذا الفن ويقول به وإن لم يجد ( أصلا ) فإنه اذا سلم اقتضاء العقد حكما ثم لم يثبت مقتضاه فلا يستريب في اختلال العقد إذا تخلف عن اقتضائه ثم من صحح هذا النوع اضطربوا في أنه ( هل هو ) من قياس المعنى أو من قياس الشبه فقال قائلون هو من أجلى الأشباه وقال آخرون هو من أقيسة المعاني والصحيح عندنا أنه من أقيسة الدلالة كقول القائل من صح طلاقه صح ظهاره بل هذا الذي نحن فيه أعلى ( منه ) فإنه تعلق بغير مقتضى الشيء ولا يجوز المحصل مباينة المقتضى مقتضاه والطلاق والظهار حكمان متغايران
مسألة
1104 - ومن الاعتراضات الفاسدة أنه إذا طرد طارد علة في حكم واستمر له فقال المعترض هلا طردتها في حكم آخر بعينه فهذا الاعتراض فاسد مثاله أنا إذا اعتبرنا كون الشيء مقتاتا مستنبتا في تعلق العشر فإنا نسلم هذا الاعتبار عن وجوه الاعتراضات الواقعة فقال المعترض بعد هلا اعتبرتم ( ذلك ) في تحريم ربا الفضل فإذا أبطلتموه في الربا فأبطلوه في الزكاة فنقول هذا لا وجه له فإن من طرد علة في حكم فلا يلتزم إلا كونها مشعرة به إن كانت معنوية مع السلامة عن الوجوه المبطلة ولا سبيل إلى تكليف المعلل طرد علته في جميع الأحكام فإن زعم المعترض أن تحريم الربا في معنى الزكاة كان مدعيا مطالبا بإثبات ما يدعيه هذا حكم الجدل في المسلك الحق وليس من المدافعات ولكن الناظر البالغ مبلغ الاجتهاد إذا كان يبغي مدرك مأخذ الكلام فحق عليه أن يعرف انفصال كل باب عما عداه في سبيله وليس كل ما يلتزمه المجتهد في نفسه يلزمه البوح به في النظر مسألة
1105 - ومن الاعتراضات الفاسدة التعرض للفرق بين الأصل والفراغ بما هو نتيجة ( افتراقهما ) في
الاجتماع والخلاف ومثاله إذا قاس القايس النبيذ المشتد على الخمر فقال المعترض مستحل الخمر كافر ومستحل النبيذ لا يفسق وهذا يرجع حاصله إلى أن تحريم الخمر متفق عليه ثابت من جهة الشرع قطعا ومنكر ذلك جاحد للشرع وتحريم النبيذ مختلف فيه ومن هذا الجنس قول أصحابنا في طلب الفرق بين المدبرة والمستولدة إن القضاء ببيع المستولدة منقوض بخلاف المدبرة وهذا باطل لصدره عن افتراق الأصل والفرع في ظهور الحكم في الأصل وكونه مجتهدا فيه في الفرع مسألة
1106 - ومن الاعتراضات الفاسدة قول القائل الحكم يثبت في الأصل متأخرا والمعلول لا يسبق العلة فإذا قسنا الوضوء في الافتقار إلى النية على التيمم قالوا ثبوت التيمم متأخر عن الوضوء والجواب عن ذلك لائح ولا يليق بهذا المجموع ذكر أمثال ذلك إلا رمزا فنقول إذا ثبت اشتراط النية في التيمم فاعتبار الوضوء به في الحال متجه وسؤال المعترض مباحثة عن أمر منقض وحقه ألا يتعرض لما مضى فإن الناظر في تأخر النزاع قد لا يشك في أن النية في الوضوء كانت عند مثبتيها مدلولة بدلالة أخرى قبل ثبوت التيمم فإذا ثبت التيمم دل عليها والعلامات قد تترتب تقدما وتأخرا وذلك غير مستنكر في دلالات العقول فما الظن بالأمارات ثم لا يمتنع أن يقال إذا ثبت كون الوضوء في معنى التيمم ثم ثبتت النية في
التيمم أرشد ذلك من طريق السبر والاستناد إلى أن النية كانت مرعية في الوضوء فيما سبق وهذا تكلف مستغنى عنه فإن المناظرات لا تدار على الأحكام الماضية ومنتهى هذا السؤال آيل إلى المطالبة بما دل على ( النية قبل ) ثبوت التيمم وهذا لا يلزم الجواب عنه مسألة
1107 - ومن الاعتراضات الفاسدة جعل المعلول علة والعلة معلولا مثاله إنا إذا قلنا في ظهار الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فإذا قال المعترض جعلتم الظهارة معلولا والطلاق علة وأنا أقول في الأصل المقيس عليه ( المسلم 9 إنما صح طلاقه لأنه صح ظهاره فأجعل ما جعلتموه علة معلولا وما جعلتموه معلولا علة فإذا كان لا ينفصل ما ادعيتموه عما ادعيناه ولا يتأتى تميز العلة عن المعلول لم يصح فإن باب العلة ينبغي أن يتميز بحقيقته وخاصيته عن باب المعلول وقد يستشهد هذا السائل بلقب قرع مسامعه من المعقولات ويقول العلة والمعلول في الشرعيات على مضاهاة العلل في العقليات ثم العلة العقلية متميزة عن المعلول فليكن الأمر كذلك في السمعيات وهذا عند ذوي التحقيق ركيك من الكلام وإنما يتوجه هذا الفن من الاعتراض على قياس الدلالة كالطلاق والظهار وما أشبهها فإن الغرض أن يدل باب على باب بوجه يغلب على الظن ومن يروم ذلك يتمسك بالمتفق عليه من البابين ويجعله علما ودلالة على المختلف فيه فإن كان هذا المعترض يتشبث برد قياس الدلالة ويجعل
ما ذكره عبارة عن هذا المقصود فالوجه إثبات هذا الباب من القياس وقد تقدم ذكر ذلك وإن كان يعترف بقياس الدلالة فالذي ذكره جار فيه ثم لا ننكر أن يكون الظهار علما دالا على الطلاق حيث تمس الحاجه إلى ذلك والغرض ألا يختلف البابان إذا غلب على الظن اجتماعهما فقد تبين سقوط الاعتراض وأما مل ذكره من الاستشهاد بالعله والمعلول في المعقول فما أبعدهم عن ذلك وهو عمدة صناعة الكلام والذي انتهى إليه اختيارنا بعد استيعاب معظم العمر في المباحثة أن ليس في العقل علة ولا معلول فكون العالم عالما هو العلم فيه بعينه وإنما صار إلى القول بالعلة والمعلوم من أثبت الأحوال وزعم أن كون العالم عالما معلول والعلم علة له وهذا مما لا نرضاه ولا نراه ثم العلل الشرعية لا تجري مجرى المعقولات فإن الأحكام العقلية تستند إلى صفات الأنفس والذوات والعلل الشرعية مستندها النصب وليست هي مقتضية معلولاتها لأنفسها وإذا كان انتصابها عللا راجعة إلى نصب ناصب إياها أعلاما فلا يمتنع تقدير ( حكمين ) كل واحد منهما علم على الثاني مشعر بوقوعه عند وقوعه مسألة
1109 - ومن الاعتراضات الفاسدة أن يقول القائل هذا الذي نصبته علما هو صورة المسألة فالعلة حقها أن
تكون زائدة على الحكم وهذا لا حاصل له فإن الذي نصبه ( الناصب علما ) إن أخال وجرى سليما عن المبطلات غير معترض على الأصول فلا معنى لقول القائل أنها صورة المسألة إذ لا علة في عالم الله تعالى إلا وهي كذلك فالوجه إقامة شرائط العلة واطرح هذا الفن من السؤال وحظ هذا الفن من التحقيق أن من نص على صورة المسألة وميزها بخاص وصفها فلا يتصور أن يجد أصلا متفقا عليه وإن ذكر عبارة تعم صورة المسألة وأصلا متفق عليه فالوجه الذي به العموم هو الجمع ولا تتصور العلل إلا كذلك فهذا منتهى المراد في هذا وقد نجز بنجازه ( الكلام في ) الاعتراضات الصحيحة والفاسده
فصل القول في المركبات فصل ( التركيب في الأصل )
1110 - وهذا يستدعي تجديد العهد بالطرق التي تثبت بها علل الأصول وقد سبقت فليجدد الناظر عهده بها مما تقدم في هذا المجموع ولا مطمع والمسألة مختلف فيها في علة تكون في الأصل متفقا عليها فإنها لو كانت مجمعا عليها وهي م موجودة في محل النزاع فلا يتصور والحالة هذه الخلاف في الفرع ومما تمس الحاجة إلى ذكره أن من ذكر في علة الأصل صفة مضمونة إلى أخرى وكانت ( إحدهما ) تستقل بإثبات الحكم المطلوب في الأصل وهذا النوع من التعليل باطل مثل أن نقول في النكاح بلا ولي أنثى فلا تزوج نفسها كالصغيرة فكأنه ذكر الأنوثة والصغير في الأصل فهذه مقدمات لا بد من التنبه لها
1111 - ثم التركيب يقع في الأصل والوصف فأما التركيب في الأصل فمنه البين والفاحش ومنه ما لا يتفاحش ونحن ( نرسم الصور ) ونذكر في كل صورة ما يليق بها ثم نذكر قولا جامعا بعد نجاز الصور والأقوال فيها فمن الصور أن يقول المعلل أنثى فلا تزوج نفسها كابنة خمس عشرة سنة والخصم يعتقد أنها صغيرة ولو كانت كذلك لكان ما جاء به المعلل قياسا على
الصغيرة وقد ذكرنا بطلانه وإن ثبت أنها كبيرة فسيمنع الحكم ويقضي بأنها تزوج نفسها
1112 - والذي ذهب إليه طوائف من الجدليين القول بصحة التركيب وحاصل كلامهم يئول إلى ألى أن الحكم متفق عليه والمعلل يلتزم إثبات الأنوثة علة فإن أثبتها ثبتت العلة وتشعب المذاهب بعد ذلك لا اصل له وإن لم يتمكن المعلل من إثبات ما ذكره في الفرع علة في الأصل فالذي جاء به باطل وإن لم يكن مركبا فإذا لا أثر للتركيب كان أو لم يكن وإنما المتبع إثبات علل الأصول وهذا باطل عند المحققين فإن المخالف يقول ظننت ابنة الخمس عشرة صغيرة ولو كانت كذلك لكان القياس على الصغيرة باطلا كما تقدم إلحاقا بالقياس على ما لو مس وبال وإن ثبت بما يغلب على الظن أن ابنة الخمس عشرة بالغة فلها أن تزوج نفسها ولا يخلو التقدير من هذين فالعلة مرددة بين منع الحكم في الأصل على تقدير وبين سقوط العلة على تقدير
1113 - فإن قيل أرأيتم لو أثبت المعلل الأنوثة علة قلنا ما نراه يقدر على ذلك فإن فرض إمكان ذلك فالعلة لا أصل ( لها ) ويرجع الكلام إلى الاستدلال المحض كما سنذكره بعد نجاز القول في المركبات فإن قيل يثبت المعلل أن الأنوثة علة في ابنة الخمس عشرة قلنا مع اعتقاد صغرها أو مع ثبوت بلوغها فإن ثبت بلوغها فالحكم ممنوع وإن ثبت وإن ثبت صغرها فالصغر مستقل بالمنع
1114 - صورة أخرى إذا قلنا في تزويج الأب البكر بكر فيزوجها أبوها مجبرا كبنت الخمس عشرة
فهذه الصورة دون الأولى فإنه وإن ثبت صغرها فالقياس على البكر الصغيرة غير ممتنع عند الشافعية إذ مجرد الصغر لا يثبت ولاية الأب فإن الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها عندهم فتصدى في الأصل تقدير منع بأن يقول الخصم ابنة الخمس عشرة صغيرة فإذا أنكر عليه قال هذا مظنون فإن ثبت أنها بالغة فلا يجبرها الأب ولا شك أن من يقول بالتركيب يقبل هذا وهذه الصورة تنفصل عن الأولى فإن الأولى تبطل على تقدير الصغر والبلوغ جميعا ( والصورة ) الثانية لا تبطل على تقدير الصغر ولكن يتوجه على تقدير الكبر منع من الخصم ( ويضطر المعلل ) إلى رد القياس إلى الصغيرة بالبكر فيلغو تعيين خمس عشرة
فصل ( التركيب في الوصف ) 1115 - وأما التركيب في الوصف فمنه المتفاحش وهو أن يقول الشافعي في قتل المسلم بالذمي من لا يستوجب القصاص بقتل شخص بالمثقل لا يستوجب بقتله بالسيف كالأب في ابنه فهذا يصححه بعض الجدليين بناء على ما تقدم وهو على نهاية الفساد عندنا فإن المثقل على رأي الخصم ليس آلة القصاص فإن ثبت أنه ليس آلة القصاص كان القصاص باطلا ( آيلا ) إلى أن من لا يستوجب القصاص بقتل شخص خطأ لا يستوجب بقتله عمدا وإن ثبت أنه آلة القصاص منع الخصم الحكم فالعلة بين
منع بطلان
1116 - وقد يجري في الوصف تركيب قريب يضاهي عند المحققين التمسك بمناقضة الخصم وشرط ذلك أن يكون مشعرا بفقه ومثاله قولنا في الثمرة التي لم تؤبر أنها تتبع الشجرة في مطلق التسمية ما يستحقه الشفيع من الشجرة يدخل تحت مطلق تسميتها كالأغصان ووجه الفقه أن الشفعة في وضعها لا تختص بالمنقولات فأشعر أخذ الشفيع الثمرة بكون الثمرة معدودة من إجزاء الشجرة ملتحقة بها فأما إذا قال الخصم سبب أخذها قطع ضرار مداخلة المشترى ولذلك أثبت أخذ الثمار المؤبرة ( للشفيع ) فالوجه أن يقول الحكم المطلوب ثابت والمناسبة كما تريدها ظاهرة ومعناكم ظاهر على السبر فقد جرى هذا فقها وسببه مناقضتكم فليسند التعلق به وما يتعلق تعلقا ظاهرا فإنه يتضمن إلحاق الثمرة بأجزاء الشجرة وهو المقصود الأقصى والتركيب البعيد لا يناسب غرض المسألة والتعويل فيه على ( زلل ) الخصم
1117 - مسألة أخرى ليست من محل النزاع بسبيل كغلط يتفق في سن البلوغ فلا تعلق له بتزويج المرأة أو امتناع
ذلك عليها فإذا توصل ذو الجدل إلى صورة فيها غلط للخصم عنده في حد البلوغ فإنا نستجيز طالب المعنى ( استثارة ) غرض النكاح من غلطه ( في ) سن البلوغ
1118 - وإذا اعتبرنا القصاص ( في النفس بالقصاص في الطرف ) في صورة تغرضها في قتل المسلم بالذمي وذلك إذا فرضنا في المسلم والذمية ثم اعتبرنا النفس بالطرف كان الاعتبار واقعا مناسبا لغرض ( المسألة ) إما من جهة ( تشبيه ) أو من جهة إشارة إلى معنى فقه فإذا ذهبوا يخبطون في الأطراف كان ذلك من مناقضاتهم وسوء نظرهم وعلى هذا يجري تدرب النظار في مناقضات الخصوم فهذا منتهى القول فيما يصح ويبطل من التركيب في الأصل والوصف مسألة ( في التعدية )
1119 - ثم ضرى أهل الزمان بفن من الكلام يسمونه التعدية وهو عرى عن التحصيل ولكن لا سبيل إلى تعرية هذا المجموع عن ذكره والتنبه على فساده فنفرض ( من صوره ) صورة في التركيب ونرتب عليها صورة التعدية فإذا قلنا أنثى لا تزوج نفسها كبنت الخمس عشرة فيقول المعترض المعنى فيها انها صغيرة وأعدى ذلك إلى منع استقلالها بالتصرفات واطراد ولاية الولى
عليها فإذا قال المعلل دعواك الصغر ممنوعة وكذلك فروعها قال المعدي كذلك الأنوثة ليست علة وقد ادعيتها علة ودعديتها إلى فرعك فادعيت الصغر علة وعديتها إلى فروعي فاستوى القدمان وآل الأمر إلى التزامك إبطال علتي أو ترجيح علتك وقد ينقدح للمعدي جهتان في التعدية و ( ذلك ) إذا قال المعلل بكر فيجبرها أبوها كبنت الخمس عشرة فينقدح للمعدي أن يقول المعنى فيها أنها صغيرة وأعدى ذلك إلى اضطراد الحجر عليها فهذا وجه في التعدية وقد يقول المعنى فيها أنها صغيرة واعديها إلى جواز تزويجها مجبرا وإن كانت ثيبا وهذا يطرد للمعدي في الصغيرة الثيب التي يتفق على صغرها
1120 - ثم تكلم أصحاب التركيب على التعدية من وجوه لست ارى ذكر معظمها فمنها أنهم قالوا معناى مسلم الوجود وهو الأنوثة وإنما أنازع في إثباته علة وهذا يجري في ( كل ) علة مستثارة في محل الاجتهاد وما ادعيته علة لا أسلم وجوده فإن اشتغلت بإثبات وجوده كنت منتقلا إلى مسألة أخرى ليست من مسألتنا بسبيل والانتقال ممنوع لا سبيل إليه ويستوي فيه السائل والمسئول فهذا وجه التضييق الذي تخيله المركبون فلو عدى المسئول لم يقبل منه فإن دليل المسئول إنما يقبل في نفس المسألة أو فيما تنبني عليه فإنه إذا احتاج إلى
إثبات مسألة لا تعلق لها بمحل النزاع فقد عد متنقلا
1121 - وقد يسلك المركب في إبطال التعدية مسلكا آخر فيقول لو ثبت معناك لقلت به ضمنا إلى معناي فإن الحكم لا يمتنع ثبوته بعلتين وهذا قد لا يجري في بعض المركبات فإنا إذا قلنا بكر فتجبر كما ذكرناه فذكر المعدي الصغر لم يمكنا أن نجعل الصغر علة في الإجبار فإن الثيب الصغيره لا تجبر عندنا
1122 - وقال الأستاذ أبو إسحاق وهو من المركبين سبيل المركب إذا عورض بالتعدية أن يقول معناي عندكم دعوى غير مثبتة ( بما ) تثبت به معاني الأصول أم قد يثبت مدلولا فإن لم يقم عليه دليل ( فلست ) معللا بعد ولا مقيما متمسكا في محل النزاع فابتدارك إلى معارضتي بالتعدية غير متجه وإن اعترفت بكون معناي ثابتا فمعناك الذي ابتدأته ليس مناقضا لمعناي وإنما تقدح المعارضة إذا جرت مناقضة في المقتضى فهذا مضطرب المركبين والمعدين وقد بان أصلنا فيما نقبله ونرده في تركيب الأصل والفرع
1123 - ونحن الآن نجمع المقصود والمدرك الحق في تقسيم فنقول الأقيسة ( الخلية ) عن معنى التركيب في الأوصاف والأصول بينة وقد قدمنا تقاسيمها وذكرنا مراتبها فأما ما يليق بما نحن فيه فينقسم إلى قسمين أحدهما يتلقى انتظامه من مذهب الخصم لا تعلق له بمحل النزاع ولا يشعر
به ولا يقتضيه بطريق التشبيه وهذا كمصير أبي حنيفة إلى أن بنت الخمس عشرة صغيرة فهذا لا يناسب تزويج المرأة نفسها ولا امتناع ذلك منها وليس منها على معنى ولا تشبيه ومذهبه ذكر التركيب فهو إذا ( تعقيد ) على الشادين والمبتدئين ومدافعة لهم عن مسلك الرشد وتعميه عليهم وقد أجمع الناظرون في هذا الباب أن هذا القسم لا يجوز أن يكون مستند الفتوى ولا الحكم وليس هو مناطا لحكم الله تعالى لا معلوما ولا مظنونا فهذا هو المردود فإن الجدل الحسن المأمور به هو الذي ( يقرب ) من مثار الاحكام ( فيرشد ) إلى مناطها وهذا القسم هو المردود عندنا
11240 - وأما التركيب المشعر بفقه كما قدمنا تصويره فينقسم إلى قسمين منه ما الحكم فيه مع المعنى الفقيه متفق عليه فما كان كذلك فهو مقبول مستند للفتوى والحكم ووجوب العمل وهذا كقياسنا القصاص في النفس على القصاص في الطرف في بعض صور الوفاق وإن وقع القصاص في الطرف مركبا عند الخصم كان التركيب منه معدودا من خبطه وتعلق القياس بالإجماع على الحكم والمعنى الفقيه أو وجه لائح في التشبيه فهذا قسم
1125 - والقسم الثاني من هذا أن ينفرد الخصم بتسليم الحكم ثم يبتدئ منه تركيبا فهذا لا ينتهض مستند الفتوى والحكم ولكن يجوز التمسك به في المناظرة كما يجوز التمسك بمناقضة الخصم والسبب فيه أن المناقضات لها تعلق بفقه المسألة وفي المباحثة عنها التنبيه على مآخذ الكلام والتدرب في الجدل المفضى إلى مدرك الحق وهذا من فوائد المناظرات
1126 - فيترتب من مجموع ما ذكرنا مركب مردود حكما ونظرا ومركب معمول به حكما ومن ضرورته أن يكون مقبولا نظرا ومركب مقبول نظرا والغرض منه التدرب في المسلك المطلوب في المناظرات وليس معمولا به في فتوى ولا قضاء وقد نجز بهذا تمام القول في المركبات بل وفي تقاسم الأقيسة وما يصح وما يفسد من الاعتراضات وطرق الانفصال عنها ونحن الآن نفتتح الكلام في الاستدلال
-
الكتاب الرابع - كتاب الاستدلال القول في الاستدلال
1127 - اختلف العلماء المعتبرون والائمة الخائضون في الاستدلال وهو معنى مشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي من غير وجدان أصل متفق عليه والتعليل المنصوب جار فيه
1128 - فذهب القاضي وطوائف من متكلمي الأصحاب إلى رد الاستدلال وحصر المعنى فيما يستند إلى أصل
1129 - وأفرط الإمام إمام دار الهجرة مالك بن أنس في القول بالاستدلال فرئى يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداث القتل وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لتلك المصالح مستندا إلى أصول ثم لا وقوف عنده بل الرأي رأيه ما استند نظره وانتقض عن أوضار التهم والأغراض
1130 - وذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما إلى ( اعتماد ) الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبهية بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة
1131 - فالمذهب إذا في الاستدلال ثلاثة أحدها نفيه والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل والثاني جواز إتباع وجوه الاستصلاح والاستصواب قربت من موارد النص أو بعدت إذا لم يصد عنها أصل من الأصول الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع والمذهب الثالث هو المعروف من مذهب الشافعي التمسك بالمعنى وإن لم يستند إلى أصل على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة
1132 - أما القاضي فإنه احتج بأن قال الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والإجماع ملتحق بهما والقياس المستند إلى الاجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة وليس يدل لعينه دلالة ادلة العقول على مدلولاتها فانتفاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به وقال أيضا المعاني إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشارع وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء حكمة الحكماء فيصير ذوو الأحلام بمثابة الأنبياء ولا ينسب ما يرونه إلى ربقة الشريعة وهذا ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل ما يراه ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون
1133 - وأما الشافعي فقال إنا نعلم قطعا أنه لا تخلو واقعه عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه و سلم على ما سنقرره في كتاب الفتوى والذي يقع به الاستقلال هاهنا أن الائمة السابقين لم يخلوا واقعه ( على ) كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى عن حكم الله تعالى ولو كان ذلك ممكنا لكانت تقع وذلك مقطوع به أخذا من مقتضى العادة وعلى هذا علمنا بأنهم رضى الله عنهم استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق ( بأنبساطها ) على الوقائع متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح متشوف إلى ما سيقع ولا يخفى على المنصف أنهم ( ما ) كانوا يفتون فتوى من فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى ما يعرى عن حكم ( الله ) وإلى ما لا يعرى عنه فإذا تبين ذلك بنينا عليه المطلوب وقلنا لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما اتسع باب الاجتهاد فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع من متسع الشريعة غرفة من بحر ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان ( وقوفهم عن ) الحكم يزيد على جريانهم وهذا ( إذا ) صادف تقريرا لم يبق لمنكرى الاستدلال مضطربا
1134 - ثم عضد الشافعي هذا بأن قال من سبر أحوال الصحابة رضي الله عنهم وهم القدوة والأسوة في النظر لم ير لواحد منهم في مجالس الأشتواء تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه ولكنهم يخوضون في وجوه الراى من
غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن فإذا ثبت اتساع الاجتهاد واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات وانضم إليه عدم احتفال علماء الصحابة تطلب الأصول أرشد مجموع ذلك إلى القول بالاستدلال
1135 - ومما يتمسك به الشافعي رضي الله عنه أن يقول إذا استندت المعاني إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست الأصول وأحكامها حججا وإنما الحجج في المعنى ثم المعنى لا يدل بنفسه حتى يثبت بطريق ( إثباته ) وأعيان المعاني ليست منصوصة وهي ( المتعلق ) فقد خرجت المعاني عن ضبط النصوص وهي متعلق النظر والاجتهاد ولا حجة في انتصابها إلا تمسك الصحابة رضي الله عنهم بأمثالها وما كانوا يطلبون الأصول في وجوه الرأي فإن كان الأقتداء بهم فالمعاني كافية وإن كان التعلق بالاصول فهي غير دالة ومعانيها غير منصوصة
1136 - ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقا بأصل ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة فإن عدمها التفت إلى الأصول ( مشبها ) كدأبه إذ قال طهارتان فكيف يفترقان ولا بد في التشبيه من الأصل كما سنجري في ذلك فصلا إن شاء الله تعالى
1137 - وأما ذكره القاضي من المسلك الأول ففي طرد كلام الشافعي ما يدرؤه ولو قيل لم يصح في النقل عن واحد طرد القياس على ما يعتاده بنو الزمان من تمثيل أصل واستثارة معنى منه وربط فرع به لكان ذلك أقرب مما قال القاضي
1138 - وأما ما ذكره من خروج الأمر عن الضبط والمصير إلى انحلال ورد الأمر إلى آراء ذوي الأحلام فهذا انما يلزم مالكا رضي الله عنه ورهطه إن صح ما
روى عنه كما ( سنقيم ) الآن واضح الرأي على أبي عبد الله مالك رضي الله عنه أولا حتى إذا انتجز ضممنا ( النشر ) وأنهينا النظر وأتينا بمسلك اليقين والحق المبين مستعينين بالله تعالى وهو خير معين
1139 - فنقول لمالك رحمه الله ( أتجوز ) التعلق بكل رأي فإن أبي لم نجد مرجعا نقر ( عنده ) إلا التقريب الذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه كما سنصفه وإن لم يذكر ضبطا وصرح بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي المرسل واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط ويلزم منه ما ذكره القاضي رحمه الله
1140 - وما نزيده الآن قائلين لو صح التمسك بكل رأي من غير قرب ومداناة لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه الإيالات إذا راجع المفتين في حادثة فأعلموه أنها ليست منصوصة في كتاب ولا سنة ولا أصل لها يضاهيها لساغ والحالة هذه أن يعمل العاقل بالأصوب عنده والأليق بطرق الاستصلاح وهذا مركب صعب لا يجترىء عليه متدين ومساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء وإحكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك ثم وجوه الرأي تختلف بالأصقاع والبقاع والأوقات ولو كان الحكم ما ترشد إليه العقول في طرق الإستصواب ومسالكه تختلف للزم أن تختلف الأحكام ( باختلاف ) الأسباب التى ذكرناها ثم عقول العقلاء قد تختلف وتتباين على النقائض والأضداد في المظنونات ولا يلزم مثل ذلك فيما له أصل أو تقريب فإن ( شوف ) الناظرين إلى الأصول
الموجودة فإذا رمقوها واتخذوها معتبرهم لم يتباعد أصلا اختلافهم ولو ساغ ما قاله مالك رضي الله عنه إن صح عنه لاتخذ العقلاء أيام كسرى أنو شروان في العدل والإيالة معتبرهم
وهذا يجر خبالالا استقلال به
1141 - وإن أخذ مالك رحمه الله وأتباعه يقربون وجه الرأى من القواعد الثابتة في الشريعة فالذي جاءوا به مذهب الشافعي رحمه الله على ما سنصف طريقة
وإنما وجهنا ما ذكرناه على من يتبع الرأى المجرد ولا يروم ربطة بأصول الشريعة ويكتفي ألا يكون في الشريعة أصل يدرؤوه من نص كتاب أو سنة أو إجماع
1142 - فإن قيل فما معنى التقريب الذي نسبتموه إلى الشافعي
قلنا هذا محز الكلام ونحن نقول قد ثبتت أصول معللة اتفق القايسون على عللها فقال الشافعي أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل الإستدلالات قريبة منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول والإستدلال معتبر بها واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة بمعنى جامع فإن متعلق الخصم من صورة الأصل معناها لا حكمها فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع ولم يرده أصل كان استدلالا مقبولا وهذا يتبين برسم مسألة واستقصاء القول فيها ونحن نجريها ونذكر ما فيها حتى تنتجد الأصول والمعاني والإستدلالات
مسألة
1143 - الرجعية محرمة الوطء عند الشافعي وهي مباحة الوطء عند أبي حنيفة رضي الله عنهما
ومعتمد الشافعي أنها متربصة في تبرئة الرحم وتسليط الزوج على شغل رحمها في الزمان الذي تؤمر فيه بالتبرئة متناقض
وهذا معقول فإن المرأة لو تربصت قبل الطلاق واعتزلها الزوج لم يعتد بما جاءت به عدة فلو كانت تحل قبل الطلاق وبعده لما كان لأختصاص الأعتداد بما بعد الطلاق معنى ولم يطلب الشافعي بهذا المعنى أصلا وما ذكره قريب من القواعد فإنه كلام منشؤه من فقه العدة ثم عضده بما قبل الطلاق
1444 - وقال بعض اصحابه نقيس الرجعية على البائنة في العدة ويتسع الآن القول في إثبات الحكم بالعلتين ونفى ذلك والغرض يتبين بفرض أسئلة وأجوبة عنها
فإذا قلنا معتدة فتكون محرمة كالمعتدة البائنة فيقول المعترض المعنى في تحريمها أنها بائنة وهذا المعنى يستقل باقتضاء الحكم ولا خلاف أن البينونة علة في اقتضاء التحريم فليقع الأكتفاء عنها
وربما أكد السائل كلامه بأن قياس الرجعية على البائنة بمثابة قياس البالغة على الصغيرة بجامع الأنوثة فإذا قال القائل أنثى فلتلحق بالصغيرة كان ذلك مردودا فإن الصغر بمجرده يستقل نافيا للإستقلال فلا أثر للأنوثة وقد قدمنا ذلك في العلل المركبة وهذا القول يلتحق بقول القائل مس فصار كما لو مس وبال
وقد أجاب عن ذلك الأولون فقالوا لسنا ننكر كون البينونة علة ولكن العدة علة أخرى وليس بين العلتين تعارض إذ ليس بين حكميهما تناقض ولا يمتنع
ارتباط الحكم الواحد بعلتين وأما القياس على الأنثى الصغيرة فهو في صوره كقياس الرجعية على البائنة ولكن الأنوثة ليست مخيلة والمستدل بتلك الصورة طارد فكان بطلان العلة لذلك وكذلك سبيل القياس على ما لو مس وبال
1145 - فإن قيل قد قدمتم أن الحكم لا يعلل بعلتين فلم سوغتموه الآن قلنا حاصل كلامنا فيما مضى آيل إلى أن ذلك غير ممتنع من طريق النظر فإن العلل الشرعية أمارات ولا يمتنع انتصاب أمارات على حكم واحد كما لا يمتنع ازدحام أدلة عقلية على مدلول واحد وإنما كان يمتنع تقدير ذلك أن لو كانت الأمارات موجبات كالعلل العقلية عند مثبتيها فإنها موجبة معلولاتها فيمتنع على هذا التقدير ثبوت موجبين لموجب واحد مع الاستقلال بأحدهما وينجر القول إلى سقوط فائدة إحدى العلتين وهذا لا يتحقق في العلامات ولكنا مع هذا قلنا هذا الذي لا يمتنع في مسلك النظر لم يتفق وقوعه ثم أوردنا صورا يتعلق بها في ظاهر الأمر حكم بعلل وأوردنا أنها أحكام تعلل بعلل وإنما يتخيلها الناظر حكما واحدا لضيق المحل عن الوفاء بأعدادها عند ازدحامها وقد سبق في هذا قول مقنع تام والغرض من تجديد العهد به أن القايس على البائنة ( يستدل بأن ) يقول اجتمع في البائنة المعتدة علتان وتحريمان أحد التحريمين تحريم البينونة وانقطاع النكاح وهذا لا يختص بالعدة فإنها لو ( أبينت ) قبل الدخول من غير عدة لحرمت والتحريم الثاني تحريم التربص فهذا هو المطلوب وهو المعلل بالعدة وليس في هذا التقدير إثبات حكم واحد بعلتين فإن أنكر ( منكر ) كون العدة علة فعلى
السابر الجامع أن يثبت ذلك بما يثبت به علل الأصول فهذا وجه الكلام
1146 - ونحن نذكر الآن في هذا الفن سرا بديعا يتخذه الناظر معتبرا في أمثاله فإن قال قائل إنما يستقيم ما ذكرتموه من تجريد النظر إلى العدة بأن تقدروا زوال البينونة وتمحض العدة من غير انقطاع النكاح ولو كان كذلك لكان ما تعتقدونه أصلا عين مسألة الخلاف فإن المعتدة التى ليست بائنة هي الرجعية وينقدح في هذا السؤال الذي اعتمدناه في رد التركيب إذ قلنا المركب يقول إن كانت ابنه الخمس عشرة كبيرة فالحكم ممنوع كذلك إن فرض تجريد العدة عن البينونة فيكون الحكم ممنوعا عند الخصم وهذا الذي نحن فيه نوع من التركيب في العلل ومهما سلم الجامع ثبوت علة أبداها المعترض ( في الأصل ) سوى ما وقع الجمع به فيتوجه تقدير المنع على هذا الترتيب الذي ذكرناه وهذا من لطيف الكلام في هذا الباب فليتنبه الناظر له وهو يجري في القياس على ما لو مس وبال ( لو ) كان قوله مس مخيلا فإن رجع الكلام إلى أنه مس فصار كما لو مس فلا يستبد التعلق بالعدة في اقتضاء التحريم إلا استدلالا
1147 - فإن قيل لو قال من يحرم الرجعية معتدة فشابهت المعتدة عن وطء شبهة طارىء على النكاح فهل يصلح هذا وهل يستقيم ( تقدير عدة الشبهة ) أصلا قلنا هذا على اطراده من أحسن فنون الطرد فإن المعتدة في الأصل مشغولة الرحم بماء محترم لغير الزوج وفي إقدام الزوج على وطئها اختلاط الماءين ولا
خلاف أن التحريم في الأصل معلل بهذا لا غير ومن يريد جمعا في متعلق له إلا اسم المعتمدة فكان طاردا فإن أخذ يبدي ( في عدة المعتدة الرجعية ) ما ذكرناه استدلالا من كونها متربصة عن الزوج لم يتحقق هذا في الأصل فالعلة ( ألاولى ) فيها اخالة ربط حكم أو حكمين متماثلين بعلتين وهذه العلة إن ردت إلى طالب الإخالة فالأمة مجمعة على أن الفرع والأصل غير مجتمعين في المعنى المقتضى فلا يبقى الاجتماع إلا في نعت واسم والذي يحقق ذلك أن العدة عن الغير تمنع ابتداء النكاح لغير من عنه العدة ولو كانت العدة من الزوج ولم تقع الحرمة الكبرى لما امتنع على الزوج النكاح فاستبان أن محرم الرجعية إن عول على العدة لم يجد أصلا
1148 - فإن قيل فما رأيكم في استعمال ذلك استدلالا قلنا هو الآن يتعلق بفن من الفقه ولكن إذا انتهى الكلام إليه نأتي فيه بما يليق بهذه المحال ونقول إن تمسك المحرم بمناقضة التربص المستدعىالبراءة للوطء الشاغل فلست أرى هذا المعنى واقعا من جهة أن الوطء عند الخصم لو جرى لانقطعت العدة وإنما الممتنع ( اجتماع ) العدة والتشاغل بالوطء على مذهب من يبيح الرجعية بل هو رجعة عنده ثم الرجعة والعدة عنده لا ( يجتمعان ) ولكن ( طريان ) الرجعة يتضمن انقطاع العدة فليكن الوطء كذلك
1149 - فإن قيل فما الرأي في قول من يتمسك بالاحتساب بالعدة ويقول
ولو كانت مستحلة كما كانت لما احتسبت الأقراء ( عدة ) كما لو وجدت صورة الأقراء قبل الطلاق قلنا هذا أمثل قليلا وهو في التحقيق تمسك بالعكس وجواب الخصم عنه ( أوضح منه ) فإنه يقول الطلاق في غير الممسوسة ينجز البينونة وهو في الممسوسة يثبت المصير إلى البينونة وذلك يحصل بالخلو عن العدة والعدة زمان الجريان إلى البينونة وهذا لا يتحقق قبل الطلاق إذ ليس قبله مرد إلى البينونة يتوقع المصير إليها فالذي أوجب الفصل بين ما قبل الطلاق وبعده في الاعتداد ما ذكرناه والتي انقضت عدتها بعد الطلاق ( و ) صارت بريئة الرحم تلتحق بالتي لم تمس أصلا فهذا وجه الكلام
1150 - فإن تعلق المحرم بان الطلاق أوجب المصير إلى البينونة فليكن هذا محرما لم يستبد هذا ايضا من جهة أن الزوج إذا علق الطلاق الثلاث بمجئ رأس الشهر لم تحرم المرأة في الأمد المضروب فإن كانت البينونة هي المحرمة فهي منتظرة غير واقعة وإن كان الطلاق هو المحرم فلم ينتصب دليلا عليه بعد فإن قيل لو كانت مستحلة لما احتيج إلى الرجعة فللخصم أن يقول الرجعة تقطع وقوع البينونة فإنها لو تركت لصارت إليها
1151 - ولم نذكر هذه المعارضات إلا ليستبين الناظر وجه التمسك بالمعاني التي لا أصول لها واعتماد المستدل على الإخالة والمناسبة فالوجه في مسألة الرجعية إذا اعترضت أن تقع البداية بأن الوطء لا يكون رجعة ( وثبت ) ذلك سهل كما =============ج4444444444444.............
كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
سبق منا التدرج إليه في ( الأساليب ) وإذا ثبت ذلك بنينا عليه تحريم الوطء قائلين إذ لم يكن الوطء رجعة لم تنقطع به العدة فيؤدي إباحة الإقدام عليه إلى الجمع بين دوام التربص لتفريغ الرحم وبين إباحة شاغلة وهذا وإن لم يستند إلى أصل فهو معنى قويم ومسلك مستقيم
فصل ( في ضابط ما يجري فيه الاستدلال ) 1152 - فإن قيل قد ( أثبتم ) الاستدلال ولم تقبلوه على الإرسال وزعمتم أن المقبول منه ما يلتفت إلى الأصول ويضاهي معانيها ولم تأتوا في ذلك بقول ضابط يستبين به المردود من المقبول قلنا الوجه في ذلك أن نقول إذا ثبت حكم متفق عليه في أصل ثم رام المستنبط إثارة معنى يعتقده مناطا للحكم ( فما الضبط ) فيما يقبل منه وما يرد فليقل المستدل كل معنى لو ربط به حكم متفق عليه في أصل لجرى و ( استد ) فإذا اعتبره المستدل عليه من غير إسناد إلى أصل كان مقبولا إذ المعنى الذي يبديه المستنبط لا يشترط فيها أن يسنده إلى معنى الذي يبديه وفاقي مماثل له ولكن يكفي أن يناسب ويسلم على السبر ويثبت ببعض الطرق المذكورة في إثبات العلل فكل علة إذا لا يشترط في ثبوتها أن تعهد ثابته بعينها ( قبل أن يرى ) المستنبط مثلها في غير محل الاستنباط فكل معنى في أصل فمتعلقه معنى وهو في حكم مستدل به وليس التعلق بحكم الأصل ولا بحصول الوفاق عليه
1153 - وإن قربنا العبارة قلنا ليعتقد المستدل صورة مختلفا فيها متفقا على حكمها ( ولير ) رأيه في استنباط معناه وإن كان لا يستد فكره إلا بمستند وبالجملة لا يحدث الناظر ( الموفق ) مسلكا إلا وبينه وبين ما تمهد في الزمن الماضي من السلف الصالح مداناة والذي ننكره من مالك رضي الله عنه ( تركه ) رعاية ذلك وجريانه على الاستدلال في الاستصواب من غير ( اقتصاد ) ونحن نضرب في ذلك مثالا ثم نذكر بحسبه لمالك مذهبا
1154 - فلو قدر وقوع واقعة حسبت نادرة لا عهد بمثلها فلو رأى ذو نظر جدع الأنف أو اصطلام الشفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النادرة فمثل هذا مردود ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة حتى نقل عنه الثقات أنه قال أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها
1155 - فإن قيل فبم تردون ما ذكره قلنا تبين من نظر الصحابة رضي الله عنهم في مائة سنة ومن نظر أئمة التابعين أن ما قال مالك رضي الله عنه وما استشهدنا به لا يحكم به ونحن نعلم أن الامد الطويل لا يخلو عن جريان ما يقتضى مثل ما يعتقده مالك ثم لم يجر وشذت واقعة في العقوبات واضطرب فيها رأي الصحابة وهي حد الشارب فجرى فيه واشتهر ولم يستجيزوا الاستجراء على تقدير زيادة فيه إلا بعد أن يثبتوا أنه
لم يكن مقدرا في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كأنهم أجروه مجرى التعزيرات قال على رضي الله عنه أما أنا ( لا أقتل ) في حد وأجد في نفسي ( شيئا إلا حد الشارب فإنه شئ رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فليكن هذا سبيلا قاطعا في الرد على مالك رحمه الله ومن نحا نحوه وفيه تنبيه على ما نريده
فصل ( الاعتراضات على الاستدلال ) 1156 - فإن قال قائل ما الاعتراض على الاستدلال قلنا الاستدلال معنى مخيل قد يتطرق إليه من الاعتراضات ما يتطرق إلى معنى يبديه المستنبط مخيلا في أصل غير أن ( للمعنى ) المستند إلى أصل تعلقا به فقد يتوجه كلام على الأصل بفرق أو غيره والاعتراضات على الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل تنتحي نحو المعنى فحسب ويتوجه عليه النقض إن أمكن والمعارضة وشرط ثبوته ألا يناقض أصول الأدلة
1157 - وأنا أرى الكلام عليه محصورا في أوجه أحدهما المناقشة في الاخالة والإشعار والأخر طلب النقض إن كان والآخر تقديم مقتضى أصل علته والآخر معارضته بمعنى آخر ( يناقضه )
فهذي مجامع الاعتراضات على الاستدلال ويفسد من الاعتراضات عليه ما يفسد من الاعتراضات على ما يستند إلى أصل وقد تمهد فيما تقدم مسلك الصحيح من الاعتراضات والفاسد ولا شك أنه لا يتصور استقلال التشبيه بنفسه فإن التشبيه معناه تقريب شئ من شئ بما يغلب على الظن من غير ( التزام ) معنى مخيل ومن ضرورة ذلك أصل متفق عليه فإن قيل هل يترجح المعنى المستند إلى أصل على المعنى الذي لا أصل له قلنا هذا نستقصيه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
فصل في استصحاب الحال 1158 - قد قال باستصحاب الحال قائلون ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أنه دليل بنفسه ولكنه مؤخر عن الأقيسة وهو آخر متمسك الناظر وقال قائلون لا يستقل الاستصحاب دليلا ولكن يسوغ الترجيح به والوجه أن نصوره ثم نؤثر ما هو المختار عندنا فيه
1159 - فإذا ثبت حكم متعلق بدليل ولم يتبدل مورد الحكم فليس هذا من مواقع الاستصحاب فإن الحكم معتضد بدليل وهو مستدام فدام الحكم بدوامه قد يقول بعض من لا يحيط بالحقائق لا يمتنع تقدير نسخ ولكنه غير محتفل
به والحكم مستصحب إلى نقل ناسخ على ثبت فيلتحق هذا الفن عند القائل بالاستصحاب فهذه مناقشة لفظية فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل إلى يوم نسخه فإن سمى مسم هذا استصحابا لم يناقش في لفظ وليس مقصود الفصل منه بسبيل
1160 - فأما إذا ثبت حكم في صورة ثم تغيرت وحالت ورام الناظر طرد الحكم الثابت في الصورة الأخرى فإن لم ( يكن للصورة ) الثانية تعلق بالأولى ولم يكن تغيرها مرتبا على الصورة الأولى فلا معنى للاستصحاب في مثل ذلك كالذي يبغى أن يستصحب حكما في صدقة البقر في صدقة الغنم ولا يترتب أحد الجنسين على الثاني تصورا ولا تقديرا وهذا بعينه محاولة جمع بدعوى عرية من غير معنى جامع ولا وجه في الشبه غالبا على الظن وهو احتكام مجرد
1161 - فأما إذا ترتبت صورة على صورة فإن تغيرت عليها فأثبتت في الخلفة عليها فعند ذلك يقول قائلون نستصحب الحكم الثابت في الصورة الأولى ونجريه في الثانية وهذا باطل عندنا غير صالح للاستدلال ولا للترجيح فإن الصورتين متغايرتان وإن أثبتت إحداهما على الأخرى تصورا وخلفة فلا معنى لقول القائل أستصحب ( الحكم ) وقد تغير المورد ( وتغاير ) المحل فلا يمتنع تغاير الحكمين لذلك
وهذا كقول القائل في استئناف الفريضة عند أبي حنيفة في زكاة الإبل فقد اطردت فريضة الإبل على نصب معلومة فينبغي أن يستصحبها وراء المائة والعشرين حتى لا يوجبها إلا على ذلك القياس وقد عورضوا بأن فريضة الإبل إذا ثبتت وجب استصحابها وذلك ( قاض بمنع ) العود إلى الشاة والقائلان ذاهلان عن الحقيقة فلا معنى للاستصحاب من الفئتين وما قاله أصحابنا أمثل لاعتضاده بفقه وهو المعتمد دون الاستصحاب وذلك أن الشاة أثبتت ابتداء اجتنابا لتشقيص مع ( أن ) إيجاب بعير مجحف بالخمس من الإبل فالعود إلى الشاة مع كثرة الإبل بعيد وهذا ليس استصحابا
1162 - فإن قيل من استيقن الطهارة وشك في الحدث فالحكم استصحاب الطهارة وكذلك نقيض هذ1 وكذلك من تيقن النكاح وشك في الطلاق فالجواب كذلك فهل هذا الفن مما يلحق باستصحاب الحال ( أم لا ) قلنا هذا لباب الفصل ونحن نقول فيه قول الفقيه يستصحب يقين الطهارة فيه تجوز فإن اليقين لا يصحب الشك فليس المعنى بقولهم لا يترك اليقين بالشك أنهم على يقين مع التردد في الحدث ولكن المراد به أن ما تقدم من الطهر يقين فيبقى الحكم ما تيقناه والقول فيه إذا طرأ الشك لم يخل المشكوك فيه من ثلاثة أحوال
1163 - أحدها أن يرتبط بعلامة بينة في محل الظنون فما كان كذلك
فلاجتهاد هو المتبع ولا التفات إلى ما تقدم فإنه يتصدى للمرء شك في بقاء ما سبق واجتهاده ظاهر في زواله والاجتهاد مقدم
1164 - فإن ثبتت علامة خفية كالعلامات التي يقع التمسك بها في تمييز النجس من الطاهر في الأواني وفي والثياب فإن عارض يقين النجاسة يقين الطهارة فعلم صاحب الإناءين أن أحدهما نجس والآخر طاهر فليس التمسك بيقين الطهارة بأولى من التمسك بيقين النجاسة فيضطر إلى التمسك بالعلامات وإن خفيت ( وإن لم يوجد ) يقين النجاسة ولكنا تيقنا طهارة وشككنا في طريان نجاسة وثبتت علامة خفية ففي التعلق بها قولان أحدهما أنها ضعيفة وإن تناهى المرء في تصويرها محاولا إظهار ما وقع في النفس فليفهم الناظر ما يرد عليه فالتعلق بالاستصحاب أولى على قول والتمسك بها أولى على قول
1165 - وإن تقدم يقين وطرأ شك وليس لما فيه علامة جلية ولا خفية فعند ذلك تأسيس الشرع على التعلق بحكم ما تقدم وهذا نوع من الاستصحاب صحيح وسببه ارتفاع العلامات وليس هذا من فنون الأدلة ولكنه أصل ثابت في الشريعة مدلول عليه بالإجماع وإن طرأ مثل ذلك في منازل المجادلات فأراد ( المستدل ) أن يدعو الخصم إلى موجب الاستصحاب وكانت الصورة على نحو ما ذكرناها فذلك ( سائغ )
والدليل عليه اعتباره بنظائره بتشبيه أو تقريب معنوي فليلحق ذلك بأبواب القياس إذا
1166 - ولا يستمر هذا إلا بسبر وهو تمام الكلام ومعناه أن يدعى أولا انتفاء الدليل عند قيام التردد ثم لا يتوصل إلى ذلك إلا بتخيل جهات الأدلة وإبانة انتفائها في محل الكلام ثم يستمر بعد هذا ما يحاوله من اعتبار صورة بصورة وبيان ذلك بالمثال أن المسئول عن وجوب الأضحية يقول الأصل براءة الذمة فلا معنى لشغلها إلا بثبت وهذا لو اقتصر عليه لاستقل كلاما مفيدا مستقيما وحاصله يئول إلى أنه لم يقم عندي دليل على وجوب الأضحية وإذا قسم وسبر وتتبع مواقع تعلقات الخصم بالنقض استمر له ما ذكرناه في الاستصحاب فهذا منتهى الغرض في ذلك وقد نجز بنجازه القول المقصود في الاستدلال والحمد لله وحده
الكتاب الخامس -
كتاب الترجيح 1167 - الترجيح تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن ولا ينكر القول به على الجملة مذكور وقبله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن ( الملقب بالبصري وهو جعل ) أنه أنكر القول بالترجيح ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثى عنها وسأذكر شيئا ينبه على إمكان ذلك في النقل
1168 - والدليل القاطع في الترجيح إطباق الأولين ومن تبعهم على ترجيح مسلك في الاجتهاد على مسلك هذا ما درج عليه الأولون قبل اختلاف الآراء وكانوا رضي الله عنهم إذا جلسوا يشتورون تعلق معظم كلامهم في وجوه الرأي بالترجيح وما كانوا يشتغلون بالاعتراضات والقوادح ( وتوجيه النقوض ) وهذا أثبت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك الأحكام فوضح أن الترجيح مقطوع به
1169 - واستدل القاضي رحمه الله لمن حكى الخلاف عنه في نفي الترجيح
بالبينات في الحكومات فإنه لا يترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت وهذا مردود فإن العلماء من يرى ترجيح البينة على البينة وهو مالك رضي الله عنه وطوائف من علماء السلف وليس من الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع ثم إن ظن ظان أن لا ترجيح في البينة ورآها مستندة إلى توقيفات تعبدية فهذا لا يعارض ما ثبت قطعا تواترا في الترجيح والعمل به وليس متعلق مثبتى الترجيح تجويزا ظنيا فينتقض بشيء أو يقاس على شيء
1170 - فإذا ثبت أصل الترجيح فلا سبيل إلى استعماله في مسالك القطع فإذا أجرى المتكلم في مسلك قطعي صيغة ترجيح أشعرت بذهوله أو غباوته وما يفضى إلى القطع لا ترجيح فيه فإنه ليس بعد العلم بيان ولا ترجيح وإنما الترجيحات تغليبات لطرق الظنون ولا معنى لجريانها في القطعيات فإن المرجح أغلب في الترجيح وهو مظنون ( والمظنون ) غير جار في مسلك القطع فكيف يجرى في القطعيات ترجيح ما لا يجرى أصله فيها مسألة
1171 - أطلق الأئمة القول بأن المعقولات لا ترجيح فيها وهذا سديد لا ننكره ولكنا أوضحنا في الديانات أن العوام لا يكلفون بلوغ الغايات ودرك حقائق العلوم في المعتقدات وإنما يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به مع
التصميم ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير استناد إلى مسلك من مسالك النظر وإن كان غير تام وإذا كان كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى فإن عقودهم ليست علوما ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه ظان وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة فإنهم زعموا أن الترجيحات لا وقع لها في مدارك العلوم وما ذكروه حق لا نزاع فيه وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما فتجرى عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات مسألة
1172 - قال الأئمة رضي الله عنهم الترجيحات لا تستعمل في المذاهب من غير نصب أمارات فإن كل ذي مذهب مدع قبل أن يدل والدعاوى لا تقبل الترجيح إذ الترجيح في نفسه لا يستقل دليلا والمذهب لو كفى ترجيحه لكان الترجيح مستقلا لإثبات المذهب وما كان كذلك كان دليلا مستقلا بنفسه وهذا يتطرق إليه استثناء عندنا على تفصيل نشير إليه الآن ثم نقرره في كتاب الفتاوى إن شاء الله تعالى فليعلم الناظر أن المستفتى لا يتخير في تقليد من شاء من المفتين ولكن عليه ضرب من النظر في تخير واحد منهم لمزية يتخيلها أو يظنها لمن يختاره وسيأتي ذلك مشروحا في موضعه إن شاء الله تعالى وإن كان كذلك فمتعلق المستفتى ترجيح مجرد وقد ينقدح أن يقال ما يغلب على ظنه تخصيص واحد من العلماء فهو دليل مثله فالقول في هذا يئول إلى عبارة
ونحن الآن نرسم ما يترجح به مذهب الإمام المطلبي الشافعي رضي الله عنه مسألة
1173 - أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين
1174 - ثم نحن نوضح وراء ذلك ما يتعلق به منتحل المذهب على الجملة في اختيار مذهب الشافعي ومجامع الكلام في ذلك يحصرها طرق أحدها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل وكل موضوع على الافتتاح قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون وهذه الطريقة يقبلها كل منصف وليس فيها تعرض لنقض مرتبة إمام
1175 - فإذا حصلنا المقصود مع الاعتراف للمتقدمين بفضل السبق فالذي
يتم به الغرض أن الصديق أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبي عليه السلام ثم اشتغال من بعده بالسبر أوجب على العوام ألا يبتدروا مذهب الصديق رضي الله عنه مع علو منصبه وارتفاع قدره فإن قيل يلزمكم على هذا أن توجبوا الاقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة على ما ذكرتموه قلنا إن ثبت لأحد بعده من الأئمة من المزية والفضل وتهذيب ما لم ينتظم وكشف ما لم يتبين فلا يناقض مسلك الطريقة ولكنا لسنا نرى أحدا بلغ هذا المحل وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
1176 - طريقة أخرى وهي أن نقول المذاهب ( تمتحن ) بأصولها فإن الفروع تستد باستدادها وتعوج باعوجاجها وهذا النوع ( من النظر ) هو الذي يليق بالمستفتين ومنتحلي المذاهب وسبيل محنة الأصول معرفتها أفرادا في قواعد ثم معرفة ترتيبها وتنزيل كل أصل منها منزلته فإذا تبين ذلك فأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الأقيسة الظنية علامات انتصبت على الأحكام ( أعلاما ) بأصل من الأصول الثلاثة مقطوع به كما سبق شرح ذلك ثم لها مراتب ودرجات ومناصب فإذا نظر الناظر إلى منصب الشافعي عرف أنه أعرف الأئمة بكتاب الله تعالى فإنه عربي مبين والشافعي تفقأت عنه بيضة قريش
ولا يخفى تميزه عن غيره فيما نحاوله ثم يتعلق معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول بمعرفة الروايات ومقامه لا يخفى في الأخبار ومعرفة الرجال وفقه الحديث والإجماع يتلقى من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهذا بيان الأصول
1177 - وأما تنزيلها منازلها ( فإنه شوف ) الشافعي فإنه قدم كتاب الله تعالى ثم أتبعه بسنة رسوله عليه السلام ثم إذا لم يجدها تأسى بالصحابة رضي الله عنهم في التعلق بالرأي الناشىء من قواعد الشريعة المنضبطة أصولها ولم ير التعلق بكل استصواب لما فيه من الانحلال والانسلال عن ضبط الشريعة ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فاستحث على الاتباع فيما لا يعقل معناه وقد يقيس إذا لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى ( المخيل ) المناسب وهو في ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ويدور عليها
1178 - ومن بديع نظره أنه قد يعن له معنى مخيل ولكن يراه منقوضا ( بما لا يعلل ) فيلحقه بما لا يعلل وهذا مسلكه في منع القيم في الزكوات فإن غرض الزكاة سد الخلة والحاجة وهو وإن كان معقولا فلا جريان له فرأى الأتباع فيه معنى السد مع الخلاص ( من ) غرر المخالفة ثم جعل كون الزكاة عبادة عضدا لذلك كالمرجح به ولا حاجة إلى ذكر ( مذهب ) غيره فإن في هذا تنبيها على مقتضاه
1179 - طريقة أخرى وهي تشتمل على نظر كلي إلى الفروع وهذا
يتأتى بضبط ورد نظر إلى الكليات فالشريعة متضمنها مأمور به ومنهي عنه ومباح فأما المأمور به فمعظمه العبادات فلينظر الناظر فيها وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر ولا يكاد يخفى احتياط كثير من الناس فيها وبالجملة الدم معصوم بالقصاص ومسألة المثقل يهدم حكمة الشرع فيه والفروج معصومة بالحدود ولا يخفى ما فيها من الاضطراب والأموال معصومة عن السراق بالقطع وقد أثبت من ( نعنيه ) ذرائع إلى إسقاطه سهلة المدارك وأعيان الأموال مستردة من الغصاب وقد بان للفقيه مسالك الناس الذين خالفوا مذهب الشافعي فمن نظر إلى الأصول ثم نظر نظرا كليا إلى الفروع لم يخف عليه من يكون أولى بالاتباع وإن قصر ( نظر ) بعض المستفتين عن فهم ما ذكرناه فلا عليه لو ( احتذى ) بقول النبي عليه السلام الأئمة من قريش ولم أجد أحدا من أصحاب المذاهب معتزيا إلى طينة قريش بالمسلك الواضح إلا الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذاك وأبو حنيفة من الموالى ومالك كذلك ( على ما حكى بعض الناس ) فهذه مرامز كافية فيما نحاوله وإذا أردنا أن نعبر عن الأئمة الثلاثة الناخلين المرموقين الذين طبقت مذاهبهم طبق الأرض مالك والشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهم قلنا
1180 - أما أبو حنيفة فلا ننكر ( اتقاد ) فطنته وجودة قريحته في درك عرف المعاملات ومراتب الحكومات فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه على النهاية ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه منقسمة إلى أصل جهله ( أو ) أغفله وذهل عنه وإلى آخر تمسك به وما رعاه وما ( عقله ) وانتهض لتبويب الأبواب انتهاض من لم يستمد من القواعد ومن عجيب أمره أنه لم يعتن بجمع الأخبار والآثار ليبني عليها مسائله ولكنه يوصل الفروع بناء على ما يراه ثم يستأنس بما يبلغه وفاقا
1181 - وأما الإمام مالك فلا يشق غباره في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة ولا يدرك آثاره في درك سبل الصحابة والطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان الزلل إلى النقلة فقد كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد رأيت بعدد أساطين هذا المسجد من يقول حدثني أبي فلان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم أستجز أن أروى عنهم حديثا فقيل له أكنت لا تثق بهم فقال كنت ( لا ) أتهم صدقهم ولو نشروا بالمناشير ما كذبوا على رسول الله عليه السلام ولكن لم يكونوا من أهل ( هذا ) الشأن ولكنه ينحل بعض الانحلال في الأمور الكلية حتى يكاد أن يثبت في الإيالات والسياسات أمورا لا تناظر قواعد الشريعة وكان يأخذها من وقائع وأقضية لها محامل على موافقة الأصول بضرب من التأويل فكان يتمسك بها ويتخذها أصولا ويبنى عليها أمورا عظيمة كما روى أن عمر رضي الله عنه قال للمغيرة وكان قد أخذ قذاة من لحيته فظن
عمر ( به ) استهانة فقال أبن ما أبنت وإلا أبنت يدك ونقل عنه مشاطرة خالد وعمرو بن العاص على أموالهما فاتخذ ذلك أصلا فرأى إراقة الدم وأخذ أموال بتهم من غير استحقاق لمصالح إيالية حتى انتهى إلى أن قال أقتل ثلث الخلق في استبقاء ثلثيهم وكان من الممكن أن يحمل قول عمر رضي الله عنه على التغليظ بالقول وكانوا يعتادون ذلك وكذلك من بعدهم وأخذه الأموال محمول على علمه بانبساط خالد وعمرو فيما لا يستحقان من مال الخمس وأموال المسلمين ولا يبلغ من حزم عمر درك مبلغ ذلك فإذا أمكن هذا فلا وجه لإطلاق أيدي الولاة في الدماء والأموال
1182 - وأما الشافعي فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة وأضبطهم لها وأشدهم كيسا ( واتقادا ) في مآخذها وتنزيلها منازلها ( وترتيبها على مراتبها ويشهد ذلك بالثقة فيها سابقا إليه ) ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته فلم يتشوف إلى وضع مسائل بديعة وكان متصديا للإجابة عن كل ما يسأل عنه واخترم وقد نيف على الخمسين وكان ذلك الأمد لا يتسع لأكثر من ضبط الأصول فيها فهان على أصحابه البناء عليها
1183 - وهذا بيان منازلهم وسنذكر في كتاب الفتوى أنه يتعين على المستفتى نظر كلي في ( تخير ) قدوته وسنصف ذلك النظر وحده ثم نقول ليس على المستفتى تعلق بمبادىء النظر في كل مسألة يأخذ فيها جواب قدوته وهذا متفق عليه في المظنونات
1184 - ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال إذا اشتملت المسألة على مدرك قطعي وجب على العامي الاحتواء عليه فإن كانت المسألة عملية فتلتحق بالعقائد التي لا يسوغ العقل التقليد فيها
1185 - وهذا عندنا سرف ومجاوزة حد فإنا لا نرى أولا في العقائد ما يراه وقد ظهر اختيارنا فيما عليهم من عقائدهم وأما إلحاق قطعيات الشرع بالعقائد فعظيم فإن الشريعة تحتوي على مائة ألف مسألة وأكثر مستندها القطع وتكليف العامي الإحاطة بها في معاملاته التي يمارسها ظاهر الفساد وهو اقتحام خرق الإجماع مسألة
1186 - ذهب معظم الأصوليين إلى أن المجتهد لا يجوز له الاقتصار على ترجيح مذهب على مذهب من غير تمسك بما يستقل دليلا وحكى صاحب المغنى وهو عبد الجبار في كتابه المترجم بالعمد عن بعض أصحابه جواز الاكتفاء بالترجيح
وسقوط هذا المذهب واضح فإن الترجيح الحقيقي ينشأ من منتهى الدليل فإذا لم يكن دليل لم يثبت الترجيح تصورا وإن فرض تمسك بمبادىء نظر وسمى ذلك ترجيحا فهو نظر فاسد لقصوره ولا ترجيح بالفاسد والنظر يفسد بقصوره تارة وبحيد عن المدرك المطلوب أخرى
1187 - فإن قيل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في تفاوضهم يكتفون بمسالك الترجيحات وما كانوا يمهدون أدلة مستقلة ثم يبنون عليها ترجيحات وهم الأسوة قلنا هذه دعوى عرية لا أصل لها فإنهم كانوا يبنون أحكاما على معان سديدة وعلى تقريبات شبهية وهذا مدرك الشرع وكانوا لا يعتنون برد المعاني إلى الأصول لا عن جهل بها ولكنهم علموا أن معتمد الأحكام المعاني فأما الاقتصار على الترجيحات فادعاؤه عليهم تخرص ( بين ) ( نعم ) قد نقول إذا عريت واقعة عن نظر قويم ولاحت فيه مخيلة على بعد ولا يكون مثلها دليلا فقد يجوز التمسك بها تجويزا للمجتهد استصحاب الحال وإن رأينا أن نذكر في آخر هذا المجموع طرفا صالحا من حكم شغور الزمان عن المفتين وحملة الشريعة ذكرنا طرفا صالحا في ذلك إن شاء الله تعالى
القول في ترجيحات الأدلة
1188 - إنما مظنة الترجيحات تعارض صور الأدلة وهي في غرضنا ألفاظ منقولة ومعان مستنبطة فأما الألفاظ فتنقسم إلى النصوص التي لا تقبل التأويل وإلى الظواهر فأما النصوص فتنقسم إلى ما ينقل قطعا واستوت في النقل ويلتحق بهذا القسم ما ينقل من غير قطع ولكن تستوي النصوص في ( طريق ) النقل من غير ترجيح آيل إلى الثقة والتغليب فيها ونحن نرسم ما يتعلق بهذا القسم مسألة
1189 - إذا تعارض نصان على الشرط الذي ذكرناه وتأرخا فالمتأخر ينسخ المتقدم وليس ذلك من مواقع الترجيح
1190 - فإن تطرق إلى أحد النصين ظن النسخ من غير قطع فهذا نصفه ونصوره ثم نذكر المذاهب فيه قال الشافعي في مسألة المس قيس بن طلق راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم
إسلامه وأبو هريرة ممن روى ( أحاديثنا ) وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ تطرق إلى ما رواه قيس وكذلك صح عن النبي عليه السلام ( في مرض موته ) أنه قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه و سلم في مرض موته والمقتدون به قيام وراءه فكان هذا من أواخر أفعاله والحديث الذي رويناه مطلق فيغلب على الظن أنه كان في صحته ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم الجهني قال ورد علينا كتاب النبي عليه السلام قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ فالغالب على الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث عبد الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب مجهول ليس بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات فهذا تصوير ما أردناه
1191 - قال الشافعي إن تجرد نص ولم يعارضه آخر فإمكان النسخ مردود ومدعيه مطالب بنقل النسخ ولا يكتفى في هذا المقام بغلبة الظن فإن تعارض نصان وتطرق إلى أحدهما مسلك من المسالك التي صورناها فعند ذلك يرى الشافعي ترجيح النص الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ على الآخر ( ورأيه أولى ) من
الحكم بتساقط النصين عند تعارضهما
1192 - وقال قائلون النصان متعارضان فإن الذي اتجه فيه إمكان النسخ ظنا لا يخفى سقوطه والنص الآخر يهى به ويحط عن منزلته والتمسك بمرتبة أخرى دون النصوص أولى ولا يبقى مع تعارض النصين إلا ظن ترجيح ومجرد الترجيح لا يجوز التمسك به
1193 - ووجه الحق في ذلك أن الحادثة إذا عريت عن مسلك ( يعد ) من سبل مسالك الأحكام وتعارض خبران نصان وتطرق إلى أحدهما إمكان النسخ وعدم المجتهد متعلقا سواهما فالوجه التمسك بالخبر الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ وهذا أولى من تعطيل الحكم وتعرية الواقعة عن موجب الشرع وهذا يناسب القول في مآخذ الأحكام عند عرو الزمان عن المفتين ولعلنا نختتم هذا المجموع بطرف صالح منه يقع به الاستقلال فإن وجد المتناظران مسلكا من مآخذ ( الأحكام ) سوى الخبرين مثل أن يجد للقياس مضطربا فالوجه النزول عن الخبرين جميعا والتمسك بالقياس ثم الخبر الذي بعد عن ظن النسخ يستعمل ترجيحا لأحد القياسين ( على الآخر ) فهذا وجه مدرك الحق في ذلك وهو أصل في كتاب الترجيح وسنسند إليه أمثاله مسألة
1194 - إذا تعارض خبران نصان نقلهما الآحاد واستوى الرواة في الصفات المرعية في حصول الثقة ولكن كان أحدهما أكثر رواة
فالذي ذهب اليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد ( وهو مذهب الفقهاء ) وذهب بعض المعتزلة إلى منع الترجيح بكثرة العدد واحتجوا في ذلك بالشهادة فإنه لا ترجح بينة على بينة بكثرة العدد وهذا الذي ذكروه مما اختلف الفقهاء فيه
1195 - فذهب معظم أصحاب مالك وشرذمة من أصحاب الشافعي إلى أن البينة المختصة بمزيد العدد في الشهود مقدمة على البينة التي تعارضها
والمسألة على الجملة مظنونة وللاجتهاد فيها مجال ثم معظم قواعد الشهادات منوطة بالتعبدات والروايات مدار أصولها وتفاصيلها على الثقة المحضة ولهذا لا تعتبر فيها الحرية والعدد في ( أصل القبول ) وكثرة الروايات توجب مزيدا في غلبة الظن وقد قال القاضي رحمه الله تعالى تقديم الخبر على الخبر بكثرة الرواة لا أراه قاطعا وإنما أراه من مسالك الاجتهاد
1196 - والوجه في هذا عندنا أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبر وتعارض في الواقعة خبران واستوى الرواة في العدالة والثقة وانفرد بنقل أحدهما واحد وروى الآخر جمع فيجب العمل بالخبر الذي رواه الجمع وهذا مقطوع به فإنا على قطع نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو تعارض لهما خبران كما وصفنا والواقعة في محل لا تقدير للقياس فيه ولا مضطرب للرأي لما كانوا يعطلون الواقعة بل كانوا يرون التعلق بما رواه الجمع
1197 - فأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية فإن الخبر الذي نقله الواحد يضعف بالخبر الذي يعارضه فيبعد
أن يستقل دليلا والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنهما والتمسك بالقياس وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع ولو تجرد القياس في الجانب الآخر ( فهو ) متمسك ( الحكم ومتعلقه فهذا وجه ولكن قد نظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يقدمون ) الخبر الذي يرويه الجمع ويضربون عن القياس كدأبهم في تعظيم الخبر وتقديمه ولسنا على قطع في ذلك فإنا لا نثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي فما قطعنا به أثبتناه وما غلب على ظننا ترددنا فيه وألحقناه بالمظنونات
1198 - فآل حاصل القول إلى أن الخبر وإن رواه جمع من الثقات إذا عارضه خبر نقله عدل واحد فيسقط ما رواه الجمع عن رتب الأدلة المقطوع بها فإن عدمنا مأخذا سواهما كان تعلقنا بالأرجح تعلق من لا يجد مضطربا سوى الترجيح ومحض الترجيح لا يتعلق به عند فقد الأدلة كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى
1199 - فأما إذا وجدنا ( أدلة فالمسألة إذ ذاك ظنية منزلة على ما يؤدى إليه اجتهاد الناظر وكذلك إذا وجدنا ) القياس موافقا للخبر الذي نقله الواحد فالمسألة ظنية أيضا وإن كان القياس في جانب الخبر الذي رواه الجمع ( فلا شك أن الحكم بذلك القياس المرجح بالخبر الذي رواه الجمع ) فهذه جوامع القول في ذلك
1200 - وقد ذكرنا في تعارض الخبرين إذا تطرق إلى أحدهما إمكان النسخ من الجهات التي ذكرناها ( أن ) الوجه النزول عنهما والتمسك بالأقيسة إن وجدناها
ولم ( نردد ) في ذلك تغليب ظن والسبب فيه أنا ظننا ظنا غالبا بالصحابة رضي الله عنهم اعتبار الترجيح بالثقة والعدد ورددنا القول ولم يسنح لنا مثل ذلك فيما يتطرق إليه النسخ إمكانا إذ تبينا من تفحصهم عن أسباب الثقة ما يغلب على الظن الترجيح بها وتقديم الأخبار على الأقيسة تعظيما لها إذا رجع الأمر إلى التفاوت في الثقة ( فإن ظهر لنا ظن عندنا في وقائع ) بلغته أنهم نظروا في إمكان النسخ نظرهم في الثقة نزلنا تلك ( المسألة ) هذه المنزلة وعاد القول إلى التعارض إلا فيما يمنع منه متمسك لما قدمنا تمهيده من أن التعارض في التساقط ( أقوى ) في نظر الناظرين من الاعتصام بترجيح ظنى فهذا منتهى المراد
1201 - ومما نذكره في فروع هذا الفصل أنه إذا روى راويان خبرين وكل واحد منهما ( ثقة ) مقبول الرواية لو انفرد ولكن في أحدهما مزية ظاهرة في قوة الحفظ والضبط والاعتناء بالوعي فهذا مما يرى أهل الحديث مجمعين على التقديم ( فيه ) وهو كما روى عبيد الله بن عمر العمري ( مع ما رواه أخوه عبد الله بن عمر العمري ) في سهم الفارس من المغنم فقال الأئمة حديث عبيد الله
مقدم وإن كان أخوه عبد الله عدلا فإن بينهما تفاوتا بينا قال محمد بن إسماعيل البخاري بينهما ما بين الدينار والدرهم والفضل لعبيد الله وهذا وإن ظهر من خدمة الحديث فإذا رجع الأمر إلى العلم فالقول عندي في الخبرين مع اختصاص إحدى الروايتين بالمزية كالقول في اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة مع الاستواء في الصفات المرعية وقد سبق ذلك مفصلا غير أن التمسك بحديث عبيد الله حتم من جهة أن القول متعلق بالتقدير وهو متلقى من توقيف الشارع ولا مجال للقياس فيه والرأي لا يضبط منتهى الغناء والكفاية
1202 - فهذا من المنازل التي يتعين فيها الاستمساك بالخبر ولا نظر لذى الرأي على استرسال كلى وهو موافق لمذهب الشافعي فإن نظرنا إلى الغناء فلا يكاد يخفى أن غناء الفارس يزيد على ضعف غناء الراجل فلا موقف ينتهى ( إليه ) فيستعمل الرأي كليا ويستعمل الخبر توقيفا ينتهى إليه
1203 - ومما يتصل بذلك ( أنه ) إذا روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع لا يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر الآخر في الثقة والعدالة فاجتمع مزية الثقة وقوة العدد
فمن أهل الحديث من يقدم مزية العدد ومنهم من يقدم مزية الثقة والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة إذا ظهرت فإن الغالب على الظن أن الصديق رضي الله عنه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه خبرا لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق ومأخذ الكلام في جميع هذه الفنون واحد فليرجع الناظر إلى المعتبر الممهد أصلا وتفصيلا وليميز مواقع القطع من الظن مسألة في تقديم أحد الخبرين على الآخر بموافقة أقضية الصحابة رضي الله عنهم
1204 - القول في حقيقة هذه المسألة يستدعى مقدمة من كتاب الإجماع فنقول إن اجتمع علماء العصر على ( مذهب ) واستمر الإجماع على الشرائط المرعية فلا يبقى للتعلق بالخبر والحالة هذه وقع فإن الخبر إن كان منقولا آحادا فلا خفاء بما ذكرناه
ولو فرضنا خبرا متواترا وقد انعقد الإجماع على خلافه فتصويره عسر فإنه غير واقع ولكنا على التقدير نقول لو فرض ذلك فالتعلق بالإجماع أولى فإن الأمة لا تجتمع على الضلالة ويتطرق إلى الخبر إمكان النسخ فيحمل الأمر على ذلك قطعا لا وجه غيره ونقطع بهذا
1205 - فإن قيل الخبر المتواتر النص من الأدلة القاطعة وكذلك الإجماع فلم قدمتم الإجماع
قلنا لأن الخبر عرضة لقبول النسخ والإجماع لا ينعقد متأخرا إلا على قطع فلا يتصور حصول الإجماع على باطل وتطرق النسخ إلى الخبر ممكن فالوجه حمل الإجماع على القطع الكائن وحمل الخبر على مقتضى النسخ استنادا أو تنبيها على تقدير استثناء والمستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ فهذا مما لا يتصور وقوعه حتى يتكلم فيه في تقديم أو تأخير وإنما الكلام في خبر مطلق ثم الذي أراه ( أن ) من ضرورة الإجماع على مناقضه الخبر النص المتواتر أن يلهج أهل الإجماع بكونه منسوخا فهذا قولنا في الإجماع
1206 - أما إذا فرض خبر على شرط الصحة نقله الآحاد وجرت أقضية ( أئمة من ) الصحابة على مخالفته فكيف الوجه ذهب مالك رحمه الله إلى تقديم ما صار إليه أهل المدينة يعني علماءها وروي عنه في تحقيق ذلك تمسك بأخبار تشير إلى تعظيم المدينة وأهلها فإن صح ذلك فهو ضعيف وإن كان مذهبه النظر في مذاهب العلماء الذين كانوا وإنما أجرى ذكر ( أهل ) المدينة لتوافر العلماء بها في ذلك الزمن فهذا قريب على ما سيأتي الشرحليه إن شاء الله 1207 وقال الشافعي رحمه الله لا نظر إلى الأعمال والأقضية إذا لم يتفق عليها أهل الإجماع والتعلق بالخبر أولى ونحن نذكر ما تمسك به الشافعي ثم نذكر بعده المختار عندنا قال الشافعي الحجة في الخبر وما نقل من عمل على خلافه فهو منقول عن
أقوام ليست أقوالهم حجة ولا معنى لترك الحجة لما ليس بحجة ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال العاملون بخلاف الخبر محجوجون به ولا يقدم قول محجوج بحجة على الحجة وقال الشافعي في بعض مجاري كلامه لو ( عاصرت ) العاملين بخلاف الخبر لحاججتهم وجادلتهم العين العين ولا يتعين ذلك بانقراضهم وهو يقول لو وجدت قياسا يخالف أقضية أقوام من الأئمة لتمسكت به ولم أبال بمن ينازعني والخبر مقدم على القياس فإذا قدمت القياس على قولهم فكيف أترك الخبر المقدم على القياس بقولهم وقال رضى الله عنه إن كان تقديم أقضية الصحابة لتحسين الظن بهم ولا تجب لهم العصمة فتحسين الظن بخبر الشارع المعصوم ( أولى )
1208 - والرأي الحق عندنا ( في ذلك ) يوضحه تقسيم فنقول إن تحققنا بلوغ الخبر ( طائفة من أئمة الصحابة وكان الخبر ) نصا لا يطرق إليه تأويل ثم ألفيناهم يقضون بخلاف مع ذكره والعلم به فلسنا نرى التعلق بالخبر إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب وترك المبالاة أو العلم بكونه منسوخا وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال ( وقد ) أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول فيتعين حمل عملهم مع الذكر والإحاطة بالخبر على العلم بورود النسخ وليس ( ما ) ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب ( فكأنا ) تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر غض من قدره عليه السلام وحط
من منصبه وقد قدمنا في كتاب الإجماع أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ولكن ( إجماع ) أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه ( عن ) حجة فهذا قول في قسم وهو إذا بلغهم الخبر وعملوا بخلافة ذاكرين له
1209 - فأما إذا لم يبلغهم أو غلب على الظن أنه لم يبلغهم فالتعليق بالخبر حينئذ وظنى بدقة نظر الشافعي في أصول الشريعة أنه رأى التقديم للخبر في مثل هذه الصورة
1210 - وإن غلب على الظن أن الخبر بلغهم وتحققنا أن عملهم مخالف له فهذا عندي مقام التوقف والبحث فإن لم نجد في الواقعة متعلقا سوى الخبر والأقضية فالوجه التعلق بالخبر وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر فالتمسك به أولى
1211 - ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له أن مذاهب الصحابة إذا نقلت من غير إجماع فلا نرى التعلق بها وإذا نقلت في معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل تأويلا فتعين التعلق بالمذاهب وليس هذا على الحقيقة تعلقا بالمذاهب وإنما هو تعلق بما صدرت المذاهب عنه وما ذكرناه في أئمة الصحابة يطرد في أئمة التابعين وأئمة كل عصر ما لم تقف على خبر وبيان ذلك بالمثال أن مالكا رضي الله عنه يرى تقديم أقضية الصحابة رضي الله عنهم على الخبر مطلقا من غير تفصيل وقد لا نامن أن يكون بعض تلك الأقضية ممن لم يبلغه الخبر أو بلغه ونسيه فإذا لم يفصل مالك تبينا أنه لم يكن مطلعا على حقيقة هذا الأصل فلا جرم
نقول إذا روى مالك خبرا وخالفه لم نبل بمخالفته من حيث لا نثق بتحقيق منه في مأخذ الباب ولذلك ثبت خيار المجلس بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن الرسول عليه السلام ولم يقل مالك بخيار المجلس
1212 - ومما يجب تنزيله على هذا القسم أن جمعا لو بلغهم خبر ثم صح عندنا عملهم بخلافة بعد تطاول زمن وجوزنا ذهولهم عنه ونسيانهم له فليخرج ذلك على التقاسم في تطاول غلبة الظن كما سبق وما ذكرناه في جمع فهو في المجتهد الواحد الموثوق بعدالته وأمانته بمثابته في جمع
1213 - ولو صح خبر وعمل به جمع ولم يعمل به جمع والفريقان ذاكران الخبر والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ فالذي أراه تقديم عمل المخالفين فإنه لا يحمل أمرهم إلا على ثبت وتحقيق وعمل العاملين يحمل على التمسك بظاهر الخبر
1214 - وليعلم الناظر إذا انتهى إلى هذا المقام أن الكلام في هذه المضايق ينتهي إلى حال يعسر التصوير فيها فلا ينبغي للانسان أن يسترسل في قبول كل ما يتصور عليه ومن هذا القبيل ما انتهينا إليه فإنه يبعد قطع قوم بالمخالفة مع تصحيح الخبر وقطع آخرين بالعمل فلا بد أن يشيع المخالفون ما عندهم ويبحث عنه العاملون
( نعم قد يتفق عمل العاملين في صقع من غير غوص وتحقيق وبحث عن حالة المخالفين ) فهذا منتهى القول في ذلك وهو مقدمة غرضنا في الترجيح
1215 - فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل باحدهما ائمة من الصحابة فإذا رأى الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي ( عارضه و ) لم يصح العمل به واستشهد بما رواه أنس في نصب الغنم إذ عارضه ما رواه على رضي الله عنه فيها وعمل الشيخين يوافق ما رواه أنس ( فقال رضي الله عنه أقدم حديث أنس ) وهذا مما يجب التأني ( فيه ) فليس ما استشهد به مما يقال فيه إن عمل الصحابة خالف خبرا إذ لم يصح عندنا أنهم بلغهم حديث على رضي الله عنه ثم لم يعلموا به ولكن قد يظن ذلك ظنا
1216 - فإن قيل فما الوجه والحالة كما وصفتم قلنا نرى الحديثين متعارضين فإن معارضة أحدهما الثاني ليس مما يسقطه ترجيح ظني في أحد الجانبين ثم لو صح أنه بلغهم الحديثان ثم عملوا بأحدهما فليس هذا من الترجيح ولكنه يتعلق بالقسم المتقدم وهو أن أقضية أئمة الصحابة بخلاف الخبر مع العلم به والذكر له كيف الوجه فيه وقد تقدم ما فيه بلاغ
1217 - ومما يجب التفطن له أن النصب مقادير ولا مجال فيها للرأي والخبران وإن رأينا تعارضهما فيخرج وجوب العمل بما عمل به الصحابة رضي الله عنهم على الرأي المتقدم في أنا إذا عدمنا مسلكا للحكم ولم نظفر إلا بما يقع
ترجيحا لا استقلال له ولو ثبتت الأدلة فالتمسك بما لا يستقل أولى من تعريه الواقعة عن حكم فالوجه إذا التعلق بحديث أنس لما ذكرنا آخرا والله أعلم مسألة
1218 - إذا تعارض خبران نصان وانضم إلى أحدهما قياس يوافق معناه ( الخبر ) فقد اختلف العلماء في ذلك فالذي ارتضاه الشافعي أن الحديث الذي وافقه القياس مرجح على الآخر واستدل بأنه قال إذا اختص أحد الحديثين بما يوجب تغليب الظن تلويحا فهو مرجح على الآخر ومجرد التلويح لا يستقل دليلا فإذا اعتضد أحد الحديثين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى
1219 - وقال القاضي إذا تعارض الخبران كما ذكرناه في تصوير المسألة تساقطا ويجب العمل بالقياس والمسلكان يفضيان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بوافقة القياس والقاضي يرى العمل بالقياس وسقوط الخبرين واستدل القاضي بأن قال الخبر مقدم في مراتب الأدلة على القياس ( فيستحيل ) ترجيح خبر على خبر بما يسقطه الخبر ومن أحاط بمراتب الأدلة لم يتعلق بالقياس في واقعة فيها خبر صحيح فإن القياس مع الخبر الصحيح المستقل الواقع نصا في حكم اللغو الذي لا حاجة إليه وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه أيضا إذا وافقه فالقياس إذا لا وقع له مع ثبوت الخبر والتعارض يوجب سقوط التعلق بالخبرين فإذا سقطا فالتعلق بعد سقوطهما
1220 - والقول في ذلك عندي لا يبلغ مبلغ الإفادة ويجوز لمن ينصر نص الشافعي في ذلك أن يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر
أحدهما إلى التأكيد بما يغلبه على الآخر فهذا منتهى القول ولا قطع والعمل بما اجتمع عليه الخبر والنظر ونبني على هذا مسائل نسردها ونبين الحق فيها منها مسألة
1221 - أنه إذا تعارض خبران واعتضد إحدهما بقياس الأصول وكان أقرب إلى القواعد الممهدة قال الشافعي يقدم ما يوافق القواعد ومثال ذلك الخبران المتعارضان ( في صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فالذي رواه ابن عمر فيه ترددات كثيرة والترددات تخالف نظم الصلاة ورواية خوات ابن جبير ليس فيها حركات وترددات فرأى الشافعي رضي الله عنه تقديم خبر خوات وهذا يتصل تحقيقه بوافقة القياس لإحدى الروايتين ومخالفة الآخرى فكان العمل بموجب القياس أولى ثم يئول الكلام إلى أن رواية خوات مرجحة بالقياس أم الروايتان متعارضتان والتعلق بالقياس بعدهما
1222 - ويجري في هذه الواقعة نوعان من النظر أحدهما أنه لا يمتنع جريان الصلاتين الموصوفتين في الروايتين وقد مال الشافعي في بعض أجوبته إلى تجويزهما جميعا ثم آثر رواية خوات من
طريق التفصيل وهذا متجه حسن فإنه يبعد أن تختلف روايتان في واقعة واحدة اختلاف رواية ابن عمر وخوات وإذا روى عدلان لفظين من غير تاريخ فالظن بهما الصدق ويقدر ( تقدم ) أحدهما ( وتأخر ) الآخر فإذا اعتاص معرفة ذلك منهما قيل تعارضا فأما إذا تعلقت الروايتان بحكاية واحدة وظهر التفاوت في النقل فالوجه أن يحمل الأمر على جريانهما جميعا ويرد الترجيح إلى الفضيلة فهذا وجه ومما يتعلق بما نحن فيه أنا إذا حملنا الرواية المختارة على الجواز ولم نجوز غيرها فليس في روايتنا منع لما رواه ابن عمر فإذا لا تعارض في الحقيقة إلا من وجهة واحدة وهي أن يدعي الاتحاد وتنسب إحدى الروايتين إلى الوهم والزلل ثم لا يتعين لذلك أحدهما فيتمسك بالقياس وهذا بعيد عما تعبدنا به من تحسين الظن بالرواة والمختار تجويز ما اشتملت عليه الروايتان ورد الأمر إلى التفصيل
1223 - وقد ذكرالقاضي وجها في تقديم رواية ابن عمر رضي الله عنهما وهو أنه قال إنها نافلة عن المألوف في القواعد فيجب حملها على تثبيت الناقل والرواية الأخرى ليست كذلك وقد يشعر بعدم التثبيت وبناء الأمر مطلقا على ما عهد في الشرع وهذا غير سديد وهو تحويم على تخصيص عدل بوهم وزلل بموافقة الأصول فيما رواه ثم ( في ) رواية خوات أنواع من الإثبات لا تعهده في القوانين والقواعد فلا وجه لما ذكره
مسألة
1224 - ومنها إذا تعارض خبران ووافق أحدهما حكم اقترن من كتاب الله تعالى فقد رجح بعض العلماء الخبر الذي وافقه حكم القرينة ومثال ذلك الخبران المتعارضان في العمرة فيروى أن النبي عليه السلام قال الحج جهاد والعمرة تطوع وعارضه ما روى أنه عليه السلام قال الحج والعمرة نسكان فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ثم خبر الفريضة وافق حكم القرآن في كتاب الله تعالى فإنه قال وأتموا الحج والعمرة لله وهذا فيه نظر فإن إتمام الحج يتعرض لفرضه ابتداء لا في الحج ولا في العمرة وهما مقترنان وفاقا في وجوب الإتمام بعد الشرع فيهما ولم نذكر هذا إلا أن الشافعي ذكره فتيمنا بإيراد كلامه مسألة
1225 - إذا تعارض خبران ولم يترجح احدهما على الثاني ولم يتطرق إلى واحد منهما نسخ فيما يعلم أو يظن وعريت الواقعة عن دلالة أخرى فحكمهما عند الأصوليين الوقف عن الحكم فيها وإلحاق الصورة بالوقائع كلها قبل ورود الشرائع وهذا حكم الأصول
1226 - ولكن ما اراه أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين ولم يشغر عنهم ( الزمان ) فلا يقع مثل هذه الواقعة ( إذ ) لو فرض تجويز ذلك لوجب في حكم العادة وقوعه لا محالة فإذا لم يقع مثله في الأزمان على تطاولها وقد
اشتملت على كل ممكن على التكرر ( فارتقاب ) واقعة شاذة لا نظير لها ولا مداني محال في حكم العادة وسيأتى شرح ذلك في كتاب الفتوى وإن تحقق التعارض والتساوي بين النصين وانحسم مسلك التأويل ووجدنا للحكم متعلقا من طريق القياس ( أو الاستدلال ) وآخر مسلكه استصحاب الحال فهذا مما تقرر القول فيه قبل من أن الخبر الذي يوافقه مرجح به أو الخبران يتساقطان بالتعارض والمعنى مجرد للتعلق به
فصل ( في تعارض الظواهر ) 1227 - ( كل ما ) قدمناه في تعارض النصوص وأما إذا تعارض ظاهران يتطرق التأويل إلى كل واحد منهما فتتسع مسالك الترجيح فإن مبنى التعلق بالظاهر على غلبات الظنون وهي حرية بالترجيحات فإذا تعارضا وتأيد أحدهما بمزية ثقة في الراوي أو العدد في الرواة فالوجه التمسك بما تأيد بهذه الجهات وليس كالنصين فيما قدمناه فإنا تحققنا ( من ) طرق الماضين أنهم في غلبات الظنون كانوا يبغون ترجيح ظن على ظن وإنما توقفنا في تعارض النصوص من جهة أن معارضة النص بالنص يوهي التعلق به واقتضاؤه إياه يزيد على ما يتعلق به الترجيح وأيضا فإنا لم نتحقق مثالا في تعارض النصيين مع ترجيح أحدهما بمزية البينة والعدد ولم ينقل لنا مسلك الأولين في مثل
ذلك حتى نتخذه معتبرا ( وأماما ) يتعلق بالظنون ( فقد ) استبنا على قطع استرسال الأولين في الاستمساك بما يتضمن مزية في تغليب الظن فإذا تعارض ظاهران ولم يكن أحدهما في الثبوت والتعرض للتأويل بأولى من الثاني ولم يتطرق إلى أحدهما ما يوجب تغليب الظن فتعارضهما والحالة هذه كتعارض النصين على ما تقدم مسألة
1228 - إذا تعارض ظاهران أحدهما من الكتاب والآخر من السنة فقد اختلف أرباب الأصول فقال بعضهم يقدم كتاب الله تعالى وقال آخرون تقدم السنة وقال آخرون هما متعارضان
1229 - فأما من قدم الكتاب فمتعلقه قول معاذ إذ قال أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد اجتهد رأيي واشتهر في اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الابتداء بالكتاب ثم طلب السنة إن لم يجدوا متعلقا من الكتاب
12230 - ومن قدم السنة احتج بأن السنة هي المفسرة للكتاب وإليها الرجوع في بيان مجملات الكتاب وتخصيص ظواهره وتفصيل محتملة
2231 - والصحيح عندنا الحكم بالتعارض فإن الرسول عليه السلام ما كان يقول من تلقاء نفسه شيئا وكل ما كان يقول فمستنده أمر الله تعالى وما ذكره معاذ فمعناه أن ما يوجد فيه نص من كتاب الله تعالى فلا يتوقع فيه خبر يخالفه فمبني الأمر فيه على تقديم الكتاب ثم آي الكتاب لا تشتمل على بيان الأحكام
والأخبار أعم وجودا ( منها ) ثم طرق الرأي لا انحصار لها فجرى الترتيب منه بناء على هذا في الوجود ونحن فرضنا المسألة في ظاهرين ليسا نصين وكذلك ما ادعاه من ابتدار الصحابة الكتاب فهو منزل على ما ذكرناه فأما كون السنة مفسرة فلا تعلق ( فيه ) فإنا نقول أن روى تفسيرا للكتاب فلا خلاف في قبوله وتنزيل الكتاب عليه ومعظم التفاسير منقولة آحادا وليس هذا من غرضنا وكذلك لو كان الخبر الذي نقله الأثبات نصا في معارضه ظاهر فالنص مقدم على الظاهر من الكتاب والسنة وقد ذكرنا هذا في تخصيص العموم وأشرنا إلى خلاف فيه والذي ذكرناه الآن هو المختار
1232 - وقال القاضي رحمه الله إن تعارض ظاهر خبر نقله الآحاد فهما متعارضان وهذا لست أراه كذلك فإن الظاهرين متساويان في تطرق التأويل إلى كل واحد منهما والكتاب يختص ( بثبوته على جهة القطع ) ولا أعرف خلافا ( أنه ) إذا تعارض ظاهران من الأخبار أحدهما منقول تواترا والآخر منقول آحادا فالمتواتر يقدم فليكن الأمر كذلك في تقديم الكتاب على السنة مسألة
1233 - قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم
يطعمه الآية وهذه الآية من آخر ما نزل ولا خلاف أنها ليست منسوخة وقد تعلق مالك رحمه الله بموجبها ونزل مذهبه عليها فحرم ما اقتضت الآية تحريمه وأحل ما عداه ورأى الشافعي رحمه الله التعلق بأخبار نقلها الآحاد وترك موجب الآية لها منها أنه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وحرم الفواسق وحرم الحمر الأهلية والأخبار في تحريمها بعد التحليل في الصحاح وتقديم أخبار الآحاد على نص الكتاب مشكل في غير محل الإجماع وليس القرآن في مرتبة الظواهر في هذا الغرض ولكنه يشتمل على النفي والإثبات والإبقاء والاستثناء وهذا أبعد في التاويل من الأخبار التي رويت في معرض المناهي وصيغ النهي ليست نصوصا في التحريم والتنزيه غالب في كثير من المطعومات
1234 - والذي اعتمده الشافعي في الكلام على الآية تنزيلها على ( سبب ) في النزول يدل عليه ما قبل الآية التي فيها الكلام وما بعدها وذلك أنه قال زعمت اليهود أن الشحوم محرمة وذكر تفاصيلهم في البحيرة والسائبة ونسبوا النبي عليه السلام إلى أنه بغير حكم الله تعالى من تلقاء نفسه وأباح طوائف من الكفار الميتة وجادلوا المسلمين فيها وكانوا يقولون تستحلون ما تقتلون ولا تستحلون ما يقتله الله تعالى وأباح آخرون الخنزير والدم فأنزل الله تعالى أنه لم يحرم إلا ما أحلوه وأنهم
مراغمون لما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام وتجري الآية على مذهب من يقول لمن يخاطبه لم تأكل اليوم حلاوى فيقول المجيب لم آكل اليوم إلا الحلاوى
1235 - وهذا ( استكراه ) عندي في الكلام على الآية ولكن يعضده عندي ما هو مجمع عليه في أمور ومذهب مالك مسبوق بالإجماع فيها فإنا لا نشك في إجتناب أصحاب النبي عليه السلام أكل الحشرات وغيرها واعتقادهم أنها بمثابة المحرمات وكذلك الخمر محرمة وليس لها ذكر في هذه الآية ونزولها مسبوق يتحريم الخمر فإذا ظاهر الآية متروك بالإجماع ولا يعتد ( مع تحققه ) بخلاف مالك بعده فينتظم من ذلك الآية على ما ذكره الشافعي مسألة
1236 - إذا ورد عام وخاص في حادثة وتسلط الخاص ( على العام ) إجماعا وورد مثله عام وخاص فالوجه تنزيل العام على موجب الخاص ومثال موضع الخلاف والوفاق ما نصفه الآن أما المتفق عليه فتنزيل قوله عليه السلام في الرقة ربع العشر على قوله ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة والحديث الأول يعم القليل والكثير والحديث الثاني يخص الزكاة بالنصاب فهذا متفق عليه وسببه أن المقيد من الخبرين نص في نفي الزكاة عما قصر عن خمس أواق والخبر الأول ظاهر غير مقصود والغالب على الظن أن المراد بيان قدر الزكاة
1237 - فأما ما أختلف العلماء فيه وهو ( في ) معنى ما وصفناه فقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر مع قوله ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فلم يعتبر أبو حنيفة النصاب وتعلق بظاهر قوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وقال الشافعي أقصى الممكن منه تسليم ظاهره على أن الأمر على خلاف ذلك فإنه لا يخفى على الفاهم أن الغرض من مساق الحديث الفصل بين العشر وبين نصف العشر فإنه عليه السلام قال فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر وخمسة أوسق نص فلا عذر لأبي حنيفة في تركه وضرب الشافعي ما ( في الورق 9 من الخبرين مثالا ورأى ما ذكره مسلكا قطعيا وألحق الشافعي بهذا الفن قوله عليه السلام في أربعين شاة شاة مع قوله في سائمة الغنم الزكاة وهذا دون القسم الأول فإن اشتراط السوم متلقى من المفهوم ونفي الزكاة عما دون خمسة أوسق منصوص عليه على وجه لا يقبل التأويل مسألة
1238 - إذا تعارض عمومان من الكتاب ( أوالسنة ) فظاهرهما التناقض والتنافي مثل قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فهذا ظاهر في
وضع السيف فيهم حيث يثقفون وقال في آية أخرى حتى يعطوا الجزية عن يد فظاهر الآية أخذ الجزية من كل كافر كتابيا كان أو وثنيا وقال عليه السلام خذ من كل حالم دينارا وظاهر هذا جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير تفصيل وقال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام
1239 - وقال بعض الفقهاء فيما ذكرناه وأمثاله الوجه الجمع بين الظاهرين في المقدار الممكن فنأخذ الجزية من أهل الكتاب لآية الجزية ونضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا شبهة كتاب لظاهر الآية الواردة في القتل وزعم هؤلاء أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحدة من الآيتين وكذلك القول في الخبرين وهؤلاء يرون تصرفا في الظواهر مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دلالة
1240 - وهذا مردود عند الأصوليين فالظاهر إذا تعارضهما إلا أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل كما أوضحنا سبيل ذلك في كتاب التأويلات وما ذكره الفقهاء من الجمع احتكام لا أصل له ولو لم يقم عليه دليل لكان ذلك الممسك متضمنا تعطيل الظاهرين وإخرجها من حكم العموم من غيره دليل وليس
أحد الظاهرين أولى بالتسليط على الثاني من الآخر وكل عموم خص فلا بد من عضد تخصيصه بدليل ونحن إنما نخص الجزية بالكتابيين بأخبار وآثار مسطورة في كتب الفقه والغرض من هذا الفصل إجراء الظاهرين على تعارضهما من غير أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني ثم يجعل الثاني دليلا في تخصيص الأول وهذا لا سبيل إليه ولكن اتجه في كل ظاهر تخصيص افتقر ذلك التخصيص إلى دليل غير الظاهرين وإن لم يتجه تعلقنا بالترجيح إن وجدناه فإن لم نجد نزلنا عن التعلق بالظاهرين مسألة
1241 - إذا تعارض ظاهران وأحدهما وارد على سبب خاص والثاني غير مطلق وارد على سبب أما من قال بتخصيص اللفظ العام بمورده فلا شك أنه يخصصه به وأما من رأى التمسك بالعموم دون السبب فإذا تعارض عمومان كما وصفناه والتفريع على أن الاعتبار بعموم اللفظ فإنه يوهيه ويحطه عن رتبة عموم اللفظ المطلق والترجيح يغلب على الظن من منشأ الدليل واللفظ العام يغلب على الظن حمله على مقتضى شموله فإذا عارضه لفظ آخر ينحط عنه في غلبة الظن آخر عن الاول وهذا هو السر الأخفى في الترجيحات فلا وجه للترجيح من طريق النظر في النصوص إلا أن يحمل ذلك على عمل المجمعين والظاهر يقوى وقع الترجيح
فيها وهو متضح في طريق النظر فإن المتعلق فيه غلبة الظن وقد تحقق من الأولين في تعارض الظواهر الاستمساك بالأظهر فالأظهر مسألة
1242 - إذا تعارض ظاهران وفي أحدهما ما يقتضي التعليل في ( صيغة التعميم ) فهو مرجح على العام الذي عارضه وليس فيه اقتضاء التعليل والسبب فيه أن التعليل في صيغة العموم من أقوى الدلالات على ظهور قصد التعميم حتى ذهب ذاهبون إلى أنه نص ممتنع تخصيصه فإن قدر نصا فلا شك في تقديمه على الظاهر المعرض للتأويل وإن اعتقد ظاهرا فهو مرجح على معارضه لاختصاصه بما يوجب تغليب الظن
1243 - وكشف الغطاء في هذا عندنا وهو مما أراه سر هذه الأبواب ولم نسبق بإظهاره فنقول إذا صدر من الشارع كلام غير مقيد بسؤال ولا حكاية حال ولاح قصد التعميم من إجرائه الحكم الذي فيه العموم مقصودا ( لكلامه ) ( فما ) يقع كذلك فاللفظ في المتماثلات نص وليس من الظواهر واضابط فيه أنما لا يخلو عن ذكر المتكلم وعلمه وقت قوله واللفظ في الوضع يتناوله وقد لاح بانتفاء التقييدات وقرائن الأحوال قصد التعميم فلو تخيل متخيل قصر اللفظ على بعض المسميات المتماثلة لكان ذلك عندنا خلفا وتلبيسا وإنما يسوغ الخروج عن مقتضى اللفظ وضعا فيما يجوز تقدير ذهول المتكلم عنه وهذا في حكم التعميم بناء عظيم
وتمام الغرض فيه بذكر معارض لذلك على المناقضة فنقول مستعينين بالله تعالى
1244 - لو ظهر لنا خروج معنى عن قصد المتكلم وكان سياق الكلام يفضي إلى تنزيل غرض الشارع على قصد آخر فلست أرى التعلق بالعموم الذي ظهر فيه خروجه عن قصد الشارع وهو كقوله عليه السلام ط فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر فالكلام مسوق لتعيين ( العشر ونصف العشر فلو تعلق الحنفي بقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر ورام تعليق العشر بغير الأقوات فلسنا نراه متعلقا بظاهر فهذا طرف
1245 - ولو نقل لفظ ولم يظهر فيه قصد التعميم ولا تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي أراه ظاهرا وهو الذي يتطرق التخصيص إليه
1246 - وقد رأى القاضي التعلق بالقسم الأول الذي أخرجته عن الظواهر على رأي المعممين ثم قال هذا يعارضه أدنى مسلك في الظن ويتسلط عليه التأويل والتخصيص والراي عندي فيه قد قدمته والدليل عليه أن الشارع إذا كان مقصوده بيان العشر ونصف العشر لو أخذ يفصل الأجناس وهو يبغي غيرها يعد ذلك تطويلا نازلا عن الوجه المختار في اللغة العالية فتقدير التعميم يشير إلى أنه ( لو لم ) يرد العموم لفصل الأجناس ولو فصلها لكان مائلا عن الوجه الأحسن في النظم وإذا تمهد هذا الأصل فالذي ذكره الاصحاب من أن علة الشارع لا تنقض
محمول على تقدير ما قصد التعميم فيه نصا فليفهم الناظر ذلك وليقف عليه عند هذا وقفة باحث مسألة
1247 - واذا تعارض ظاهران وقد تطرق التخصيص إلى إحدهما فالمذهب الذي ذهب إليها المحققون أن الذي لم يتطرق إليه تخصيص مرجح فأما المعتزلة فإنهم قضوا بأن اللفظ الذي خص في بعض المسميات صار مجملا في الباقي ولا يعارض المجمل ظاهرا وأما أهل الحق وإن لم يحكموا بالإجمال فإنهم يرون تعميم اللفظ في الباقي أضعف في حكم الظن من اللفظ الذي لم يجر فيه تخصيص فإذا لاح وجه في غلبة الظن من منشأ ظهور الظاهر كان ذلك ترجيحا مقبولا مسألة
1248 - إذا تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب إلى احتياط فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأحوط مرجح على الثاني وزعموا أن الذي يقتضيه الورع وإتباع السلامة هذا واحتجوا بأن قالوا اللائق بحكمة الشريعة ومحاسنها الاحتياط فإذا تعارض لفظان غلب على الظن أن الذي نقله صاحب الاحتياط صدق وكأن القواعد تغلب على الظن ذلك وتؤازر الرأي في ذلك
1249 - وقال القاضي لا مستروح إلى هذا ولا معنى للترجيح بالسلامة وما ذكره هؤلاء من شهادة الأصول وإثارتها تغليب الظن يعارضه أن العدل الذي
نقل الثاني لا يتهم ولا يظن به العدول عن قاعدة الاحتياط إلا بثبت واختصاص بمزية حفظ وقد يتخيل أن ما جاء به الأخر بناه على ما ( رآه ) من ظاهر الاحتياط وحمل عليه نظم لفظه من غير ثبت في النقل ثم قال القاضي لا وجه للترجيح وإن انقدح ما ذكرناه آخر فيما لا يوافق الاحتياط انخرمت الشهادة كما ذكرناها أولا فالوجه التعارض مسالة
1250 - إذا تعارض لفظان متضمن أحدهما النفي ومتضمن الثاني الإثبات فقد قال جمهور الفقهاء الإثبات مقدم وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل عندنا فإن كان الذي ( نقله النافي ) إثبات لفظ عن الرسول عليه السلام مقتضاه النفي فلا يترجح ( على ذلك ) اللفظ الذي متضمنه الإثبات لأن كل واحد من الراويين متثبت فيما نقله وهو مثل أن ينقل أحدهما ان الرسول عليه السلام أباح شيئا وينقل الثاني أنه قال لا يحل وكل ناف في قوله مثبت فأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الثاني أنه لم يقل ولم يفعل فالإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغى المستمع وإن كان محدا والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيئ لم يجر له ذكر مسألة
1251 - إذا تعارض ظاهران أو نصان أحدهما يوافق المعروف المعتاد والآخر ما جرى به العرف فالقول في هذا كالقول في موافقة أحد المنقولين للاحتياط
ومخالفة الآخر إياه وقد مضى فيه قول بالغ والمختار التعارض في المسألتين فهذا الذي ذكرناه كلام بالغ في ترجيح الألفاظ النصوص منها والظواهر ومن أحاط بها وأحكم أصولها لم يخف عليه مدرك الكلام فيما يرد عليه من أمثالها
باب في ترجيح الأقيسة 1252 - هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسون وفيه أتساع الاجتهاد وهو يستدعي تجديد العهد بمراتب الأقيسة فنقول المرتبة العليا المعدودة من مسالك القياس ما يقال إنه في معنى الأصل وقد سبق تأصيله وتفصيله وتقدم القول في أنه هل يعد من الأقيسة أو يعد من مقتضيات الألفاظ وهو على كل حال مقدم على ما بعده والسبب فيه أنه ملتحق بأصله قطعا والتحاقه به مقطوع غير مظنون ولا شك في تقديم مراتب العلوم على درجات الظنون ثم يلي ذلك من قياس المعنى ما يطرد وينعكس ويليه القياس الذي يسمى قياس الدلالة كما سبق وصفه ويلي ذلك قياس الشبه فأما ما يعلم فلا ترتيب فيه ( مراتب قياس المعنى )
1253 - وأما قياس المعنى فهو على مراتب لا يضبطها ضابط فإن مسالك الظنون لا يتأتى حصرها وهي وإن كانت منحصرة من جهة تعيين مناسبتها لأصولها الشريعة فلا يتأتى للناظر الوصول إلى ضبطها بعد وربطها بحد ولكنا نحرص على تقريب الأمور والإشراف على ما يكاد أن يكون تشوفا إلى الضبط ونتقي فيما نحاوله مصالح لا نرى تقدير ها مأخذ الأحكام ونحاذر فيها الوقوع في منخرق مذهب مالك ومتسع مسلكه المفضى إلى الخروج عن الحصر والضبط ثم قد ذكرنا في الاستدلال طرفا من ذلك ونحن نعيده ونزيده تقريرا وتقريبا
فنقول
1254 - إذا وجدنا أصلا استنبطنا منه معنى مناسبا للحكم فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة ويكفي في الضبط فيه استناده إلى اصل متفق الحكم ( ومرجوعنا ) في ذلك وجداننا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مسترسلين في استنباط المصالح من أصول الشريعة من غير توقع وقوف عند بعضها
1255 - فأما المعنى الذي لا نجد له أصلا ولا مستندا فهو الذي سميناه الاستدلال ونحن نرى التعلق به كما مهدنا القول فيه ولا يجوز التعلق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء ومن ظن ذلك بمالك رضي الله عنه فقد أخطأ فإنه قد اتخذ من أقضية الصحابة رضي الله عنهم أصولا وشبه بها مأخذ الوقائع فمال فيما قال إلى فتاويهم وأقضيتهم فإذا لم ير الاسترسال في المصالح ولكنه لم يحط بتلك الوقائع على حقائقها وهذا كبنائه قواعد على سيرة عمر رضي الله عنه في أخذه شطرا من مال خالد وعمرو وقد قدر ذلك تأديبا منه وهذا زلل فإنه لا يمتنع أنه رآهما آخذين من مال الله تعالى ما لا يستحقان أخذه على ظن وحسبان وكان يرعى طبقة الرعية بالعين الكالئة والأليق بشهامته وإيالته أن نظره الثاقب كان بالمرصاد لما يتعديان فيه الحدود عامدين أو خاطئين إذ كانا موليين على مال الله تعالى وإذا أمكن ذلك وهو الظاهر فحمله على التأديب لا وجه له ولو صح عنه أخذ مال رجل غير متصرف في مال الله تعالى لكان يظهر ما تخيله مالك
وكذلك كل واقعة ربط مالك أصلا من أصوله بها فإنه لا يرى ذلك الأصل استحداث أمر وهو عند الباحثين ينعطف على أبلغ وجه إلى قواعد الشريعة فخرج مما ذكرناه أن مالكا ضم وقائع الصحابة إلى الأمور الظاهرة من الشريعة ولم يظن بهم افتتاح أمر من عند أنفسهم ولكنه قال الأخبار ( منقسمة ) إلى ما نقلت صريحا وإلى ما فهمنا ضمنا فإنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس أصول فهذا بيان مذهبه
1256 - ونحن نرى الاقتصار في مآخذ الأحكام على أصول الشريعة وأقضية الصحابة محمولة عليها ولا نتخيل أخبارا استندوا بها وسكتوا عن نقلها مع علمنا بأنهم كانوا يبرئون أنفسهم عن الاستقلال ويعضدون ما يحكمون به بما يصح عندهم من أخبار الرسول عليه السلام وهذا وجه أنفصال أحد المذهبين عن الثاني ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة كما ذكرناه في المعنى المستنبط من الأصول ويظهر أثر ذلك بضابط في النفي والإثبات وهو أن كل معنى لو أطرد جر طرده حكما بديعا لم يعهد مثله في الزمان الأطول فيدل خروج أثره عن النظير على خروج معناه المقتضى عن كونه معتبرا والدليل عليه أنه لو كان معتبرا لوجب في حكم العادة القطع بوقوع مثله في الزمن
المتمادي وبمثل هذا المسلك قطعنا ( بأنه ) لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وإذا كان أثر المعنى لا يعدم نظيرا قريبا ولم يقتض طرد المعنى مخالفة أصل من الأصول فهو استدلال مقبول معمول به وبيان ذلك بالمثال أن مالكا لما زل نظره كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سبب متأصل في الشريعة ومنه ( تجويزه التأديب ) بالقتل في ضبط الدولة وإقامة السياسة وهذا إن عهد فهو من عادة الجبابرة وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصحابة
1257 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه فنحن نرسم بعده مراتب في الإخالات وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مدركها على حقائقها مشرف على طرف المعاني فإذا عسر الوفاء باستيعاب أمثلة الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخذ أصلا من أصول الشريعة يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالات ونبين فيه وجوه الترتيب فيها وما يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب مدارك الفقه ومعانيها ثم ( يقيس ) الفطن على ما نرسمه فيها ما يدانيها ( المرتبة الأولى )
1258 - فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه وما يوجب اندفاعه فنقول أوجب الله القصاص في نص كتابه زجرا للجناة وكفا لهم وأشعر بذلك قوله
تعالى ولكم في القصاص حياة واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها من طبقاتهم منكر ثم قال أئمة الشريعة كل مسلك يطرق إلى الدماء الهرج على جريان واسترسال واستمكان من غير حاجة إلى أمر نادر ومعاناة شاقة فهو مردود فإن المقصود المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج فمن خالف هذا فهو لو قدر ثبوته ( ناقض ) له والثالث نصا وإجماعا لا سبيل إلى نقضه فإذا تمهد ( ذلك ) فكل معنى يستند إلى هذه القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة العليا من أقيسة المعاني
1259 - وهذا يمثل ( بالقول في القتل ) بالمثقل ولا شك أن من نفي القصاص به مناقض للقاعدة من جهة أن القصد إلى القتل بهذه الآلات أمر ثابت وهو ممكن لا عسر في إيقاعه وليس القتل به مما يندر ( فإذا لم يعسر ولم يندر ) فكان نفي القصاص بالقتل بها مضادا لحكمة الشريعة في القصاص فإذا ناكر الخصم العمدية في القتل بهذه الآلات سفه عقله ولم يستفد به إيضاح
عسر القتل
1260 - وإن شبب بتعبد في آلة القصاص وكان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم مواقع التعبد
1261 - وإن تمسك بصورة في العكس وقال الجرح الذي لا يغلب إقتضاؤه إلى الهلاك اذا أهلك أوجب القصاص كان هذا غاية في خلاف الحق فإن الجرح لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا للمعتدين فكيف يستجيز ذو الدين أن يبنى عليه إسقاط القصاص بالقتل الذي يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة وليعتبر المعتبر عن هذا الأصل فإنه أجلى أقيسة المعاني وأعلى مرتبة فيها فإنه لا حاجة في ربطه بالقاعدة إلى تكلف أو تقرير أو تقريب وتحرير ولو قيل هو الأصل بعينه ( و ) ليس ملحقا به لم يكن ( بعيدا )
1262 - ومخالف ما يقع في هذه المرتبة مائل عن الحق على قطع وليس القول فيها دائرا في فنون الظنون وما يكون بهذه الصفة لا يتصور أن يعارضه معارض
1263 - ونضرب لهذا مثالا آخر قياسا فنقول الغرض من شهادة الشهود إيضاح المقصود المشهود به ثم للشرع تعبدات وتأكيدات في رتب البينات على حسب أقدار المقاصد وأعلى البينات بينة الزنا فإذا شهد على صريح الزنا أربعة من الشهود
العدول وتناهى القاضي في البحث وانتفت مسالك التهم فهذا أقصى الإمكان في الإيضاح والبيان فلو شهدوا وأقر المشهود عليه مرة واحدة لم يؤثر إقراره ووجب القصاص بموجب البينة فإن إقراره تأكيد البينة ولا يحط من مرتبة البينة شيئا فإذا قال أبو حنيفة إذا أقر المشهود عليه مرة سقطت البينة ولم ( يثبت ) بذلك الإقرار شئ لم يجز أن يكون هذا مضمون في أصل الشريعة المحمدية فإن الإقرار لم يعارض البينة مناقضا ثم هو ذريعة يسيرة غير عسيرة في ترك البينات ثم المقر لا يحلف حتى يتخيل ارعواؤه ولو طلبنا أمثال ذلك وجدنا منه الكثير المرتبة الثانية
1264 - تعتمد على قياس معتضد بالأصل ولكنه قد يلقى الجامع احتياجا إلى مزيد تقرير وتقريب ويعن للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا ومثال ذلك أنه قد ثبت وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة الشرع في تحقيق العصمة وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال ذلك ليست بالعسيرة والقتل على ( الاشتراك ) غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في الأصل إيجاب القتل على الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد ( منهم ) ليس قاتلا وفعل كل واحد منهما يخرج أفعال شركائه عن الاستقلال بالقتل وقتل غير القاتل فيه مخالفة الموضوع المشروع في
تخصيص القتل بالقاتل وفيه وجه آخر وهو أن إمكان القتل بالمثقل فوق إمكان الاستعانة وعن هذا تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على الشركاء وصرح بعض المفتين بأن قتل المشتركين خارج عن القياس والمعتمد فيه قول عمر رضي الله عنه إذ قال لو تمالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به فنشأ من منتهى هذا الكلام أن الجاني محرم الدم معصوم ( فإذا تطرقت الاحتمالات لم يجز الهجوم على قتل معصوم )
1265 - والمسلك الحق عندنا أن المشركين يقتلون بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج بعضهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص ( عنهم ) هرج ظاهر فلا نظر مع الظهور إلى انحطاط إمكان الاشتراك قليلا عن الأنفراد بالقتل بالمثقل فإنه يعارض ذلك أن المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين ويتطرق إلى الاستقلال بالقتل عسر ( من وجه ) حتى تمس الحاجة إلى فرض كلام في أيد وضعيف أو تقدير اغتيال ( فيعتدل ) المسلكان حينئذ وخروج كل واحد عن كونه قاتلا لا وقع له مع إفضاء درء القصاص إلى الهرج مع العلم بأن القصاص ليس على قياس الأعواض وأما كون الجاني معصوما فلا أثر له في هذا المقام مع أنه سعى في دم من غير
أن يفرض له تقدير عذر فكان ما أقدم عليه مسقطا حرمته وخارما عصمته والشبهات إنما تنشأ من فرض أمر يقدر للجاني عذرا على قرب أو على بعد وهو منشأ الشبهات على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى
1266 - فإذا تمهدت هذه القاعدة ( فغرض هذه ) المرتبة إلحاق فرع بهذا الأصل مع تقدير الوفاق فيه فنقول في الطرف إنه صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين كالنفس وهذا أجلى ولكنه في اعلى مراتب الظنون
1267 - فإن قيل ما سبب خروج هذا القياس عن مسالك العلوم مع استبانة ( استقائه ) من القاعدة كما ذكرتموه قلنا في القاعدة على الجملة نظر أما إسقاط أصل القصاص عن المشتركين فمعلوم بطلانه قطعا فإنه مبطل لحكمة العصمة وأما قتل واحد من المشركين لا بعينه مع تفويض الأمر إلى رأى من له القصاص فليس يرد ذلك ولكنه يقع في مجال الظنون ثم في إلحاق الطرف بالنفس ثلاثة أشياء يطرق كل واحد إليه الظن أحدها أن قائلا لو قال لو أفضى قطع الطرف إلى النفس لوجب القصاص على المشتركين وتقرير ذلك مردعة لهم فلا يؤدي ذلك إلى االهرج هذا وجه واقع ودافعه أنه لو صح لسقط القصاص في الطرف أصلا فإذا جرى القصاص مع الاندمال أشعر ذلك باعتناء الشرع بتخصيصه بالصور حتى كأن الطرف مع النفس كزيد مع عمرو في أن كل واحد منهما مقصود بالصون
1268 - والوجه الثاني مما يقتضي الظن ظن الخصم أن ما ذكرناه من الجمع في حكمه القصاص ينقضه تمييز فعل أحد الشريكين في القطع عن فعل الشريك الثاني فإذا كان كذلك فهو ممكن غير عسير ثم لا قصاص على واحد منهما وهذا إن سلم فهو لعمرى قادح في الجمع وقد صح فيه منع كما يعرف الفقهاء
1269 - والوجه الثالث أن الطرف مما يقبل التبعيض فيصور الخصم أن القطع الواقع على صورة الشركة يحمل على وقوعه على التبعيض إذا كان المجني عليه قابلا للتبعيض وهذا زلل فإن إمكان تصوير ما يسقط القصاص لا يدرؤه إذا لم يكن وكان بدله ما يشابه الأشتراك في الروح فلو توجهت هذه الجهات وبعد القول في الأصل بعض البعد كان ذلك دون المرتبة الأولى المستندة إلى العلم ( والقطع ) فهذا واضح جدا ومن حكم وضوحه أنه لا يثبت له معارض إذ لو قدر له معارض لكان ناشئا من تقدير شبهة توجب المحافظة على حكمة العصمة في حق الجاني ومآخذ الشبهات ما يشير إليه المعاذير ولا عذر للجاني وإن حاول الخصم تسبيب المعارضه في جهه أن واحدا لم يقطع اليد بطل ذلك عليه بالنفس ولو رجع وزعم أن القصاص على الشركاء على خلاف القياس كان ذلك روم اعتراض وقد أوضحنا بطلانه
والمخيلة العظمى في ظهور قياس المعنى امتناع المعارضة المحوجة إلى الترجيح فإن عارضوا القصاص في الطرف بقطع السرقة وشبهوا الاشتراك في قطع اليد بالاشتراك في سرقة نصاب لم يكن ما جاءوا به ماخوذا من قاعدة القصاص ونحن لم نعن بامتناع المعارضة انسداد المسالك البعيدة وإنما المعارضة الحاقة ما ينشأ من وضع الكلام ولا شك ( في ) أن قطع السرقة بعيد في أصله وتفصيله عن القصاص فإن الأصل المعتبر في قطع السرقة أخذ مال غير تافه على الاختفاء من حرز مثله والغرض بشرع القطع ردع السارق عن تناول المال والنفيس وفي النفس مزجرة عن ركوب الأخطار بسبب التافه وهذا المعنى يوجب نفي القطع عن الشركاء فإن كل واحد منهم على حصته من المسروق وذلك المقدار لا حاجة إلى إثبات رادع عنه وهذا لا يتحقق في القصاص أصلا ( فيما نحن فيه ) فإن معتمده الصون وتمهيد العصمة وليس في قاعدته انقسام إلى التافه والنفيس وخروج كل جان عن الاستقلال بكل الجناية لا يسقط القصاص عنه إذ لو قيل به لخرم قاعدة الصون على أنه محقق في النفس كما سبق
1270 - وإذا لم تكن المعارضة على حقها في منشأ الاجتهاد لم ينتظم فرق ورجع كلام المحقق إلى تباين القاعدتين وتباعدهما وإيضاح ابتناء كل واحد منهما على أصل غير معتبر في القاعدة الأخرى وهذا لا ينتظم فرقا ويدخل في أقسام فساد الوضع ووجب نسبه الخصم إلى البعد
عن مأخذ الكلام والاكتفاء بتلفيق لفظي عرى عن التحقيق
1271 - والذي يحقق ذلك ان من سرق نصابا واحدا في دفعات ( وهو في كل دفعة ) يهتك حرزا لم يستوجب قطعا ولو قطع جان يدا واحدة بدفعات استوجب القصاص عند الإبانة
1272 - ويتعلق بالكلام في هذا القسم أمر يتعين الاعتناء به وهو مزلة مالك ونحن نقول فيه إذا ثبت ارتباط حكم في أصل بحكمة مرعية فيجوز الاستمساك بعينها في إلحاق الفرع بالمنصوص عليه في عين الحكم المنصوص ولا يجوز تقدير حكم آخر متعلق بحكمة تناظر الحكمة ( الثابتة ) ( في الأصل المنصوص عليه فإن هذا يجر إلى الخروج عن الضبط ويفضي في مساقه إلى الإنحلال ( فإن الحكمة الثانية ) لو قدرت لدعت إلى ثالثه ثم لا وقوف إلى منتهى مضبوط
1273 - وبيان ذلك بالمثال أن المال صين بشرع القطع إبقاء له على ملاكه وزجرا للمتشوفين إليه ولو فرض تعرض للحرم بمراودات دون الوقاع فأدناها يبر على أقدار الأموال ولا يسوغ نقل القطع إليه وكذلك القول في أمثاله
1274 - وعند ذلك انتشر مذهب مالك وكاد يفارق ضوابط الشريعة واعتصم بألفاظ وعيدية معرضة للتأويل منقولة عن جلة الصحابة وقد يدنو المأخذ جدا فيزل الفطن إذا لم يكن متهذبا دربا بقواعد الاجتهاد
1275 - وبيان ذلك ( بالمثال ) أنا إذا قلنا قطع السرقة مشروع لصون الأموال
وزجر السارقين فألزمنا عليه ما إذا نقب الواحد الحرز وسرق الآخر فلا قطع على وواحد منهما وهذا يخرم الحكمه المرعية في ( صون ) الأموال فإن ( التسبب ) إلى ما ذكرناه يسير ممكن وهذا على الحقيقة غامض من جهة أن الشخص الواحد إذا نقب وسرق فقد أخرج النقب الحرز عن حقيقته ولم يقدم على المال إلا وهو في مضيعة ثم لم نقل لا قطع عليه من حيث انفصل هتك الحرز عن أخذ المال وكان من الممكن أن يختص القطع بمن يتسلق على الحرز ويأخذ المال من غير هتك وهذا مجال ضيق ويتجه فيه خلاف العلماء وحق الأصولي ألا يعرج على مذهب ولا يلتزم الذب عن مسلك واحد ولكن يجري مسلك القطع غير ملتفت إلى مذاهب الفقهاء في الفروع
1276 - ثم القول الممكن في السارق والناقب أن صون الأموال وإن اثبت فهو مخصوص بالسرقة من الحرز وليس ( إلينا ) وضع الحكم والمصالح ولكن إذا وضعها الشارع اتبعناها
1277 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن المعلل إذا قيد تعليله ( الفقهي ) المعنوي يقيد غير مخيل لا على معنى الاستقلال ولا على الانضمام إلى أركان العلة المركبة فذلك التقييد مطرح في مسلك المعاني وطرق الإخالة إلا فيما نصفه وهو تقييد الكلام بحكم معين تعلق بحكمة معلومة وهذا كذكرنا صون المال عن السراق فإذا ألزمنا صون الحرم لم نلتفت إليه ولم نلتزم فرقا بين الصورتين فإن ذلك إنما ينشأ من رعاية المصلحة مع الإنحصار على الحكم المنصوص عليه
ثم ما ذكرناه ليس مختصا بحكم واحد بل هو مطرد في جمله المصالح الشرعية فكل مصلحة مختصة ( بحكمها ) وغاية القايس ضم جزئي في المنصوص عليه إلى القاعدة الكلية
1278 - فإن قيل إذا قسم الطرف في حق الاشتراك على النفس فهل تنسبون إلى المحذور الذي ذكرتموه من مجاوزة موارد المصالح قلنا إن كان ذلك مجاوزة فلا قياس إذا وينبغي أن يجتنب المنتهي إلى هذا المقام طرفي القياس والانحلال فنقول ساوى الطرف النفس في الأصل وهو القصاص ثم ثبت الصون في النفس بإجراء ( القصاص ) على المشتركين فرمنا إلحاق الطرف المساوي للنفس ( في أصل القصاص بالنفس ) في فرع اقتضاه أصل القصاص وهذا غاية المطلوب في ارتباط الفرع بالأصل واقتضاء الأصل الفرع
1279 - وإذا بلغ الكلام هذا المبلغ فليعلم الناظر أن اسد المذاهب في القول بالقياس الحق واجتناب الخروج عن الضبط مذهب الشافعي ولست أرى في مسالكه حيدا إلا في أصل واحد لم يحط بسر مذهبه ( فيه فهمي ) وهو إثباته قتل تارك الصلاة فإنه لم يرد فيه نص وتقريب القول فيه يتضمن حكمه لم يثبت أصلها وهذا مشكل جدا فإن طمع ( من ) قصر فكره بتشبيه المأمور به بالمنهي عنه كان ذلك بعيدا غير لائق بمذهب هذا الإمام وهذا القدر كاف في التنبيه وقد نجز غرضنا في القول في المرتبة الثانية من قياس المعنى
المرتبة الثالثة
1280 - نمثلها في القول بالمكره على القتل وفيه ثلاثة مذاهب أحدها أن القصاص على المكره دون المكره والثاني وهو قياس مبين أن القصاص على المكره دون المكره وهو مذهب زفر والثالث أن القصاص يجب عليهما وهو مذهب الشافعي
1281 - وأبعد المذاهب عن الصواب إيجاب القصاص على المكره دون المكره المحمول فإنه زعم أن فعل منقول إلى مكره وكأنه آلة له وهذا ساقط مع المصير إلى ( أن ) النهي عن القتل متجه مستمر على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع إياه ومن ضرورة كون الشي آلة انقطاع التكليف عنه فتخصيص المكره بإلزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له
1282 - ( ووجه ) مذهب زفر في القياس لائح وهو أنه راى المحمول ممنوعا ولم ير أثر الإكراه في سلب المنع والنهي والمباشرة تغلب على السبب إذا استقلت فارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع
1283 - والذي يختاره أصحاب الشافعي ينبني على ما ذكرناه لزفر في استقلال المباشرة وهذا يقتضي إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره ( بالكلية ) فإنه موقع القتل غالبا والإكراه من
أسباب تقرير الضمان فيبعد تعطيله وإخراجه من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلها منزلة الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل صاحبه من جهة أنه يخرجه عن كونه قتلا ثم لم يسقط الأشتراك القصاص عنهما فإذا لم يصر أحد إلى إسقاط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف ما صدر عن كل واحد منهما أما ضعف المباشر فمن جهة كون المباشرة ( محمولا ) وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا واستمرار التكليف يوهي أثر الإكراه فليس أحدهما بالضعف أولى من الثاني فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما وقد ثبت أن القصاص أولى بأحدهما وقد ثبت أن القصاص لا يسقط عنهما وقرب تنزيلهما منزلة الشريكين
1284 - ولكن القول في هذا ينحط عن القول في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد منهما عن قياس بابه ثم يتعارض مأخذ مذهب زفر وأبي حنيفة والترجيح لزفر
1285 - ومأخذ إيجاب القصاص عليهما يتشوف إلى جمع نكتتى المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص ( عنهما جميعا وإيجاب القصاص ) على شهود الزنا إذا رجعوا بعد إقامة الرجم أظهر من إيجاب القصاص على المكره الحامل من جهة أن الإكراه يضعف ببقاء التكليف على المحمول ولا خيرة للقاضي بعد إقامة البينة وليس ممنوعا منع المكره المحمول بل النية أوجبت على القاضي إقامة الرجم ولذلك لم يختلف قول الشافعي في وجوب القصاص عليهم اختلافه في المكره أما الشهود على القصاص إذا رجعوا فإن فرض رجوع المدعي واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على الشهود فالطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في استمرار المدعي على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته ولو ذهبنا نستقصي هذه الأمثلة لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه
1286 - ولم يوجب الشافعي عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم بقول المدعي وهو في مسلك القياس يداني إيجاب القصاص بأيمان المدعي في مسلك لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى القياس ذلك
1287 - وهذا أوان تغليب حق المدعي عليه من طريق القياس قال الشافعي إذا كان القصاص لحقن الدم والهلاك لا يستدرك وإذا رجع الغرض إلى حقن دم الباقين فرعاية حقن دم الجاني وهو غير مسفوك أولى واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط فيها ظهور اللوث عند الحاكم وهو غير مشروط في اللعان غير أن المعتمد في القسامة الخبر الصريح والمعتمد في اللعان يستند إلى شيئين أحدهما أنا لا نجد بدا من الخروج عن قانون الحجج فالاستمساك بظاهر القرآن العظيم أقرب وحمل العذاب على الجنس بعيد وبالجملة نفي إيجاب الحد وتغليب حقن دمها أقرب عندي إلى مأخذ الشريعة
1288 - ومن عجيب الأمر أن قول الشافعي اختلف في القصاص هل يجب بأيمان القسامة ولم يختلف في وجوب الحد على المرأة مع تعرض الحد الواجب ( لله تعالى ) فيه للسقوط بما لا يسقط القصاص به وسبب هذا أن خبر القسامة ورد في ( الغرم ) وآية اللعان اشتملت على ذكر العذاب وهذا وغيره في أمثال ما ذكرناه من قواعد الشريعة ونحن نختتمه بأمر بديع يقضي الفطن ( العجب ) منه
1289 - فالمرتبة الأولى العلمية تكاد أن لا تكون جزءا من المنصوص عليه والمرتبة الاخيرة نعنى اللعان والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نرسمها مرتبة في القياس من حيث لم نرها مستقلة فهذه جملة كافية في التنبيه على المراتب وضابطها القريب من القاعدة والبعيد منها مراتب قياس الشبه
1290 - ونحن نذكر الآن مراتب قياس الشبه فنقول مجال هذا القسم ( عند ) انحسام المعنى المخيل المناسب فإذا لم نجد معنى للحكم الثابت أو صادفنا ما يخيل غير صحيح على السبر فالوجه رد النظر إلى التشبيه
1291 - ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد انقسام ( مراتب ) قياس المعنى فالواقع في المرتبة الأولى هو الذي يسميه الأصوليون في معنى الأصل ولا يريدون به المعنى المخيل وهذا إذا وقع معلوما كان في المرتبة العاليه وقد سبق ( القول في ) الاختلاف فيها هل يسمى قياسا أو هو ملتقى من الألفاظ والنص
1292 - والوجه عندنا في ذلك أن يقال إن كان في اللفظ إشعار به من طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم
عليه فهذا وإن كان في ذكر فالعبودية مستعملة في الأمة وقد يقال للأمة عبدة وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق به فهو قياس مفض إلى العلم وهو قاعدة الأشباه بعد ونظيره إلحاق الشافعي عرق الكلب بلعانة في التعبد برعاية العدد والتعفير
1293 - فإذا زال العلم وكان الشبه يفيد غلبة الظن ولا يفسد لدى السبر والعرض على الأصول ( فهو مقبول ) وإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود عند المحققين والأشباه بين طرفي قياس المعنى والطرد
1294 - والذي لاح من كلام الشافعي أن أقرب الرتب من المراتب المعلومة إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا بحيث لا يخرج عن الرتبة إلحاق ( الرز بالحنطة والذرة بالشعير ثم يلي هذه الرتبة ) الوضوء بالتيمم في الأفتقار إلى النية ولهذا قال الشافعي ( مستبعدا ) طهارتان فكيف تفترقان
1295 - ونحن نقول في ذلك كل شبة يعتضد بمعنى كلي فهو بالغ في فنه وذلك إذا كان المعنى لا يستقل مخيلا مناسا وبيان ذلك فيما وقع المثل به أن التيمم ليس فيه غرض ناجز وقد بينا من كلى الشريعة أنها ( مبنية ) على الاستصلاح فإذا لم يلح صلاح ناجز يظهر من المآخذ الكلية ربط ما لا غرض فيه ناجز بصلاح في العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب فإذا وجدنا طهرا كذلك متفقا عليه ثم كان المختلف فيه غير معقول المعنى ظهر فيه وقع التشبيه في الأفتقار إلى النية المحصلة غرض العقبى
1296 - فليتخذ الناظر هذا معتبرا في الرتبه الأولى من الأشباه المظنونة ولم يبلغ
مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهرين في أحكام وشرائط وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ووزن طريقة الأشباه عندنا فإن مسالك الإخالات باطلة فلا يبقى إلا التشبيه ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى المقصود من المنصوص عليه وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار القوت لمكان الملح وسقط اعتبار ( التقدير ) لجريانه في الجنسين والجنس على وتيرة واحدة ولاح النظر إلى المقصود مع الاعتراف بأنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول من المظنونات ولولا ما ثبت عندنا في الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا إليه لإجماع القياسين وجدنا إتباع المقصود أقرب مسلك ولهذا وقع في المرتبة الثانية
1297 - فإن قيل هل ترون الشبه الخلقي في غير مجانسة ومماثلة معتبرا قلنا لا إلا أن نشير إلى ان اعتبار الخلقي أصل الشريعة كما ثبت ذلك في جزاء الصيد وقد ثبت قريب منه في الحيوانات المشكلة في الحل والحرمة وما ذكره أبو حنيفة في ( اعتبار الإنطراق ) والانطباع في الجواهر المعدنية في الزكاة طرد عندنا
1298 - ومن أبواب الشبه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا وهو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة فالذي يقتضيه القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات والذي
يقتضيه الشبه اعتباره بالحر فإن قيل هذا ايضا في الشبه الخلقي وقد أنكرتموه قلنا ليس الأمر كذلك فإن العبد يفرض قتله على الجهة التي يفرض فيها قتل الحر إذ قد يظن على بعد أن سبب التعاون في الحمل في الديات ما يقع ( من ) الخطأ بالقتل بين أصحاب الأسلحة وهذا يتفق في الحر والعبد على جهة واحدة
1299 - ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبيد بالسبب الذي يقدر ( به ) أطراف الأحرار فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير واعتبار ما ينتقص من القيمة نظرا إلى المملوكات سيما على رأي تقديره قيمه العبيد وتنزيلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها وهذا مذهب ابن سريج والظاهر من مذهب الشافعي أنها تقدر ومعتمده الشبه
1300 - فإن قيل فما الوجه في المثالين قلنا الوجه في مسألة التقدير مذهب الشافعي فإن الشارع أثبت ( للحر ) بدلا حتى لا يحبط إذا قتل خطأ ثم قاسموا أطرافه بجملة بمعان لا تنتهي أفهام المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن ألا ( تتقدر ) أروش أطراف الحر فإنا ألفينا في جراح الأحرار حكومات غير مقدرة فلئن اقتضى شرف الحر تقدير دينه فهذا لا يطرد في أطرافه فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد في العبد كطرف الحر في الحر فلا التفات إلى خروج قيمة العبد عن التقدير
1301 - فإن قيل ( فقدروا ) أطراف البهائم قلنا لم يتحقق فيها أنها تقع موقع اطراف الأحرار في الأحرار فهذا الشبه أولى من المعنى الكلي من جهة أنه أجلى وأليق بالغرض واميز للمقصود هذا والمضمون من الحر والعبد الدمية
1302 - أما القول في تحمل العقل والقيمة فالأظهر عندنا التمسك بالمعنى لعبد تحمل العاقلة العقول عن مدارك العقول وقد يظن أن العبيد لا يخالفون الأحرار في تعاطيهم الأسلحة وإن ذكر فيهم ذلك فقد يتعدى إلى الدواب في تجاول الفرسان فكان تقدير أروش أطراف الأحرار معللا بمعان اعتقدناه ولم ندرك حقيقتها وضرب العقل ( يشبه ) تحكم المالك على المملوكين ( فالاحزم ) أن ( لا ) يضطرب فيها ( بالخطى ) الوساع
1303 - ومما يعده الفطن قريبا مما نحن فيه إلحاق القليل من الدية بالكثير في الضرب على العاقلة ونحن نرى ذلك المسلك الأعلى من الشبه من جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جاز في القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هو مبينا على الإجحاف بالمحمول عنه فإن الدية محمولة على الموسرين فكأن الضرب ثبت في الشرع مسترسلا ( على الأقدار ) من غير اعتبار مقدار وهذا من جملة الامثلة التي ذكرناها تكاد أن تلتحق بالمرتبة المعلومة أو تدانيها
1304 - فهذه قواعد الاشباه المعتبرة ونحن نجدد فيها ترتيبا بعد ما وضحت
الأصول ونبني الغرض على سؤال وجواب وهو السر وكشف الغطاء
1305 - فإن قيل إن تعلق الناظر بوجه من الشبه فما وجه تقريره إذا نوقش فيه فإن قال المشبه ما ذكرته يغلب على الظن فقال له المعترض ليس كذلك فما سبيل درئه وكيف الجواب عن سؤاله ولا شك أن غلبة الظن لا تحصل إلا مستندة إلى شبه يقتضيها ولا بد من ذكره وبه يتميز الشبه عن الطرد وكل شبه يقتضي الظن فلا بد أن تنتظم عبارة وعربة عنه ثم أن تأتي وانتظم ذلك سالما عن القوادح فهو معنى إذا فترجع الأشباه الى معان خفية ويبطل تقسيم الأقيسة إلى المعنوي والشبهى
1306 - قلنا هذا السؤال بحث عن لباب الفصل وحقيقته فلا يتصور استقلال ( شبه ) دون ما ذكره السائل ولكن سبيل القول فيه أن الشبه يستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث ينبه ( عليه ) أحدهما الأمثلة وجريانها على مقتضى الشبه وهذا كإلحاقنا اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه ضرب حصة آحاد الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف فيخرج ( مما ) ذكرناه وأمثاله أن ضرب العقل لا ينتهي إلى موقف في قلة ( ولا كثرة ) وليس هذا معنى مخيلا ( مناسبا ) وإنما هو متلقى من أصل الوضع بالمسلك الذي ذكرناه فهذا إذا ظهر قليلا التحق ( بالقسم ) الذي يسمى قياسا في معنى
الأصل كما سنذكره في آخر هذا الفصل فهذا وجه
1307 - والوجه الثاني وهو الذي يدور عليه معظم الأشباه إن ثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا أن الشارع قدر أرش يد الحر بنصف الدية لنسبة لها مخصوصة إلى الجملة لا يضبطها والإصبع دونها في ( الغناء ) وهذا لا شك فيه ولكنا إذا أردنا أن نطلع عليه وعلى الوجه الذي لأجله يقتضي التشطير لم يكن ذلك ممكنا وهذا يناظر علمنا بأن الشارع فرق بين التافه والنفيس من المسروق ثم قدر النفيس بدينار أو ربع دينار فالأصل معلوم ولا اطلاع على المعنى الذي يقتضي هذا المقدار ويناسبه فإذا تمهد ذلك وكان اعتبار يد العبد بيد الحر شبها فإنا نعلم أن غناء يد العبد من جملته كغناء يد الحر من جملته فهذا إذا يستند إلى معنى معتقد ( على الجملة ) من قصد الشارع ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه ومهما اتجه هذا النوع كان بالغا جدا مقدما على المعاني الكلية المناسبة
1308 - فأما الأمر الثالث الموعود فالتشبيه بالمقصود وهذا لا استقلال له إلا أن يضطر إلى التمسك بتقدير علم الحكم المنصوص عليه ومثال ذلك الأشياء الستة المنصوص عليها في الربا فلو هجم الناظر عليها ولم يتقدم عنده وجوب طلب علم لم يعثر على فقه قط ولا شبه فإن الفقه مناسب جار مطرد سليم على السبر والشبه متلقي من أمثلة أو مخيل معنى جملي والرأي لا يقضي بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم
وانحسم المعنى المسبور والجملي فلا وجه إلا أن يقال إذا لم يثبت الحكم لأعيان هذه الأشياء ثبت لمعانيها هي المقصودة منها
1309 - ثم ينتصب على ذلك شاهدان أحدهما من قبيل التخصيص وهو اختلاف الحكم باتحاد الجنس واختلافه والثاني عموم قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام ( إلا مثل بمثل ) فهذه معاقد الأشباه ثم لا حاجة إلى تكلف الميز بينها وبين الطرد
1310 - فإن قيل المعلوم الذي يسمى قياسا في معنى الأصل ما مستند العلم فيه قلنا اكتفى بعض الضعفة بادعاء العلم وانتهى إلى دعوى البديهة وزعم أن جاحده في حكم جاحد الضرورات ونحن نوضح الحق في ذلك ونقول كون العتق في العبد بمثابة كونه في الأمة والرق فيهما أيضا على وتيرة واحدة وهذا معلوم قطعا ولا يمتنع أن ينص الفصيح على واحد من الأمثال ويرغب عن التعلق بالألفاظ العامة ويجعل ما ذكره مثالا لحكم يؤسسه ( كالواحد ) منا إذا أراد أن يبين حكم البيع فقد يقول من باع ( ثوبا ) فقد زال ملكه عنه فيؤثر ضرب مثل لخفته عليه في مجارى الكلام وهذا أن ساغ لا استكراه فيه ولا يمتنع في تحكمات الشرع تخصيص سريان العتق بالعبد
لكن لو كان كذلك لتعين في حكم البيان التنصيص على التخصيص ( فإذا ) لم يجر ذلك انتظم من مجموعة القطع بثبوت القياس في معنى الأصل
1311 - ولو نص الشارع على موصوف وذكر فيه حكما تقتضيه تلك الصفة اقتضاء اختصاص فهذا النوع من التخصيص بتضمن نفي ما عدا المنصوص وهو المفهوم وقاعدته كقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة فأما لو قدر مقدر من الشارع ان يقول في عفر الغنم زكاة فهذا ليس في مرتبة المفهوم ولا يصلح ( أيضا ) لإجراء مثالا بخلاف العبد الذي يجرى مثالا في المملوكين فإذا لا يقول الشارع مثل هذا فإنه من التخصيص العرى عن الفائدة فليفهم الناظر هذه المنازل والترتيب بعد ذلك كله
1312 - فالمرتبة الأولى للمعلوم وقد بينا مأخذه
1313 - والمرتبة الثانية لما يتلقى من الأمثلة كإلحاق القليل من العقل ( في الضرب ) على العاقلة بالكثير فإن ذلك قريب جدا من الرتبة المعلومة
1314 - والمرتبة الثالثة ما يستند إلى معنى كلى لا تحيط الأفهام والعبارات بتفصيله كما ذكرناه في تقدير أروش الأطراف وافتقار طهارة الحدث إلى النية
1315 - وأنا أرى الطهارة تنحط في الرتبة عن تقدير الأروش فإن تقدير الأروش يستند إلى أغراض ناجزة نعتقد أصولها ونقصر عن درك تفصيلها وأمر الثواب خفي في الطهارة لا يتأتى فيه من الاطلاع ما يتأتى في مستند تقدير الأروش فلا بأس إذا لو قدر افتقار الطهاره إلى النية كرتبة متأخرة عن تقدير أروش أطراف العبيد وأما نصب المقاصد فمسترسل كما سبق تقديره في الربويات فهذا لا
يستقل بنفسه دون الإرهاق إلى نصب العلم وهو دون المرتبة الثالثة
1316 - ونحن نختم هذا الأصل بمسألة يتعارض فيها شبهان فنقول اختلف العلماء في أن العبد هل يملك ومأخذ الكلام من طريق التشبيه ما نصفه أما من يقول يملك فشبهه بالحر من جهة أن الحر فطن مؤثر مختار طلوب لما يصلحه دافع لما يضره لبيب فطن أريب والعبد في هذا كالحر فهذا شبه فطري غير عائد إلى ( الصورة ) وإنما راجع إلى المعاني التي بها يتهيأ الإنسان لمطالبة ومآربه
1317 - ومن منع كونه مالكا شبهه بالبهائم من حيث إنه مسلوب القصد والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول تمسك بالأمور الخلقية ومن منع الملك تمسك بمأخذ الأحكام فكان ما قاله أقرب فإن الرق حكم غير راجع إلى صفات حقيقية خلقية وحاصلة سقوط استبداد شخص وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم الملك الاستقلال ثم أقام الشارع المالك طالبا للمملوك فيما يسد حاجته ويكفي مؤنته والحاجة ( التي ) لا يتصور فيها الكفاية أثبتها الشارع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المستمتع في النكاح
1318 - فإن قيل السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان استغراق السيد إياه يمنعه من صفات المالكين فإذا ملكه المولى وجب أن يملك قلنا هذا يلزم الخصم في تصوير إلزام الملك ( له ) ثم التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا متحكما عليه فلم يجامعه التمليك كما لم يجامعه إلزام الملك
فإذا زال الرق عنه ملك حينئذ وإذا ثبت له حق ( الاستقلال ) بأن كاتبه فيتصور له ملك على ضعف على حسب ما يليق به فهذا المعتبر في النظر إلى ( أقرب ) الأشباه ( وأدنى المآخذ ) فيها وما تعلق به الأولون موجبة أن لا فرق لأن خلقه وصفاته كصفات الحر فإذا تصور كونه مملوكا سقط هذا الاعتبار وجلى الشرع حكمه
فصل 1319 - المرتبة الأولى من قياس المعنى هو النتيجة الأولى لما صح من معنى القاعدة ويناظرها في مأخذ الأشباه ما يقال إنه في معنى الأصل وما يستأخر من أقيسة المعاني عن رتبة العلم ويقع في أعلى مراتب الظنون كاعتبار الإطراف بالنفس يناظر من الأشباه ما ثبت بظواهر الأمثلة كاعتبار القليل من ضرب العقل على العاقلة بالكثير وما يبعد عن المرتبة الأولى في المعاني المظنونة يناظر ما يتعلق بتقدير الأروش في أطراف العبيد ثم ما يتعلق بالأمور المغيبة كتقدير الثواب في الطهارة وما ثبت معللا من جهة الشارع ولم يعقل وجه المناسبة فيه كقوله عليه السلام أينقص الرطب إذا يبس يناظر ما يضطر إليه من اعتبار المقاصد في الربويات
1320 - فأما رتبة العلم فلا يترجح فيها مطلوب على مطلوب فإن العلوم لا تفاوت فيها وإن انحططنا عن رتبة العلم فآخر مراتب المعاني مقدم على أعلى مراتب
الأشباه إلا أن يسترسل المعنى ويختص بالشبه كاعتبار نقصان القيمة في أطراف العبيد أخذا من المعاني الكلية مع التقدير أخذا من التشبيه بالأحرار وهذا لا يتطرق إليه قطع إذ لو كان مقطوعا به لما عد من خفيات المظنونات وإلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل ( على العاقلة ) أظهر من المعنى الكلي فيه فإن من تمسك بالمعنى الكلي ينقطع طرد كلامه بمحل الوفاق في ضرب العقل على العاقلة ويضطر أن يقف موقف الطالبين ( ويقول ) الأصل تخصيص الغرم بالجاني فأقيموا دليلا في محل النزاع وإذا طالب ذكرنا مسلكا من ضرب الأمثلة فكان في حكم شبه لا يعارضه معنى غير أن الشبه ينبغي أن يكون على نهاية القوة في محاولة النقل من أصل كلي إلى الإلحاق بما هو عن قياس المعنى ولا مزيد في القوة على ما ذكرناه والمسألة مع ذلك مظنونة وليس هذا كتقدير ارش طرف العبد فإن من يوجب ما ينقص بطرد معنى فلا ينتقض عليه فيبغي اعتبار صاحب الشبه بالأخص فلينظر الناظر إلى جولان الحقائق في هذة المضايق
فصل ( في مراتب قياس الدلالة ) 1321 - أحدث المتأخرون لقبا لباب من ابواب القياس وراموا بذلك التلقيب تمييز فن كثير في مسالك الأحكام جار على منهاج واحد وهو عند المحققين إذا صح يلتحق بقياس الشبه من وجه وقد يتأتى في بعض أمثلته وجه يلحقه بقياس
المعنى واللقب الذي تواضعوا عليه هو قياس الدلالة وهو كقول الشافعي في الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم
1322 - والذي يقتضيه الترتيب تصدير الفصل بأن المستدل بهذا النوع يتوجه عليه سؤال المطالبة لا محالة كما ذكرنا قريبا منه ( فيما تمحض ) شبها فللمعترض أن يقول وأي مناسبة بين الطلاق والظهار ولم يجب أن يتساويا ثبوتا ونفيا مع العلم بانقسام الأحكام إلى التساوي والتفاوت فإن لم يبحث المطالب ويبدي وجها كان مقصرا
1323 - ثم ينقدح في الخروج عن المطالبة مسلكان نجريهما ثم ننهي كل واحد منهما النهاية المطلوبة ثم مسلك الحق وراء الاستقصاء المقول والمنقول فإن قال المطالب الطلاق مقتضاه التحريم والحل والكفر لا ينافي ذلك ومحل التصرف قابل له والظهار فيما ذكرته كالطلاق ( ولا ينافي الكفر المنكر والزور كما لا ينافي التصرف في الطلاق ) وإذا سلك هذا المسلك لم يبعد أن يكون ما ذكره جامعا بين الطلاق والظهار معنويا وقد يتمكن المطالب من منع يضاهي ما ذكرناه على ما يورده الفقهاء فهذا النوع إذا سلك صاحب هذا المسلك يلتحق بأقيسة المعاني
1324 - والمسلك الثاني في الخروج عن المطالبة ألا يخوض المطالب في
التزام طريق المعاني المستقلة الجامعة من طريق المعنى وهذا القسم ينقسم قسمين أحدهما أن يرد الأمر إلى طريق الاطراد والانعكاس وقد ذكرنا أن الطرد والعكس معتبر معتمد وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا فليقل المطالب اقترن الطلاق ( بالظهار ) ثبوتا ونفيا واقترنا في الصبي ومن لا يعقل انتفاء فكذلك القول في اقترانهما ثبوتا وانتفاء باختلاف صفات المحل في البقاء في النكاح والبينونة عنه فهذا مسلك مرضى
1325 - والقسم الثاني من هذا القسم أن يذكر المطالب بين ما استشهد به وبين المتنازع فيه شبها غير مخيل ولكنه يستقل في طريق الشبه فهذا مضطرب النظار فيما ذكرناه
1326 - وأنا أقول إذا تحقق وجوب الخروج عن المطالبة فلا يستقل بتمهيد قياس الدلالة إلا فطن دراك فإن المعلل لو سلك طريق ( إبداء ) المعنى فقد بين أن ما اعتمده وسكت عليه لم يكن كلاما ( تاما ) فإن إبداء المناسب إذا كان محتوما ولم يكن في الكلام الأول ذلك فسكوت المطالب بالدليل على ( ما جاء ) به يتضمن اعتقاد كونه مسقلا فإذا بين أن ( التمام ) في الجواب عن المطالبة فقد لاح أن ما أبداه مفتاح الحجة ومبدؤها وقد سكت عنه سكوت من يراه تاما مستقلا فهذ وجه
1327 - والوجه الآخر أنه جعل أصل قياسه المسلم فيما تمثلنا به
والآن إذا ابدى معنى جامعا بين الطلاق والظهار فقد صار الطلاق أصلا للظهار وخرج الكلام الأول عن نظمه وترتيبه وإن ابدى وجها من الشبه بين الطلاق والظهار فقد التزم الجمع تشبيها وهو تتمة الكلام ( كما ) قدمناه في المعنى المستقل وينقدح فيه تغيير الترتيب والنظم كما تقدم فإذا لا بد من مناسبة فقهية أو شبهية وكلاهما ينافي المسلك الأول الذي اعتمده
1328 - وإذا انتبه الناظر ( للغائلة ) التي ذكرناها فلا يظن أنها تشبيب برد هذا النوع من القياس فإنا من القائلين به ولكن الوجه في تمهيد هذا النوع ودفع المطالبة شيئان أحدهما الطرد والعكس كما تقدم وفيه التغليب المطلوب وتقرير نظر الدلالة الأولى ( من ) غير مسيس حاجة إلى إتمام او تعيين أصل بتقدير الصرف عن الاعتبار بالمسلم ويرد الأمر إلى اعتبار الظهار بالطلاق ومن اللطائف الجدلية في ذلك أن مطلق الشرط يشعر بالعكس فلا يكون من صاغ ( العلة ) على صيغة الشرط بإبداء الطرد والعكس مظهرا لما لم يتضمنه الكلام الأول والصحيح عندنا التحاق ذلك بالأشباه
1329 - ومن تتمة القول فيه إن قياس المعنى إذا انعكس كان العكس فيه ترجيحا فإذا لم يلتزم المعلل المعنى وتمسك بالاطراد والانعكاس كان متمسكه
شبها وكان قريبا من القسم الثاني الذي يستند إلى ضرب الأمثلة كما قدمناه في إلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل على العاقلة
1330 - ومما ينقدح في هذا النوع أن يقول المتمسك به الأصل المسلم وظهاره والفرع الكافر وظهاره والجامع بينهما شبه الطلاق فنفوذ الطلاق من المسلم والذمي شبه جامع بينهما في الظهار فغلب على الظن وهذا وإن كان يستمر شبها فكل شبه يعتضد كما ذكرت في تقاسيم الأشباه فإن تمكن الجامع من إبداء معتضد الشبه كما تقدم مفصلا كان حسنا وإن أراد الاجتزاء بالطرد والعكس عاد إلى المسلك الأول والأحزم في قياس الدلالة الاكتفاء بالطرد والعكس فهذا النوع من القياس يجري في الأغلب من المسائل التي يكون المعنى ممكنا فيها ولكن يطول الكلام في تقريره وتتسع العبارة في محاولة ضم نشره والمناظر المتحذق يبغي ضم أطراف الكلام وإرهاق الخصم بالمسلك الأقرب والسبيل المهذب إلى مضيق التحقيق في إيراد فرق يعسر إيراده على شرطه فلو تكلف المناظر الجمع بين الطلاق والظهار بمعنى مناسب لكثرت المطالبات في وجوه المناسبات ولم يأمن الجامع من التعرض للنقض ما لم يتناه في التصون والتحرز فيؤثر والحالة هذه جعل الطلاق وصفا ويربط الظهار به حكما ويتخذ المسلم اصلا ويجعل معتمده في إثبات الطريقة جريانها طردا وعكسا
1331 - ومما يتعين الإحاطة به في هذا الصنف ( أن ) المعنى المخيل حكم مناسب لحكم أو صورة تنبئ العبارة عنها وتقع مناسبة وقد يكون الجامع نفي حكم أو نفي مع ظهور المناسبة والسلامة عن المبطلات فإذا ظهرت الإخالة واتضحت السلامة قيل معنى مخيل مناسب جامع مستند إلى أصل
فلو قال المطالب وراء ذلك فلم زعمت أن الحكم الذي قدر وصفا يقتضي الحكم الذي فيه النزاع كان الجواب الكافئ فيه إيضاح الإخالة مع استمرار السلامة فإن اراد المطالب إبداء فرق بين الحكم المجعول وصفا وبين محل النزاع لم ينتظم فيه كلام على صورة الفرق ونظمه
1332 - نعم قد يبدى كلاما يقدح في المناسبة ويتعين على المستدل قطع ما دونه واستقلال مناط الحكم المتنازع فيه بمناسبة وإخالة وبيان ذلك بالمثال أنا إذا طلبنا مسلك المعنى وقلنا كلمة تتضمن التحريم فيثبت حكمها في حق الذمي كالطلاق وكان معنى التحريم مع قبول المرأة له واتصاف الكافر بالاستمكان منه مناسبا للنفوذ فإذا قال الخصم التحريم ينقسم إلى ما يقع تصرفا ( محضا ) في مورد النكاح غير متعلق بحق الله تعالى وإلى ما يتعلق بحق الله تعالى ( وتحريم الظهار يتعلق بحق الله تعالى ) والاستحقاق في في مورد النكاح قائم لم ينخرم والكافر لا يخاطب بما يقع حقا لله تعالى فقصد المعترض بهذا يرجع إلى ( توهين ) الإخالة في التحريم المطلق فيتعين الإجابة بطريقها وليس ما جاء به فرقا على نظمه المعروف
1333 - فإذا قلنا في هذه المسألة من صح طلاقه صح ظهاره فنحن رابطون نفوذا بنفوذ ولكن في تصرفين مختلفين يتأتى جعل أحدهما ( أصلا والآخر ) فرعا ونصب الجامع بينهما وإذا أمكن الجمع تصور الفرق ولا يمكن الجمع بين حكم مناسب لشيء وبين ذلك الشيء فلما أمكن الفرق ظهرت المطالبة بالجمع وتميز
هذا الصنف عما يتمحض فقها مناسا فكان القسم الذي فيه الكلام بين قياس المعنى من جهة مناسبة تصرف تصرفا على الجملة مع الجريان على السلامة وبين مسالك الأشباه من جهة تطرق المطالبة بالجمع وعدم التزام المعلل له والذي ( يحيك في الصدر ) أن المعنى إذا أمكن فهو ( أولى ) ونصبه في مراتب الأقيسة أعلى والتمسك بالادنى مع الاستمكان من الأعلى لا ( يتجه ) في طرق الفتوى والنظر تدوار على تمهيد طرق الاجتهاد التي هي مستند الفتوى فسبيل الجواب عنه أن نقول
1334 - إذا اشتملت المسألة المظنونة على مراتب من الأدلة متفاوتة فلا حرج على المستدل لو تمسك بأدنى المراتب وإنما يظهر تفاوت الرتبتين إذا تناقض موجب الحجتين فيقدم موجب الأعلى على الأدنى فأما إذا توافقت شهادات المراتب المختلفة على مقتضى الوفاق فلا معاب على من يتمسك بالأدنى وكذلك إذا اشتملت المسألة على خبر نص وقياس ولا يمتنع التمسك بالقياس الموافق الخبر وإنما يمتنع التمسك بقياس يخالفه نعم إذا كان المطلوب في المسألة علما فلا وجه للتمسك بقياس لا يقتضي العلم
1335 - وحاصل القول في هذا الفن إذا انتهى الكلام إليه يحصره أقسام أحدها يطلب العلم وما كان كذلك فالمطلوب منه ما يفضي إلى العلم ولا حكم لتفاوت الرتب بعد استواء ( الجميع ) في الأفضاء إلى العلم
1336 - والقسم الثاني ما تتفاوت الرتب فيه ومتعلق جميعها ظنون والرأي عندنا تسويغ التمسك بالجميع على ما يراه المستدل ومنع بعض الجدليين التمسك بالأدنى مع التمكن من الأعلى وهذا فيه نظر إذا تميزت المراتب بالقواطع وإن كانت كل مرتبة في نفسها لا تقتضى علما فأما إذا كان تفاوت الرتب مظنونا فلا يمتنع وفاقا من التمسك بأدنى آحاد الرتب
1337 - ومما يتعلق باستكمال الكلام في هذا الفصل أنه قد يتعلق ثبوت بنفي أو نفي بثبوت على مضاهاه قياس الدلالة وليس من قياس الدلالة في شئ وهو كقول القائل من لا يملك التصرف ( يل ) الوالى التصرف منه أو من يستقل بالتصرف لا يلي الوالى منه ما يستقل به فهذا إذا سلم يلتحق بأقيسة المعاني فإنه مناسب مخيل ولا ينتظم بين النفي والإثبات فرق
1338 - وقياس الدلالة ( يتميز ) عن محض قياس المعنى بهذا فإنه لا يمتنع رسم ( فرق ) بين وصف قياس الدلالة والحكم المنوط به ويمتنع ذلك بين نفي التصرف وإثبات الولاية وإثبات التصرف ومنع نفي الولاية
1339 - فهذا منتهى القول على قدر ما يليق بهذا المجموع في قياس الدلالة فإذا نجز قدر الحاجة في مراتب الأقيسة حان أن نرجع بناء الكلام إلى الترجيح فنقول
فصل ( الترجيح في الأقيسة ) 1340 - إنما يجري الترجيح في أقيسة لا يعترض عليها إلا من وجهة التعارض ثم الأصل المعتبر في الترجيح ( الخصيص ) بالأقيسة ( ينشأ ) من تفاوت الرتب مع اجتماع الجميع في الظن فأما اقيسة المعاني فمستندها قاعدة معنوية معلومة ولا ترجيح في معلوم فإذا انحط المعنى عن العلوم فقد تقدم ترتيب مسالك الظنون والأرجح فالأرجح أقربها إلى المعنى المعلوم وقد مضى ترتيبها في القرب والبعد
1341 - ومما يتعلق بالترجيح في المعاني النظر فيما يثبتها وقد تقدم القول مثبتات المعاني ورجع الحاصل إلى مسلكين أحدهما إيماء الشارع والثاني الإخالة ( مع السلامة وما يثبته الشرع مقدم على الإخالة ) التي لا دلالة في لفظ الشارع عليها والسبب فيه أن ما أشار الشارع إلى التعليل به أمن المستنبط من الوقوع في متسع المصالح التي لا يحصرها ضبط الشريعة وهذا أمر عظيم في الاجتهاد وهو محذور الحذاق من أهل النظر ثم الإخالة على الرتب المقدمة
1342 - ومن الأسرار في ذلك أن الاستدلال يصح القول به وإن لم يستند إلى أصل حكمه متفق عليه على الرأي الظاهر فلو عارض استدلال لا اصل له
معنى مستندا إلى أصل فالمستند إلى الأصل مرجح على الاستدلال والسبب فيه انحصاره في حكم ثابت شرعا متفق عليه والمستدل على خطر الخروج عن الضبط
1343 - فهذه قواعد الترجيح في أقيسة المعاني ثم أدناها مرجح على أعلى الأشباه المظنونة كما سبق في ذلك قول بالغ
1344 - فإذا تعارض شبه خاص ومعنى عام كلي فقد قدمنا وجه الرأي فيه فلا نعيده
1345 - والاستدلال إذا عارضه شبه ( ومن ) ضرورة الشبه استناده إلى أصل فالذي ذهب إليه المحققون تقديم الشبه لمكان استناده إلى أصل وقدم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله تعالى الاستدلال على الشبه والقول في ذلك يتعلق بالظن عندنا فليعمل كل مجتهد على حسب ما يؤدي إليه إجتهاده
1346 - فهذه مجامع الأقوال في ترجيح الأقيسة لا يشذ عنها إلا أفراد مسائل اضطراب فيها الجدليون ونحن نرسمها مسألة مسألة وفي استيفائها استكمال القول في الترجيح مسائل ( تشذ عن القاعدة العامة للترجيح ) مسألة
1347 - إذا تعارضت علتان إحداهما منعكسة والأخرى غير منعكسة فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن الانعكاس من المرجحات المعتمدة
وهذا يتجه جدا على قولنا إن الانعكاس مع الاطراد دليل صحة العلة وقد قدمنا في حقيقة العكس قولا بالغا مغنيا عن الإعادة ونحن نذكر من اسراره مأخذا يستدعيه ويقتضيه أمر الترجيح فنقول
1348 - القياس الشبهى إذا اطرد وانعكس كان الانعكاس مخيلة معتمدة جدا فإن أقوى متعلقات الأشباه الأمثلة كما قدمنا ذكرها والاطراد والانعكاس فن الأمثلة المغلبة على الظن فإذا فرضنا تعارض شبهين انعكس أحدهما دون الثاني كان ذلك ترجيحا مقتضيا مزيد تغليب الظن لا يجحده في هذا المقام إلا غبي بمآخذ الأقيسة ومراتبها
1349 - وإن فرض الانعكاس في أقيسة المعاني فلا بد من ذكر تقسيم في ذلك منبه على سر العكس أولا ثم يعود الكلام إلى غرضنا من الترجيح فنقول رب معنى مخيل مناسب لا يشعر انتفاؤه لانتفاء الحكم في وضعه وربما يشعر انتفاؤه بانتفاء الحكم الذي اقتضاه الطرد وبيان ذلك بالمثال أنا قلنا في تحريم النبيذ مشتد مسكر فهذا يناسب التحريم من جهة إفضاء السكر إلى الاستجراء على محارم الله تعالى والاستهانة بأوامره وعدم الشدة لا يشعر بالتحليل
1350 - وإذا قلنا مستقل بالتصرف فلا يولى عليه كان الاستقلال مشعرا بنفي الولاية وعدم الاستقلال مشعر بإثبات الولاية فإذا تمثل النوعان في قياس المعنى بنينا عليه غرضنا وقلنا إن لم يكن المعنى بحيث يخيل عدمه عدم حكم الطرد وفرض مع ذلك انعكاسه فقد تجمعت فيه
الإخالة والشبه فإذا عارضه معنى غير منعكس ولم يكن في وضعه بحيث يشعر عدمه بعدم الحكم فالمنعكس مقدم عليه بطريق الترجيح إذا اجتمع فيه إخالة فقهية وقوة شبهية
1351 - فإن تعارض معنيان وأحدهما يشعر في الطرد والعكس نفيا وإثباتا والثاني يخيل من وجه الطرد ولا يخيل من جهة العكس فان انعكس المخيل ولم ينعكس ما لا يخيل فالمنعكس مرجح وسبب ترجيحه قوة الإخالة وإن لم ينعكس ما لا يخيل من جهة العكس بسبب علة أخرى خلفت العلة الزائلة فالوجه ترجيحها على العلة التي لا تخيل في العكس فإن عدم الانعكاس فيما يخيل من جهة الانعكاس محمول على ثبوت علة اخرى خلفت العلة الزائلة وقوة الإخالة لا تزول
1352 - وتحقيق هذا أنا قدرنا عند انتفاء العلة التي فيها الكلام انتفاء علة أخرى ( لانتفي ) الحكم لقوة الخالة ( وشدة ) الارتباط ( ومقتضى 9 اقتران الحكم والعلة وهذا المعنى لا يتحقق فيما لا يقتضي الإخالة في جهة العكس
1353 - فلو لم تنعكس علة مقتضاها الانعكاس لمكان علة اخرى ( خالفت ) وانعكست التي لا تخيل في جهة العكس فقد اختلف المحققون في ذلك فقدم مقدمون المنعكس لاجتماع قوة الإخالة في الطرد وقوة الشبه في العكس وذهب أخرون إلى تقديم العلة التي تخيل في جهة العكس لاختصاصها بقوة الإخالة
وأدنى مأخذ المعاني مقدم على أعلى مسالك الاشباه ولا يقدح في قوة الإخالة عدم الانعكاس إذا ثبتت علة تخلف العلة في الطرد
1354 - ومما يتم به الغرض في ذلك أن العلة إذا أخالت في العكس فالعلة المخالفة يجب أن تكون أقوى من ( إخالة ) العلة الأولى في العكس لا محالة
1355 - فإن امتنع الانعكاس لنص أو إجماع فهذا موضوع التوقف قال قائلون عدم الانعكاس مفسد للعلة من حيث إنه أثر في فقهه وإخالته فكان هذا كالنقض في الطرد وقال المحققون لا يبطل العلة فلها في الثبوت دلالة وعلة عدم الحكم عدم العلة أمكن الانعكاس فالإجماع ( قدح انتفاء الحكم ) في تقدير العدم علة والنقض يخرج وجود العلة عن كونه علة والقول في النقض طويل وقد سبق تفصيله فيما تقدم فهذا هو اللآئق بغرض الترجيح في فصل الانعكاس مسألة
1356 - وقد تقدم القول في العلة القاصرة المقتصرة على محل النص فإذا رأينا صحتها فلو فرضنا علة متعدية عن محل النص ففي ترجيحها على القاصرة خلاف
1357 - وحاصل ما قيل فيه ثلاثة مذاهب أحدها وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ترجيح القاصرة والثاني وهو المشهور ترجيح المتعدية
والثالث وهو اختيار القاضي أنه لا ترجح إحداهما على الأخرى بالقصور والتعدي
1358 - وأول ما يجب به الافتتاح تصوير المسألة فإن فرضنا علتين قاصرة ومتعدية في نص واحد فالقول في هذا ينبني على أن الحكم الواحد هل يعلل بأكثر من علة واحدة وهذا أصل قد سبق تمهيده فإن لم يمتنع اجتماعهما فلا معنى لترجيح إحدى العلتين على الأخرى ولكن الوجه القول بالعلتين والقاصرة والمتعدية متوافيتان في محل النص الواحد لا تناقض بينهما ولا تعارض فإن المتعدية مستعملة مقول بها وراء النص وإن لم نر اجتماع ( العلتين لحكم واحد فإذ ذاك ) ينقدح الكلام في ترجيح القاصرة على المتعدية
1359 - ( أما الجمهور ) من أرباب الأصول فذاهبون إلى ترجيح المتعدية ووجه قولهم أن العلل ( تعني 9 كفوائدها والفائدة المتعدية فإن النص يغنى عن القاصرة فكان التمسك بالمتعدية أولى ومن رجع القاصرة احتج بأنها متأيده بالنص وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان التمسك بها أولى
1360 - ووجه القاضي إن الفوائد بعد صحة العلل ( وصحة العلل ) ترتبط بما يصحهها مما يقتضي سلامتها عن المبطلات فإذا دل الدليل على الصحة
واستمرت دعوى السلامة فلا نظر وراء ذلك في النتائج والفوائد قلت أو كثرت وليس من الرأى الترجيح بحكم العلة وهو النتيجه والفائدة والترجيح الحقيقي إنما ينشأ من مثار الدليل على الصحة وفائدة العلة في مرتبة ما يدعى لها
1361 - وقول القاضي في المسلك الذي ذكره أوجه الأقوال في مقتضى الأصول وما رآه الجمهور من النظر إلى الفوائد متروك بما ذكرناه وما اعتبره الأستاذ في مطابقة النص لحكم العلة القاصرة غير معتبر لما نبهنا عليه من أن حق المرجح ألا ينظر إلى حكم العلة ولا يرجح به بل الترجيح بما يصحح به العله ويقتضى مزيد تغليب الظن فيه وما ذكره مرجح العلة القاصرة من الأمن ( لا وقع ) له فإنه راجع إلى استشعار ( خيفة ) لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد
1362 - والذي ( يبتغى ) وراء ما ذكرناه أن العلة المتعدية إذا صحت على السبر ولم يناف صحتها طارىء فقد وجدنا معنى على شرط الصحة ومقتضاه اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو مستند إلى أصل ثابت منشؤه من قاعدة شرعية فلست أدري ردها لمكان حكمة تسنح من الفكر منطبقة على محل النص فإن المعاني إذا اتصفت بالصفات التي ذكرناها من اجتماع الأمور المرعية والسلامة عن المبطلات والاستناد إلى منصوص عليه
فالأولون من الأئمة كانوا مسترسلين على العمل بها وليس ما يجرى في الفكر من العلة القاصرة مناقضا فلا وجه لترك المتعدية قطعا وإنما المتروك من قول من يرجح العلة المتعدية ( تعلقه ) بالفوائد ومصيره إلى أن العلة ( تعنى ) لثمرتها وفوائدها وهذا واه ضعيف فالوجه التعلق باسترسال المجمعين على العمل بالقياس كما ذكرناه وهذا إذا ضمه الناظر إلى ما حصلناه من القول في العلة القاصرة انتظم له فيه حقيقة المراد
1363 - ( وعندنا أن ) هذه المسألة غير ( واقعة في الشريعة وإنما هي مقدرة ) والشريعة عرية عن اتفاق وقوعها
1364 - فإن قيل قد علل أبو حنيفة رحمه الله تعالى الربا في النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك
1365 - قلنا الوزن على باطلة عند الشافعي والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضى صحتها لو انفردت
1366 - ومن تمام الكلام في ذلك أن العلة القاصرة لو صح القول بها إن كانت غير مخيلة في جهة العكس فلا معارضة ولا مناقضة ( والنقدية ) ليست مخيلة في جهة العكس فكيف يتوقع اقتضاؤها نفي الحكم في العكس وقد ذكرنا في مراتب الأقيسة أن علة الربا في الأشياء الستة واقعة آخرا في درجات الأشباه ولا يتسلط المستنبط عليها ( إلا ) بتقدير الإرهاق والاضطرار إلى استنباطها فلسنا نرى للمسألة الموضوعة جدوى ولا فائدة
1367 - فإن قال قائل لو استنبط ناظر علة في محل التحريم فصادف اجتهاده علة قاصرة ورأى محل النزاع عكسا لها واستنبط مستنبط آخر في محل تحليل مجمع عليه علة متعدية وصورة النزاع طردها فما القول والحالة هذه قلنا لا يتصور أن يعارض عكس طردا فإن الطرد في منزلة العلة والعكس يقع في حكم ( العضد ) للإخالة على طريق التبعية ولا يقابل ما هو أصل ما يقع فرعا في معرض التلويح وهذا على التحقيق لو قيل به مصير إلى معارضة العلة ترجيحا
1368 - فإذا لم يتصور في اجتماع العكس قاصرة ومتعدية على حكم التوافق ( نظرا ) إلى الترجيح ولم يتحقق تعارض بين قاصرة ومتعدية في أصلين مختلفين فإن القول يرجع إلى معارضة الطرد والعكس وهذا لا سبيل إليه
1369 - فإن قيل علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت العبد قاصرة وقد قدمتموها على العلة المتعدية لأبي حنيفة قلنا هذا ساقط من أوجه أحدها أن ما اعتمده أصحاب أبي حنيفة من تعليل الخيار باطل في نفسه فلا ينتهى القول فيه إلى مقام الترجيح ومنها أن الرأي الظاهر عندنا ألا يعلل خيار المعتقة ( تحت العبد ) كما حققنا في ( الأساليب ) ومنها أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج
حر فلا معنى للاستشهاد بهذه الصورة في ادعاء الوقوع والاستشهاد به
1370 - فإذا هذه المسألة تقديرية لا نراها واقعة وقد ( كنا ) ذكرنا أن اجتماع العلل للحكم الواحد ينساغ في نظر العقول ( ولكنه غير متفق وقوعا في الشرع ) فلا معنى لإعادة ما سبق فهذا منتهى المراد ( في ذلك ) ثم فرع الجدليون وراء هذا مسألتين نرسمهما وهما عريتان عن الفوائد مسألة
1371 - قال من يرجح العلة المتعدية إذا تعارضت علتان فروع إحداهما أكثر من ( فروع ) الأخرى ( وهما جميعا متعديتان ) فكثيرة الفروع منهما مقدمة على الأخرى وقد ذكرنا أن أصل الكلام في المتعدية والقاصرة غير واقع وإنما يتكلم المتكلم على التقدير فالقول في المتعديتين يجرى على ذلك النحو فليس في المتفق عندنا علتان على الوفاق لحكم واحد منصوص عليه ومجمع عليه وكل واحدة على شرط الصحة
1372 - فإن قدر المقدر فرضهما فلسنا نرى تعطيل العلة الكثيرة الفروع لمكان أخرى تساويها في بعض مقتضياتها فليس هذا ( إذا ) لو اتفق ( من ) مسالك الترجيح في شيء فلو فرضنا علتين متناقضتين في محل النزاع وأصلاهما مختلفان فلا يقع الترجيح بكثرة فروع إحداهما قطعا ومن خالف في ذلك لم نبال به وإنما تتخصص إحدى العلتين بما يقتضي تغليبا على الظن والترجيح عائد إلى تلويح ظني وهذا القدر كاف
مسألة
1373 - من اعتقد أن كثرة الفروع تقتضي ترجيحا رسم مسألة وتكلم فيها مجادلا بما يصفه والغرض ألا يعرى هذا المجموع عما ( قيل في ) أصول الترجيح قال هؤلاء إذا كثرت فروع علة وقلت فروع أخرى ولكن القليلة الفروع اعتضدت بنظائر لها تضاهي في عدتها فروع العلة الكثيرة ( الفروع ) كانت كثرة النظائر في معارضة كثرة الفروع
1374 - وبيان ذلك بالمثال أن الشافعي خصص لزوم الكفارة العظمى من جملة المفطرات بالوقاع ورأى إتيان المرأة في المأتى الأصل وفيه واقعة الأعرابي وعدى علته إلى إيلاج الحشفة في كل فرج
1375 - واعتبر أبو حنيفة في إيجاب الكفارة الفطر ( بمتنوع ) ( المفطرات ) فكانت فروعه أكثر ولكن للاختصاص بالوقاع نظائر كثيرة كالغسل والحد ووجوب المهر وتكميله والإحصان والتحليل فكانت هذه النظائر في الاختصاص مضاهية لكثرة الفروع في علة الخصم
1376 - وهذا قول عرى عن التحصيل في مساق كلام هذا القائل إلى ( أن نذكر ) حقيقة المسألة فإن النظائر التي ذكرناها ما نراها معللة فلا وجه للاعتضاد بها وإن تمسك متمسك بها في مسلك الأشباه ( فلا ) تعلق أيضا بها فإن ثبوت ( الأحكام بالوقاع ) على الاختصاص لا يغلب على الظن أن يختص بها كل حكم
ينقل فيه ولا يجري مجرى الأمثلة التي ذكرناها للرتبة العليا من أقيسة الأشباه ومن فهم ما تقدم تميز عنده ما نحن فيه عما سبق
1377 - وبالجملة إن تلك الأمثلة تجري في غير المطلوب إذ النظر في اعتبار القليل بالكثير في ضرب العقل اعتضد بالقليل في حق الشريك وكان ذلك ناشئا من عين المطلوب والضرب مسترسل لا توقف فيه فلا أصل إذا لما ذكر هذا الإنسان ثم إنما يستقيم ما ذكره لو كانت علة الخصم صحيحة دون تقدير المعارضة وليست كذلك ولو صحت لما عارضتها علة أخرى تساويها وتوافقها في بعض مقتضياتها وقد ينشأ من فرض هذه المسألة أصل في الترجيح فليتأمله الناظر
1378 - فأما مسلك أبي حنيفة فمردود من جهة التناقض المنقول عنه في مذهبه وإنما المذهب المطرد مذهب مالك في تعليقه الكفارة بكل فطر هاتك حرمة الصوم من غير مناقضة فإذا استنبط ذلك من محل النص وهو الوقاع واستنبطناه فلا نرى لترجيح ما يستنبطه وجها مع جريان ما اعتبره مالك وإن تعلقنا بالأشباه وادعينا أن الوطء يجب أن يكون على مزية اعتبارا ( بالنسك ) فهذا شبه على بعد في معارضة معنى الهتك ( وليس من الانصاف معارضة شبه على هذا النعت بمعنى جار في محل النزاع وإن لم نر تعليل الكفارة لم ينتفع بهذا ما لم نبطل معنى الهتك ) لمالك وبالجملة قوله في تعميم الكفارة متجه جدا والعلم عند الله وليس هذا من القول في قواعد الترجيح ولكن وضع المسألة على ما وصفناه
مسألة متعلقة ببقايا الكلام في هذا الفن
1379 - قال قائلون من أصحاب الشافعي رضي الله عنه إذا تعارضت علتان وإحداهما أكثر فروعا بيد أن الأخرى منطبقة على الأصل والفرع من غير تأويل والكثيرة الفروع تحتاج إلى تقدير ( تأويل ) في بعض مجاريها فهذا يغض من جريانها ويقدح في الترجيح بكثرة فروعها
1380 - وبيان ذلك أن إذا اعتبرنا في القرابة المقتضية للنفقة والعتق البعضية وهذا يجري في الوالدين والمولودين على انطباق واعتبر أبو حنيفة رضي الله عنه الرحم والمحرمية وفروع علته وإن كانت مركبة أكثر فإنها تتناول الأصول والفروع غير أن الرحم والمحرمية لا يجريان إلا على تأويل بين الذكرين والأنثيين وذلك بأن يقدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى وهذا ركيك من الكلام لا ينساغ مثله لمتشوف إلى تحصيل وذلك أن الرحم لا تأويل فيه وكذلك المحرمية ولكن لا يظهر التحريم لا لتقاعد العلة ولكن لعدم المحل
1381 - وليس من الرأي التعويل على مثل هذا بعدما قدمنا القول في كثرة الفروع وقلتها وقد انتهى الغرض في هذا الفن ونحن نأخذ بعده في رسم مسائل في سائر أغراض المرجحين إن شاء الله تعالى
( مسائل ) ( في أغراض المرجحين ) مسألة
1382 - ذهب ذاهبون إلى أن ما تجاذبه أصلان وتعارض في إلحاقه بأحدهما نظر النظار فمن تمكن من توفير شبهى الأصليين كان مسلكه مرجحا ومثلوا ذلك بالقول في يمين اللجاج والغضب فإنها بين النذر الذي يوجب الوفاء وبين اليمين التي توجب الكفارة فمن خير بين الوفاء والكفارة كان مسلكه مرجحا من جهة توفير شبهى الأصليين
1383 - وهذا مزيف عندنا من جهة أنه ترجيح مذهب لا ترجيح علة جارية على شرط الصحة وقد قدمنا في أول ( الكتاب ) أن المذاهب لا ترجح ( و ) مأخذ مسألة يمين اللجاج من ( الآثار عندنا ) وكل من سلك هذا المسلك فهو يزعمه ( يوفر ) شبهين من أصلين على إبعاد في الكلام وهو على القرب بقطعة عنهما جميعا وهو غافل عما يأتي وبيانه أن مقتضى النذر إلتزام الوفاء ( لا تجويزه ) ومقتضى اليمين التزام الكفارة والتخيير مباين للمقتضيين ووضوح ذلك مغن عن بسط القول فيه مسألة
1384 - إذا تعارضت علتان واختصت إحداهما بالاستناد إلى أصول ففي الترجيح بكثرة الأصول خلاف بين أهل الأصول فذهب بعضهم إلى أن ذلك يقتضي ترجيحا من جهة أنها في محل الشواهد
وكثرة الشهادات تغلب على الظن وهو المقصود بالترجيح واستشهد هؤلاء بكثرة الرواة في تعارض الخبرين
1385 - والرأي الحق عندنا يقتضي تفصيلا فإن كان المعنى الجامع واحدا وكان مستندا إلى أصول فلست أرى الترجيح بكثرة الأصول والحالة هذه فإن الدلالة على الحكم ( هي ) المعنى وإنما يذكر الذاكر الأصل استئناسا به وأمنا من الوقوع في متسع الظنون مع العلم بأن مسالكها مضبوطة في الشريعة وهذا يحصل بأصل واحد وليس عدد الأصول بمثابة عدد الرواة فإن التعويل في الأخبار على الثقة وظهورها في الظن وهذا يزداد بزيادة عدد الرواة ولو استمكن القايس من جوامع وكل جامع معنى مستقل مستند إلى أصل ولم يتمكن الخصم إلا من معنى واحد فلا شك أن من كثرة معاينة مع الاستواء في الرتب مقدم لكثرة الدلالات وهذا الآن يناظر كثرة الرواة ولكن إذا عارض معنى الخصم معنى أخر ثم أتى بمعان فهذا من باب ترجيح دليل بدليل وقد تقدم القول فيه وهو متعلق بلفظ ( بعدما وضح ) أن صاحب المعاني يقدم مذهبه
1386 - ومما يتصل بهذا الفصل أن الناظر في مسلك الأشباه قد يلقى صورة تضاهي كثرة الأصول والترجيح بها واقع ومثاله أن أحمد بن حنبل رحمه الله جوز المسح على العمامة تشبيها بالمسح على الخفين ومنعه الشافعي رحمه الله تشبيها بالوجه واليدين
فإذا ما يمنع المسح فيه أكثر وهذا يقوي من جهة أن الكلام في قربه واحدة تشتمل عليها رابطة فكثرة الأمثلة فيها تقرب من مآخذ الأشباه وليس هذا كأصول متبددة يجمعها معنى واحد فليفهم الناظر ما يرد عليه
1387 - فإن قيل إلحاق الرجل بالرأس أخص وأمس من جهة أن التخفيف يتطرق إليها قيل هذا باطل فإن ما ابتنى على التخفيف أشعر ابتناؤه عليه باكتفاء الشرع به حتى لا مزيد وهذا يعتضد بأمر واقع وهو تيسير مسح الرأس مع العمامة من غير احتياج إلى ( تنحيتها ) بخلاف القدم والخف ثم محل الأشباه في الرخص البعيدة عن مدارك المعاني الجزئية والكلية ضيق جدا والأصل اتباع الأصل مسألة
1388 - إذا تعارض قياسان ومع أحدهما ظاهر معرض للتأويل فالعلماء على مذاهب قال بعضهم إذا كان الظاهر بحيث يسوغ تأويله بالقياس الذي يعارضه فلا وقع له ولا ترجيح به والقياسان متعارضان وقال قائلون القياس الذي يعتضد بالظاهر مرجح وقال آخرون القياسان يتساقطان والتعلق بالظاهر
1389 - فأما من أسقط الظاهر فمذهبه مردود وذلك أن تأويل الظاهر إنما ينساغ إذا اعتضد بقياس غير معارض والمسألة مفروضة في تعارض القياسين وإذا بطل هذا المذهب فالمذهبان الآخران بعده متقاربان وحاصلهما يئول إلى تقديم المذهب الذي توافق عليه الظاهر والقياس
1390 - والعبارة السديدة ترجح القياس المعتضد بالظاهر فإن الظاهر لا يستقل دليلا مع قياس يصلح لإزالة الظاهر فإذا لم يستقل دليلا واعتضد به قياس أفاده ترجيحا وتلويحا ولا مرد على من أسقط القياسين وتمسك بالظاهر والأمر بعد بطلان المذهب الأول قريب مسألة
1391 - إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي فمن يقول مذهب الصحابي حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا يقتضى تقديم المذهب الذي تطابق عليه القياس ومذهب الصحابي ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أم لا وإذا كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابي فلا أثر له في الترجيح وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم
1392 - وإن اعتضد القياس بمذهب صحابي شهد له الشارع بمزية علم في ذلك الفن كقوله عليه السلام أفرضكم زيد فهذا على المذهب الظاهر يقتضى ترجيحا وإن كنا لا نرى قول الصحابي حجة وذلك لما في هذا التوافق من تغليب الظن مع المصير إلى أن مجرد قوله ليس بحجة
1393 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه قول زيد في الفرائض أرجح من قول معاذ وإن ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أعرفكم بالحلال والحرام معاذ وذلك أن شهادة الرسول عليه السلام لزيد أخص في الفرائض وأدل على اختصاصه بمزية الدرك فيها وكذلك مذهبه مع انضمام قياس أرجح من مذهب علي رضي الله عنه وإن قال الرسول عليه السلام أقضاكم علي وهذا أوضح وأبين مما قدمناه في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية النظر في القضاء تشير إلى التفطن لقطع الشجار وفصل الخصومة والتهدي إلى تمييز المبطل عن المحق والشهادة بمزية العلم في الحلال والحرام أوقع في مظان الاجتهاد والشهادة بمزية العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب
1394 - فإذا لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المراتب فالقول في تقليد من يقلد يتعلق بكتاب الفتوى وبيان المفتى والمستفتى وسنستقصي القول في مذاهب الصحابة
1395 - فإن قيل إذا اعتضد مذهب يقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
فما الرأي فيه وقد قال عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا هذا أعم عندنا من الشهادة لعلي بمزية العلم في القضاء فإنا نجوز أن الرسول عليه السلام أشار إلى الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء الطاعة فإذا انضم إلى المراتب في الشهادة للصحابة رضي الله عنهم مرتبة رابعة فأعلاها وأولاها في التعلق أخصها وتليها الشهادة لمعاذ وتليها الشهادة لعلي رضي الله عنه ثم يلي ما ذكرناه الشهادة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
1396 - ثم قال الشافعي قول على في الأقضية كقول زيد في الفرائض وقول معاذ في التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض مسألة
1397 - إذا تعارضت علتان وإحداهما مستندة إلى أصل مجمع عليه ( أو إلى نص ) والأخرى ليست كذلك فالمستندة إلى الإجماع أو إلى محل النص مرجحة وبيان ذلك بالمثال أن أبا حنيفة رحمه الله إذا أوجب الكفارة في الطعام وقاسه على الوقاع فعلته مستندة إلى محل الإجماع والنص ونحن إذا أبقينا الكفارة واستنبطنا القياس من ( بلع ) الحصاة لم يكن مستند ( قياسنا ) مجمعا عليه وهو ( أظهر ) ما يعتني به في الترجيح
ولكن لا ينتهي القول مع أبي حنيفة إلى الترجيح فإن ما استنبطه باطل وإنما يقع الترجيح وراء الاستقلال نعم مصادمة مالك عسرة ( فإنه ) لا يناقض ولا يوجد معه أصل به مبالاة
1398 - ومن هذا القبيل الذي ذكرناه أن أبا حنيفة إذا استنبط علة في عتق الأمة تحت العبد وعداها إلى الأمة المعتقة تحت الحر فعلته إن صحت مستندة إلى محل النص فإن وجدنا محلا مجمعا عليه في نفي الخيار واستندنا إليه علة في عتق الأمة تحت الحر تفاوتت العلتان
1399 - وهذا تقدير ذكرناه تمثيلا وإلا فعله أبي حنيفة باطلة في تلك المسألة والصحيح عندي قصور العلة رأسا على خيار المعتقة تحت العبد كما ذكرنا في ( الأساليب ) فليتنبه الناظر لهذا الأصل العظيم في الترجيح وليكن على بال منه مسألة
1400 - إذا تقابلت علتان إحداهما ذات وصف واحد والأخرى ذات وصفين فصاعدا فذهب بعض الجدلين إلى تقدم التي هي ذات وصف واحد وعللوا بأمرين أحدهما أن ذات الوصف الواحد تكثر فروعها وفوائدها والآخر أن الاجتهاد يقل فيه وإذا قل الاجتهاد قل الخطر
1401 - وهذا المسلك باطل عند المحققين فأما كثرة الفروع فقد سبق القول فيه ثم إطلاق هذا القول لا وجه له فرب علة
ذات وصف لا تكثر فروعها وربما تكون قاصرة لا تعدو محل النص فإن فرض فارض ازدحام علتين على أصل واحد ( و ) لم تكونا قاصرتين فإذ ذاك ذات الوصفين أقل فروعا ويعود الكلام إلى تعليل حكم بعلتين
1402 - ونحن نقول ( و ) قد انتهى الكلام إلى هذا الحد من يتمسك بذات الوصفين لا يخلو إما أن يقول لا تستقل العلة بالوصف الواحد فعليه إبانة بطلانها ولا يكون هذا الكلام في محل الترجيح وإما أن يقول تستقل العلة بالوصف الواحد فلا معنى إذا لما يريده ولا يتعلق هذا بالترجيح
1403 - وهذا نمثله بقولين للشافعي في علة الربا مذهبه في الجديد أن العلة الطعم في الأشياء الأربعة وضم في القديم التقدير إلى الطعم فإن كان يرى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا تعين بيان فساد الاقتصار وإن كان يرى ذلك مسوغا فليس التقدير وصفا في العلة قطعا ولكن إن ذكره ذاكر فغايته أن يكون الكلام في التقدير أظهر منه دونه ويكون هذا بمنزلة من يتخذ صورة من صور الخلاف ويرى الكلام فيها أقرب فالقول بالتقديرين جميعا خارج عن محل الترجيح وإنما أجرينا هذا مثالا وإلا فلا ريب في أن الشافعي رأى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا
1404 - وأما ما ذكره من تقديم ذات الوصف من ( قلة ) الاجتهاد فقول
ركيك فإن ( النظر ) في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الخطر واستشعار الخوف والذي يحقق ذلك أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إن لم ينظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين والمقتصرين على طريق من الاجتهاد وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بها فقد كثر إجتهاده وتعرض للغرر ولكن أدى اجتهاده إلى النفي فإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها وكل ذلك يفسد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد واستشعار الخوف وتبين أن اقتحام الخطر حتم على كل مجتهد مسألة
1405 - إذا تضمنت إحدى العلتين نفيا والأخرى إثباتا فقد صار بعض الناس إلى تقديم العلة المثبة وهذا قول من لا يثبت فيما يأتي به فإن الترجيح لا ينشأ من النفي والإثبات فربما يكون الإثبات أغلب في مسالك الظنون وربما يكون الأمر على ( الظن في ) العكس فليتبع المتبع طريق التغليب على الظن مع الانحصار في مسالك الشريعةغيرمعرج على نفي أو إثبات
1406 - ويتصل بهذه المسألة أن إحدى العلتين إذا انطبقت على أصل مستقر
في الشرع وتضمنت الأخرى النفل عنه فهذا مقام النظر فقد قال قائلون النافلة أولى لاشتمالها على الزيادة واستشهدوا بخبرين أحدهما يثبت قول الشارع والآخر ينفيه فالمثبت أولى لاختصاصه بمزية درك يقدر ذهول النافي عنه وهذا قد فصلناه في ترجيح الأخبار
1407 - ولكن لو سلمنا الآن فليس مما نحن فيه بسبيل من جهة أن مأخذ الأخبار يستند إلى بصيرة النافلة ومرتبته في الدرك وقد يختص المثبت بها والعلل لا تؤخذ من هذا المأخذ ولكن مسالكها معلومه مسبورة فلتعرض ولينظر الناظر فيها ثم لا يقع الترجيح ( بحسبها ) نعم الوجه تقديم العلة المنطبقة علىالاصل المستقر فإنه في حكم الشهادة المؤكدة للعلة والنافلة تحتاج إلى مزيد وضوح يصادم قرار الأصل الذي يناقضها وإذا كان كذلك فالترجيح بمطابقة الأصل المستقر أولى ونقول بحسب ذلك إذا تقابلت علتان في الحكم بالحظر والتحليل ( فالتحليل في ) أصل الحظر علته أغلب فالمرجح العلة الحاظرة إلا أن تختص المحللة بمزية ظاهرة فهذا سر القول في هذا الفصل مسألة
1408 - إذا تقابلت علتان إحداهما حكم والأخرى أمر ثابت محسوس فلا يقع بينهما ترجيح
وذهب بعض الجدليين إلى أن المحسوس مرجح من جهة أن ثبوته معلوم قطعا وهذا الفن ساقط عندنا فإن الحكم عندنا ثابت قطعا وإن لم يكن ثبوته مقطوعا به والقول فيه يتعلق بما مهدناه في إستناد إحدى العلتين إلى مقطوع به وتردد الأخرى فأما إذا كان الحكم مجمعا عليه فلا وجه لما قاله هؤلاء مسألة
1409 - إذاكانت إحدى العلتين تعم الأحوال كعلة الشافعي في منع بيع الكلب فإنه اعتبر النجاسة وكانت العلة الأخرى تختص ببعض الاحوال كالانتفاع الذي تمسك به أبو حنيفة في جواز البيع وهذا لا يجري في الجرو فقد قال قائلون ( تقدم ) العلة التي تعم الأحوال وهذا عندنا عرى عن التحصيل فإن الجرو من جنس ما ينتفع به فلا ينتصب من مثل هذا شئ له وقع في مأخذ الدلة
1410 - ورأينا في مسألة الكلب أن التعلق بالنجاسة شبه لا يتأتى الوفاء بتقديرها معنى فقهيا ولكنه شبه مطرد وقول ابي حنيفة في الانتفاع معنى فقهي ولكنه منتقض والشبه المطرد مقدم على المخيل المنتقض فهذا وجه الكلام
1411 - والأمر المتبع في ترجيح الأقيسة ما مهدناه قبل الخوض في رسم المسائل ولكنا استوعبنا بهذه المسائل ما خاض فيه الخائضون وأوفينا على الاستيعاب وإن تركنا شيئا لم نتعرض له فقد مهدنا ما يرشد إلى ( قواعد ) القول فيه والله المستعان
باب ( النسخ ) 1412 - النسخ في وضع اللغة معناه الرفع ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخت الريح آثار القوم ومعناه في التواضع بين الأصوليين وحملة الشريعة مختلف فيه فأقرب عبارة منقولة عن الفقهاء أن النسخ هو اللفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تأخير عن مورده وقال القاضي أبو الطيب الدال على انتهاء أمد العبادة وهذا مزيف من جهة أن النسخ لا يختص بالعبادات والحدود تعني للجمع والاحتواء ولم يقيد كثير من الفقهاء الكلام بالتأخير وهذا يرد عليه الألفاظ المتضمنة للتأقيت على الأتساق والاتصال كقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فهذه الألفاظ ليست نسخا وفيها بيان أنتهاء الآماد وليس ما ذكرناه مذهبا ولكن أتى قوم من اختلال العبارة وقلة تصورهم عما يرد عليها
1413 - والمذهب الذي يعزى إلى الفقهاء ما ذكرناه عاما للأحكام مقيدا بشرط التأخير وحقيقته ترجع إلى أن النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ والمكلفون قبل وروده ( لا يقطعون بتناول ) اللفظ الأول جميع الأزمان على التنصيص وإنما يتناولها ظاهرا معرضا للتأويل
فالنسخ عندهم تخصيص اللفظ بالزمان كما أن ما يسمى تخصيصا هو إزالة ظاهر العموم في المسميات
1414 - وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق بأن النسخ تخصيص الزمان
1415 - وقالت المعتزلة النسخ هو اللفظ الدال على أن الحكم الذي دل عليه اللفظ الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لثبت مع التراخي ومذهبهم قريب من مذهب الفقهاء وقال القاضي أبو بكر بن الطيب النسخ رفع الحكم بعد ثبوته وهو لا يحتاج إلى التقييد بالتأخير فإن اللفظ الذي ينتظم لقصد التأقيت ليس فيه رفع حكم بعد ثبوته في قصد الشارع ومعتمد القاضي أن الحكم يثبت على التحقيق مؤبدا ثم يزول بعد ثبوته
1416 - ونحن نذكر لباب كلام القاضي في إتباع من يخالفه ثم نذكر بعد نجاز تفاوضهم ما هو الحق عندنا قال القاضي رحمه الله إذا كان النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ فلا فرق بينه وبين التخصيص وإزالة ظاهر اللفظ وهذا في التحقيق إنكار للنسخ وموافقة لجاحديه من اليهود وغلاة الروافض ويلزم منه تجويز النسخ بما يجوز به التخصيص حتى لا يمتنع نسخ نصوص القرآن والأخبار المتواترة بالخبر الذي ينقله الآحاد وبالقياس على رأى من يرى التخصيص به
1417 - وهذا الذي ذكره القاضي ( عندنا ) تشغيب غير مستند إلى مأخذ
من القطع فأما نسبته القوم إلى موافقة من ينكر النسخ فمردود من جهة أن منكريه لا يرون تخصيص الألفاظ في الزمان وما ذكره من إلزامهم تجويز النسخ بما يجوز التخصيص به كلام غير سديد فإن المعتمد في التخصيص ما ظهر من سيرة الصحابة رضي الله عنهم فلولا إزالتهم الظواهر لما أزلناها وقد رأيناهم لا يرون النسخ بما يرون التخسيس به فلا وقع إذا لهذا الكلام وإن تعلق متعلق باقتضاء النسخ الرفع في اللغة كان ذلك ركيكا من الكلام فإن مثل هذا الأصل العظيم لا يتلقى من اشتقاق اللغة مع اتساعها لتطرق التأويلات إليها
1418 - ثم إذا وضح ما ذكرناه فإن نفتتح بعده سؤالا موجها على القاضي ينكشف به وجه الحق فنقول إذا أثبت الله تعالى حكما على المكلفين فمعناه تعلق قوله الأزلى به في حق المكلفين فإذا علم ( الله ) أنه سيرد عليهم ما يسميه العلماء نسخا فخبره الأزلى يتعلق بتقديره وتحقيقه ويستحيل أن يتعلق خبره بثبوته على الأبد وارتفاعه على ( الجمع ) فإن ذلك لو قدر لكان ( تناقضا ) فلا معنى إذا لحقيقة الرفع بعد الثبوت وهذا ما لا جواب عنه ويتصل به أن اللفظ الأول الوارد على المكلفين إذا اقتضى تأبيدا فهو متضمن بشرط ألا يرد ما ينفي التأبيد وكان التقدير فيه أن المكلفين متعبدون بالحكم الأول أبدا بشرط ألا يرد عليهم ما ينافيه وهذا الشرط وإن لم يكن مصرحا به فهو ثابت قطعا
1419 - ولا يسوغ فهم الناسخ والمنسوخ مع تنزيه كلام الله تعالى عن التناقض
واعتقاد استحالة البداء عليه إلا على هذا الوجه فإذا الحكم الذي يرد النسخ عليه في علم الله تعالى غير مؤبد ولا لبس على الله تعالى وإنما حسب المتعبدون أمر بأن خلاف ما حسبوه ولو تحققوا لكانوا في استمرار الحكم الأول مجوزين للتقدير الذي ذكرناه فلا يكونون ( إذا ) قاطعين بالتأبيد في الحكم مع تجويزهم ورود ما ينافيه وعلمهم بأنه لا تبديل لقول الله عز و جل وموجب علمه فيرجع والحالة هذه النسخ إلى انعدام شرط دوام الحكم الأول والنسخ إظهار لذلك بعد أن كان مستورا عن المخاطبين ويرجع التقدير في الحكم الأول إلى أن الحكم ثابت بشرط ألا ينسخ فإذا ظهر النسخ لم يكن مقتضاه رفع ما تحقق ثبوته ولكن كان إبداء ( لانتفاء شرط ) الاستمرار والعبارة عن هذا المقصود أن النسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول
1420 - فإن قيل لا فرق بين هذا الاختيار وبين مذاهب الفقهاء قلنا لا فرق بين هذا وبين مذاهبهم في أن الحكم الثابت في علم الله وقوله تعالى لا يزول لما قدمناه ولكن في كلام الفقهاء ما يدل على أن اللفظ الدال على الحكم الأول ظاهر في الأزمان معرض للتأويل تعرض الألفاظ العامة للتخصيص وهذا فيه إيهام لا حاجة إليه فإن اللفظ العام في وضعه ليس نصا في استغراق المسميات وليس كذلك موجب اللفظ في تأبيد الحكم فإنا نجوز ورود النص في استغراق الزمان مطلقا مع ورود الناسخ بعده وليس ذلك من جهة تأويل اللفظ في وضعه وإنما هو من جهة ( تقدير ) شرط مسكوت عنه وهو متضمن كل أمر يجوز تقدير نسخه
1421 - فإن قيل لو قال الشارع هذا الحكم مؤبد عليكم لا ينسخه شئ
فهل يجوز تقدير النسخ فيه والحالة هذه قلنا إذا ثبت هذا المعنى نصا لم يجز ورود ( النسخ عليه ) فإن ( في ) تقدير ( ورود ) النسخ عليه تجويز الخلف ولهذا اعتقدنا تأبيد شريعتنا ولا يكاد يبقى خلاف معنوي مع الفقهاء وما ذكرناه إن كان تنبيها لم ( ينتبه ) إليه ( بحث ) الفقهاء ( و ) إشارة إلى تهذيب لفظ في التعرض لإظهار الشرط ( المقدر ) الذي لا بد منه فإذا رجع إلى أن الثابت في علم الله تعالى لا ينسخ التفتتت المذاهب إلى الوفاق فإن وافق القاضي ما ذكرناه فلا خلاف وإن أصر على أن النسخ يتضمن رفعا لم يكن لمذهبه وجه
1422 - والنسخ فيما اخترناه مثل ما نصفه فنقول إذا توجه الأمر الجازم على معين فهو مشروط بأن يبقى إمكانه فإذا اخترم تبينا لم يكن مأمورا فإن توجه الأمر مشروط بالإمكان والأمر وإن كان مطلقا فالإمكان مشروط ( فيه ) وإن لم يجر ذكره تصريحا وقد ذكرنا في ذلك قولا بليغا في كتاب الأوامر ونقلنا في ذلك لجاج القاضي وطريق تتبعه بالنقض مع بناء الأمر على ( امتناع ) تكليف ما لا يطاق
مسألة
1423 - منعت اليهود النسخ وتابعهم على منعه غلاة الروافض من التناسخية وغيرهم وافترق نفاته فرقتين فذهب أكثرهم إلى أن النسخ ممتنع عقلا فنقول لهؤلاء إن زعمتم أن وقوعه مستحيل وأن ( امتناعه من ) جهة استحالة وقوعه فقد جحدتم البديهة فإنا نعلم على اضطرار أن ذلك ممكن الوقوع
1424 - وإن جحدتم ذلك من جهة ان المأمور به الأول مستحسن فلو فرض النهي عنه لتضمن ( ذلك ) كونه مستقبحا وفي ذلك خروجه عن حقيقة الأولى فقد قدمنا في أول الكتاب أن الاستحسان والاستقباح لا يرجعان إلى حقائق الأفعال وصفات ذواتها ثم القول في النسخ غير مفروض فيما يزعم المخالفون أنه حسن لعينه أو قبيح لعينه وإنما تفرض مسائل النسخ في التفاصيل التي تتفق أرباب العقول على أن مداركها الشرع لا غير
1425 - وإن زعموا أن النسخ ممتنع من جهة إفضائه إلى البداء والقديم سبحانه وتعالى متعال عنه فلا حقيقة لهذا فإن البداء إن أريد به تبين ما لم يكن متبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ فإن الرب تعالى كان عالما في أزلة تفاصيل ما يقع فيما لا يزال ولئن كان يلزم من تجدد الإحكام البداء لزم من تجدد الحوادث إماتة وإحياء وإعاشة ( وإرداء ) ما ادعاه هؤلاء وليس الأمر كذلك
1426 - فإن ردوا الامتناع إلى ما يتعلق باستصلاح العباد واستفسادهم فهذا
غير مرضى عندنا في حكم الله تعالى ثم لا يمتنع في غيبه أن يكون الاستصلاح في تبديل الأحكام كلما فتر قوم في امتثال الأحكام أرسل الله تعالى إليهم مبتعثا جديدا بحكم جديد فلا وجه لادعاء الاستحالة من طريق العقل
1427 - وزعم زاعمون أن النسخ ممتنع من جهة السمة وادعى طوائف من اليهود أن موسى عليه السلام أنبأهم أن شريعته مؤبدة إلى قيام الساعة وزعم هؤلاء أن طريق معرفة ذلك من دينهم كطريق معرفتنا بذلك من ديننا
1428 - وهذا باطل من وجهين أحدهما أن الأمر لو كان كذلك لما قامت معجزة عيسى عليه السلام ومعجزة محمد صلى الله عليه و سلم بعده على نسخ ملة موسى فإن أنكروا قيام المعجزة رد الكلام معهم إلى أصل النبوات وكان سبيل إنكارهم معجزة من بعد موسى كسبيل إنكار من يجحد معجزة موسى
1429 - والوجه الثاني أن ما ادعوه من دينهم لو كان صريحا لأظهروه وباحوا به من عصر نبينا عليه السلام ولا تخذوا ذلك أقوى عصمهم ولو فعلوا ذلك لنقله الناقلون متواترا لأن الأمر الخطير لا يخفى وقوعه وتتوفر الدواعي على نقله فقد ثبت جواز النسخ عقلا وشرعا
1430 - ولو أردنا أن نبتدئ الدليل على جوازه فأقرب مسلك فيه التمسك
بمعجزة عيسى بعد موسى عليهما السلام ثم التمسك بالإجماع في تحريم الخمر بعد ثبوت تحليلها في صدر الشرع وهذا على من ينكر النسخ من اهل الملة ممن ينتمي إلى المسلمين ثم نقول لهؤلاء لا شك في مخالفة ( دين نبينا ) محمد صلى الله عليه و سلم دين موسى وعيسى عليهما السلام في معظم قواعد الشريعة فكيف السبيل إلى تصديق الأنبياء مع إنكار النسخ وهذا فيه أكمل مقنع مسألة مترجمة بالنسخ قبل الفعل
1431 - وهذه الترجمة فيها خلل من جهة أن كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سابق والغرض من هذه المسألة أنه إذا فرض ورود أمر بشئ فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به زمن يتسع لفعل المأمور به
1432 - فالذي ذهب إليه أهل الحق جواز ذلك وأطبقت المعتزلة على منعه وساعدهم على ذلك طوائف من الفقهاء
1433 - والدليل على تجويزه كالدليل على تجويز أصل النسخ فالوجه رد الكلام إلى التقاسيم السابقة في مسالك العقول التي يتلقى منها الجواز والاستحالة
1434 - فإذا قالوا النسخ يرجع إلى بيان مدة التكليف وليس رافعا لما ثبت في حكم الله تعالى ( ولو جوزنا النسخ في صورة الخلاف لكان ذلك رافعا للحكم لا محالة
قلنا ما ذكرناه من اختيارنا يجيب عن هذا فإنا نقول النسخ راجع إلى إظهار انتفاء لشرط بقاء الحكم فإن الحكم الموجه مشروط بألا ينسخ فإذا ثبت النسخ قبل انقضاء زمان يسع الفعل بان أنه لا حكم أصلا وهو من طريق التمثيل كزوال إمكان المكلف قبل استتمام الفعل
1435 - وإذا رد المعتزلة الكلام إلى استصلاح العباد لم يخف خلافنا لهم في أصل ذلك ثم لا يبعد في مجاري أحكام الغيب أن يكون الاستصلاح في أن يخاطبوا ويقبلوا ثم يرفع عنهم التكليف حتى يؤجروا على صدق نياتهم ويوفوا مالا يستقلون به في علم الله تعالى
1436 - ثم استدل أصحابنا في تجويز النسخ قبل الفعل بما جرى في قصة الخليل عليه السلام وابنه الذبيح الحق أو إسماعيل عليهم السلام ووجه التمسك أن الأمر بالذبح نسخ قبل وقوعه
1437 - فإن زعم المخالف أن المأمور به كان شدا وربطا وتلا للجبين كان ذلك باطلا من وجهين أحدهما أن الخليل عليه السلام اعتقد وجوب الذبح ( ولو لم يكن ) الأمر كذلك لما كان هذا بلاء عظيما كما أشعر به القرآن العظيم وهذا مقطوع به ويستحيل أن يكون معتقد النبي عليه السلام في الذي خوطب به خطا ثم الفداء دليل على ارتفاع الذبح بعد وقوعه الأمر ( به ) وقيام الفداء مقام ما كان المأمور به من الذبح
1438 - فإن ( تعلقوا ) بقوله تعالى قد صدقت الرؤيا
قيل لهم لم يقل قد حققت ( أوأ ) وقعت ما أمرت به بل قال صدقت وليس من شرط التصديق إيقاع ما يتعلق التصديق به
1439 - وقال بعض المخالفين وقع الذبح وجرت المدية وكانت تقطع ويلتحم ما انقطع وهذا بهت عظيم إذ لو كذلك لكان هذا أحق منقول وأظهر معجزة تتوفر الدواعي على نقلها ونص القرآن مع ما فيه من القيود والقرائن أصدق شاهد في ذلك فإنه قال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ولو كان ذبح لما وقع الاقتصار على ذكر التل للجبين دون وقوع المأمور به ثم ذكر الفداء بعد هذا مشعر بأن الذبح المأمور به لم يقع وأن الفداء قائم مقامه وهذا منتهى المثال في ذلك مسألة
1440 - قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد قوله في نسخ السنة بالكتاب والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع والمسألة دائرة على حرف واحد وهو أن الرسول لا يقول من تلقاء نفسه أمرا وإنما يبلغ ما يؤمر به كيف فرض الأمر ولا امتناع بأن يخبر الرسول الأمة مبلغا بأن حكم آية يذكرها قد رفع عنكم ويرجع حاصل القول في المسألة إلى أن النسخ لا يقع إلا بأمر الله تعالى ولا ناسخ إلا الله والأمر كيف فرض جهات تبليغه لله تعالى فهذا القدر فيه مقنع
1441 - فإن زعم الفقيه أن القرآن معجزة بخلاف السنة فليس المنسوخ نفس القرآن وإنما المنسوخ حكمه ولا إعجازه في الحكم ( و ) هذا عرى عن التحصيل
1442 - وإن تعلقوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فهذا خبر من الله تعالى وليس فيه ما يتضمن استحالة الوقوع وفيها الخلاف بل لا يمتنع تأويل الظواهر ولا وقع لها في القطعيات
1443 - ثم لا محمل لقول القائل لا تنسخ السنة بالقرآن فيقال لمن أنتحل هذا المذهب نزول القرآن بخلاف السنة ممتنع أم لا فإن منعه كان منكرا من القول وإن جوزه وزعم أن الرسول يسن عند نزوله سنة بخلاف السنة الأولى فيقع نسخ السنة بالسنة فهذا من الهزء واللعب والتلاعب بالحقائق وكيف يقدر وقوف النسخ وقد ورد القرآن وبالجملة إلى الله مصير الأمور ومنه النسخ والإثبات والرسول عليه السلام مبلغ في البين وهذا القدر كاف
مسألة مشهورة بالزيادة على النص
1444 - ومدارها على تحقيق تصويرها فإذا ورد نص في شئ ( واقتضى ) وروده الاقتصار على المنصوص عليه والحكم بالإجزاء فكان ذلك مقطوعا تلقيا من اللفظ والفحوى ولو فرضنا زيادة مشروطة لتضمن ثبوتها نسخ الإجزاء في المقدار الأول لا محالة ولا ( يسوغ ) تقدير الخلاف في ذلك
1445 - وإن اقتضى ما ورد به أولا الإجزاء وجواز الاقتصار اقتضاء ظاهرا وكان يتطرق التأويل إليه في منع الإجزاء فلو فرضت زيادة كانت في معنى إزالة الظاهر الأول ولم يتضمن نسخا اعتبارا بكل ظاهر يزال بحكم التأويل وهذا مما لا أرى فيه للخلاف مساغا
1446 - وإذا ثبت هذان الطرفان وهما حظ الأصول فالكلام بعدهما في ألفاظ ظنها الظانون نصوصا وهي ظواهر ثم القول في تفاصيلها مستقصى في ( الأساليب ) ولكنا نضرب للتمثيل صورا منها أن أصحاب أبي حنيفة ظنوا أن من أثبت النية في الطهارة فقد زاد على النص والكلام في ذلك مشهور وأقرب مسلك فيه أنا لا نبعد أن يكون غرض الآية مقصورا على بيان ( أفعال الطهارة ) وتقدير هذا لا يخالف نصا ولا فحوى وليس مع تجويز هذا لإدعاء النص وجه ومنها قوله تعالى في كفارة الظهار فتحرير رقبة قال أصحاب أبي حنيفة
زيادة الإيمان نسخ الأجزاء في الرقبة المطلقة وقد أوضحنا أن هذا تخصيص عموم ومنها قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان قالوا إثبات الشاهد واليمين يخالف هذا الحصر وهذا لا وجه له مع أن هذا الاحتياط مندوب إليه ونحن لا ننكر الندب ( إلى بينة ) كاملة مغنية عن الحلف ومنها قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا الآية مع استدلال الخصم بها في معنى التغريب وهذا من أظهر ما يتمسكون به وليس نصا فإنه لا يمتنع اشتمال الآية على بعض العقوبة وإحالة تمامها إلى بيان الرسول عليه السلام إذ ليس في الآية للرجم في حق المحصن ذكر فهذا بيان حقيقة القول في المسألة مسألة
1447 - أجمع العلماء على أن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون فالقرآن لا ينسخه الخبر المنقول آحادا والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به ووراء ما ذكرناه حقيقة هي كشف الغطاء ونحن نبينها بسؤال وجواب عنه فإن قيل ما المانع من انتصاب دليل قاطع على أن الخبر إذا نقله العدول يجب ترك حكم القرآن عند نقلهم قلنا هذا غير ممتنع لو ورد ولكن لم يرد ثم لو قدر وروده فالنسخ يتلقى من الدليل القاطع والخبر المنقول آحادا في حكم العلم الذي يقع العمل عنده لا به وقد تكرر
هذا الفن مرارا في مسائل هذا المجموع وهذا الذي ذكرناه في الخبر يطرد في القياس أيضا مسألة
1448 - يجوز نسخ رسم آية من القرآن في التلاوة مع بقاء حكمها ويجوز تقدير نسخ حكمها مع بقاء رسمها في آى القرآن وقد منع مانعون من المعتزلة الأمرين وصار إلى منع أحدهما دون الآخر ( على البدل ) صائرون وما ذكرنا في طريق إثبات الجواز في مسالك هذا الكتاب يجري على المنكر للجواز في هذه المسألة ثم الأمر بالتلاوة على نظم القرآن حكم غير القرآن فيؤل القول في الحقيقة إلى نسخ حكم فأما عين القرآن فلا يرد عليه نسخ ( أصلا ) مسألة
1449 - إذا ثبت النسخ ولم يبلغ خبره قوما فهل يثبت النسخ في حقهم قبل بلوغ الخبر إياهم هذا ما أختلف فيه الأصوليون وعندنا أن المسالة إذا حقق تصويرها لم يبق فيها خلاف فإن قيل على من لم يبلغه الخبر الأخذ بحكم الناسخ قبل العلم به فهذا ممتنع عندنا وهو من فن تكليف ما لا يطاق وهو مستحيل في تكليف الطلب وإن أريد بثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الخبر أن الخبر إذا بلغه لزمه تدارك أمر فيما مضى فهذا لا امتناع فيه وإذا ردت المذاهب المطلقة في النفي والإثبات إلى هذا التفصيل لم يبق
للخلاف تحصيل مسألة
1450 - لا يمتنع نسخ الحكم من غير بدل عنه ومنع ذلك جماهير المعتزلة وهذا تحكم منهم والدليل على جوازه ما تمهد في مسألة التجويز في أصل النسخ فلا معنى للإعادة بعد وضوح المقصد مسألة
1451 - إذا ورد نص واستنبط منه قياس ثم نسخ النص تبعه القياس المستنبط ( منه ) وقال أبو حنيفة لا يبطل القياس وإن نسخ النص وقد جرى له هذا المسلك في الأخذ من صوم ( يوم ) عاشوراء ( في ترك حكم التتبييت ) لما اعتقد وجوبه ثم ثبت نسخ وجوبه
1452 - والقول الواقع في ذلك عندنا أن المعنى المستنبط من الأصل الأول إذا نسخ أصله ( بقي ) معنى لا أصل له فإن صح استدلالا نظرنا فيه وإن لم يصح أبطلناه
فصل في الفرق بين النسخ والتخصيص 1453 - قال الفقهاء النسخ تخصيص في الأزمان دون المسميات المندرجة تحت ظاهر اللفظ والمعتزلة يقرب مأخذ كلامهم من مآخذ كلام الفقهاء فإن النسخ عند هؤلاء بيان
معنى اللفظ وأما القاضي فإنه يقول التخصيص بيان المراد باللفظ العام والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته والمختار عندنا أن التخصيص بيان المراد باللفظ والنسخ ( لا تعلق له بمقتضى اللفظ ) ولا يتضمن رفع حكم ثابت ولكنه إظهاره ما ينافي شرط استمرار الحكم الأول كما سبق تقريره ( والله أعلم وأحكم )
1454 - ثم الكتاب وقد نجز بحمد الله ( ومنة ) وحسن توفيقه الغرض من هذا المجموع في الأصول ونحن نرسم بعد ذلك مستعينين بالله تعالى كتابا جامعا في الاجتهاد والفتوى يقع مصنفا برأسه وتتمة لهذا المجموع إن شاء الله تعالى
خاتمة نسخة الشيخ الخضري والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله تم كتاب البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين على يد كاتبه لنفسه عبد الرحمن بن عبد الحي بن محمد الخضري الدمياطي الشافعي الشاذلي الأشعرى في يوم الخميس الثالث من شهر شوال سنة 1336 سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف صلى الله عليه و سلم صلاة لا تنقطع أبدا ولا تفنى أمدا ولا تنحصر عددا هذه خاتمة نسخة الشيخ الخضري التي في ملك نجله الشيخ أحمد كامل الخضري وهي غير الخاتمة الموجودة في نسخة دار الكتب المنقولة عن نسخة مصطفى مكاوي وهذا يشهد لما قلناه عند عرضنا لنسخ الكتاب ( انظر المقدمة )
ملحق البرهان الكتاب السادس كتاب الاجتهاد 1455 - ونحن نصدر هذا الكتاب بالكلام في تصويب المجتهدين ونردفه بمسألتين فيهما إنجاز الكتاب فإن معظم أحكام الاجتهاد تذكر في كتاب الفتاوى فنقول قد اضطرب الأصوليون في أن المجتهدين في المظنونات وأحكام الشريعة مصيبون على الإطلاق أم المصيب منهم واحد وهذا بعد إطباقهم على أن المصيب فيما اختلف فيه اجتهاد المجتهدين في المعقولات
وقواعد العقائد واحد والباقون على الزلل والخطأ
1456 - ولم يؤثر فيه خلاف إلا عن المعروف بالعنبري فإنه نقل عنه أن كل مجتهد مصيب في المعقولات والمظنونات جمعيا وهذا لا بد أن نتكلف له محملا ونبين له وجها ثم نزيفه إذ لا يظن بذي عقل أن يقول الاجتهادات الواقعة في أصل الملل والنحل كالاجتهادات الواقعة في حدث العالم وقدمه ووجود الصانع كالاجتهاد في المظنونات حتى يصوب فيه كل مجتهد ولو قال بهذا أحد لكان انسلالا عن الدين بالكلية وكيف يعتقد ذلك ( والعلم ) أحد الجانبين وما يعارضه جهل فكيف يعتقد الجاهل مصيبا
1457 - ولعل هذا القائل أراد بذلك أن النظر إذا انحط عن أصول الملل والنحل وانخرط في سلك الشريعة ثم تباينت الآراء وتفاوتت الأهواء كاختلافها في خلق الاعمال ونفيه وإرادة الكائنات وقدم القرآن ( وثباته الخاطئ ) فيه ببديع فمثل هذا يصوب فيه كل مجتهد
1458 - وغاية الإمكان في تقرير هذا المذهب أن يقال مطالب الخلق الوصول إلى الحق ولكن اكتفى منهم بعقدهم عليه ( مصممون ) فإذا خاضوا في طلب الحق ولم يحتمل عقلهم إلا ما اعتقدوه فيعذرون على اعتقادهم ولا يوبخون ولا نقول مع هذا إن معتقداتهم صحيحة أو يلزم من ذلك أن يكون التشبيه حقا ولا وجه له ولكن نقول يعذرون لأنهم تكلفوا ذلك ولم تحتمل عقولهم إلا ما اعتقدوه والذي يستند إليه نهاية هذا التقرير أن الأعراب في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يسألون والرسول عليه السلام يعلمهم تفاصيل أحكام الشريعة وكيفية الاستنجاء وتدوير الأحجار على الصفحات ولو كان البحث عن هذه الحقائق واجبا لكان ذلك أحرى بالتقديم ولكان يعلمهم ذلك
فاستبان بمجموع ذلك أن الخطأ في أمر لم يكلف بأصله سهل المدرك
1459 - وهذا مع ما أطنبنا فيه مزيف فإنا نقول لهم إن عنيتم بقولكم إن النظر في هذه الأبواب لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسلم وإن عنيتم به الاستغناء عنه في زماننا هذا فلا فإن البدع بعد قد ظهرت والفتن قد بدت ولا سبيل إلى تقرير المبتدعة على معتقداتهم ليفشوها ويدعوا الناس إليها وهذا لأنا نعلم على الاضطرار أن مبتدعا لو أظهر في عصر الصحابة رضي الله عنهم بدعة لكانوا يبالغون في تقريعه وتوبيخه فإذا لم يكن من التقريع بد جاز أن يكون البحث عنه مأمورا به
1460 - على أنا نقول هب أنه لم يؤمر به ولكنه يجوز أن يقال إذا خضت فيه فابغ درك اليقين ولا تقنع بما عداه وقولهم إن عقلهم لا يحتمل إلا ما اعتقدوه قلنا عقل من احتمل التنزيه كعقل من اعتقد التشبيه وإن عنيتم أنه لم يحتمل التنزيه فهو قائل للحق إذا ثم جاز أن ينتهض هذا عذرا لجاز أن يصوب اليهود على معنى بأنهم يعذرون لأنه لم يحتمل عقلهم إلا التهود وكذلك النصارى والمجوس فقد بطل هذا المذهب واستبان أن المصيب في المعقولات واحد
1461 - فأما المظنونات فقد اشتهر الخلاف فيه فصار القاضي وشيخنا أبو الحسن إلى تصويب المجتهدين وتابعهم الطبقة الغالبة ونقل القاضي عن الشافعي مثل مذهبة وقال لولا أن مذهبه هذا وإلا ما عددته من الأصولية
1462 - وصار الأستاذ أبو إسحاق إلى أن المصيب واحد ثم قال لمن يصوب المجتهدين هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي
1463 - ثم الذين قالوا بالتصويب انقسموا قسمين فصار المقتصدون منهم إلى أن الوقائع العرية عن النصوص والإجماع ليس لله فيها حكم معين ولكن على الناظر فيها الطلب والاجتهاد فإذا غلب على ظنه أمر فحكم الله عليه إتباع غلبة ظنه وموجبه
1464 - وأما الغلاة فإنهم قالوا لا مطلوب في الإجتهاد ولا اجتهاد فيفعل ما يختار أي الطرفين يشاء وعن هذا قال الأستاذ آخره زندقة إثبات الخيرة ورفع الحجة وتفويض الأمر إلى اختيار المريد وأوله سفسطة فإنه تحليل شئ محرم وعلى العكس
1465 - وأما الذين قالوا المصيب واحد ( فقد ) انقسموا أيضا انقسام الفرقة الأولى فصار المقتصدون إلى أن من أصاب منهما فله أجران والمخطئ معذور وأما الغلاة فإنهم قالوا المخطئ آثم معاقب معاتب ونحن نذكر ما لكل فريق مع التنبيه عليه ثم نذكر المختار عندنا
1466 - فأما الذين قالوا المصيب واحد فقد قالوا يستحيل أن يكون الشئ الواحد حلالا حراما فإنهما متناقضان متنافيان فقيل لهم الميتة حرام على غير المضطر وهي على المضطر حلال قالوا تفاوت الأحكام في التحليل والتحريم في حق شخصين قلنا ومن أوجب إتباع الظن يعتقد موجب الظنين صوابا وهما ظنان أيضا من شخصين
1467 - فإن قالوا إذا قلتم المصيب الواحد فالمستشفى يستفتى أيهما ( شاء )
قلنا وأنتم إذا صركم إلى أن المصيب كلاهما فالمستفتي يراجع منهما من فإن قلتم يراجع الأفضل الأورع قلنا كذلك إذا قلنا المصيب واحد فإن فرضوا مفتيه تحت مفت قال لها الزوج أنت بائن واعتقد الزوج أن لفظ البينونة لا يقطع الرجعة لكونها كناية واعتقدت الزوجة أن الكنايات تقطع الرجعة قالوا فإذا قلتم المصيب من المجتهدين واحد فكيف ينتظم الأمر بينهما ويفصل الأمر على أي رأي قلنا وأنتم إذا قلتم المصيب كلاهما فكيف تقطع الخصومة ولا سبيل إلى الجمع بينهما والصورة كما فرضتموها قال الأستاذ أبو إسحاق التحريم مقصود وله مسلك في الشريعة وللتحليل مسلك وله مطلب مقصود في الشريعة ومسلك التحريم والتحليل على المضادة والمناقضة فكيف نعتقد مسلكين متنافيين على حكم في محل متحد
1468 - وهذا فيه بعض النظر لأن من الخصوم من يعلو قبيله المطلوب بالنظر والاجتهاد ويثبت الخيرة فأنى يفند هذا الكلام معهم هذا منتهى ما يستدل به هؤلاء مع الإيجاز
1469 - وإما الذين صاروا إلى التصويب فمعتمدهم أنهم قالوا لا شك أن كل مجتهد يعمل بموجب اجتهاده هذا لا خلاف فيه بلا مرية وريب فالذي أدى اجتهاده إلى التحليل يلزمه العمل بموجب اجتهاده والذي أفضى اجتهاده إلى التحريم يحتم عليه الجريان على مقتضى اجتهاده ووجوب العمل بمقتضى الاجتهادين من أمر الله تعالى وإيجابه
1470 - فالمعنى بقولنا أنهما مصيبان أنهما فعلا ما كان الواجب عليهما في ذلك ويجوز أن يوجب البارئ تعالى حكما على شخص ويوجب على غيره خلافه فإن قيل بم تنكرون على من يزعم أن الواجب طلب الحق ودرك اليقين
وإحكام الآت الاجتهاد والتزام المستند في سبر الرشاد مفض إليه فأحد المجتهدين لما خالف مطلب التأني كان مقصرا في اجتهاده إذ لو أتم الاجتهاد على ما ينبغي لاتحد مطلب الاجتهادين قلنا أليس وجب عليه بإيجاب الله تعالى وأمره العمل بموجب الاجتهاد الذي هو مخطئ فيه فالواجب عليه ذلك فقد أصاب الحق وأما وهي الاجتهاد والتقصير في انقسامه فلا معنى له ولأن الاجتهاد ليس هو إلا طلبا فيه غلبة ظن وإذا أنتج غلبة الظن فقد أتم المقصود وإنهاء الاجتهاد نهايته مما يستحيل أن يخاطب به فإن غايته مجهولة ليست معلومة مفهومة مضبوطة فالأمر بإنهائه إلى نهاية غير مضبوطة تكليف ما لا يطاق وإذا لم يكلف ذلك فقد أدى من الاجتهاد ما أفاد غلبة الظن والشرع اوجب عليه العمل بموجبه فيبعد أن يوجب الشرع عليه عملا ثم يحكم بأنه مخطئ ( فيما ) أوجب الجريان عليه
1471 - فإذا حصلت الإحاطة بهذه الطرق فأقول المختار عندي أمر ملتفت وكأنه ملتقط من الطرفين وهو يجمع المحاسن وذلك أنا نقول للأستاذ إن عنيت بتخطئة أحدهما أنه لا يجب العمل بموجب غلبة الظن فهذا إنكار ما لا وجه لإنكاره إذ المجتهد إذا غلب على ظنه أمر فأمر الله عليه إتباع موجب ( ظنه ) ولا أن يناط لظنه غيره فيتأثر به وإن عنيت به أنه كلف المجتهد وراء غلبة الظن بتحصيل أمر آخر فلا وجه له أيضا إذ الامر والاجتهاد ينضبط به وغلبة الظن حاصل
1472 - وأما القاضي فنقول له إن عنيت بالتصويب وجوب العمل عليهما على وفق ظنهما فهذا مسلم وإن عنيت به رفع الاجتهاد وإثبات الخيرة واعتقاد التسوية بين التحليل والتحريم فهذا أمر يناقض وضع الشريعة على القطع وهذا معلوم على الضرورة
وبالبديهة وإن عنيت به أن لا حكم لله تعالى في الوقائع على التعيين فهذا أيضا جحد لأن الطلب لا ليستقل بنفسه ولا بد من مطلوب ويستحيل فرض طلب لا مطلوب له فإن الباحث عن كون زيد في الدار ( يقدر ) كونه فيه ويقدر أيضا خلافه ثم يطلب الوقوف على أحد الأمرين الذي هو الحقيقة ( فكذلك ) المجتهد إذا وقعت واقعة بطلب النصوص من الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم إن أعوز المطلوب فيه فينظر في قواعد الشريعة يحاول إلحاقا ( ويريد ) جمعا ويطلب شبها فيخل في نفسه وجود التشبه ثم يجتهد في طلب الأشبه فالمطلوب هو الأشبه
1473 - إذا ثبت هذا وتقرر أنه لا تخلوا واقعة عن حكم الله فنقول المجتهد مصيب من حيث عمل بموجب الظن بأمر الله مخطئ إذا لم ينه اجتهاده إلى منتهى حصل العثور على حكم الله في الواقعة وهذا هو المختار ونبين ذلك بمثالين أحدهما أن المجتهد إذا اجتهد في واقعة حكم الله فيها التحريم ثم اجتهاده أدرك التحريم فهو مصيب من كل وجه وإذا اجتهد الثاني فغلب ظنه الكراهة فعمل به فهو مصيب من حيث إنه وجب عليه العمل بالكراهة مخطئ من حيث إنه لم يدرك التحريم والمثال الثاني إذا اشتبه صوب القبلة فاجتهد أحدهما فأدرك صوب القبلة فاستقبله فهو مصيب في الجريان على مقتضى الاجتهاد عملا ومصيب من حيث إنه أدرك حكم الله فيه وإذا اجتهد الثاني وغلب على ظنه أن القبلة في صوب آخر فعليه أن يستقبله
وهو مصيب في استقباله مخطئ من حيث إنه لم يدرك صوب الكعبة الذي هو نهاية مطلوبه وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره فإن صوب القبلة واحد وهو متعين في علم الله لوجوب الاستقبال
1474 - فإن قال القاضي المجتهد لم يكلف طلب الكعبة وإنما أمر بتحصيل غلبة الظن إذ لو أمر بطلب صوب الكعبة فهو متعين وعليه أمارات يتصور الوقوف عليها على اليقين فلو كان كذلك لما ساغ له استقبال غيره بالاجتهاد وأما المظنونات فهي مشتبكة الطرق لا سبيل إلى حسم مواردها ومسالكها ولا يكون المظنون قط إلا مظنونا فلا يحصل له فيه علم فدل على أنه لا حكم لله فيه وعلى اليقين
1475 - قلنا نعم لا يتصور حصول علم فيه ولكن يتصور ظنه وللظنون مسالك وفوائد كما للعلوم وهو لم يكلف إلا تحصيل غلبة الظن في إنه ظفر بالأشبه وفي الحقيقة يئول الخلاف إلى لفظ إذ لا يستجيز مسلم تأثيم مجتهد وإذا ارتفع التأثيم وحصل الاتفاق على أن كلا يعمل بغلبة ظنه لم يبق للخلاف أثر ولكن شوفنا فيما أوردناه وردناه عودا على بدأ ان تبين أن للمجتهد مطلوبا ه هو شوفه وهو طلب الأشبه والأقرب ثم إن تعارضت ( الأشباه ) وانحسم مسالك الترجح فقد نقول هذه واقعة خلت عن حكم الله تعالى على ما سيأتى ونحن ننجز الأن المسألتين الموعودتين فيهما يتم الغرض مسألة
1476 - رددنا في كلامنا أن شوف الناظرين من الطالبين الأشبه وهذا قد اختلف الأئمة في حقيقة الأشبه الذي هو المطلوب فقال قائلون هو الذي يلوح للناظر فيه المشابهة والمقاربة ولا تنطبع عنه عبارة وهذا هذيان لا حاصل له وراءه
1477 - وقال ابن سريج الأشبه المطلوب هو الذي يغلب على الظن عند تقدير
ورود الشرع بحكم في المحل أنه كان ينص على ذلك الحكم وهذا حكم على الغيب
1478 - فإذا الذي عليه التعويل أنا نقول المسألة إذا ترددت بين أصلين في التحريم والتحليل ويجاذبهما أصل التحريم وأصل التحليل فالمطلوب تقرير الأشبه فإن كانت أشبه بأصل التحريم فالمطلوب الذي هو نهاية التشوف والتحريم وإن كانت على العكس فالتشوف التحليل ومن يسبق إلى الأشبه فله أجرا مصيب فيهما وإن أخطأ الشوف فهو مصيب في العمل مخطئ نهاية الشوف فكأن الذي لم ينته إلى نهاية الشوف مصيب من وجه مخطئ من وجه
1479 - فإن قال قائل مذهب أبي حنيفة أن كل مجتهد مصيب فما الفرق بينه وبينكم قلت إن عنى بالتصويب وجوب العمل فهو متابع عليه وإن عنى أنه مصيب غاية الشوف ففيه النزاع وإن عنى به أنه مصيب في الاجتهاد دون العمل فهو محال فإن كان المعنى به ما فصلنا في اختيارنا فلا ( نتبرأ ) عن أبي حنيفة أنى نطق بالحق ولا يحتج لوفاقه في الأصول ومطالب القطع لوفاقه مسألة
1480 - المجتهد إذا اجتهد وعمل ثم تبين أنه أخطأ نصا فلا شك أنه يرجع إلى مقتضى النص وهل يتدارك ما أمضاه ( فيه ) تردد فقهي والغرض الأصولى أنه إذا تبين أنه أخطأ نصا فهل يصوب فأما الذين صاروا إلى التخطئة في المظنونات فلا شك أنهم يقطعون بتخطئته وأما المصوبون فإنهم اختلفوا فمنهم من غلطه وخطاه ومنهم القاضي لأن التصويب كان لارتفاع المطلوب
وتخيل أن لا حكم لله فيه على اليقين وها هنا الحكم متعين بالنص وقد أخطأ لما لم يصبه وغلا من هؤلاء غالون فقالوا يأثم المجتهد لغفلته عن النص ومنهم من عذره وقال هو مخطئ غير آثم وصار بعض الغلاة من المصوبة إلى تصويبه وإن خالف نصا واستدلوا بأن قالوا إذا خفي النص وجب عليه الاجتهاد وإذا اجتهد مرتسما ما وجب عليه وأدى اجتهاده إلى أمر غلب على ظنه أنه الحكم وجب عليه العمل به فإذا عمل ما وجب فقد أصاب
1481 - والمختار عندي ما قدمته فإن الأشبه الذي هو شوف الطالبين فيما عدم النص فيه ( كالنص ) في محل وجوده فيخرج منه أن الذي أخطأ النص والشوف مصيب من جهة العمل مخطئ من حيث إنه لم ينته إلى نهاية الشوف ولا فرق بين قصور النظر عن الأشبه أو درك النص فما فيه الكلام وإن كان النص يفيد ركون النفس ولا يفيد الأشبه إلا غلبة الظن والله أعلم
-
الكتاب السابع كتاب الفتوى 1482 - ( المفتي ) مناط الأحكام وهو ملاذ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال ولك ينكر واحد ولا سبق إلى إنكاره من لا اعتبار به اتهم في دينه كيف والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون فيتبعون ويقضون فينفذون وكذلك من لدن عصرهم إلى زماننا هذا ثم مقاصد الكتاب يحصرها فصول
فصل 1483 - في صفات المفتي والأوصاف التي يشترط استجماعه لها وقد عد الأستاذ فيه أربعين خصلة ونحن نذكر ذلك في عبارات وجيزة فنقول يشترط أن يكون المفتي بالغا فإن الصبي وإن بلغ رتبة الاجتهاد وتيسر عليه درك الأحكام فلا ثقة بنظره وطلبه فالبالغ هو الذي يعتمد قوله
1484 - وينبغي أن يكون المفتي عالما باللغة فإن الشريعة عربية وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة من يفهمه يعرف اللغة ثم لا يشترط أن يكون غواصا في بحور اللغة متعمقا فيها لأن ما يتعلق بمأخذ الشريعة من اللغة محصور مضبوط وقد قيل لا غريب في القرآن من اللغة ولا غريب في اللغة إلا والقرآن يشتمل عليه لأن إعجاز القرآن في نظمه وكما لا يشترط معرفة الغرائب لا ( نكتفي ) بأن يعول في معرفة ما يحتاج إليه
على الكتاب لأن في اللغة استعارات وتجوزات قد يوافق ذلك مآخذ الشريعة وقد يختص به العرب بمذاق ينفردون به في فهم المعاني وأيضا فإن المعاني يتعلق معظمها بفهم النظم والسياق ومراجعة كتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ فأما ما يدل عليه النظم والسياق فلا ويشترط أن يكون المفتي عالما بالنحو والإعراب فقد يختلف باختلافه معاني الألفاظ ومقاصدها
1485 - ويشترط أن يكون عالما بالقرآن فإنه أصل الإحكام ومنبع تفاصيل الإسلام ولا ينبغي أن يقنع فيه بما يفهمه من لغته فإن معظم التفاسير يعتمد النقل وليس له أن يعتمد في نقله على الكتب والتصانيف فينبغي أن يحصل لنفسه علما بحقيقته ومعرفة الناسخ والمنسوخ لا بد منه 1486 وعلم الأصول أصل الباب حتى لا يقدم مؤخرا ولا يؤخر مقدما ويستبين مراتب الأدلة والحجج
1487 - وعلم التواريخ مما تمس الحاجة إليه في معرفة الناسخ والمنسوخ
1488 - وعلم الحديث والميز بين الصحيح والسقيم والمقبول والمطعون
1489 - وعلم الفقه وهو معرفة الأحكام الثابتة المستقرة الممهدة
1490 - ثم يشترط وراء ذلك كله فقه النفس فهو رأس مال المجتهد ولا يتأتى كسبه فإن جبل على ذلك فهو المراد وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب
1491 - وعبروا عن جملة ذلك بأن المفتي من يستقل بمعرفة أحكام الشريعة نصا واستنباطا فقولهم نصا يشير إلى معرفة اللغة والتفسير والحديث وقولهم استنباطا يشير إلى معرفة الأصول والأقيسة وطرقها وفقه النفس
1492 - والمختار عندنا أن المفتي من يسهل عليه درك أحكام الشريعة وهذا لا بد فيه من معرفة اللغة والتفسير وأما الحديث فيكتفي فيه بالتقليد وتيسير
الوصول إلى دركه بمراجعة الكتب المرتبة المهذبة ومعرفة الأصول لا بد ( منه ) وفقه النفس هو الدستور والفقه لا بد منه فهو المستند ولكن لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه في حالة واحدة ولكن إذا تمكن من دركه فهو كاف
فصل
1493 - ويشترط أن يكون المفتى عدلا لأن الفاسق وإن أدرك فلا يصلح قوله للإعتماد كقوله الصبى
1494 - معقود فيمن كان مجتهدا من الصحابة فلا يخفي على ذي بصيرة أن الخلفاء الراشدين كانوا مجتهدين مفتين لأنهم تصدوا ( للإمامة ) ولا يصلح لها إلا مجتهد وكانوا يفتون في زمنهم ويقضون ويحكمون وينفذون ولم يعترض عليهم ( فدل ) ذلك على القطع بأنهم كانوا مفتين
1495 - وأما أصحاب الشورى وهم طلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد ( والزبير ) وكان معهم عثمان وعلي إلا أنا قطعنا بأنهم كانا مفتيين فقال قائلون هؤلاء مجتهدون لأن عمر رضي الله عنه أسهم الخلافة بينهم وألقاها فيهم فدل على أنهم مستصلحون للإمامة ولا يصلح لها إلا مجتهد
1496 - قال القاضي وهذا الاستدلال ضعيف فإن عمر لم يفوضها إلى أحدهم ولذلك كان إذا ذكر واحد منهم له قال فيه قولا فذكر له الزبير فقال صاحب المد والصاع فإنه كان تاجرا فبين أن هذه المرتبة
العلية تترقى عن أفعال تلائم الخسة والركاكة وتفتقر إلى كمال العقل والثبات فذكر له سعد فقال صاحب مقت فذكر له طلحة فقال إنه ذو خير وإنه ذو استكبار فذكر له علي فقال لو وليتموه ليولين بني أبي معيط ولو ولاهم لتثورن الثوار والله لو فعلتم ذلك ليفعلن والله لو فعل ليفعلن ثم قال هذا أمر تقلدته حيا فلا أتقلده ميتا فدل على أنه لم يقطع بصلاح كل واحد منهم لهذا الشأن
1497 - وأما أبو هريرة فقال القاضي كان ناقلا وما كان مفتيا والمختار عندي في هذه التفاصيل ما نقول من تصدى للفتوى في زمان وشاع ذلك واستفاض ولم يبد من أهل الفتوى عليه نكير كان مفتيا وعليه بنينا القول في الخلفاء الراشدين فإنه ما كان يخفى أمرهم وعبد الله بن مسعود كان فقيه الصحابة وكذلك العبادله الأربعة لا يخفى تصديهم للفتوى وأما أبو هريرة فقد كثرت روايته ولم يتبين لنا أنه كان يفتى فالوجه أن نقول من كان يفتى في زمانهم ولم ينكروا فهو مفت ومن لم يفت فيهم نقطع القول بأنه ما كان مفتيا ومن ترددنا فيه نتردد في كونه مجتهدا مفتيا والشافعي قلد معاوية في مسألة وذلك يدل على أنه كان مجتهدا
1498 - وأما من انحط عنهم من التابعين فللشافعي عن الحسن البصري كلام ونحن نكلف أنفسنا عن تعدادهم فقد ذكرنا المختار وعليه يخرج كل كلام مقصود من
هذا الفن
1499 - وأما مالك رضي الله عنه فكان تدواره على النصوص حتى كان معظم أجوبته في المسائل الخالية من النصوص لا أدرى وقد اشتهر مذهبه في استصلاحات مرسلة يراها انسلت تلك القواعد عن ضبط الشريعة وقدم مذاهب أهل المدينة على الأحاديث الصحيحة
1500 - وأما أبو حنيفة فما كان من المجتهدين أصلا لأنه لم يعرف العربية حتى قال لو رماه بأبا قبيس وهذا لا يخفى على من شدا أدنى شيء من العربية ولم يعرف الأحاديث حتى رضي بقبول كل سقيم ومخالفة كل صحيح ولم يعرف الأصول حتى قدم الأقيسة على الأحاديث ولعدم فقه نفسه اضطرب مذهبه وتناقض وتهافت فلا يخفى أن الشريعة مجامعها ( الحث ) على مكارم الأخلاق والنهي عن الفواحش والموبقات ( وإباحة نفي في المحرمات ) ( فمن ) صار في العقوبة الآيلة إلى حقوق الآدمي مثل القصاص إلى إسقاطه بالمثقل فقد خرجت القاعدة التي لأجلها ثبت القصاص حيث قال تعالى ولكم في القصاص حياة ثم ترقى من نفي القصاص إلى إنكار الحس فحكم بكونه خطأ حتى ضرب العقل على العاقلة وأثبت فيه الكفارة مع نفيه الكفارة عن العمد وصار في العقوبات الثابتة لله تعالى إلى أن قطع السرقة يسقط فيما كان أصله على الإباحة والأشياء الرطبة ويضم ما لا قطع فيه إليه ( وحرم انهه العبادات بترتيب أقل ما يجري من الصلاة ) وأبطل مقصود الزكوات حيث أنكر وجوبها على الفور ثم
أسقطها بالموت ثم حج ذلك باعتقاده تغير حكم الله تعالى بقبول كل قاض فأباح زوجة زيد لعمرو بغير طلاق من زيد ومن غير عدة ولا نكاح من عمرو وبشهادة زور ودعوى باطلة ولم ير القصاص في القتل بالمثقل وكان يقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فقال كل فقه بعدك حرام ووقع ذلك منه موقعا عظيما وعن هذا قيل استتيب أبو حنيفة من الإرجاء مرتين فإن هذا مذهب ( المرجئة ) فكيف يظن وحاله هذا مجتهدا
1501 - وأما الشافعي فقد استبان تبحره في اللغة ولهذا قال حبر الصناعة الأصمعي صححت دواوين الهذليين على شاب من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي أما الأصول فهو أول من صنف فيه وأما فقه النفس وغيره فيتبين في كيفية ترتيبه الأدلة في الفصل ( التالي ) إن شاء الله
فصل 1502 - ذكر الشافعي في الرسالة ترتيبا حسنا فقال إذا وقعت واقعة فأحوج
المجتهد إلى طلب الحكم فيها فينظر أولا في نصوص الكتاب فإن وجد مسلكا دالا على الحكم فهو المراد وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة فإن وجده وإلا انحط إلى نصوص أخبار الآحاد فإن عثر على مغزاه وإلا انعطف على ظواهر الكتاب فإن وجد ظاهرا لم يعمل بموجبه حتى يبحث عن المخصصات فإن لاح له مخصص ترك العمل بفحوى الظاهر وإن لم يتبين مخصص طرد العمل بمقتضاه ثم إن لم يجد في الكتاب ظاهرا نزل عنه إلى ظواهر الأخبار المتواترة مع انتفاء المختص ثم إلى أخبار الآحاد
1503 - فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات لم يخض في القياس بعد ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة وعد الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في المثقل فإن نفيه يخرم قاعدة الزجر ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة التفت إلى مواضع الإجماع فإن وجدهم أطبقوا على حكم نصوا عليه فقد كفوه مؤنة البحث والفحص
1504 - فإن عدم ذلك خاض في القياس ونظر فإن وجد الواقعة في معنى المنصوص عليه فلا يثقل عليه سبر الطرق فإن أعوزه فيقيس ويطلب الإخالة والمناسبة والإشعار فإذا هجم عليه عمل به إذا لم يعارضه مثله فإن عارضه ما يوازيه في الإخالة يكلف الترجيح فإن استويا في طرق التلويح لم يفت بواحد منهما فإن تعسر عليه وجدان المخيل طلب الشبه إن جعلناه حجة لا مزيد على هذا الترتيب إلا أن ( يعينه الرب ) فإنه لو قدم الإجماع ليفتي به جاز فإنه مقدم على كل مسلك في المرتبة العلية والله أعلم
فصل
1505 - المجتهد في القبلة إذا كان من أهل الاجتهاد وضاق الوقت وخاف فوات الصلاة لو اشتغل بالإجتهاد فله أن يقلد مجتهدا آخر
1506 - وكذلك المجتهد إذا استشعر الفوات لو اشتغل بالاجتهاد في الأحكام فله أن يقلد مجتهدا
1507 - فأما المجتهد لو أراد التقليد مع سعة الوقت وإمكان الاجتهاد قال الشافعي ليس له أن يقلد بل عليه أن يجتهد وسلك الأستاذ أبو إسحاق في تقرير هذا المذهب مسلكا فقال ذكرنا مراتب الأدلة ودرجاتها وبينا أن النصوص مقدمة على غيرها ثم اجتهاد المرء في حقه يضاهي النص واجتهاد غيره في حقه بمثابة القياس فيجب أن يقدم اجتهاده على اجتهاد غيره كما يقدم النص على القياس
1508 - وهذا فيه خلل لأننا نقول من أين قلت ومن أين تلقيت ولم جعلت الاجتهاد كالنص واجتهاد الغير كالقياس والاجتهاد متبع ( في أي ) وقت بأن يكون المقلد عاميا أو مجتهدا
1509 - وسلك القاضي فيه مسلكا آخر فقال قول الغير لا يتبع إلا بدليل قاطع فإنا لم نقبل قول النبي إلا بمعجزة قاطعة دلت على الصدق وقد قام دليل قاطع على وجوب إتباع اجتهاد المجتهد ولم يقم دليل قاطع على وجوب إتباع المجتهد المجتهد في اجتهاده وانتفاء القاطع دليل قاطع على منع الإتباع وطرد هذا في الأخبار فقال كل ما دل قاطع على رده رددناه وما دل قاطع على قبوله قبلناه وما ترددنا فيه فانتفاء القاطع دليل على رده
1510 - ونحن لا نرى هذا إذ نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في قبول الأحاديث ثم من صار إلى قبولها لم يبال بخلاف من ردها وكان تقضي بها فالمتردد لم يقم دليلا على الرد وكذلك تقليد المجتهد وما دل على وجوب الإتباع
( يتبعه ) وما دل الدليل فيه على الرد فنرده وما ترددنا فيه فالمسألة في مظله الاجتهاد وهو محل التحري والتوخي وذلك من شأن الفقهاء وحظ الأصول منه ما ذكرناه
فصل 1511 - لا يخفى أن المقلد ليس له ان يقلد غيره إلا بعد نظر واجتهاد وقد اختلفوا فيما عليه
1512 - فقال القاضي في ( التقريب ) عليه ان يتلقف مسائل من كل فن مما يحتاج المفتي إلى معرفته من الأحاديث وغرائبه والقرآن ومشكلاته ومسائل الفقه فيمتحن من يوقع تقليده به فإن أصاب في الكل قلده وإن أخطأ فيه أو في البعض وقف في إتباعه ولا بد أن يخبره عدلان بأنه مجتهد
1513 - قال الأستاذ أبو بكر بن فورك إذا قال المفتي أنا مجتهد اعتمده واتبعه ويكتفي بأخباره وقال الآخرون لا بد من أن تستقصي كونه مجتهدا أو يتوافر ذلك بالتسامع
1514 - فنقول أما اشتراط الامتحان فلا وجه له فإنا نعلم أن الأجلاف من العرب كانوا يستفتون المجتهدين من الصحابة وما كانوا بمختبرة لهم فاشتراطه بعيد وأما التسامع فلا اعتبار به لأن المخبرين لا يخبرون عن محسوس وإنما يلهجون به عن قول مخبرين فلا ثقة بقولهم فإذا لعل المختار أن المفتي إذا قال أنا مفت صدق إذ كان عدلا واتبع والله أعلم
فصل
1515 - اختلف أهل الأصول في أن المستفتي هل يجب عليه أن يستفتي الأفضل أم له أن يراجع من هو دونه إذا كان مجتهدا قال قائلون يتحتم مراجعة
الأفضل لأن المقصود من المراجعة حصول الثقة بأمر الله تعالى والثقة في مراجعة الأفضل أكمل فمراجعته أولى وهذا يتأيد بوجوب تقديم الأفضل في الإمامة الكبرى
1516 - والمختار عندي أن الإمامة العظمى يتعين ( لها ) الأفضل لأن المقصود منه المصلحة وفي إتباع الأفضل المصلحة أظهر إلا أنا نقول إذا حصلت المتابعة من واحد أو من جمع لذي نجدة وشوكة فلا يخلع لنبايع الأفضل لأن فيه إظهار المفسدة ثوران نفتن أو كذلك إذا ( بويع ) المفضول ثم نشأ من هو أفضل منه ولم يخلع المفضول ولم يخلع لأنه إذا كان الأول صاحب شوكة كان خلعه مقتضيا إلى نقيض المقصود من الإمامة وأما الفتوى فعندي أنه لا تجب مراجعة الأفضل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يراجعون المفتين مع توافرهم وما كانوا يقتصرون على مراجعة من كان أفضلهم والله أعلم مسألة
1517 - إذا وقعت واقعة واستفتى فيها المستفتي ثم وقعت ثانية تلك الواقعة فهل يلزمه المراجعة ثانيا اختلفوا فيه فقال قائلون يلزم ذلك لأن الاجتهاد يتغير والمسؤل إذا سئل ثانيا لزمه تجديد الاجتهاد فإن نتيجة الإجتهاد في حقه كوحي يتصور نسخه
1518 - وعندي أن الفتوى الأولى إذا استقرت إلى قطع من نص فلا يلزمه المراجعة ثانيا لأنه لا يتصور تغيره وكذلك إذا كانت المسالة في مظنه الاجتهاد وعسر المراجعة في كل دفعة بأن كان يحتاج إلى انتقال وسفر والسبب فيه أنا نعلم أن أهل الفيافي كانوا يستفتون في عصر الصحابة مرة وكانوا يتخذون الإجوبة قدوتهم عند تكرار تلك الواقعة وكذلك إذا كانت المسألة فيما يتواتر ويتكرر كالاستنجاء والصلاة فقد يتكرر في كل يوم دفعات فإيجاب المراجعة في كل مرة تكليف مشقة وما عداه فعلى ما قاله الأولون
ولسنا نجعل المشقة دليلا فيما ( استقناه ) آخرا بل نستبين ( معظم المشقة ) أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يفعلونه بل يتسامحون فيه والله أعلم مسألة
1519 - الواقعة إذا ترددت بين مفتيين مستجمعين خلال الاجتهاد وتناقض جوابهما نفيا وإثباتا فالمتغني يتبع الأعلم والأورع فإن استويا في الفضل والعلم واختص أحدهما 0 بمزيد ) في الورع اتبع الأورع وإن استويا في الورع وكان أحدهما أفضل قلد الأفضل وإن أختص احدهما بتقدم في الورع وعارضها زيادة ورع في الجانب الثاني قدم الأفضل فاتباع الأعلم أولى فإما إذا استويا في الورع والفضل فقد اختلف الأصوليون فيه فقال قائلون يؤخذ بالأشد والأغلظ وقال آخرون يراجع نفسه فما شهد بصحته خاطرة وفكره عمل به وقال آخرون يتخير إن شاء عمل بهذا وإن شاء عمل بغيره وتفصيل القول في هذا يستدعي تقديم فصلين أحدهما القول في تقدير فتور الشرائع والثاني جواز خلو بعض الوقائع عن حكم الله تعالى فإذا التجز ننعطف إذ ذاك على المسألة ونرى المختار فيه فأما القول في فتور الشرائع فنذكره في فصلين أحدهما في تقدير فتور الشرائع
قبلنا والثاني في تجويز فتور شريعتنا
فصل 1520 - فأما الشرائع السالفة فمذهب عصبة الحق وبعض المخالفين من المعتزلة أنه يجوز تقدير فتورها وذهب الكعبي إلى منعه وهذا ( بناه ) على أصل له وهو أنه يعتقد أن الله تعالى عن قول المبطلين يجب عليه رعاية الأصلح على العباد ثم قال إذا اتقوا مسلك شريعتهم وقبلوه وقالو به فالأصلح أن يبقيه وفتوره سبب اشباك الغوايات وهو نقيض الأصلح
1521 - قلنا أصل معتقدك في وجوب الأصلح على الله تعالى باطل قطعا على ما يبرهن في محله ثم إن نزلنا على ما تخجيلته فمن الذي أنبأك أن الأصلح تقرير الشرائع فقد لا يكون الأصلح في فتورها حتى يعلموا بمقتضى عقولهم
فصل
1522 - فأما القول في فتور شريعتنا فالذين أحالوا فتور الشرائع قبلنا منعوا فتور هذه الشريعة والذين سبقوا إلى جواز فتور الشرائع اضطربوا في شريعتنا فمنهم من سوى بين الكل ومنهم من صار إلى أن هذه الشريعة لا يتطرق إليها الفتور والسبب فيه ان سائر الشرائع لم تكن محفوظة من النسخ والتبديل ولو قدر فيه فتور لظهرت الشريعة على قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي نتبع ولو تطرق الفتور إلى شريعتنا لاستمر ذلك إلى قيام القيامة وهذا الفرق لا أصل له فإن من مات منا في زمان الفتور في سائر الشرائع فقد
قامت قيامته ولا يلحقه ارتفاع الفتور
1523 - فالمختار عندنا أنا نقول الفتور في الشرائع جائز عقلا إذ ليس فيه ما يحيل ذلك ولا تخصص شريعة عن شريعة وقد صرح بهذا شيخنا أبو الحسن إلا أنه ضم إليه شيئا آخر لا يساعد عليه فقال تبقى التكاليف على العباد مع فتور الشرائع وهذا بناه على أصله في جواز تكليف مالا يطاق وقد صار الأستاذ أبو إسحاق إلى اختيار جواز الفتور وتخلف عن شيخنا ابي الحسن في تقرير التكليف إلا أنه قال يبقى تعبد على الخلق بإفتاء محاسن العقول وهذا أيضا مما لا يساعد عليه إذ لا يحسن في العقل ولا يقبح
1524 - فإن قيل أوقع ذلك قلنا الوقوع لا يتلقى من مسالك العقل وإنما يعرف ذلك من طريق السمع وقد طمع طامعون في إثبات نفي الفتور عن شريعتنا من طريق السمع واستدلوا بظواهر منها قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون قالوا إذا ضمن الحفظ أمن الفتور ومما استدلوا به قوله عليه السلام ( إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم )
15250 - وهذه ظنوها نصوصا وهي ظواهر ( فأما ) قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر فالمراد به القرآن والغرض أنه لا تندرس تلاوته فلذلك يزداد
القراء كل يوم وأما الحديث فالتأييد قد وقع ( ووقوع ) التأييد ليس فيه ما يدل على بقاء التأبيد إلى قيام الساعة ويعارض هذا قوله عليه السلام ( سيأتي يوما على أمتي زمان رجلان في فريضة فلا يجدان من يذكر حكم الله فيها ) والظواهر مع تطرق الاحتمال إليها إذا تعارضت كيف تنتج القطع
1526 - هذا قولنا في نفي القطع في نفي الفتور وأما غلبة الظن فليس معنا ما يدل حتى يفيد غلبة الظن ولكنا نقول إن قامت القيامة في خمسمائة سنة فيغلب على الظن أن الشريعة لا يندرس أصلها ولا تفاصيلها ( فأما سفرة حمالها وفي حملها كره ) والدواعي على تعلمها متوفرة وإن تمادت الآماد فيتوقع اندراسها بقبض العلماء الناقلين لها فانطماسها بقبض ( حملتها ) هذا نهاية القول في غلبة الظن وقد نجز الغرض من القول في الفتور
فصل 1527 - واما القول في خلو الواقعة عن حكم الله تعالى فقد اضطرب الأصوليون في جواز ذلك فصار القاضي إلى جواز ذلك وترقي عنه إلى وقوعه فقطع به وقال لا بد أن يقع ذلك فإن مآخذ الأحكام محصورة مضبوطة من الكتاب والسنة والإجماع والوقائع لا تنضبط ولا تتناهى ويستحيل أن يرد ما لا يتناهي إلى ما يتناهي
1528 - فنقول أما جواز خلو الواقعة عن الحكم فلا ينكره عقل وأما وقوعه فأنكر ذلك فإن الأمم الماضين المننقرضين كانوا يتصدون للفتوى مع ( كثرة )
ما ألقي إليهم ( وتفننها ) وكانوا يهجمون على الجواب فيها هجوم من لا يرى ( للأجوبة ) حصرا ومنتهى ولو كان يجوز خلو بعض الوقائع عن حكم الله ( لاتفق ) وقوع واقعة خلت عن حكم الله ( وبدت ) فإذا لم يتفق دل ( على ) أنهم ما اعتقدوه جواز خلو الواقعة عن حكم الله
1529 - وأما ما استدلوا به من كون المآخذ محصورة واستحالة ما لا يتناهي مما يتناهى فهو ( بين ) لا حاصل له فإن من تأمل قواعد الشريعة وجدها مترددة بين طرفين أحدهما محصور والآخر غير محصور فالنجاسة محصورة والطهارة لا حصر فيها والتحريم محصور والإباحة لا حصر لها فالواقعة إذا ترددت من الطرفين ووجدت في شق الحصر وذلك وإلا حكم فيها بحكم الشق الآخر الذي أعفى الحصر عنه
1530 - هذا نهاية القول في المقدمتين ( وإذا ) عدنا إلى المقصود فالواقعة إذا ترددت بين مفتتين وتناقض جوابهما فمن صار إلى الأخذ بالأغلظ فقد تحكم من غير ثبت ومن صار إلى إتباع ما يشهد له نفسه بالصحة فهو إتباع الهواجس والحماقات ومن صار إلى التخيير فهو أقرب قليلا وله الثبات على مأخذ المضربين فإنه ما من مسلك إلا ويجوز أن يفترض اختيار مجتهد وعن هذا صار بعض الناس إلى التخيير في مسألة التصويب من غير اجتهاد
1531 - وهذا مع ما هو عليه من القرب لا وجه له فإن التخيير استواء الإقدام والإحجام وهو حقيقة الإباحة فمنه صار إلى التخيير فقد أثبت الإباحة من غير أصل وثبت فإن قيل فما الذي تختارونه أنتم في هذه المسألة وقد زيفتم المسالك المقدمة
1532 - قلنا نبين أولا صورة نفرضها ثم تظهر حقيقة المراد فيها فنقول اختلف الشافعي وأبو حنيفة في وجوب الإتمام على العاصي ( بسفره ) فقال الشافعي بوجوب الإتمام وجوز أبو حنيفة القصر فإذا تناقض جواب المفتيين على هذا الوجه فنراجعهما ثانيا ونقول قد تناقض الأجوبة فإن اتفقا بعد التخالف فهو المراد فنتعلق بما اتفقا عليه فقد يجدان أصلا يستندان إليه كتغليب الدرء في القصاص وغيره والتحري في الصيود والذبائح وإن استمر على الخلاف ووجد أفضل منهما استفيناه واتبع قوله وإن ساوى الثالث الأوليين في الفضل ووافق قوله قول أحدهما فهل ترجح قول أثنين على قول واحد فقد سبق ترجيحه ولست أختاره ولا سبيل إلى التخير والأخذ بالأغلظ كما تقدم ولا يعتقد أيضا خلو الواقعة عن حكم الله تعالى ولا نرى ذلك في قواعد الدين
1533 - فالوجه أن نقول القول في هذه الواقعة كالقول فيمن يفرض في جزيرة بلفه أصل الدعوة بالإسلام ولم تبلغه تفاصيل الأحكام ونقول فيه لا تكليف الله عليه إذ شرط التكليف إفهام المكلف ما يكلف به
1534 - فإن قيل ألستم قلتم فيمن تردى في بئر من غير بعد ووقع على مصروع ولو مكث عليه لمات وفيه صرعى ( و ) لو انتقل إلى غيره لمات المنتقل إليه هذه واقعة خلت عن حكم الله قلنا لا تلك مسألة إذا فرضت كما وصفتموها فنقول لا تكليف على المتردى إذا كان كما وصفتموه للعلة التي تقدم ذكرها هذا نهاية القول في المسألة مع اختيار وإيجاز مسألة
1535 - المقلد إذا قلد إماما فمات إمامه وفي عصره مجتهد آخر فيتبع مقلده الميت أم يقلد الحي قال قائلون يقفي أثر المقلد الأول ويتبعه فإن المذهب لا يموت
بموت صاحبه وقال آخرون يتبع المجتهد الحي إذا أجمعت الأمة على أن واحدا لو أراد أن يتبع مذهب أبي بكر لم يجز الآن وإن شهد له الرسول صلى الله عليه و سلم بالتقويم على الكافة حيث قال ( والله ما طلعت الشمس ولا غربت ) والسبب فيه أن المجتهد الاخر الباحث الناظر أعرف بمذاهب من سبق وأخبر بحقيقة الحال والصحابة رضي الله عنهم ما اعتنوا بتبويب الأبواب ورسم الفصول والمسائل نعم كانوا مستعدين للبحث ( عند مسيس ) الحاجة إليه متمكنين وما اضطروا إلى تمهيد القواعد ورسم الفروع والأمثلة لأن الأمور في زمانهم لم تضطرب كل هذا الإضطراب والذين اعتنوا بالتمهيد أعرف بالأصول والفروع من غيرهم
1536 - وعلى هذا إذا قلد مقلد الشافعي لم يجز له أن يترك متابعته ويختار مذهب القفال وابن سريج أو غيره وعليه أن يتبع ما ينقل عن الصاحب ولكن ينبغي أن يكون الناقل موثوقا به فقيه النفس لأن الفقه لا يمكن نقله وإن لم يجد نصا ولا تخريجا فهل له أن يقيس منهم من منع وقال القاضي يجوز له أن يقيس على نص صاحبه كنص الحديث في حقه وكانه مجتهد في وجه دون وجه
فصل
1537 - ذكرنا اختلاف العلماء في تصويب المجتهدين إذا اختلفت آراؤهم في مسألة لا نص فيها فأما إذا اختلفوا وفي الواقعة نص غفل عنه احدهما فالذي حكم بالتخطئة ها هنا بالطريق الأولى
1538 - وأما المصوبة فقد اختلفوا ها هنا فمنهم من حكم بالتخطئة ومنهم من صوب ومنهم القاضي واستدل عليه بأن
قال المجتهد إذا خالف النص بحث وسبر وبذل المجهود ولم يأل جهدا في طلب حتى حصل على غلبة ظن ثم وجب عليه العمل بمقتضي غلبة الظن فقد عمل ما وجب عليه فكيف يقال أخطأ وقد عمل ما هو الواجب ولا يبعد أن يختلف حكم الله باختلاف الأشخاص فإن الميتة محرمة على صاحب الرفاهية وهى بعينها محللة على صاحب المخمصة والذي لم يعثر على النص كصاحب الضرورة والمخمصى فقد أدى ما أمر به
1539 - فإن قيل حكم الله تعالى في هذه الواقعة متعين كائن مستقر فالذي لم يجد النص هو الذي قصر لما لم ينه النظر نهايته فإنه لو لم يقصر وأنهى النظر لوجد النص وليس هذا كمسألة لا نص فيها فإن الحكم فيها غير متعين
1540 - قال القاضي مع هذا كله ( أليس ) قد وجب عليه العمل بمقتضى الظن المخالف للنص المستقر مع تقصيره ( و ) وجب عليه العمل بذلك فلا يحكم بتخطئته بعد ذلك فإن المجتهد الذي غفل عن النص أفتى بما قدر عليه واعتقد ألا مطلب وراءه فأمره بطلب النص تكليف ما لا يطاق إذ لا يتأنى افتتاح النظر ممن اعتقاده أنه تمم النظر ( فإذا أخطأ النص ذلك أنه لن يجب الوصول إليه وهذا كقول القائل لمن يصلي بالتيمم ولم يتوضأ ولكن يجب عليه الوضوء عند عسر الوصول إلى الماء ) قال القاضي ولست أبعد أن يرد الشرع بوجوب تدارك ما فاته من العمل الواقع بمقتضى الاجتهاد ولو ورد به لاتبعناه فإنا عبيد الشرع وإذا لم يرد فقد أدى ما كلف
1541 - قلت أما المختار فقد سبق في مسألة تصويب المجتهدين وهنا لا سبيل إلى إنكار أداء هذا المجتهد ما عليه ولا سبيل إلى إنكار مخالفة النص وكأنه مخطىء من وجه مصيب من وجه وأما القضاء والتدارك فأقول إذا اجتهد في القبلة ثم تبين أنه أخطأ والوقت باق ( فإن ) صح يقين آخر باستقبال عين القبلة وثبت أنه مقصود في نفسه وجب عليه
تداركه وإنما فرضته في قضاء الوقت لأن الوقت إذا زال فالقضاء إنما يلزم بأمر ( مجدد ) وإنما ردد الشافعي قوله في هذه الصورة لأنه تخيل أن المأمور به إذا لم يتوصل إليه باجتهاده ونفس استقبال القبلة مقصود في عينه فلهذا نقول الأظهر سقوط القضاء والله أعلم مسألة
1542 - اختلف الأئمة في الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجوز أن يجتهدوا منهم من قال يجوز كما يجوز الاجتهاد في عصرنا ودل على ذلك قوله عليه السلام في القصة المعروفة لما قال معاذ أجتهد رأيى الحمد لله الذي وفق رسول رسوله ( إلى ) ما يرضاه وقال آخرون كان لا يجوز لهم أن يجتهدوا فإنه غلبه الظن وقد أمكنهم تحصيل القطع بمراجعة رسول الله صلى الله عليه و سلم
1543 - والمختار عندنا أنه إن أمكن المراجعة ( كأن ) كان في بلدته تعين المراجعة وإن كان على مسافة يسوغ الاجتهاد وقد ظهر من الآثار أنهم كانوا يجتهدون في الغيبة ويشهد له قصة معاذ والذين كانوا معه كانوا لا يجتهدون مسألة
1544 - أختلف الأئمة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجتهد قال قائلون كان ينتظر الوحى ولا يجتهد وقال آخرون كان يجتهد وقد ظهر ذلك من قرائن أحواله حيث قال أرأيت لو تمضمضت ولعل الأصح أنه كان لا يجتهد في القواعد والأصول بل كان ينتظر الوحي فأما في التفاصيل فكان مأذونا له في التصرف والاجتهاد ويبقى بين اجتهاده واجتهاد غيره صلى الله عليه و سلم فرق وهو أن ما يراه أمارة تفيد القطع
واجتهاد غيره يفيد غلبة الظن والله أعلم مسألة
1545 - واختلف الأئمة في حقيقة التقليد وما هيته فقال قائلون التقليد هو قبول قول الغير من غير حجة 1 فعلى هذا قبول العامي قول المفتي تقليد وقبول من يروى أخبار الآحاد قولا وسمعه من خلق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس تقليدا لأنه حجة في نفسه وقبول قول الصحابي تقليد إن لم تجعل أقوالهم حجة ولم نر الاحتجاج بقولهم فإن جعلنا أقوالهم حجة يحتج ( بها ) فإذا ذاك لا يسمى قبول أقوالهم تقليدا وقال قائلون التقليد قبول قول الغير وأنت لا تدري من أين يقوله فعلى هذا قبول قول المفتي وقبول قول الصحابي تقليد لأنا لا ندري من أين يقولون وقبول قول النبي صلى الله عليه و سلم إن قلنا إنه كان يجتهد تقليد لأنا ندري أيقول عن وحي أم عن اجتهاد وإن قلنا كان لا يجتهد فقبول قوله ليس تقليدا فإنا نعلم أن ما يقوله يقوله عن وحي
1546 - قال القاضي عندي لا تقليد ولا مقلد وكل من قبل قولا كالعامي يقبل قول المفتي وجب عليه قبوله وكان قوله حجة في حقه
1547 - والمختار عندي على الضد والعكس فإن الخلائق عندي في أفعالهم وعقائدهم مقلدون ومن قبل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم فهو مقلد فإن قوله عليه السلام لا يكون حجة لذاته والمعجزة وإن قامت فلا تفيد كونها حجة ما لم يقدم عليه العلم بالمرسل فإذا كل من نظر فأدرك حدث العالم انحدر عنه إلى ما يليه فعلم وجود الصانع وصفاته ثم انحط إلى النبوات فأدرك جواز العصمة ونظر في المعجزة بعده فهو
العالم ومن عاداه ممن يترقى ( عن ) الشبهات إلى قبول قوله عليه السلام فهو مقلد تحقيقا وما قاله القاضي من أنه يجب قبوله قلنا كيف يكون ذلك حجة وهو لم يعلم المرسل والله أعلم مسألة
1548 - هل يجب الاحتجاج بأقوال الصحابة وهذا مما اختلف فيه الأصوليون فقال قائلون يجب لقول عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقوله عليه السلام خير القرون قرني ولأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم وشاهدوا الوحي والتنزيل وهذا لا يدل على وجوب أتباعهم ( وانتهاض ) أقوالهم حجة فقوله أصحابي كالنجوم يعني في التقوى والسيرة وقوله اقتدوا باللذين من بعدي يعني في الخلافة إذ ليس في العلماء من يخصص قولهما عن قول غيرهما من الصحابة وقوله خير القرون قرني فأي دليل فيه على وجوب الأتباع
1549 - وقال قائلون لا يجب أتباعهم لأنهم ليسوا معصومين عن الزلل فكيف يحتج بما ربما يكون غلطا وخطأ وأيضا فقد كانوا يختلفون في زمانهم فإذا لم يكن قول البعض منهم حجة على البعض لم يكن حجة في حق من بعدهم
وهذا يجانب الإنصاف فإن أخبار الآحاد حجة مع أن الناقل عرضة للزلل والخطأ فلا يبعد أن يكون قول الصحابي أيضا حجة وإن لم يكن معصوما فإن قيل قوله صلى الله عليه و سلم حجة قلنا نعم ولكن لا نقطع بإصابة هذا الناقل وأما العلة الثانية فنقول قول المفتي حجة على العامي وليس حجة على العالم المجتهد وكذلك لا يبعد أن يكون قولهم ليس حجة على من يعاصرهم ويكون حجة على غيرهم ممن بعدهم وقد تمسك الصائرون إلى الأتباع بأن قالوا وجدنا التابعين يقتفون آثار الصحابة ويستندون إليها ويحتجون بآثارهم احتجاجهم بالأخبار فلولا أنهم رأوا ذلك حجة وإلا لما أطبقوا على الأتباع هذا الإطباق وأجاب المانعون عن هذا بأن قالوا كان الصحابة إذا وقعت لهم واقعة يجتهدون فيها ثم يبدون ما غلب على ظنهم في معرض التردد مظهرين أن المسألة في مظنة الاجتهاد والاحتمال فإن كانوا لا يتخذون الأتباع بالقطع فكيف يحكم بكونه حجة وهذا أوقع مما قال الأولون
1550 - فنقول إظهار الحق فيه يستدعي تفصيلا في مسائل معينة فنقول لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وإن كانوا على رتبهم العلية ومناصبهم الرفيعة الجلية فما كانوا معصومين ولا تؤمن عثرتهم وليس في مسالك السمع ما يدل على وجوب الاتباع كما تقدم وكان الوجه أن يجعل قولهم كقول من عداهم من المجتهدين لكنا نقول على ما ذكره الصائرون إلى الاتباع والاحتجاج من قولهم وجدنا التابعين يحتجون بأقوالهم منقسمة منها ما جزموا القول فيه بنفي وإثبات باتين حكما ومنها ما ترددوا فيه وأفتوا مع ( استبقاء ) احتمال وظن وما كانوا قاطعين بل
كانوا مستدلين ( متمانعين ) فما كان كذلك فلا نرى الاحتجاج ( بنا منهم ) لأنهم قالوا ماقالوا عن ظن واجتهاد ونظر غيرهم واجتهادهم بمثابة اجتهادهم وأما ما قطعوا القول به ولم تكن المسألة في مظنة الاجتهاد فقالوا قولا مخالفا للقياس ما أرشد إليه نظر ولا يدل عليه اعتبار من تقليد أو غيره ورأيناهم حاكمين قاطعين فتحسين الظن بهم يقتضى أن يقال ما نراهم يحكمون من غير بينة ولا مستند لهذا الحكم من قياس فلعلهم لاح لهم مستند سمعى قطعى من نص حديث كان حكمهم بذلك فيجب اتباعهم لهذا المقام
1551 - وكان الشافعي يرى الاحتجاج بقول الصحابي قديما ثم نقل عنه أنه رجع عن ذلك والظن أنه رجع عن الاحتجاج بقولهم ( فيما ) يوافق القياس دون ما يخالف القياس إذ لم يختلف قوله جديدا وقديما في تغليظ الدية بالحرمة والأشهر الحرم ولا مستند فيه إلا أقوال الصحابة
1552 - فإن قيل فأحسنوا الظن بغير الصحابي كمالك في مسألة خيار المجالس فقولوا إنه خالف الحديث لدليل ثبت له مقدما على الحديث في الاستعمال قلنا إحسان الظن به ثابت ولكن إنما لم نتبعه لأنا عرفنا سبب مخالفته الحديث وذلك أنه كان يرى تقديم مذهب أهل المدينة على الحديث وهذا الذي ( البابت خطأ ) قطعا ومن هذا القبيل استحسان أبي حنيفة فإنه مخالف لأدلة الشرع بمسلك باطل فإن قيل صار ابن مسعود إلى إيجاب ألفى درهم في أجرة رد العبد الآبق وهذا تقدير لا يقتضيه قياس قلنا لم يثبت ذلك منه تقديرا في كل آبق وإنما حكم بذلك في قضية خاصة فلعل أجرة المثل في تلك الصور ( كانت ) ألفى درهم فإن قيل صار ابن مسعود إلى رد قيمة العبد أي مقدار الدية وانحط بعشرة فهلا اتبعتموه
قلنا لعله قال ذلك عن قياس تحلل مثله أبو حنيفة من تفضيل الحر على العبد وغيره على أنا في مسالك الأصول لا نلتفت إلى مسائل الفقه فالفرع يصحح على الأصل ( لا ) على الفرع مسألة
1553 - استبعد مستبعدون من الذين ( قصرت هممهم ) عن درك الحقائق ترديد الشافعي أقواله في المسائل وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين وجمع بين تحليل وتحريم في قضية واحدة وهذا جهل من هذا الظان وعماية وقلة دراية فإن التردد الذي ذكره الشافعي نفى المذهب واعتراف بالاعتراض والإشكال وتصريح منه أنه لا مذهب لي في الواقعة بعد ثم نقول أوقع لأبي حنيفة تردد في مسألة من مسائل الفقه فإن قالوا لا قلنا مثل هذا الرجل لا يعد من أحزاب الفضلاء فإنه مهد أبوابا
( وقعد ) قواعد في مسالك الظنون ومظان الغموض ( والإعتضال ) من غير نص كتاب وسنة ثم لم ( يستقله ) فيما يخبر به ظن يعارضه ظن بل تهجم على حكم الله في كل واقعة فهذا إنكار ومكابرة الضرورة وإن اعترفوا بتعارض الظنون في حقه قلنا فهو لم يعبر عن تردده والشافعي عبر عنه على أنا لا نحسب الأقوال القديمة من مذهب الشافعي فإنه رجع عنها جديدا والمرجوع عنه لا يكون مذهبا للراجع والشافعي بعد ما ردد الأقوال استقر رأيه على قول واحد في جلة المسائل ولم يبق
على التردد إلا في ثماني عشرة صورة فليس هو كثير التردد وقد صار أبو حنيفة على الشك في سؤر الحمار و ( اعتقد ) الشك فيه مذهبا وهذا عجب وأعجب منه رأى أصحابه نقلوا الشك عنه حتى انتهضوا ذابين عنه داعين إليه هذا نهاية الغرض من هذه المسألة وقد نجز بنجاز
جميع الحقوق متاحة لجميع المسلمين
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
سبق منا التدرج إليه في ( الأساليب ) وإذا ثبت ذلك بنينا عليه تحريم الوطء قائلين إذ لم يكن الوطء رجعة لم تنقطع به العدة فيؤدي إباحة الإقدام عليه إلى الجمع بين دوام التربص لتفريغ الرحم وبين إباحة شاغلة وهذا وإن لم يستند إلى أصل فهو معنى قويم ومسلك مستقيم
فصل ( في ضابط ما يجري فيه الاستدلال ) 1152 - فإن قيل قد ( أثبتم ) الاستدلال ولم تقبلوه على الإرسال وزعمتم أن المقبول منه ما يلتفت إلى الأصول ويضاهي معانيها ولم تأتوا في ذلك بقول ضابط يستبين به المردود من المقبول قلنا الوجه في ذلك أن نقول إذا ثبت حكم متفق عليه في أصل ثم رام المستنبط إثارة معنى يعتقده مناطا للحكم ( فما الضبط ) فيما يقبل منه وما يرد فليقل المستدل كل معنى لو ربط به حكم متفق عليه في أصل لجرى و ( استد ) فإذا اعتبره المستدل عليه من غير إسناد إلى أصل كان مقبولا إذ المعنى الذي يبديه المستنبط لا يشترط فيها أن يسنده إلى معنى الذي يبديه وفاقي مماثل له ولكن يكفي أن يناسب ويسلم على السبر ويثبت ببعض الطرق المذكورة في إثبات العلل فكل علة إذا لا يشترط في ثبوتها أن تعهد ثابته بعينها ( قبل أن يرى ) المستنبط مثلها في غير محل الاستنباط فكل معنى في أصل فمتعلقه معنى وهو في حكم مستدل به وليس التعلق بحكم الأصل ولا بحصول الوفاق عليه
1153 - وإن قربنا العبارة قلنا ليعتقد المستدل صورة مختلفا فيها متفقا على حكمها ( ولير ) رأيه في استنباط معناه وإن كان لا يستد فكره إلا بمستند وبالجملة لا يحدث الناظر ( الموفق ) مسلكا إلا وبينه وبين ما تمهد في الزمن الماضي من السلف الصالح مداناة والذي ننكره من مالك رضي الله عنه ( تركه ) رعاية ذلك وجريانه على الاستدلال في الاستصواب من غير ( اقتصاد ) ونحن نضرب في ذلك مثالا ثم نذكر بحسبه لمالك مذهبا
1154 - فلو قدر وقوع واقعة حسبت نادرة لا عهد بمثلها فلو رأى ذو نظر جدع الأنف أو اصطلام الشفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النادرة فمثل هذا مردود ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة حتى نقل عنه الثقات أنه قال أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها
1155 - فإن قيل فبم تردون ما ذكره قلنا تبين من نظر الصحابة رضي الله عنهم في مائة سنة ومن نظر أئمة التابعين أن ما قال مالك رضي الله عنه وما استشهدنا به لا يحكم به ونحن نعلم أن الامد الطويل لا يخلو عن جريان ما يقتضى مثل ما يعتقده مالك ثم لم يجر وشذت واقعة في العقوبات واضطرب فيها رأي الصحابة وهي حد الشارب فجرى فيه واشتهر ولم يستجيزوا الاستجراء على تقدير زيادة فيه إلا بعد أن يثبتوا أنه
لم يكن مقدرا في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كأنهم أجروه مجرى التعزيرات قال على رضي الله عنه أما أنا ( لا أقتل ) في حد وأجد في نفسي ( شيئا إلا حد الشارب فإنه شئ رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فليكن هذا سبيلا قاطعا في الرد على مالك رحمه الله ومن نحا نحوه وفيه تنبيه على ما نريده
فصل ( الاعتراضات على الاستدلال ) 1156 - فإن قال قائل ما الاعتراض على الاستدلال قلنا الاستدلال معنى مخيل قد يتطرق إليه من الاعتراضات ما يتطرق إلى معنى يبديه المستنبط مخيلا في أصل غير أن ( للمعنى ) المستند إلى أصل تعلقا به فقد يتوجه كلام على الأصل بفرق أو غيره والاعتراضات على الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل تنتحي نحو المعنى فحسب ويتوجه عليه النقض إن أمكن والمعارضة وشرط ثبوته ألا يناقض أصول الأدلة
1157 - وأنا أرى الكلام عليه محصورا في أوجه أحدهما المناقشة في الاخالة والإشعار والأخر طلب النقض إن كان والآخر تقديم مقتضى أصل علته والآخر معارضته بمعنى آخر ( يناقضه )
فهذي مجامع الاعتراضات على الاستدلال ويفسد من الاعتراضات عليه ما يفسد من الاعتراضات على ما يستند إلى أصل وقد تمهد فيما تقدم مسلك الصحيح من الاعتراضات والفاسد ولا شك أنه لا يتصور استقلال التشبيه بنفسه فإن التشبيه معناه تقريب شئ من شئ بما يغلب على الظن من غير ( التزام ) معنى مخيل ومن ضرورة ذلك أصل متفق عليه فإن قيل هل يترجح المعنى المستند إلى أصل على المعنى الذي لا أصل له قلنا هذا نستقصيه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
فصل في استصحاب الحال 1158 - قد قال باستصحاب الحال قائلون ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أنه دليل بنفسه ولكنه مؤخر عن الأقيسة وهو آخر متمسك الناظر وقال قائلون لا يستقل الاستصحاب دليلا ولكن يسوغ الترجيح به والوجه أن نصوره ثم نؤثر ما هو المختار عندنا فيه
1159 - فإذا ثبت حكم متعلق بدليل ولم يتبدل مورد الحكم فليس هذا من مواقع الاستصحاب فإن الحكم معتضد بدليل وهو مستدام فدام الحكم بدوامه قد يقول بعض من لا يحيط بالحقائق لا يمتنع تقدير نسخ ولكنه غير محتفل
به والحكم مستصحب إلى نقل ناسخ على ثبت فيلتحق هذا الفن عند القائل بالاستصحاب فهذه مناقشة لفظية فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل إلى يوم نسخه فإن سمى مسم هذا استصحابا لم يناقش في لفظ وليس مقصود الفصل منه بسبيل
1160 - فأما إذا ثبت حكم في صورة ثم تغيرت وحالت ورام الناظر طرد الحكم الثابت في الصورة الأخرى فإن لم ( يكن للصورة ) الثانية تعلق بالأولى ولم يكن تغيرها مرتبا على الصورة الأولى فلا معنى للاستصحاب في مثل ذلك كالذي يبغى أن يستصحب حكما في صدقة البقر في صدقة الغنم ولا يترتب أحد الجنسين على الثاني تصورا ولا تقديرا وهذا بعينه محاولة جمع بدعوى عرية من غير معنى جامع ولا وجه في الشبه غالبا على الظن وهو احتكام مجرد
1161 - فأما إذا ترتبت صورة على صورة فإن تغيرت عليها فأثبتت في الخلفة عليها فعند ذلك يقول قائلون نستصحب الحكم الثابت في الصورة الأولى ونجريه في الثانية وهذا باطل عندنا غير صالح للاستدلال ولا للترجيح فإن الصورتين متغايرتان وإن أثبتت إحداهما على الأخرى تصورا وخلفة فلا معنى لقول القائل أستصحب ( الحكم ) وقد تغير المورد ( وتغاير ) المحل فلا يمتنع تغاير الحكمين لذلك
وهذا كقول القائل في استئناف الفريضة عند أبي حنيفة في زكاة الإبل فقد اطردت فريضة الإبل على نصب معلومة فينبغي أن يستصحبها وراء المائة والعشرين حتى لا يوجبها إلا على ذلك القياس وقد عورضوا بأن فريضة الإبل إذا ثبتت وجب استصحابها وذلك ( قاض بمنع ) العود إلى الشاة والقائلان ذاهلان عن الحقيقة فلا معنى للاستصحاب من الفئتين وما قاله أصحابنا أمثل لاعتضاده بفقه وهو المعتمد دون الاستصحاب وذلك أن الشاة أثبتت ابتداء اجتنابا لتشقيص مع ( أن ) إيجاب بعير مجحف بالخمس من الإبل فالعود إلى الشاة مع كثرة الإبل بعيد وهذا ليس استصحابا
1162 - فإن قيل من استيقن الطهارة وشك في الحدث فالحكم استصحاب الطهارة وكذلك نقيض هذ1 وكذلك من تيقن النكاح وشك في الطلاق فالجواب كذلك فهل هذا الفن مما يلحق باستصحاب الحال ( أم لا ) قلنا هذا لباب الفصل ونحن نقول فيه قول الفقيه يستصحب يقين الطهارة فيه تجوز فإن اليقين لا يصحب الشك فليس المعنى بقولهم لا يترك اليقين بالشك أنهم على يقين مع التردد في الحدث ولكن المراد به أن ما تقدم من الطهر يقين فيبقى الحكم ما تيقناه والقول فيه إذا طرأ الشك لم يخل المشكوك فيه من ثلاثة أحوال
1163 - أحدها أن يرتبط بعلامة بينة في محل الظنون فما كان كذلك
فلاجتهاد هو المتبع ولا التفات إلى ما تقدم فإنه يتصدى للمرء شك في بقاء ما سبق واجتهاده ظاهر في زواله والاجتهاد مقدم
1164 - فإن ثبتت علامة خفية كالعلامات التي يقع التمسك بها في تمييز النجس من الطاهر في الأواني وفي والثياب فإن عارض يقين النجاسة يقين الطهارة فعلم صاحب الإناءين أن أحدهما نجس والآخر طاهر فليس التمسك بيقين الطهارة بأولى من التمسك بيقين النجاسة فيضطر إلى التمسك بالعلامات وإن خفيت ( وإن لم يوجد ) يقين النجاسة ولكنا تيقنا طهارة وشككنا في طريان نجاسة وثبتت علامة خفية ففي التعلق بها قولان أحدهما أنها ضعيفة وإن تناهى المرء في تصويرها محاولا إظهار ما وقع في النفس فليفهم الناظر ما يرد عليه فالتعلق بالاستصحاب أولى على قول والتمسك بها أولى على قول
1165 - وإن تقدم يقين وطرأ شك وليس لما فيه علامة جلية ولا خفية فعند ذلك تأسيس الشرع على التعلق بحكم ما تقدم وهذا نوع من الاستصحاب صحيح وسببه ارتفاع العلامات وليس هذا من فنون الأدلة ولكنه أصل ثابت في الشريعة مدلول عليه بالإجماع وإن طرأ مثل ذلك في منازل المجادلات فأراد ( المستدل ) أن يدعو الخصم إلى موجب الاستصحاب وكانت الصورة على نحو ما ذكرناها فذلك ( سائغ )
والدليل عليه اعتباره بنظائره بتشبيه أو تقريب معنوي فليلحق ذلك بأبواب القياس إذا
1166 - ولا يستمر هذا إلا بسبر وهو تمام الكلام ومعناه أن يدعى أولا انتفاء الدليل عند قيام التردد ثم لا يتوصل إلى ذلك إلا بتخيل جهات الأدلة وإبانة انتفائها في محل الكلام ثم يستمر بعد هذا ما يحاوله من اعتبار صورة بصورة وبيان ذلك بالمثال أن المسئول عن وجوب الأضحية يقول الأصل براءة الذمة فلا معنى لشغلها إلا بثبت وهذا لو اقتصر عليه لاستقل كلاما مفيدا مستقيما وحاصله يئول إلى أنه لم يقم عندي دليل على وجوب الأضحية وإذا قسم وسبر وتتبع مواقع تعلقات الخصم بالنقض استمر له ما ذكرناه في الاستصحاب فهذا منتهى الغرض في ذلك وقد نجز بنجازه القول المقصود في الاستدلال والحمد لله وحده
الكتاب الخامس -
كتاب الترجيح 1167 - الترجيح تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن ولا ينكر القول به على الجملة مذكور وقبله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن ( الملقب بالبصري وهو جعل ) أنه أنكر القول بالترجيح ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثى عنها وسأذكر شيئا ينبه على إمكان ذلك في النقل
1168 - والدليل القاطع في الترجيح إطباق الأولين ومن تبعهم على ترجيح مسلك في الاجتهاد على مسلك هذا ما درج عليه الأولون قبل اختلاف الآراء وكانوا رضي الله عنهم إذا جلسوا يشتورون تعلق معظم كلامهم في وجوه الرأي بالترجيح وما كانوا يشتغلون بالاعتراضات والقوادح ( وتوجيه النقوض ) وهذا أثبت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك الأحكام فوضح أن الترجيح مقطوع به
1169 - واستدل القاضي رحمه الله لمن حكى الخلاف عنه في نفي الترجيح
بالبينات في الحكومات فإنه لا يترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت وهذا مردود فإن العلماء من يرى ترجيح البينة على البينة وهو مالك رضي الله عنه وطوائف من علماء السلف وليس من الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع ثم إن ظن ظان أن لا ترجيح في البينة ورآها مستندة إلى توقيفات تعبدية فهذا لا يعارض ما ثبت قطعا تواترا في الترجيح والعمل به وليس متعلق مثبتى الترجيح تجويزا ظنيا فينتقض بشيء أو يقاس على شيء
1170 - فإذا ثبت أصل الترجيح فلا سبيل إلى استعماله في مسالك القطع فإذا أجرى المتكلم في مسلك قطعي صيغة ترجيح أشعرت بذهوله أو غباوته وما يفضى إلى القطع لا ترجيح فيه فإنه ليس بعد العلم بيان ولا ترجيح وإنما الترجيحات تغليبات لطرق الظنون ولا معنى لجريانها في القطعيات فإن المرجح أغلب في الترجيح وهو مظنون ( والمظنون ) غير جار في مسلك القطع فكيف يجرى في القطعيات ترجيح ما لا يجرى أصله فيها مسألة
1171 - أطلق الأئمة القول بأن المعقولات لا ترجيح فيها وهذا سديد لا ننكره ولكنا أوضحنا في الديانات أن العوام لا يكلفون بلوغ الغايات ودرك حقائق العلوم في المعتقدات وإنما يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به مع
التصميم ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير استناد إلى مسلك من مسالك النظر وإن كان غير تام وإذا كان كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى فإن عقودهم ليست علوما ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه ظان وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة فإنهم زعموا أن الترجيحات لا وقع لها في مدارك العلوم وما ذكروه حق لا نزاع فيه وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما فتجرى عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات مسألة
1172 - قال الأئمة رضي الله عنهم الترجيحات لا تستعمل في المذاهب من غير نصب أمارات فإن كل ذي مذهب مدع قبل أن يدل والدعاوى لا تقبل الترجيح إذ الترجيح في نفسه لا يستقل دليلا والمذهب لو كفى ترجيحه لكان الترجيح مستقلا لإثبات المذهب وما كان كذلك كان دليلا مستقلا بنفسه وهذا يتطرق إليه استثناء عندنا على تفصيل نشير إليه الآن ثم نقرره في كتاب الفتاوى إن شاء الله تعالى فليعلم الناظر أن المستفتى لا يتخير في تقليد من شاء من المفتين ولكن عليه ضرب من النظر في تخير واحد منهم لمزية يتخيلها أو يظنها لمن يختاره وسيأتي ذلك مشروحا في موضعه إن شاء الله تعالى وإن كان كذلك فمتعلق المستفتى ترجيح مجرد وقد ينقدح أن يقال ما يغلب على ظنه تخصيص واحد من العلماء فهو دليل مثله فالقول في هذا يئول إلى عبارة
ونحن الآن نرسم ما يترجح به مذهب الإمام المطلبي الشافعي رضي الله عنه مسألة
1173 - أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين
1174 - ثم نحن نوضح وراء ذلك ما يتعلق به منتحل المذهب على الجملة في اختيار مذهب الشافعي ومجامع الكلام في ذلك يحصرها طرق أحدها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل وكل موضوع على الافتتاح قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون وهذه الطريقة يقبلها كل منصف وليس فيها تعرض لنقض مرتبة إمام
1175 - فإذا حصلنا المقصود مع الاعتراف للمتقدمين بفضل السبق فالذي
يتم به الغرض أن الصديق أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبي عليه السلام ثم اشتغال من بعده بالسبر أوجب على العوام ألا يبتدروا مذهب الصديق رضي الله عنه مع علو منصبه وارتفاع قدره فإن قيل يلزمكم على هذا أن توجبوا الاقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة على ما ذكرتموه قلنا إن ثبت لأحد بعده من الأئمة من المزية والفضل وتهذيب ما لم ينتظم وكشف ما لم يتبين فلا يناقض مسلك الطريقة ولكنا لسنا نرى أحدا بلغ هذا المحل وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
1176 - طريقة أخرى وهي أن نقول المذاهب ( تمتحن ) بأصولها فإن الفروع تستد باستدادها وتعوج باعوجاجها وهذا النوع ( من النظر ) هو الذي يليق بالمستفتين ومنتحلي المذاهب وسبيل محنة الأصول معرفتها أفرادا في قواعد ثم معرفة ترتيبها وتنزيل كل أصل منها منزلته فإذا تبين ذلك فأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الأقيسة الظنية علامات انتصبت على الأحكام ( أعلاما ) بأصل من الأصول الثلاثة مقطوع به كما سبق شرح ذلك ثم لها مراتب ودرجات ومناصب فإذا نظر الناظر إلى منصب الشافعي عرف أنه أعرف الأئمة بكتاب الله تعالى فإنه عربي مبين والشافعي تفقأت عنه بيضة قريش
ولا يخفى تميزه عن غيره فيما نحاوله ثم يتعلق معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول بمعرفة الروايات ومقامه لا يخفى في الأخبار ومعرفة الرجال وفقه الحديث والإجماع يتلقى من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهذا بيان الأصول
1177 - وأما تنزيلها منازلها ( فإنه شوف ) الشافعي فإنه قدم كتاب الله تعالى ثم أتبعه بسنة رسوله عليه السلام ثم إذا لم يجدها تأسى بالصحابة رضي الله عنهم في التعلق بالرأي الناشىء من قواعد الشريعة المنضبطة أصولها ولم ير التعلق بكل استصواب لما فيه من الانحلال والانسلال عن ضبط الشريعة ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فاستحث على الاتباع فيما لا يعقل معناه وقد يقيس إذا لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى ( المخيل ) المناسب وهو في ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ويدور عليها
1178 - ومن بديع نظره أنه قد يعن له معنى مخيل ولكن يراه منقوضا ( بما لا يعلل ) فيلحقه بما لا يعلل وهذا مسلكه في منع القيم في الزكوات فإن غرض الزكاة سد الخلة والحاجة وهو وإن كان معقولا فلا جريان له فرأى الأتباع فيه معنى السد مع الخلاص ( من ) غرر المخالفة ثم جعل كون الزكاة عبادة عضدا لذلك كالمرجح به ولا حاجة إلى ذكر ( مذهب ) غيره فإن في هذا تنبيها على مقتضاه
1179 - طريقة أخرى وهي تشتمل على نظر كلي إلى الفروع وهذا
يتأتى بضبط ورد نظر إلى الكليات فالشريعة متضمنها مأمور به ومنهي عنه ومباح فأما المأمور به فمعظمه العبادات فلينظر الناظر فيها وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر ولا يكاد يخفى احتياط كثير من الناس فيها وبالجملة الدم معصوم بالقصاص ومسألة المثقل يهدم حكمة الشرع فيه والفروج معصومة بالحدود ولا يخفى ما فيها من الاضطراب والأموال معصومة عن السراق بالقطع وقد أثبت من ( نعنيه ) ذرائع إلى إسقاطه سهلة المدارك وأعيان الأموال مستردة من الغصاب وقد بان للفقيه مسالك الناس الذين خالفوا مذهب الشافعي فمن نظر إلى الأصول ثم نظر نظرا كليا إلى الفروع لم يخف عليه من يكون أولى بالاتباع وإن قصر ( نظر ) بعض المستفتين عن فهم ما ذكرناه فلا عليه لو ( احتذى ) بقول النبي عليه السلام الأئمة من قريش ولم أجد أحدا من أصحاب المذاهب معتزيا إلى طينة قريش بالمسلك الواضح إلا الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذاك وأبو حنيفة من الموالى ومالك كذلك ( على ما حكى بعض الناس ) فهذه مرامز كافية فيما نحاوله وإذا أردنا أن نعبر عن الأئمة الثلاثة الناخلين المرموقين الذين طبقت مذاهبهم طبق الأرض مالك والشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهم قلنا
1180 - أما أبو حنيفة فلا ننكر ( اتقاد ) فطنته وجودة قريحته في درك عرف المعاملات ومراتب الحكومات فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه على النهاية ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه منقسمة إلى أصل جهله ( أو ) أغفله وذهل عنه وإلى آخر تمسك به وما رعاه وما ( عقله ) وانتهض لتبويب الأبواب انتهاض من لم يستمد من القواعد ومن عجيب أمره أنه لم يعتن بجمع الأخبار والآثار ليبني عليها مسائله ولكنه يوصل الفروع بناء على ما يراه ثم يستأنس بما يبلغه وفاقا
1181 - وأما الإمام مالك فلا يشق غباره في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة ولا يدرك آثاره في درك سبل الصحابة والطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان الزلل إلى النقلة فقد كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد رأيت بعدد أساطين هذا المسجد من يقول حدثني أبي فلان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم أستجز أن أروى عنهم حديثا فقيل له أكنت لا تثق بهم فقال كنت ( لا ) أتهم صدقهم ولو نشروا بالمناشير ما كذبوا على رسول الله عليه السلام ولكن لم يكونوا من أهل ( هذا ) الشأن ولكنه ينحل بعض الانحلال في الأمور الكلية حتى يكاد أن يثبت في الإيالات والسياسات أمورا لا تناظر قواعد الشريعة وكان يأخذها من وقائع وأقضية لها محامل على موافقة الأصول بضرب من التأويل فكان يتمسك بها ويتخذها أصولا ويبنى عليها أمورا عظيمة كما روى أن عمر رضي الله عنه قال للمغيرة وكان قد أخذ قذاة من لحيته فظن
عمر ( به ) استهانة فقال أبن ما أبنت وإلا أبنت يدك ونقل عنه مشاطرة خالد وعمرو بن العاص على أموالهما فاتخذ ذلك أصلا فرأى إراقة الدم وأخذ أموال بتهم من غير استحقاق لمصالح إيالية حتى انتهى إلى أن قال أقتل ثلث الخلق في استبقاء ثلثيهم وكان من الممكن أن يحمل قول عمر رضي الله عنه على التغليظ بالقول وكانوا يعتادون ذلك وكذلك من بعدهم وأخذه الأموال محمول على علمه بانبساط خالد وعمرو فيما لا يستحقان من مال الخمس وأموال المسلمين ولا يبلغ من حزم عمر درك مبلغ ذلك فإذا أمكن هذا فلا وجه لإطلاق أيدي الولاة في الدماء والأموال
1182 - وأما الشافعي فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة وأضبطهم لها وأشدهم كيسا ( واتقادا ) في مآخذها وتنزيلها منازلها ( وترتيبها على مراتبها ويشهد ذلك بالثقة فيها سابقا إليه ) ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته فلم يتشوف إلى وضع مسائل بديعة وكان متصديا للإجابة عن كل ما يسأل عنه واخترم وقد نيف على الخمسين وكان ذلك الأمد لا يتسع لأكثر من ضبط الأصول فيها فهان على أصحابه البناء عليها
1183 - وهذا بيان منازلهم وسنذكر في كتاب الفتوى أنه يتعين على المستفتى نظر كلي في ( تخير ) قدوته وسنصف ذلك النظر وحده ثم نقول ليس على المستفتى تعلق بمبادىء النظر في كل مسألة يأخذ فيها جواب قدوته وهذا متفق عليه في المظنونات
1184 - ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال إذا اشتملت المسألة على مدرك قطعي وجب على العامي الاحتواء عليه فإن كانت المسألة عملية فتلتحق بالعقائد التي لا يسوغ العقل التقليد فيها
1185 - وهذا عندنا سرف ومجاوزة حد فإنا لا نرى أولا في العقائد ما يراه وقد ظهر اختيارنا فيما عليهم من عقائدهم وأما إلحاق قطعيات الشرع بالعقائد فعظيم فإن الشريعة تحتوي على مائة ألف مسألة وأكثر مستندها القطع وتكليف العامي الإحاطة بها في معاملاته التي يمارسها ظاهر الفساد وهو اقتحام خرق الإجماع مسألة
1186 - ذهب معظم الأصوليين إلى أن المجتهد لا يجوز له الاقتصار على ترجيح مذهب على مذهب من غير تمسك بما يستقل دليلا وحكى صاحب المغنى وهو عبد الجبار في كتابه المترجم بالعمد عن بعض أصحابه جواز الاكتفاء بالترجيح
وسقوط هذا المذهب واضح فإن الترجيح الحقيقي ينشأ من منتهى الدليل فإذا لم يكن دليل لم يثبت الترجيح تصورا وإن فرض تمسك بمبادىء نظر وسمى ذلك ترجيحا فهو نظر فاسد لقصوره ولا ترجيح بالفاسد والنظر يفسد بقصوره تارة وبحيد عن المدرك المطلوب أخرى
1187 - فإن قيل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في تفاوضهم يكتفون بمسالك الترجيحات وما كانوا يمهدون أدلة مستقلة ثم يبنون عليها ترجيحات وهم الأسوة قلنا هذه دعوى عرية لا أصل لها فإنهم كانوا يبنون أحكاما على معان سديدة وعلى تقريبات شبهية وهذا مدرك الشرع وكانوا لا يعتنون برد المعاني إلى الأصول لا عن جهل بها ولكنهم علموا أن معتمد الأحكام المعاني فأما الاقتصار على الترجيحات فادعاؤه عليهم تخرص ( بين ) ( نعم ) قد نقول إذا عريت واقعة عن نظر قويم ولاحت فيه مخيلة على بعد ولا يكون مثلها دليلا فقد يجوز التمسك بها تجويزا للمجتهد استصحاب الحال وإن رأينا أن نذكر في آخر هذا المجموع طرفا صالحا من حكم شغور الزمان عن المفتين وحملة الشريعة ذكرنا طرفا صالحا في ذلك إن شاء الله تعالى
القول في ترجيحات الأدلة
1188 - إنما مظنة الترجيحات تعارض صور الأدلة وهي في غرضنا ألفاظ منقولة ومعان مستنبطة فأما الألفاظ فتنقسم إلى النصوص التي لا تقبل التأويل وإلى الظواهر فأما النصوص فتنقسم إلى ما ينقل قطعا واستوت في النقل ويلتحق بهذا القسم ما ينقل من غير قطع ولكن تستوي النصوص في ( طريق ) النقل من غير ترجيح آيل إلى الثقة والتغليب فيها ونحن نرسم ما يتعلق بهذا القسم مسألة
1189 - إذا تعارض نصان على الشرط الذي ذكرناه وتأرخا فالمتأخر ينسخ المتقدم وليس ذلك من مواقع الترجيح
1190 - فإن تطرق إلى أحد النصين ظن النسخ من غير قطع فهذا نصفه ونصوره ثم نذكر المذاهب فيه قال الشافعي في مسألة المس قيس بن طلق راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم
إسلامه وأبو هريرة ممن روى ( أحاديثنا ) وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ تطرق إلى ما رواه قيس وكذلك صح عن النبي عليه السلام ( في مرض موته ) أنه قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه و سلم في مرض موته والمقتدون به قيام وراءه فكان هذا من أواخر أفعاله والحديث الذي رويناه مطلق فيغلب على الظن أنه كان في صحته ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم الجهني قال ورد علينا كتاب النبي عليه السلام قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ فالغالب على الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث عبد الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب مجهول ليس بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات فهذا تصوير ما أردناه
1191 - قال الشافعي إن تجرد نص ولم يعارضه آخر فإمكان النسخ مردود ومدعيه مطالب بنقل النسخ ولا يكتفى في هذا المقام بغلبة الظن فإن تعارض نصان وتطرق إلى أحدهما مسلك من المسالك التي صورناها فعند ذلك يرى الشافعي ترجيح النص الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ على الآخر ( ورأيه أولى ) من
الحكم بتساقط النصين عند تعارضهما
1192 - وقال قائلون النصان متعارضان فإن الذي اتجه فيه إمكان النسخ ظنا لا يخفى سقوطه والنص الآخر يهى به ويحط عن منزلته والتمسك بمرتبة أخرى دون النصوص أولى ولا يبقى مع تعارض النصين إلا ظن ترجيح ومجرد الترجيح لا يجوز التمسك به
1193 - ووجه الحق في ذلك أن الحادثة إذا عريت عن مسلك ( يعد ) من سبل مسالك الأحكام وتعارض خبران نصان وتطرق إلى أحدهما إمكان النسخ وعدم المجتهد متعلقا سواهما فالوجه التمسك بالخبر الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ وهذا أولى من تعطيل الحكم وتعرية الواقعة عن موجب الشرع وهذا يناسب القول في مآخذ الأحكام عند عرو الزمان عن المفتين ولعلنا نختتم هذا المجموع بطرف صالح منه يقع به الاستقلال فإن وجد المتناظران مسلكا من مآخذ ( الأحكام ) سوى الخبرين مثل أن يجد للقياس مضطربا فالوجه النزول عن الخبرين جميعا والتمسك بالقياس ثم الخبر الذي بعد عن ظن النسخ يستعمل ترجيحا لأحد القياسين ( على الآخر ) فهذا وجه مدرك الحق في ذلك وهو أصل في كتاب الترجيح وسنسند إليه أمثاله مسألة
1194 - إذا تعارض خبران نصان نقلهما الآحاد واستوى الرواة في الصفات المرعية في حصول الثقة ولكن كان أحدهما أكثر رواة
فالذي ذهب اليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد ( وهو مذهب الفقهاء ) وذهب بعض المعتزلة إلى منع الترجيح بكثرة العدد واحتجوا في ذلك بالشهادة فإنه لا ترجح بينة على بينة بكثرة العدد وهذا الذي ذكروه مما اختلف الفقهاء فيه
1195 - فذهب معظم أصحاب مالك وشرذمة من أصحاب الشافعي إلى أن البينة المختصة بمزيد العدد في الشهود مقدمة على البينة التي تعارضها
والمسألة على الجملة مظنونة وللاجتهاد فيها مجال ثم معظم قواعد الشهادات منوطة بالتعبدات والروايات مدار أصولها وتفاصيلها على الثقة المحضة ولهذا لا تعتبر فيها الحرية والعدد في ( أصل القبول ) وكثرة الروايات توجب مزيدا في غلبة الظن وقد قال القاضي رحمه الله تعالى تقديم الخبر على الخبر بكثرة الرواة لا أراه قاطعا وإنما أراه من مسالك الاجتهاد
1196 - والوجه في هذا عندنا أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبر وتعارض في الواقعة خبران واستوى الرواة في العدالة والثقة وانفرد بنقل أحدهما واحد وروى الآخر جمع فيجب العمل بالخبر الذي رواه الجمع وهذا مقطوع به فإنا على قطع نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو تعارض لهما خبران كما وصفنا والواقعة في محل لا تقدير للقياس فيه ولا مضطرب للرأي لما كانوا يعطلون الواقعة بل كانوا يرون التعلق بما رواه الجمع
1197 - فأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية فإن الخبر الذي نقله الواحد يضعف بالخبر الذي يعارضه فيبعد
أن يستقل دليلا والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنهما والتمسك بالقياس وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع ولو تجرد القياس في الجانب الآخر ( فهو ) متمسك ( الحكم ومتعلقه فهذا وجه ولكن قد نظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يقدمون ) الخبر الذي يرويه الجمع ويضربون عن القياس كدأبهم في تعظيم الخبر وتقديمه ولسنا على قطع في ذلك فإنا لا نثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي فما قطعنا به أثبتناه وما غلب على ظننا ترددنا فيه وألحقناه بالمظنونات
1198 - فآل حاصل القول إلى أن الخبر وإن رواه جمع من الثقات إذا عارضه خبر نقله عدل واحد فيسقط ما رواه الجمع عن رتب الأدلة المقطوع بها فإن عدمنا مأخذا سواهما كان تعلقنا بالأرجح تعلق من لا يجد مضطربا سوى الترجيح ومحض الترجيح لا يتعلق به عند فقد الأدلة كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى
1199 - فأما إذا وجدنا ( أدلة فالمسألة إذ ذاك ظنية منزلة على ما يؤدى إليه اجتهاد الناظر وكذلك إذا وجدنا ) القياس موافقا للخبر الذي نقله الواحد فالمسألة ظنية أيضا وإن كان القياس في جانب الخبر الذي رواه الجمع ( فلا شك أن الحكم بذلك القياس المرجح بالخبر الذي رواه الجمع ) فهذه جوامع القول في ذلك
1200 - وقد ذكرنا في تعارض الخبرين إذا تطرق إلى أحدهما إمكان النسخ من الجهات التي ذكرناها ( أن ) الوجه النزول عنهما والتمسك بالأقيسة إن وجدناها
ولم ( نردد ) في ذلك تغليب ظن والسبب فيه أنا ظننا ظنا غالبا بالصحابة رضي الله عنهم اعتبار الترجيح بالثقة والعدد ورددنا القول ولم يسنح لنا مثل ذلك فيما يتطرق إليه النسخ إمكانا إذ تبينا من تفحصهم عن أسباب الثقة ما يغلب على الظن الترجيح بها وتقديم الأخبار على الأقيسة تعظيما لها إذا رجع الأمر إلى التفاوت في الثقة ( فإن ظهر لنا ظن عندنا في وقائع ) بلغته أنهم نظروا في إمكان النسخ نظرهم في الثقة نزلنا تلك ( المسألة ) هذه المنزلة وعاد القول إلى التعارض إلا فيما يمنع منه متمسك لما قدمنا تمهيده من أن التعارض في التساقط ( أقوى ) في نظر الناظرين من الاعتصام بترجيح ظنى فهذا منتهى المراد
1201 - ومما نذكره في فروع هذا الفصل أنه إذا روى راويان خبرين وكل واحد منهما ( ثقة ) مقبول الرواية لو انفرد ولكن في أحدهما مزية ظاهرة في قوة الحفظ والضبط والاعتناء بالوعي فهذا مما يرى أهل الحديث مجمعين على التقديم ( فيه ) وهو كما روى عبيد الله بن عمر العمري ( مع ما رواه أخوه عبد الله بن عمر العمري ) في سهم الفارس من المغنم فقال الأئمة حديث عبيد الله
مقدم وإن كان أخوه عبد الله عدلا فإن بينهما تفاوتا بينا قال محمد بن إسماعيل البخاري بينهما ما بين الدينار والدرهم والفضل لعبيد الله وهذا وإن ظهر من خدمة الحديث فإذا رجع الأمر إلى العلم فالقول عندي في الخبرين مع اختصاص إحدى الروايتين بالمزية كالقول في اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة مع الاستواء في الصفات المرعية وقد سبق ذلك مفصلا غير أن التمسك بحديث عبيد الله حتم من جهة أن القول متعلق بالتقدير وهو متلقى من توقيف الشارع ولا مجال للقياس فيه والرأي لا يضبط منتهى الغناء والكفاية
1202 - فهذا من المنازل التي يتعين فيها الاستمساك بالخبر ولا نظر لذى الرأي على استرسال كلى وهو موافق لمذهب الشافعي فإن نظرنا إلى الغناء فلا يكاد يخفى أن غناء الفارس يزيد على ضعف غناء الراجل فلا موقف ينتهى ( إليه ) فيستعمل الرأي كليا ويستعمل الخبر توقيفا ينتهى إليه
1203 - ومما يتصل بذلك ( أنه ) إذا روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع لا يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر الآخر في الثقة والعدالة فاجتمع مزية الثقة وقوة العدد
فمن أهل الحديث من يقدم مزية العدد ومنهم من يقدم مزية الثقة والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة إذا ظهرت فإن الغالب على الظن أن الصديق رضي الله عنه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه خبرا لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق ومأخذ الكلام في جميع هذه الفنون واحد فليرجع الناظر إلى المعتبر الممهد أصلا وتفصيلا وليميز مواقع القطع من الظن مسألة في تقديم أحد الخبرين على الآخر بموافقة أقضية الصحابة رضي الله عنهم
1204 - القول في حقيقة هذه المسألة يستدعى مقدمة من كتاب الإجماع فنقول إن اجتمع علماء العصر على ( مذهب ) واستمر الإجماع على الشرائط المرعية فلا يبقى للتعلق بالخبر والحالة هذه وقع فإن الخبر إن كان منقولا آحادا فلا خفاء بما ذكرناه
ولو فرضنا خبرا متواترا وقد انعقد الإجماع على خلافه فتصويره عسر فإنه غير واقع ولكنا على التقدير نقول لو فرض ذلك فالتعلق بالإجماع أولى فإن الأمة لا تجتمع على الضلالة ويتطرق إلى الخبر إمكان النسخ فيحمل الأمر على ذلك قطعا لا وجه غيره ونقطع بهذا
1205 - فإن قيل الخبر المتواتر النص من الأدلة القاطعة وكذلك الإجماع فلم قدمتم الإجماع
قلنا لأن الخبر عرضة لقبول النسخ والإجماع لا ينعقد متأخرا إلا على قطع فلا يتصور حصول الإجماع على باطل وتطرق النسخ إلى الخبر ممكن فالوجه حمل الإجماع على القطع الكائن وحمل الخبر على مقتضى النسخ استنادا أو تنبيها على تقدير استثناء والمستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ فهذا مما لا يتصور وقوعه حتى يتكلم فيه في تقديم أو تأخير وإنما الكلام في خبر مطلق ثم الذي أراه ( أن ) من ضرورة الإجماع على مناقضه الخبر النص المتواتر أن يلهج أهل الإجماع بكونه منسوخا فهذا قولنا في الإجماع
1206 - أما إذا فرض خبر على شرط الصحة نقله الآحاد وجرت أقضية ( أئمة من ) الصحابة على مخالفته فكيف الوجه ذهب مالك رحمه الله إلى تقديم ما صار إليه أهل المدينة يعني علماءها وروي عنه في تحقيق ذلك تمسك بأخبار تشير إلى تعظيم المدينة وأهلها فإن صح ذلك فهو ضعيف وإن كان مذهبه النظر في مذاهب العلماء الذين كانوا وإنما أجرى ذكر ( أهل ) المدينة لتوافر العلماء بها في ذلك الزمن فهذا قريب على ما سيأتي الشرحليه إن شاء الله 1207 وقال الشافعي رحمه الله لا نظر إلى الأعمال والأقضية إذا لم يتفق عليها أهل الإجماع والتعلق بالخبر أولى ونحن نذكر ما تمسك به الشافعي ثم نذكر بعده المختار عندنا قال الشافعي الحجة في الخبر وما نقل من عمل على خلافه فهو منقول عن
أقوام ليست أقوالهم حجة ولا معنى لترك الحجة لما ليس بحجة ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال العاملون بخلاف الخبر محجوجون به ولا يقدم قول محجوج بحجة على الحجة وقال الشافعي في بعض مجاري كلامه لو ( عاصرت ) العاملين بخلاف الخبر لحاججتهم وجادلتهم العين العين ولا يتعين ذلك بانقراضهم وهو يقول لو وجدت قياسا يخالف أقضية أقوام من الأئمة لتمسكت به ولم أبال بمن ينازعني والخبر مقدم على القياس فإذا قدمت القياس على قولهم فكيف أترك الخبر المقدم على القياس بقولهم وقال رضى الله عنه إن كان تقديم أقضية الصحابة لتحسين الظن بهم ولا تجب لهم العصمة فتحسين الظن بخبر الشارع المعصوم ( أولى )
1208 - والرأي الحق عندنا ( في ذلك ) يوضحه تقسيم فنقول إن تحققنا بلوغ الخبر ( طائفة من أئمة الصحابة وكان الخبر ) نصا لا يطرق إليه تأويل ثم ألفيناهم يقضون بخلاف مع ذكره والعلم به فلسنا نرى التعلق بالخبر إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب وترك المبالاة أو العلم بكونه منسوخا وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال ( وقد ) أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول فيتعين حمل عملهم مع الذكر والإحاطة بالخبر على العلم بورود النسخ وليس ( ما ) ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب ( فكأنا ) تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر غض من قدره عليه السلام وحط
من منصبه وقد قدمنا في كتاب الإجماع أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ولكن ( إجماع ) أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه ( عن ) حجة فهذا قول في قسم وهو إذا بلغهم الخبر وعملوا بخلافة ذاكرين له
1209 - فأما إذا لم يبلغهم أو غلب على الظن أنه لم يبلغهم فالتعليق بالخبر حينئذ وظنى بدقة نظر الشافعي في أصول الشريعة أنه رأى التقديم للخبر في مثل هذه الصورة
1210 - وإن غلب على الظن أن الخبر بلغهم وتحققنا أن عملهم مخالف له فهذا عندي مقام التوقف والبحث فإن لم نجد في الواقعة متعلقا سوى الخبر والأقضية فالوجه التعلق بالخبر وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر فالتمسك به أولى
1211 - ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له أن مذاهب الصحابة إذا نقلت من غير إجماع فلا نرى التعلق بها وإذا نقلت في معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل تأويلا فتعين التعلق بالمذاهب وليس هذا على الحقيقة تعلقا بالمذاهب وإنما هو تعلق بما صدرت المذاهب عنه وما ذكرناه في أئمة الصحابة يطرد في أئمة التابعين وأئمة كل عصر ما لم تقف على خبر وبيان ذلك بالمثال أن مالكا رضي الله عنه يرى تقديم أقضية الصحابة رضي الله عنهم على الخبر مطلقا من غير تفصيل وقد لا نامن أن يكون بعض تلك الأقضية ممن لم يبلغه الخبر أو بلغه ونسيه فإذا لم يفصل مالك تبينا أنه لم يكن مطلعا على حقيقة هذا الأصل فلا جرم
نقول إذا روى مالك خبرا وخالفه لم نبل بمخالفته من حيث لا نثق بتحقيق منه في مأخذ الباب ولذلك ثبت خيار المجلس بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن الرسول عليه السلام ولم يقل مالك بخيار المجلس
1212 - ومما يجب تنزيله على هذا القسم أن جمعا لو بلغهم خبر ثم صح عندنا عملهم بخلافة بعد تطاول زمن وجوزنا ذهولهم عنه ونسيانهم له فليخرج ذلك على التقاسم في تطاول غلبة الظن كما سبق وما ذكرناه في جمع فهو في المجتهد الواحد الموثوق بعدالته وأمانته بمثابته في جمع
1213 - ولو صح خبر وعمل به جمع ولم يعمل به جمع والفريقان ذاكران الخبر والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ فالذي أراه تقديم عمل المخالفين فإنه لا يحمل أمرهم إلا على ثبت وتحقيق وعمل العاملين يحمل على التمسك بظاهر الخبر
1214 - وليعلم الناظر إذا انتهى إلى هذا المقام أن الكلام في هذه المضايق ينتهي إلى حال يعسر التصوير فيها فلا ينبغي للانسان أن يسترسل في قبول كل ما يتصور عليه ومن هذا القبيل ما انتهينا إليه فإنه يبعد قطع قوم بالمخالفة مع تصحيح الخبر وقطع آخرين بالعمل فلا بد أن يشيع المخالفون ما عندهم ويبحث عنه العاملون
( نعم قد يتفق عمل العاملين في صقع من غير غوص وتحقيق وبحث عن حالة المخالفين ) فهذا منتهى القول في ذلك وهو مقدمة غرضنا في الترجيح
1215 - فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل باحدهما ائمة من الصحابة فإذا رأى الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي ( عارضه و ) لم يصح العمل به واستشهد بما رواه أنس في نصب الغنم إذ عارضه ما رواه على رضي الله عنه فيها وعمل الشيخين يوافق ما رواه أنس ( فقال رضي الله عنه أقدم حديث أنس ) وهذا مما يجب التأني ( فيه ) فليس ما استشهد به مما يقال فيه إن عمل الصحابة خالف خبرا إذ لم يصح عندنا أنهم بلغهم حديث على رضي الله عنه ثم لم يعلموا به ولكن قد يظن ذلك ظنا
1216 - فإن قيل فما الوجه والحالة كما وصفتم قلنا نرى الحديثين متعارضين فإن معارضة أحدهما الثاني ليس مما يسقطه ترجيح ظني في أحد الجانبين ثم لو صح أنه بلغهم الحديثان ثم عملوا بأحدهما فليس هذا من الترجيح ولكنه يتعلق بالقسم المتقدم وهو أن أقضية أئمة الصحابة بخلاف الخبر مع العلم به والذكر له كيف الوجه فيه وقد تقدم ما فيه بلاغ
1217 - ومما يجب التفطن له أن النصب مقادير ولا مجال فيها للرأي والخبران وإن رأينا تعارضهما فيخرج وجوب العمل بما عمل به الصحابة رضي الله عنهم على الرأي المتقدم في أنا إذا عدمنا مسلكا للحكم ولم نظفر إلا بما يقع
ترجيحا لا استقلال له ولو ثبتت الأدلة فالتمسك بما لا يستقل أولى من تعريه الواقعة عن حكم فالوجه إذا التعلق بحديث أنس لما ذكرنا آخرا والله أعلم مسألة
1218 - إذا تعارض خبران نصان وانضم إلى أحدهما قياس يوافق معناه ( الخبر ) فقد اختلف العلماء في ذلك فالذي ارتضاه الشافعي أن الحديث الذي وافقه القياس مرجح على الآخر واستدل بأنه قال إذا اختص أحد الحديثين بما يوجب تغليب الظن تلويحا فهو مرجح على الآخر ومجرد التلويح لا يستقل دليلا فإذا اعتضد أحد الحديثين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى
1219 - وقال القاضي إذا تعارض الخبران كما ذكرناه في تصوير المسألة تساقطا ويجب العمل بالقياس والمسلكان يفضيان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بوافقة القياس والقاضي يرى العمل بالقياس وسقوط الخبرين واستدل القاضي بأن قال الخبر مقدم في مراتب الأدلة على القياس ( فيستحيل ) ترجيح خبر على خبر بما يسقطه الخبر ومن أحاط بمراتب الأدلة لم يتعلق بالقياس في واقعة فيها خبر صحيح فإن القياس مع الخبر الصحيح المستقل الواقع نصا في حكم اللغو الذي لا حاجة إليه وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه أيضا إذا وافقه فالقياس إذا لا وقع له مع ثبوت الخبر والتعارض يوجب سقوط التعلق بالخبرين فإذا سقطا فالتعلق بعد سقوطهما
1220 - والقول في ذلك عندي لا يبلغ مبلغ الإفادة ويجوز لمن ينصر نص الشافعي في ذلك أن يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر
أحدهما إلى التأكيد بما يغلبه على الآخر فهذا منتهى القول ولا قطع والعمل بما اجتمع عليه الخبر والنظر ونبني على هذا مسائل نسردها ونبين الحق فيها منها مسألة
1221 - أنه إذا تعارض خبران واعتضد إحدهما بقياس الأصول وكان أقرب إلى القواعد الممهدة قال الشافعي يقدم ما يوافق القواعد ومثال ذلك الخبران المتعارضان ( في صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فالذي رواه ابن عمر فيه ترددات كثيرة والترددات تخالف نظم الصلاة ورواية خوات ابن جبير ليس فيها حركات وترددات فرأى الشافعي رضي الله عنه تقديم خبر خوات وهذا يتصل تحقيقه بوافقة القياس لإحدى الروايتين ومخالفة الآخرى فكان العمل بموجب القياس أولى ثم يئول الكلام إلى أن رواية خوات مرجحة بالقياس أم الروايتان متعارضتان والتعلق بالقياس بعدهما
1222 - ويجري في هذه الواقعة نوعان من النظر أحدهما أنه لا يمتنع جريان الصلاتين الموصوفتين في الروايتين وقد مال الشافعي في بعض أجوبته إلى تجويزهما جميعا ثم آثر رواية خوات من
طريق التفصيل وهذا متجه حسن فإنه يبعد أن تختلف روايتان في واقعة واحدة اختلاف رواية ابن عمر وخوات وإذا روى عدلان لفظين من غير تاريخ فالظن بهما الصدق ويقدر ( تقدم ) أحدهما ( وتأخر ) الآخر فإذا اعتاص معرفة ذلك منهما قيل تعارضا فأما إذا تعلقت الروايتان بحكاية واحدة وظهر التفاوت في النقل فالوجه أن يحمل الأمر على جريانهما جميعا ويرد الترجيح إلى الفضيلة فهذا وجه ومما يتعلق بما نحن فيه أنا إذا حملنا الرواية المختارة على الجواز ولم نجوز غيرها فليس في روايتنا منع لما رواه ابن عمر فإذا لا تعارض في الحقيقة إلا من وجهة واحدة وهي أن يدعي الاتحاد وتنسب إحدى الروايتين إلى الوهم والزلل ثم لا يتعين لذلك أحدهما فيتمسك بالقياس وهذا بعيد عما تعبدنا به من تحسين الظن بالرواة والمختار تجويز ما اشتملت عليه الروايتان ورد الأمر إلى التفصيل
1223 - وقد ذكرالقاضي وجها في تقديم رواية ابن عمر رضي الله عنهما وهو أنه قال إنها نافلة عن المألوف في القواعد فيجب حملها على تثبيت الناقل والرواية الأخرى ليست كذلك وقد يشعر بعدم التثبيت وبناء الأمر مطلقا على ما عهد في الشرع وهذا غير سديد وهو تحويم على تخصيص عدل بوهم وزلل بموافقة الأصول فيما رواه ثم ( في ) رواية خوات أنواع من الإثبات لا تعهده في القوانين والقواعد فلا وجه لما ذكره
مسألة
1224 - ومنها إذا تعارض خبران ووافق أحدهما حكم اقترن من كتاب الله تعالى فقد رجح بعض العلماء الخبر الذي وافقه حكم القرينة ومثال ذلك الخبران المتعارضان في العمرة فيروى أن النبي عليه السلام قال الحج جهاد والعمرة تطوع وعارضه ما روى أنه عليه السلام قال الحج والعمرة نسكان فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ثم خبر الفريضة وافق حكم القرآن في كتاب الله تعالى فإنه قال وأتموا الحج والعمرة لله وهذا فيه نظر فإن إتمام الحج يتعرض لفرضه ابتداء لا في الحج ولا في العمرة وهما مقترنان وفاقا في وجوب الإتمام بعد الشرع فيهما ولم نذكر هذا إلا أن الشافعي ذكره فتيمنا بإيراد كلامه مسألة
1225 - إذا تعارض خبران ولم يترجح احدهما على الثاني ولم يتطرق إلى واحد منهما نسخ فيما يعلم أو يظن وعريت الواقعة عن دلالة أخرى فحكمهما عند الأصوليين الوقف عن الحكم فيها وإلحاق الصورة بالوقائع كلها قبل ورود الشرائع وهذا حكم الأصول
1226 - ولكن ما اراه أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين ولم يشغر عنهم ( الزمان ) فلا يقع مثل هذه الواقعة ( إذ ) لو فرض تجويز ذلك لوجب في حكم العادة وقوعه لا محالة فإذا لم يقع مثله في الأزمان على تطاولها وقد
اشتملت على كل ممكن على التكرر ( فارتقاب ) واقعة شاذة لا نظير لها ولا مداني محال في حكم العادة وسيأتى شرح ذلك في كتاب الفتوى وإن تحقق التعارض والتساوي بين النصين وانحسم مسلك التأويل ووجدنا للحكم متعلقا من طريق القياس ( أو الاستدلال ) وآخر مسلكه استصحاب الحال فهذا مما تقرر القول فيه قبل من أن الخبر الذي يوافقه مرجح به أو الخبران يتساقطان بالتعارض والمعنى مجرد للتعلق به
فصل ( في تعارض الظواهر ) 1227 - ( كل ما ) قدمناه في تعارض النصوص وأما إذا تعارض ظاهران يتطرق التأويل إلى كل واحد منهما فتتسع مسالك الترجيح فإن مبنى التعلق بالظاهر على غلبات الظنون وهي حرية بالترجيحات فإذا تعارضا وتأيد أحدهما بمزية ثقة في الراوي أو العدد في الرواة فالوجه التمسك بما تأيد بهذه الجهات وليس كالنصين فيما قدمناه فإنا تحققنا ( من ) طرق الماضين أنهم في غلبات الظنون كانوا يبغون ترجيح ظن على ظن وإنما توقفنا في تعارض النصوص من جهة أن معارضة النص بالنص يوهي التعلق به واقتضاؤه إياه يزيد على ما يتعلق به الترجيح وأيضا فإنا لم نتحقق مثالا في تعارض النصيين مع ترجيح أحدهما بمزية البينة والعدد ولم ينقل لنا مسلك الأولين في مثل
ذلك حتى نتخذه معتبرا ( وأماما ) يتعلق بالظنون ( فقد ) استبنا على قطع استرسال الأولين في الاستمساك بما يتضمن مزية في تغليب الظن فإذا تعارض ظاهران ولم يكن أحدهما في الثبوت والتعرض للتأويل بأولى من الثاني ولم يتطرق إلى أحدهما ما يوجب تغليب الظن فتعارضهما والحالة هذه كتعارض النصين على ما تقدم مسألة
1228 - إذا تعارض ظاهران أحدهما من الكتاب والآخر من السنة فقد اختلف أرباب الأصول فقال بعضهم يقدم كتاب الله تعالى وقال آخرون تقدم السنة وقال آخرون هما متعارضان
1229 - فأما من قدم الكتاب فمتعلقه قول معاذ إذ قال أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد اجتهد رأيي واشتهر في اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الابتداء بالكتاب ثم طلب السنة إن لم يجدوا متعلقا من الكتاب
12230 - ومن قدم السنة احتج بأن السنة هي المفسرة للكتاب وإليها الرجوع في بيان مجملات الكتاب وتخصيص ظواهره وتفصيل محتملة
2231 - والصحيح عندنا الحكم بالتعارض فإن الرسول عليه السلام ما كان يقول من تلقاء نفسه شيئا وكل ما كان يقول فمستنده أمر الله تعالى وما ذكره معاذ فمعناه أن ما يوجد فيه نص من كتاب الله تعالى فلا يتوقع فيه خبر يخالفه فمبني الأمر فيه على تقديم الكتاب ثم آي الكتاب لا تشتمل على بيان الأحكام
والأخبار أعم وجودا ( منها ) ثم طرق الرأي لا انحصار لها فجرى الترتيب منه بناء على هذا في الوجود ونحن فرضنا المسألة في ظاهرين ليسا نصين وكذلك ما ادعاه من ابتدار الصحابة الكتاب فهو منزل على ما ذكرناه فأما كون السنة مفسرة فلا تعلق ( فيه ) فإنا نقول أن روى تفسيرا للكتاب فلا خلاف في قبوله وتنزيل الكتاب عليه ومعظم التفاسير منقولة آحادا وليس هذا من غرضنا وكذلك لو كان الخبر الذي نقله الأثبات نصا في معارضه ظاهر فالنص مقدم على الظاهر من الكتاب والسنة وقد ذكرنا هذا في تخصيص العموم وأشرنا إلى خلاف فيه والذي ذكرناه الآن هو المختار
1232 - وقال القاضي رحمه الله إن تعارض ظاهر خبر نقله الآحاد فهما متعارضان وهذا لست أراه كذلك فإن الظاهرين متساويان في تطرق التأويل إلى كل واحد منهما والكتاب يختص ( بثبوته على جهة القطع ) ولا أعرف خلافا ( أنه ) إذا تعارض ظاهران من الأخبار أحدهما منقول تواترا والآخر منقول آحادا فالمتواتر يقدم فليكن الأمر كذلك في تقديم الكتاب على السنة مسألة
1233 - قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم
يطعمه الآية وهذه الآية من آخر ما نزل ولا خلاف أنها ليست منسوخة وقد تعلق مالك رحمه الله بموجبها ونزل مذهبه عليها فحرم ما اقتضت الآية تحريمه وأحل ما عداه ورأى الشافعي رحمه الله التعلق بأخبار نقلها الآحاد وترك موجب الآية لها منها أنه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وحرم الفواسق وحرم الحمر الأهلية والأخبار في تحريمها بعد التحليل في الصحاح وتقديم أخبار الآحاد على نص الكتاب مشكل في غير محل الإجماع وليس القرآن في مرتبة الظواهر في هذا الغرض ولكنه يشتمل على النفي والإثبات والإبقاء والاستثناء وهذا أبعد في التاويل من الأخبار التي رويت في معرض المناهي وصيغ النهي ليست نصوصا في التحريم والتنزيه غالب في كثير من المطعومات
1234 - والذي اعتمده الشافعي في الكلام على الآية تنزيلها على ( سبب ) في النزول يدل عليه ما قبل الآية التي فيها الكلام وما بعدها وذلك أنه قال زعمت اليهود أن الشحوم محرمة وذكر تفاصيلهم في البحيرة والسائبة ونسبوا النبي عليه السلام إلى أنه بغير حكم الله تعالى من تلقاء نفسه وأباح طوائف من الكفار الميتة وجادلوا المسلمين فيها وكانوا يقولون تستحلون ما تقتلون ولا تستحلون ما يقتله الله تعالى وأباح آخرون الخنزير والدم فأنزل الله تعالى أنه لم يحرم إلا ما أحلوه وأنهم
مراغمون لما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام وتجري الآية على مذهب من يقول لمن يخاطبه لم تأكل اليوم حلاوى فيقول المجيب لم آكل اليوم إلا الحلاوى
1235 - وهذا ( استكراه ) عندي في الكلام على الآية ولكن يعضده عندي ما هو مجمع عليه في أمور ومذهب مالك مسبوق بالإجماع فيها فإنا لا نشك في إجتناب أصحاب النبي عليه السلام أكل الحشرات وغيرها واعتقادهم أنها بمثابة المحرمات وكذلك الخمر محرمة وليس لها ذكر في هذه الآية ونزولها مسبوق يتحريم الخمر فإذا ظاهر الآية متروك بالإجماع ولا يعتد ( مع تحققه ) بخلاف مالك بعده فينتظم من ذلك الآية على ما ذكره الشافعي مسألة
1236 - إذا ورد عام وخاص في حادثة وتسلط الخاص ( على العام ) إجماعا وورد مثله عام وخاص فالوجه تنزيل العام على موجب الخاص ومثال موضع الخلاف والوفاق ما نصفه الآن أما المتفق عليه فتنزيل قوله عليه السلام في الرقة ربع العشر على قوله ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة والحديث الأول يعم القليل والكثير والحديث الثاني يخص الزكاة بالنصاب فهذا متفق عليه وسببه أن المقيد من الخبرين نص في نفي الزكاة عما قصر عن خمس أواق والخبر الأول ظاهر غير مقصود والغالب على الظن أن المراد بيان قدر الزكاة
1237 - فأما ما أختلف العلماء فيه وهو ( في ) معنى ما وصفناه فقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر مع قوله ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فلم يعتبر أبو حنيفة النصاب وتعلق بظاهر قوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وقال الشافعي أقصى الممكن منه تسليم ظاهره على أن الأمر على خلاف ذلك فإنه لا يخفى على الفاهم أن الغرض من مساق الحديث الفصل بين العشر وبين نصف العشر فإنه عليه السلام قال فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر وخمسة أوسق نص فلا عذر لأبي حنيفة في تركه وضرب الشافعي ما ( في الورق 9 من الخبرين مثالا ورأى ما ذكره مسلكا قطعيا وألحق الشافعي بهذا الفن قوله عليه السلام في أربعين شاة شاة مع قوله في سائمة الغنم الزكاة وهذا دون القسم الأول فإن اشتراط السوم متلقى من المفهوم ونفي الزكاة عما دون خمسة أوسق منصوص عليه على وجه لا يقبل التأويل مسألة
1238 - إذا تعارض عمومان من الكتاب ( أوالسنة ) فظاهرهما التناقض والتنافي مثل قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فهذا ظاهر في
وضع السيف فيهم حيث يثقفون وقال في آية أخرى حتى يعطوا الجزية عن يد فظاهر الآية أخذ الجزية من كل كافر كتابيا كان أو وثنيا وقال عليه السلام خذ من كل حالم دينارا وظاهر هذا جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير تفصيل وقال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام
1239 - وقال بعض الفقهاء فيما ذكرناه وأمثاله الوجه الجمع بين الظاهرين في المقدار الممكن فنأخذ الجزية من أهل الكتاب لآية الجزية ونضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا شبهة كتاب لظاهر الآية الواردة في القتل وزعم هؤلاء أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحدة من الآيتين وكذلك القول في الخبرين وهؤلاء يرون تصرفا في الظواهر مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دلالة
1240 - وهذا مردود عند الأصوليين فالظاهر إذا تعارضهما إلا أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل كما أوضحنا سبيل ذلك في كتاب التأويلات وما ذكره الفقهاء من الجمع احتكام لا أصل له ولو لم يقم عليه دليل لكان ذلك الممسك متضمنا تعطيل الظاهرين وإخرجها من حكم العموم من غيره دليل وليس
أحد الظاهرين أولى بالتسليط على الثاني من الآخر وكل عموم خص فلا بد من عضد تخصيصه بدليل ونحن إنما نخص الجزية بالكتابيين بأخبار وآثار مسطورة في كتب الفقه والغرض من هذا الفصل إجراء الظاهرين على تعارضهما من غير أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني ثم يجعل الثاني دليلا في تخصيص الأول وهذا لا سبيل إليه ولكن اتجه في كل ظاهر تخصيص افتقر ذلك التخصيص إلى دليل غير الظاهرين وإن لم يتجه تعلقنا بالترجيح إن وجدناه فإن لم نجد نزلنا عن التعلق بالظاهرين مسألة
1241 - إذا تعارض ظاهران وأحدهما وارد على سبب خاص والثاني غير مطلق وارد على سبب أما من قال بتخصيص اللفظ العام بمورده فلا شك أنه يخصصه به وأما من رأى التمسك بالعموم دون السبب فإذا تعارض عمومان كما وصفناه والتفريع على أن الاعتبار بعموم اللفظ فإنه يوهيه ويحطه عن رتبة عموم اللفظ المطلق والترجيح يغلب على الظن من منشأ الدليل واللفظ العام يغلب على الظن حمله على مقتضى شموله فإذا عارضه لفظ آخر ينحط عنه في غلبة الظن آخر عن الاول وهذا هو السر الأخفى في الترجيحات فلا وجه للترجيح من طريق النظر في النصوص إلا أن يحمل ذلك على عمل المجمعين والظاهر يقوى وقع الترجيح
فيها وهو متضح في طريق النظر فإن المتعلق فيه غلبة الظن وقد تحقق من الأولين في تعارض الظواهر الاستمساك بالأظهر فالأظهر مسألة
1242 - إذا تعارض ظاهران وفي أحدهما ما يقتضي التعليل في ( صيغة التعميم ) فهو مرجح على العام الذي عارضه وليس فيه اقتضاء التعليل والسبب فيه أن التعليل في صيغة العموم من أقوى الدلالات على ظهور قصد التعميم حتى ذهب ذاهبون إلى أنه نص ممتنع تخصيصه فإن قدر نصا فلا شك في تقديمه على الظاهر المعرض للتأويل وإن اعتقد ظاهرا فهو مرجح على معارضه لاختصاصه بما يوجب تغليب الظن
1243 - وكشف الغطاء في هذا عندنا وهو مما أراه سر هذه الأبواب ولم نسبق بإظهاره فنقول إذا صدر من الشارع كلام غير مقيد بسؤال ولا حكاية حال ولاح قصد التعميم من إجرائه الحكم الذي فيه العموم مقصودا ( لكلامه ) ( فما ) يقع كذلك فاللفظ في المتماثلات نص وليس من الظواهر واضابط فيه أنما لا يخلو عن ذكر المتكلم وعلمه وقت قوله واللفظ في الوضع يتناوله وقد لاح بانتفاء التقييدات وقرائن الأحوال قصد التعميم فلو تخيل متخيل قصر اللفظ على بعض المسميات المتماثلة لكان ذلك عندنا خلفا وتلبيسا وإنما يسوغ الخروج عن مقتضى اللفظ وضعا فيما يجوز تقدير ذهول المتكلم عنه وهذا في حكم التعميم بناء عظيم
وتمام الغرض فيه بذكر معارض لذلك على المناقضة فنقول مستعينين بالله تعالى
1244 - لو ظهر لنا خروج معنى عن قصد المتكلم وكان سياق الكلام يفضي إلى تنزيل غرض الشارع على قصد آخر فلست أرى التعلق بالعموم الذي ظهر فيه خروجه عن قصد الشارع وهو كقوله عليه السلام ط فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر فالكلام مسوق لتعيين ( العشر ونصف العشر فلو تعلق الحنفي بقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر ورام تعليق العشر بغير الأقوات فلسنا نراه متعلقا بظاهر فهذا طرف
1245 - ولو نقل لفظ ولم يظهر فيه قصد التعميم ولا تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي أراه ظاهرا وهو الذي يتطرق التخصيص إليه
1246 - وقد رأى القاضي التعلق بالقسم الأول الذي أخرجته عن الظواهر على رأي المعممين ثم قال هذا يعارضه أدنى مسلك في الظن ويتسلط عليه التأويل والتخصيص والراي عندي فيه قد قدمته والدليل عليه أن الشارع إذا كان مقصوده بيان العشر ونصف العشر لو أخذ يفصل الأجناس وهو يبغي غيرها يعد ذلك تطويلا نازلا عن الوجه المختار في اللغة العالية فتقدير التعميم يشير إلى أنه ( لو لم ) يرد العموم لفصل الأجناس ولو فصلها لكان مائلا عن الوجه الأحسن في النظم وإذا تمهد هذا الأصل فالذي ذكره الاصحاب من أن علة الشارع لا تنقض
محمول على تقدير ما قصد التعميم فيه نصا فليفهم الناظر ذلك وليقف عليه عند هذا وقفة باحث مسألة
1247 - واذا تعارض ظاهران وقد تطرق التخصيص إلى إحدهما فالمذهب الذي ذهب إليها المحققون أن الذي لم يتطرق إليه تخصيص مرجح فأما المعتزلة فإنهم قضوا بأن اللفظ الذي خص في بعض المسميات صار مجملا في الباقي ولا يعارض المجمل ظاهرا وأما أهل الحق وإن لم يحكموا بالإجمال فإنهم يرون تعميم اللفظ في الباقي أضعف في حكم الظن من اللفظ الذي لم يجر فيه تخصيص فإذا لاح وجه في غلبة الظن من منشأ ظهور الظاهر كان ذلك ترجيحا مقبولا مسألة
1248 - إذا تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب إلى احتياط فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأحوط مرجح على الثاني وزعموا أن الذي يقتضيه الورع وإتباع السلامة هذا واحتجوا بأن قالوا اللائق بحكمة الشريعة ومحاسنها الاحتياط فإذا تعارض لفظان غلب على الظن أن الذي نقله صاحب الاحتياط صدق وكأن القواعد تغلب على الظن ذلك وتؤازر الرأي في ذلك
1249 - وقال القاضي لا مستروح إلى هذا ولا معنى للترجيح بالسلامة وما ذكره هؤلاء من شهادة الأصول وإثارتها تغليب الظن يعارضه أن العدل الذي
نقل الثاني لا يتهم ولا يظن به العدول عن قاعدة الاحتياط إلا بثبت واختصاص بمزية حفظ وقد يتخيل أن ما جاء به الأخر بناه على ما ( رآه ) من ظاهر الاحتياط وحمل عليه نظم لفظه من غير ثبت في النقل ثم قال القاضي لا وجه للترجيح وإن انقدح ما ذكرناه آخر فيما لا يوافق الاحتياط انخرمت الشهادة كما ذكرناها أولا فالوجه التعارض مسالة
1250 - إذا تعارض لفظان متضمن أحدهما النفي ومتضمن الثاني الإثبات فقد قال جمهور الفقهاء الإثبات مقدم وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل عندنا فإن كان الذي ( نقله النافي ) إثبات لفظ عن الرسول عليه السلام مقتضاه النفي فلا يترجح ( على ذلك ) اللفظ الذي متضمنه الإثبات لأن كل واحد من الراويين متثبت فيما نقله وهو مثل أن ينقل أحدهما ان الرسول عليه السلام أباح شيئا وينقل الثاني أنه قال لا يحل وكل ناف في قوله مثبت فأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الثاني أنه لم يقل ولم يفعل فالإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغى المستمع وإن كان محدا والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيئ لم يجر له ذكر مسألة
1251 - إذا تعارض ظاهران أو نصان أحدهما يوافق المعروف المعتاد والآخر ما جرى به العرف فالقول في هذا كالقول في موافقة أحد المنقولين للاحتياط
ومخالفة الآخر إياه وقد مضى فيه قول بالغ والمختار التعارض في المسألتين فهذا الذي ذكرناه كلام بالغ في ترجيح الألفاظ النصوص منها والظواهر ومن أحاط بها وأحكم أصولها لم يخف عليه مدرك الكلام فيما يرد عليه من أمثالها
باب في ترجيح الأقيسة 1252 - هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسون وفيه أتساع الاجتهاد وهو يستدعي تجديد العهد بمراتب الأقيسة فنقول المرتبة العليا المعدودة من مسالك القياس ما يقال إنه في معنى الأصل وقد سبق تأصيله وتفصيله وتقدم القول في أنه هل يعد من الأقيسة أو يعد من مقتضيات الألفاظ وهو على كل حال مقدم على ما بعده والسبب فيه أنه ملتحق بأصله قطعا والتحاقه به مقطوع غير مظنون ولا شك في تقديم مراتب العلوم على درجات الظنون ثم يلي ذلك من قياس المعنى ما يطرد وينعكس ويليه القياس الذي يسمى قياس الدلالة كما سبق وصفه ويلي ذلك قياس الشبه فأما ما يعلم فلا ترتيب فيه ( مراتب قياس المعنى )
1253 - وأما قياس المعنى فهو على مراتب لا يضبطها ضابط فإن مسالك الظنون لا يتأتى حصرها وهي وإن كانت منحصرة من جهة تعيين مناسبتها لأصولها الشريعة فلا يتأتى للناظر الوصول إلى ضبطها بعد وربطها بحد ولكنا نحرص على تقريب الأمور والإشراف على ما يكاد أن يكون تشوفا إلى الضبط ونتقي فيما نحاوله مصالح لا نرى تقدير ها مأخذ الأحكام ونحاذر فيها الوقوع في منخرق مذهب مالك ومتسع مسلكه المفضى إلى الخروج عن الحصر والضبط ثم قد ذكرنا في الاستدلال طرفا من ذلك ونحن نعيده ونزيده تقريرا وتقريبا
فنقول
1254 - إذا وجدنا أصلا استنبطنا منه معنى مناسبا للحكم فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة ويكفي في الضبط فيه استناده إلى اصل متفق الحكم ( ومرجوعنا ) في ذلك وجداننا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مسترسلين في استنباط المصالح من أصول الشريعة من غير توقع وقوف عند بعضها
1255 - فأما المعنى الذي لا نجد له أصلا ولا مستندا فهو الذي سميناه الاستدلال ونحن نرى التعلق به كما مهدنا القول فيه ولا يجوز التعلق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء ومن ظن ذلك بمالك رضي الله عنه فقد أخطأ فإنه قد اتخذ من أقضية الصحابة رضي الله عنهم أصولا وشبه بها مأخذ الوقائع فمال فيما قال إلى فتاويهم وأقضيتهم فإذا لم ير الاسترسال في المصالح ولكنه لم يحط بتلك الوقائع على حقائقها وهذا كبنائه قواعد على سيرة عمر رضي الله عنه في أخذه شطرا من مال خالد وعمرو وقد قدر ذلك تأديبا منه وهذا زلل فإنه لا يمتنع أنه رآهما آخذين من مال الله تعالى ما لا يستحقان أخذه على ظن وحسبان وكان يرعى طبقة الرعية بالعين الكالئة والأليق بشهامته وإيالته أن نظره الثاقب كان بالمرصاد لما يتعديان فيه الحدود عامدين أو خاطئين إذ كانا موليين على مال الله تعالى وإذا أمكن ذلك وهو الظاهر فحمله على التأديب لا وجه له ولو صح عنه أخذ مال رجل غير متصرف في مال الله تعالى لكان يظهر ما تخيله مالك
وكذلك كل واقعة ربط مالك أصلا من أصوله بها فإنه لا يرى ذلك الأصل استحداث أمر وهو عند الباحثين ينعطف على أبلغ وجه إلى قواعد الشريعة فخرج مما ذكرناه أن مالكا ضم وقائع الصحابة إلى الأمور الظاهرة من الشريعة ولم يظن بهم افتتاح أمر من عند أنفسهم ولكنه قال الأخبار ( منقسمة ) إلى ما نقلت صريحا وإلى ما فهمنا ضمنا فإنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس أصول فهذا بيان مذهبه
1256 - ونحن نرى الاقتصار في مآخذ الأحكام على أصول الشريعة وأقضية الصحابة محمولة عليها ولا نتخيل أخبارا استندوا بها وسكتوا عن نقلها مع علمنا بأنهم كانوا يبرئون أنفسهم عن الاستقلال ويعضدون ما يحكمون به بما يصح عندهم من أخبار الرسول عليه السلام وهذا وجه أنفصال أحد المذهبين عن الثاني ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة كما ذكرناه في المعنى المستنبط من الأصول ويظهر أثر ذلك بضابط في النفي والإثبات وهو أن كل معنى لو أطرد جر طرده حكما بديعا لم يعهد مثله في الزمان الأطول فيدل خروج أثره عن النظير على خروج معناه المقتضى عن كونه معتبرا والدليل عليه أنه لو كان معتبرا لوجب في حكم العادة القطع بوقوع مثله في الزمن
المتمادي وبمثل هذا المسلك قطعنا ( بأنه ) لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وإذا كان أثر المعنى لا يعدم نظيرا قريبا ولم يقتض طرد المعنى مخالفة أصل من الأصول فهو استدلال مقبول معمول به وبيان ذلك بالمثال أن مالكا لما زل نظره كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سبب متأصل في الشريعة ومنه ( تجويزه التأديب ) بالقتل في ضبط الدولة وإقامة السياسة وهذا إن عهد فهو من عادة الجبابرة وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصحابة
1257 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه فنحن نرسم بعده مراتب في الإخالات وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مدركها على حقائقها مشرف على طرف المعاني فإذا عسر الوفاء باستيعاب أمثلة الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخذ أصلا من أصول الشريعة يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالات ونبين فيه وجوه الترتيب فيها وما يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب مدارك الفقه ومعانيها ثم ( يقيس ) الفطن على ما نرسمه فيها ما يدانيها ( المرتبة الأولى )
1258 - فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه وما يوجب اندفاعه فنقول أوجب الله القصاص في نص كتابه زجرا للجناة وكفا لهم وأشعر بذلك قوله
تعالى ولكم في القصاص حياة واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها من طبقاتهم منكر ثم قال أئمة الشريعة كل مسلك يطرق إلى الدماء الهرج على جريان واسترسال واستمكان من غير حاجة إلى أمر نادر ومعاناة شاقة فهو مردود فإن المقصود المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج فمن خالف هذا فهو لو قدر ثبوته ( ناقض ) له والثالث نصا وإجماعا لا سبيل إلى نقضه فإذا تمهد ( ذلك ) فكل معنى يستند إلى هذه القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة العليا من أقيسة المعاني
1259 - وهذا يمثل ( بالقول في القتل ) بالمثقل ولا شك أن من نفي القصاص به مناقض للقاعدة من جهة أن القصد إلى القتل بهذه الآلات أمر ثابت وهو ممكن لا عسر في إيقاعه وليس القتل به مما يندر ( فإذا لم يعسر ولم يندر ) فكان نفي القصاص بالقتل بها مضادا لحكمة الشريعة في القصاص فإذا ناكر الخصم العمدية في القتل بهذه الآلات سفه عقله ولم يستفد به إيضاح
عسر القتل
1260 - وإن شبب بتعبد في آلة القصاص وكان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم مواقع التعبد
1261 - وإن تمسك بصورة في العكس وقال الجرح الذي لا يغلب إقتضاؤه إلى الهلاك اذا أهلك أوجب القصاص كان هذا غاية في خلاف الحق فإن الجرح لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا للمعتدين فكيف يستجيز ذو الدين أن يبنى عليه إسقاط القصاص بالقتل الذي يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة وليعتبر المعتبر عن هذا الأصل فإنه أجلى أقيسة المعاني وأعلى مرتبة فيها فإنه لا حاجة في ربطه بالقاعدة إلى تكلف أو تقرير أو تقريب وتحرير ولو قيل هو الأصل بعينه ( و ) ليس ملحقا به لم يكن ( بعيدا )
1262 - ومخالف ما يقع في هذه المرتبة مائل عن الحق على قطع وليس القول فيها دائرا في فنون الظنون وما يكون بهذه الصفة لا يتصور أن يعارضه معارض
1263 - ونضرب لهذا مثالا آخر قياسا فنقول الغرض من شهادة الشهود إيضاح المقصود المشهود به ثم للشرع تعبدات وتأكيدات في رتب البينات على حسب أقدار المقاصد وأعلى البينات بينة الزنا فإذا شهد على صريح الزنا أربعة من الشهود
العدول وتناهى القاضي في البحث وانتفت مسالك التهم فهذا أقصى الإمكان في الإيضاح والبيان فلو شهدوا وأقر المشهود عليه مرة واحدة لم يؤثر إقراره ووجب القصاص بموجب البينة فإن إقراره تأكيد البينة ولا يحط من مرتبة البينة شيئا فإذا قال أبو حنيفة إذا أقر المشهود عليه مرة سقطت البينة ولم ( يثبت ) بذلك الإقرار شئ لم يجز أن يكون هذا مضمون في أصل الشريعة المحمدية فإن الإقرار لم يعارض البينة مناقضا ثم هو ذريعة يسيرة غير عسيرة في ترك البينات ثم المقر لا يحلف حتى يتخيل ارعواؤه ولو طلبنا أمثال ذلك وجدنا منه الكثير المرتبة الثانية
1264 - تعتمد على قياس معتضد بالأصل ولكنه قد يلقى الجامع احتياجا إلى مزيد تقرير وتقريب ويعن للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا ومثال ذلك أنه قد ثبت وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة الشرع في تحقيق العصمة وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال ذلك ليست بالعسيرة والقتل على ( الاشتراك ) غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في الأصل إيجاب القتل على الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد ( منهم ) ليس قاتلا وفعل كل واحد منهما يخرج أفعال شركائه عن الاستقلال بالقتل وقتل غير القاتل فيه مخالفة الموضوع المشروع في
تخصيص القتل بالقاتل وفيه وجه آخر وهو أن إمكان القتل بالمثقل فوق إمكان الاستعانة وعن هذا تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على الشركاء وصرح بعض المفتين بأن قتل المشتركين خارج عن القياس والمعتمد فيه قول عمر رضي الله عنه إذ قال لو تمالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به فنشأ من منتهى هذا الكلام أن الجاني محرم الدم معصوم ( فإذا تطرقت الاحتمالات لم يجز الهجوم على قتل معصوم )
1265 - والمسلك الحق عندنا أن المشركين يقتلون بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج بعضهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص ( عنهم ) هرج ظاهر فلا نظر مع الظهور إلى انحطاط إمكان الاشتراك قليلا عن الأنفراد بالقتل بالمثقل فإنه يعارض ذلك أن المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين ويتطرق إلى الاستقلال بالقتل عسر ( من وجه ) حتى تمس الحاجة إلى فرض كلام في أيد وضعيف أو تقدير اغتيال ( فيعتدل ) المسلكان حينئذ وخروج كل واحد عن كونه قاتلا لا وقع له مع إفضاء درء القصاص إلى الهرج مع العلم بأن القصاص ليس على قياس الأعواض وأما كون الجاني معصوما فلا أثر له في هذا المقام مع أنه سعى في دم من غير
أن يفرض له تقدير عذر فكان ما أقدم عليه مسقطا حرمته وخارما عصمته والشبهات إنما تنشأ من فرض أمر يقدر للجاني عذرا على قرب أو على بعد وهو منشأ الشبهات على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى
1266 - فإذا تمهدت هذه القاعدة ( فغرض هذه ) المرتبة إلحاق فرع بهذا الأصل مع تقدير الوفاق فيه فنقول في الطرف إنه صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين كالنفس وهذا أجلى ولكنه في اعلى مراتب الظنون
1267 - فإن قيل ما سبب خروج هذا القياس عن مسالك العلوم مع استبانة ( استقائه ) من القاعدة كما ذكرتموه قلنا في القاعدة على الجملة نظر أما إسقاط أصل القصاص عن المشتركين فمعلوم بطلانه قطعا فإنه مبطل لحكمة العصمة وأما قتل واحد من المشركين لا بعينه مع تفويض الأمر إلى رأى من له القصاص فليس يرد ذلك ولكنه يقع في مجال الظنون ثم في إلحاق الطرف بالنفس ثلاثة أشياء يطرق كل واحد إليه الظن أحدها أن قائلا لو قال لو أفضى قطع الطرف إلى النفس لوجب القصاص على المشتركين وتقرير ذلك مردعة لهم فلا يؤدي ذلك إلى االهرج هذا وجه واقع ودافعه أنه لو صح لسقط القصاص في الطرف أصلا فإذا جرى القصاص مع الاندمال أشعر ذلك باعتناء الشرع بتخصيصه بالصور حتى كأن الطرف مع النفس كزيد مع عمرو في أن كل واحد منهما مقصود بالصون
1268 - والوجه الثاني مما يقتضي الظن ظن الخصم أن ما ذكرناه من الجمع في حكمه القصاص ينقضه تمييز فعل أحد الشريكين في القطع عن فعل الشريك الثاني فإذا كان كذلك فهو ممكن غير عسير ثم لا قصاص على واحد منهما وهذا إن سلم فهو لعمرى قادح في الجمع وقد صح فيه منع كما يعرف الفقهاء
1269 - والوجه الثالث أن الطرف مما يقبل التبعيض فيصور الخصم أن القطع الواقع على صورة الشركة يحمل على وقوعه على التبعيض إذا كان المجني عليه قابلا للتبعيض وهذا زلل فإن إمكان تصوير ما يسقط القصاص لا يدرؤه إذا لم يكن وكان بدله ما يشابه الأشتراك في الروح فلو توجهت هذه الجهات وبعد القول في الأصل بعض البعد كان ذلك دون المرتبة الأولى المستندة إلى العلم ( والقطع ) فهذا واضح جدا ومن حكم وضوحه أنه لا يثبت له معارض إذ لو قدر له معارض لكان ناشئا من تقدير شبهة توجب المحافظة على حكمة العصمة في حق الجاني ومآخذ الشبهات ما يشير إليه المعاذير ولا عذر للجاني وإن حاول الخصم تسبيب المعارضه في جهه أن واحدا لم يقطع اليد بطل ذلك عليه بالنفس ولو رجع وزعم أن القصاص على الشركاء على خلاف القياس كان ذلك روم اعتراض وقد أوضحنا بطلانه
والمخيلة العظمى في ظهور قياس المعنى امتناع المعارضة المحوجة إلى الترجيح فإن عارضوا القصاص في الطرف بقطع السرقة وشبهوا الاشتراك في قطع اليد بالاشتراك في سرقة نصاب لم يكن ما جاءوا به ماخوذا من قاعدة القصاص ونحن لم نعن بامتناع المعارضة انسداد المسالك البعيدة وإنما المعارضة الحاقة ما ينشأ من وضع الكلام ولا شك ( في ) أن قطع السرقة بعيد في أصله وتفصيله عن القصاص فإن الأصل المعتبر في قطع السرقة أخذ مال غير تافه على الاختفاء من حرز مثله والغرض بشرع القطع ردع السارق عن تناول المال والنفيس وفي النفس مزجرة عن ركوب الأخطار بسبب التافه وهذا المعنى يوجب نفي القطع عن الشركاء فإن كل واحد منهم على حصته من المسروق وذلك المقدار لا حاجة إلى إثبات رادع عنه وهذا لا يتحقق في القصاص أصلا ( فيما نحن فيه ) فإن معتمده الصون وتمهيد العصمة وليس في قاعدته انقسام إلى التافه والنفيس وخروج كل جان عن الاستقلال بكل الجناية لا يسقط القصاص عنه إذ لو قيل به لخرم قاعدة الصون على أنه محقق في النفس كما سبق
1270 - وإذا لم تكن المعارضة على حقها في منشأ الاجتهاد لم ينتظم فرق ورجع كلام المحقق إلى تباين القاعدتين وتباعدهما وإيضاح ابتناء كل واحد منهما على أصل غير معتبر في القاعدة الأخرى وهذا لا ينتظم فرقا ويدخل في أقسام فساد الوضع ووجب نسبه الخصم إلى البعد
عن مأخذ الكلام والاكتفاء بتلفيق لفظي عرى عن التحقيق
1271 - والذي يحقق ذلك ان من سرق نصابا واحدا في دفعات ( وهو في كل دفعة ) يهتك حرزا لم يستوجب قطعا ولو قطع جان يدا واحدة بدفعات استوجب القصاص عند الإبانة
1272 - ويتعلق بالكلام في هذا القسم أمر يتعين الاعتناء به وهو مزلة مالك ونحن نقول فيه إذا ثبت ارتباط حكم في أصل بحكمة مرعية فيجوز الاستمساك بعينها في إلحاق الفرع بالمنصوص عليه في عين الحكم المنصوص ولا يجوز تقدير حكم آخر متعلق بحكمة تناظر الحكمة ( الثابتة ) ( في الأصل المنصوص عليه فإن هذا يجر إلى الخروج عن الضبط ويفضي في مساقه إلى الإنحلال ( فإن الحكمة الثانية ) لو قدرت لدعت إلى ثالثه ثم لا وقوف إلى منتهى مضبوط
1273 - وبيان ذلك بالمثال أن المال صين بشرع القطع إبقاء له على ملاكه وزجرا للمتشوفين إليه ولو فرض تعرض للحرم بمراودات دون الوقاع فأدناها يبر على أقدار الأموال ولا يسوغ نقل القطع إليه وكذلك القول في أمثاله
1274 - وعند ذلك انتشر مذهب مالك وكاد يفارق ضوابط الشريعة واعتصم بألفاظ وعيدية معرضة للتأويل منقولة عن جلة الصحابة وقد يدنو المأخذ جدا فيزل الفطن إذا لم يكن متهذبا دربا بقواعد الاجتهاد
1275 - وبيان ذلك ( بالمثال ) أنا إذا قلنا قطع السرقة مشروع لصون الأموال
وزجر السارقين فألزمنا عليه ما إذا نقب الواحد الحرز وسرق الآخر فلا قطع على وواحد منهما وهذا يخرم الحكمه المرعية في ( صون ) الأموال فإن ( التسبب ) إلى ما ذكرناه يسير ممكن وهذا على الحقيقة غامض من جهة أن الشخص الواحد إذا نقب وسرق فقد أخرج النقب الحرز عن حقيقته ولم يقدم على المال إلا وهو في مضيعة ثم لم نقل لا قطع عليه من حيث انفصل هتك الحرز عن أخذ المال وكان من الممكن أن يختص القطع بمن يتسلق على الحرز ويأخذ المال من غير هتك وهذا مجال ضيق ويتجه فيه خلاف العلماء وحق الأصولي ألا يعرج على مذهب ولا يلتزم الذب عن مسلك واحد ولكن يجري مسلك القطع غير ملتفت إلى مذاهب الفقهاء في الفروع
1276 - ثم القول الممكن في السارق والناقب أن صون الأموال وإن اثبت فهو مخصوص بالسرقة من الحرز وليس ( إلينا ) وضع الحكم والمصالح ولكن إذا وضعها الشارع اتبعناها
1277 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن المعلل إذا قيد تعليله ( الفقهي ) المعنوي يقيد غير مخيل لا على معنى الاستقلال ولا على الانضمام إلى أركان العلة المركبة فذلك التقييد مطرح في مسلك المعاني وطرق الإخالة إلا فيما نصفه وهو تقييد الكلام بحكم معين تعلق بحكمة معلومة وهذا كذكرنا صون المال عن السراق فإذا ألزمنا صون الحرم لم نلتفت إليه ولم نلتزم فرقا بين الصورتين فإن ذلك إنما ينشأ من رعاية المصلحة مع الإنحصار على الحكم المنصوص عليه
ثم ما ذكرناه ليس مختصا بحكم واحد بل هو مطرد في جمله المصالح الشرعية فكل مصلحة مختصة ( بحكمها ) وغاية القايس ضم جزئي في المنصوص عليه إلى القاعدة الكلية
1278 - فإن قيل إذا قسم الطرف في حق الاشتراك على النفس فهل تنسبون إلى المحذور الذي ذكرتموه من مجاوزة موارد المصالح قلنا إن كان ذلك مجاوزة فلا قياس إذا وينبغي أن يجتنب المنتهي إلى هذا المقام طرفي القياس والانحلال فنقول ساوى الطرف النفس في الأصل وهو القصاص ثم ثبت الصون في النفس بإجراء ( القصاص ) على المشتركين فرمنا إلحاق الطرف المساوي للنفس ( في أصل القصاص بالنفس ) في فرع اقتضاه أصل القصاص وهذا غاية المطلوب في ارتباط الفرع بالأصل واقتضاء الأصل الفرع
1279 - وإذا بلغ الكلام هذا المبلغ فليعلم الناظر أن اسد المذاهب في القول بالقياس الحق واجتناب الخروج عن الضبط مذهب الشافعي ولست أرى في مسالكه حيدا إلا في أصل واحد لم يحط بسر مذهبه ( فيه فهمي ) وهو إثباته قتل تارك الصلاة فإنه لم يرد فيه نص وتقريب القول فيه يتضمن حكمه لم يثبت أصلها وهذا مشكل جدا فإن طمع ( من ) قصر فكره بتشبيه المأمور به بالمنهي عنه كان ذلك بعيدا غير لائق بمذهب هذا الإمام وهذا القدر كاف في التنبيه وقد نجز غرضنا في القول في المرتبة الثانية من قياس المعنى
المرتبة الثالثة
1280 - نمثلها في القول بالمكره على القتل وفيه ثلاثة مذاهب أحدها أن القصاص على المكره دون المكره والثاني وهو قياس مبين أن القصاص على المكره دون المكره وهو مذهب زفر والثالث أن القصاص يجب عليهما وهو مذهب الشافعي
1281 - وأبعد المذاهب عن الصواب إيجاب القصاص على المكره دون المكره المحمول فإنه زعم أن فعل منقول إلى مكره وكأنه آلة له وهذا ساقط مع المصير إلى ( أن ) النهي عن القتل متجه مستمر على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع إياه ومن ضرورة كون الشي آلة انقطاع التكليف عنه فتخصيص المكره بإلزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له
1282 - ( ووجه ) مذهب زفر في القياس لائح وهو أنه راى المحمول ممنوعا ولم ير أثر الإكراه في سلب المنع والنهي والمباشرة تغلب على السبب إذا استقلت فارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع
1283 - والذي يختاره أصحاب الشافعي ينبني على ما ذكرناه لزفر في استقلال المباشرة وهذا يقتضي إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره ( بالكلية ) فإنه موقع القتل غالبا والإكراه من
أسباب تقرير الضمان فيبعد تعطيله وإخراجه من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلها منزلة الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل صاحبه من جهة أنه يخرجه عن كونه قتلا ثم لم يسقط الأشتراك القصاص عنهما فإذا لم يصر أحد إلى إسقاط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف ما صدر عن كل واحد منهما أما ضعف المباشر فمن جهة كون المباشرة ( محمولا ) وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا واستمرار التكليف يوهي أثر الإكراه فليس أحدهما بالضعف أولى من الثاني فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما وقد ثبت أن القصاص أولى بأحدهما وقد ثبت أن القصاص لا يسقط عنهما وقرب تنزيلهما منزلة الشريكين
1284 - ولكن القول في هذا ينحط عن القول في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد منهما عن قياس بابه ثم يتعارض مأخذ مذهب زفر وأبي حنيفة والترجيح لزفر
1285 - ومأخذ إيجاب القصاص عليهما يتشوف إلى جمع نكتتى المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص ( عنهما جميعا وإيجاب القصاص ) على شهود الزنا إذا رجعوا بعد إقامة الرجم أظهر من إيجاب القصاص على المكره الحامل من جهة أن الإكراه يضعف ببقاء التكليف على المحمول ولا خيرة للقاضي بعد إقامة البينة وليس ممنوعا منع المكره المحمول بل النية أوجبت على القاضي إقامة الرجم ولذلك لم يختلف قول الشافعي في وجوب القصاص عليهم اختلافه في المكره أما الشهود على القصاص إذا رجعوا فإن فرض رجوع المدعي واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على الشهود فالطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في استمرار المدعي على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته ولو ذهبنا نستقصي هذه الأمثلة لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه
1286 - ولم يوجب الشافعي عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم بقول المدعي وهو في مسلك القياس يداني إيجاب القصاص بأيمان المدعي في مسلك لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى القياس ذلك
1287 - وهذا أوان تغليب حق المدعي عليه من طريق القياس قال الشافعي إذا كان القصاص لحقن الدم والهلاك لا يستدرك وإذا رجع الغرض إلى حقن دم الباقين فرعاية حقن دم الجاني وهو غير مسفوك أولى واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط فيها ظهور اللوث عند الحاكم وهو غير مشروط في اللعان غير أن المعتمد في القسامة الخبر الصريح والمعتمد في اللعان يستند إلى شيئين أحدهما أنا لا نجد بدا من الخروج عن قانون الحجج فالاستمساك بظاهر القرآن العظيم أقرب وحمل العذاب على الجنس بعيد وبالجملة نفي إيجاب الحد وتغليب حقن دمها أقرب عندي إلى مأخذ الشريعة
1288 - ومن عجيب الأمر أن قول الشافعي اختلف في القصاص هل يجب بأيمان القسامة ولم يختلف في وجوب الحد على المرأة مع تعرض الحد الواجب ( لله تعالى ) فيه للسقوط بما لا يسقط القصاص به وسبب هذا أن خبر القسامة ورد في ( الغرم ) وآية اللعان اشتملت على ذكر العذاب وهذا وغيره في أمثال ما ذكرناه من قواعد الشريعة ونحن نختتمه بأمر بديع يقضي الفطن ( العجب ) منه
1289 - فالمرتبة الأولى العلمية تكاد أن لا تكون جزءا من المنصوص عليه والمرتبة الاخيرة نعنى اللعان والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نرسمها مرتبة في القياس من حيث لم نرها مستقلة فهذه جملة كافية في التنبيه على المراتب وضابطها القريب من القاعدة والبعيد منها مراتب قياس الشبه
1290 - ونحن نذكر الآن مراتب قياس الشبه فنقول مجال هذا القسم ( عند ) انحسام المعنى المخيل المناسب فإذا لم نجد معنى للحكم الثابت أو صادفنا ما يخيل غير صحيح على السبر فالوجه رد النظر إلى التشبيه
1291 - ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد انقسام ( مراتب ) قياس المعنى فالواقع في المرتبة الأولى هو الذي يسميه الأصوليون في معنى الأصل ولا يريدون به المعنى المخيل وهذا إذا وقع معلوما كان في المرتبة العاليه وقد سبق ( القول في ) الاختلاف فيها هل يسمى قياسا أو هو ملتقى من الألفاظ والنص
1292 - والوجه عندنا في ذلك أن يقال إن كان في اللفظ إشعار به من طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم
عليه فهذا وإن كان في ذكر فالعبودية مستعملة في الأمة وقد يقال للأمة عبدة وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق به فهو قياس مفض إلى العلم وهو قاعدة الأشباه بعد ونظيره إلحاق الشافعي عرق الكلب بلعانة في التعبد برعاية العدد والتعفير
1293 - فإذا زال العلم وكان الشبه يفيد غلبة الظن ولا يفسد لدى السبر والعرض على الأصول ( فهو مقبول ) وإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود عند المحققين والأشباه بين طرفي قياس المعنى والطرد
1294 - والذي لاح من كلام الشافعي أن أقرب الرتب من المراتب المعلومة إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا بحيث لا يخرج عن الرتبة إلحاق ( الرز بالحنطة والذرة بالشعير ثم يلي هذه الرتبة ) الوضوء بالتيمم في الأفتقار إلى النية ولهذا قال الشافعي ( مستبعدا ) طهارتان فكيف تفترقان
1295 - ونحن نقول في ذلك كل شبة يعتضد بمعنى كلي فهو بالغ في فنه وذلك إذا كان المعنى لا يستقل مخيلا مناسا وبيان ذلك فيما وقع المثل به أن التيمم ليس فيه غرض ناجز وقد بينا من كلى الشريعة أنها ( مبنية ) على الاستصلاح فإذا لم يلح صلاح ناجز يظهر من المآخذ الكلية ربط ما لا غرض فيه ناجز بصلاح في العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب فإذا وجدنا طهرا كذلك متفقا عليه ثم كان المختلف فيه غير معقول المعنى ظهر فيه وقع التشبيه في الأفتقار إلى النية المحصلة غرض العقبى
1296 - فليتخذ الناظر هذا معتبرا في الرتبه الأولى من الأشباه المظنونة ولم يبلغ
مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهرين في أحكام وشرائط وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ووزن طريقة الأشباه عندنا فإن مسالك الإخالات باطلة فلا يبقى إلا التشبيه ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى المقصود من المنصوص عليه وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار القوت لمكان الملح وسقط اعتبار ( التقدير ) لجريانه في الجنسين والجنس على وتيرة واحدة ولاح النظر إلى المقصود مع الاعتراف بأنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول من المظنونات ولولا ما ثبت عندنا في الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا إليه لإجماع القياسين وجدنا إتباع المقصود أقرب مسلك ولهذا وقع في المرتبة الثانية
1297 - فإن قيل هل ترون الشبه الخلقي في غير مجانسة ومماثلة معتبرا قلنا لا إلا أن نشير إلى ان اعتبار الخلقي أصل الشريعة كما ثبت ذلك في جزاء الصيد وقد ثبت قريب منه في الحيوانات المشكلة في الحل والحرمة وما ذكره أبو حنيفة في ( اعتبار الإنطراق ) والانطباع في الجواهر المعدنية في الزكاة طرد عندنا
1298 - ومن أبواب الشبه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا وهو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة فالذي يقتضيه القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات والذي
يقتضيه الشبه اعتباره بالحر فإن قيل هذا ايضا في الشبه الخلقي وقد أنكرتموه قلنا ليس الأمر كذلك فإن العبد يفرض قتله على الجهة التي يفرض فيها قتل الحر إذ قد يظن على بعد أن سبب التعاون في الحمل في الديات ما يقع ( من ) الخطأ بالقتل بين أصحاب الأسلحة وهذا يتفق في الحر والعبد على جهة واحدة
1299 - ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبيد بالسبب الذي يقدر ( به ) أطراف الأحرار فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير واعتبار ما ينتقص من القيمة نظرا إلى المملوكات سيما على رأي تقديره قيمه العبيد وتنزيلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها وهذا مذهب ابن سريج والظاهر من مذهب الشافعي أنها تقدر ومعتمده الشبه
1300 - فإن قيل فما الوجه في المثالين قلنا الوجه في مسألة التقدير مذهب الشافعي فإن الشارع أثبت ( للحر ) بدلا حتى لا يحبط إذا قتل خطأ ثم قاسموا أطرافه بجملة بمعان لا تنتهي أفهام المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن ألا ( تتقدر ) أروش أطراف الحر فإنا ألفينا في جراح الأحرار حكومات غير مقدرة فلئن اقتضى شرف الحر تقدير دينه فهذا لا يطرد في أطرافه فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد في العبد كطرف الحر في الحر فلا التفات إلى خروج قيمة العبد عن التقدير
1301 - فإن قيل ( فقدروا ) أطراف البهائم قلنا لم يتحقق فيها أنها تقع موقع اطراف الأحرار في الأحرار فهذا الشبه أولى من المعنى الكلي من جهة أنه أجلى وأليق بالغرض واميز للمقصود هذا والمضمون من الحر والعبد الدمية
1302 - أما القول في تحمل العقل والقيمة فالأظهر عندنا التمسك بالمعنى لعبد تحمل العاقلة العقول عن مدارك العقول وقد يظن أن العبيد لا يخالفون الأحرار في تعاطيهم الأسلحة وإن ذكر فيهم ذلك فقد يتعدى إلى الدواب في تجاول الفرسان فكان تقدير أروش أطراف الأحرار معللا بمعان اعتقدناه ولم ندرك حقيقتها وضرب العقل ( يشبه ) تحكم المالك على المملوكين ( فالاحزم ) أن ( لا ) يضطرب فيها ( بالخطى ) الوساع
1303 - ومما يعده الفطن قريبا مما نحن فيه إلحاق القليل من الدية بالكثير في الضرب على العاقلة ونحن نرى ذلك المسلك الأعلى من الشبه من جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جاز في القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هو مبينا على الإجحاف بالمحمول عنه فإن الدية محمولة على الموسرين فكأن الضرب ثبت في الشرع مسترسلا ( على الأقدار ) من غير اعتبار مقدار وهذا من جملة الامثلة التي ذكرناها تكاد أن تلتحق بالمرتبة المعلومة أو تدانيها
1304 - فهذه قواعد الاشباه المعتبرة ونحن نجدد فيها ترتيبا بعد ما وضحت
الأصول ونبني الغرض على سؤال وجواب وهو السر وكشف الغطاء
1305 - فإن قيل إن تعلق الناظر بوجه من الشبه فما وجه تقريره إذا نوقش فيه فإن قال المشبه ما ذكرته يغلب على الظن فقال له المعترض ليس كذلك فما سبيل درئه وكيف الجواب عن سؤاله ولا شك أن غلبة الظن لا تحصل إلا مستندة إلى شبه يقتضيها ولا بد من ذكره وبه يتميز الشبه عن الطرد وكل شبه يقتضي الظن فلا بد أن تنتظم عبارة وعربة عنه ثم أن تأتي وانتظم ذلك سالما عن القوادح فهو معنى إذا فترجع الأشباه الى معان خفية ويبطل تقسيم الأقيسة إلى المعنوي والشبهى
1306 - قلنا هذا السؤال بحث عن لباب الفصل وحقيقته فلا يتصور استقلال ( شبه ) دون ما ذكره السائل ولكن سبيل القول فيه أن الشبه يستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث ينبه ( عليه ) أحدهما الأمثلة وجريانها على مقتضى الشبه وهذا كإلحاقنا اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه ضرب حصة آحاد الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف فيخرج ( مما ) ذكرناه وأمثاله أن ضرب العقل لا ينتهي إلى موقف في قلة ( ولا كثرة ) وليس هذا معنى مخيلا ( مناسبا ) وإنما هو متلقى من أصل الوضع بالمسلك الذي ذكرناه فهذا إذا ظهر قليلا التحق ( بالقسم ) الذي يسمى قياسا في معنى
الأصل كما سنذكره في آخر هذا الفصل فهذا وجه
1307 - والوجه الثاني وهو الذي يدور عليه معظم الأشباه إن ثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا أن الشارع قدر أرش يد الحر بنصف الدية لنسبة لها مخصوصة إلى الجملة لا يضبطها والإصبع دونها في ( الغناء ) وهذا لا شك فيه ولكنا إذا أردنا أن نطلع عليه وعلى الوجه الذي لأجله يقتضي التشطير لم يكن ذلك ممكنا وهذا يناظر علمنا بأن الشارع فرق بين التافه والنفيس من المسروق ثم قدر النفيس بدينار أو ربع دينار فالأصل معلوم ولا اطلاع على المعنى الذي يقتضي هذا المقدار ويناسبه فإذا تمهد ذلك وكان اعتبار يد العبد بيد الحر شبها فإنا نعلم أن غناء يد العبد من جملته كغناء يد الحر من جملته فهذا إذا يستند إلى معنى معتقد ( على الجملة ) من قصد الشارع ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه ومهما اتجه هذا النوع كان بالغا جدا مقدما على المعاني الكلية المناسبة
1308 - فأما الأمر الثالث الموعود فالتشبيه بالمقصود وهذا لا استقلال له إلا أن يضطر إلى التمسك بتقدير علم الحكم المنصوص عليه ومثال ذلك الأشياء الستة المنصوص عليها في الربا فلو هجم الناظر عليها ولم يتقدم عنده وجوب طلب علم لم يعثر على فقه قط ولا شبه فإن الفقه مناسب جار مطرد سليم على السبر والشبه متلقي من أمثلة أو مخيل معنى جملي والرأي لا يقضي بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم
وانحسم المعنى المسبور والجملي فلا وجه إلا أن يقال إذا لم يثبت الحكم لأعيان هذه الأشياء ثبت لمعانيها هي المقصودة منها
1309 - ثم ينتصب على ذلك شاهدان أحدهما من قبيل التخصيص وهو اختلاف الحكم باتحاد الجنس واختلافه والثاني عموم قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام ( إلا مثل بمثل ) فهذه معاقد الأشباه ثم لا حاجة إلى تكلف الميز بينها وبين الطرد
1310 - فإن قيل المعلوم الذي يسمى قياسا في معنى الأصل ما مستند العلم فيه قلنا اكتفى بعض الضعفة بادعاء العلم وانتهى إلى دعوى البديهة وزعم أن جاحده في حكم جاحد الضرورات ونحن نوضح الحق في ذلك ونقول كون العتق في العبد بمثابة كونه في الأمة والرق فيهما أيضا على وتيرة واحدة وهذا معلوم قطعا ولا يمتنع أن ينص الفصيح على واحد من الأمثال ويرغب عن التعلق بالألفاظ العامة ويجعل ما ذكره مثالا لحكم يؤسسه ( كالواحد ) منا إذا أراد أن يبين حكم البيع فقد يقول من باع ( ثوبا ) فقد زال ملكه عنه فيؤثر ضرب مثل لخفته عليه في مجارى الكلام وهذا أن ساغ لا استكراه فيه ولا يمتنع في تحكمات الشرع تخصيص سريان العتق بالعبد
لكن لو كان كذلك لتعين في حكم البيان التنصيص على التخصيص ( فإذا ) لم يجر ذلك انتظم من مجموعة القطع بثبوت القياس في معنى الأصل
1311 - ولو نص الشارع على موصوف وذكر فيه حكما تقتضيه تلك الصفة اقتضاء اختصاص فهذا النوع من التخصيص بتضمن نفي ما عدا المنصوص وهو المفهوم وقاعدته كقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة فأما لو قدر مقدر من الشارع ان يقول في عفر الغنم زكاة فهذا ليس في مرتبة المفهوم ولا يصلح ( أيضا ) لإجراء مثالا بخلاف العبد الذي يجرى مثالا في المملوكين فإذا لا يقول الشارع مثل هذا فإنه من التخصيص العرى عن الفائدة فليفهم الناظر هذه المنازل والترتيب بعد ذلك كله
1312 - فالمرتبة الأولى للمعلوم وقد بينا مأخذه
1313 - والمرتبة الثانية لما يتلقى من الأمثلة كإلحاق القليل من العقل ( في الضرب ) على العاقلة بالكثير فإن ذلك قريب جدا من الرتبة المعلومة
1314 - والمرتبة الثالثة ما يستند إلى معنى كلى لا تحيط الأفهام والعبارات بتفصيله كما ذكرناه في تقدير أروش الأطراف وافتقار طهارة الحدث إلى النية
1315 - وأنا أرى الطهارة تنحط في الرتبة عن تقدير الأروش فإن تقدير الأروش يستند إلى أغراض ناجزة نعتقد أصولها ونقصر عن درك تفصيلها وأمر الثواب خفي في الطهارة لا يتأتى فيه من الاطلاع ما يتأتى في مستند تقدير الأروش فلا بأس إذا لو قدر افتقار الطهاره إلى النية كرتبة متأخرة عن تقدير أروش أطراف العبيد وأما نصب المقاصد فمسترسل كما سبق تقديره في الربويات فهذا لا
يستقل بنفسه دون الإرهاق إلى نصب العلم وهو دون المرتبة الثالثة
1316 - ونحن نختم هذا الأصل بمسألة يتعارض فيها شبهان فنقول اختلف العلماء في أن العبد هل يملك ومأخذ الكلام من طريق التشبيه ما نصفه أما من يقول يملك فشبهه بالحر من جهة أن الحر فطن مؤثر مختار طلوب لما يصلحه دافع لما يضره لبيب فطن أريب والعبد في هذا كالحر فهذا شبه فطري غير عائد إلى ( الصورة ) وإنما راجع إلى المعاني التي بها يتهيأ الإنسان لمطالبة ومآربه
1317 - ومن منع كونه مالكا شبهه بالبهائم من حيث إنه مسلوب القصد والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول تمسك بالأمور الخلقية ومن منع الملك تمسك بمأخذ الأحكام فكان ما قاله أقرب فإن الرق حكم غير راجع إلى صفات حقيقية خلقية وحاصلة سقوط استبداد شخص وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم الملك الاستقلال ثم أقام الشارع المالك طالبا للمملوك فيما يسد حاجته ويكفي مؤنته والحاجة ( التي ) لا يتصور فيها الكفاية أثبتها الشارع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المستمتع في النكاح
1318 - فإن قيل السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان استغراق السيد إياه يمنعه من صفات المالكين فإذا ملكه المولى وجب أن يملك قلنا هذا يلزم الخصم في تصوير إلزام الملك ( له ) ثم التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا متحكما عليه فلم يجامعه التمليك كما لم يجامعه إلزام الملك
فإذا زال الرق عنه ملك حينئذ وإذا ثبت له حق ( الاستقلال ) بأن كاتبه فيتصور له ملك على ضعف على حسب ما يليق به فهذا المعتبر في النظر إلى ( أقرب ) الأشباه ( وأدنى المآخذ ) فيها وما تعلق به الأولون موجبة أن لا فرق لأن خلقه وصفاته كصفات الحر فإذا تصور كونه مملوكا سقط هذا الاعتبار وجلى الشرع حكمه
فصل 1319 - المرتبة الأولى من قياس المعنى هو النتيجة الأولى لما صح من معنى القاعدة ويناظرها في مأخذ الأشباه ما يقال إنه في معنى الأصل وما يستأخر من أقيسة المعاني عن رتبة العلم ويقع في أعلى مراتب الظنون كاعتبار الإطراف بالنفس يناظر من الأشباه ما ثبت بظواهر الأمثلة كاعتبار القليل من ضرب العقل على العاقلة بالكثير وما يبعد عن المرتبة الأولى في المعاني المظنونة يناظر ما يتعلق بتقدير الأروش في أطراف العبيد ثم ما يتعلق بالأمور المغيبة كتقدير الثواب في الطهارة وما ثبت معللا من جهة الشارع ولم يعقل وجه المناسبة فيه كقوله عليه السلام أينقص الرطب إذا يبس يناظر ما يضطر إليه من اعتبار المقاصد في الربويات
1320 - فأما رتبة العلم فلا يترجح فيها مطلوب على مطلوب فإن العلوم لا تفاوت فيها وإن انحططنا عن رتبة العلم فآخر مراتب المعاني مقدم على أعلى مراتب
الأشباه إلا أن يسترسل المعنى ويختص بالشبه كاعتبار نقصان القيمة في أطراف العبيد أخذا من المعاني الكلية مع التقدير أخذا من التشبيه بالأحرار وهذا لا يتطرق إليه قطع إذ لو كان مقطوعا به لما عد من خفيات المظنونات وإلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل ( على العاقلة ) أظهر من المعنى الكلي فيه فإن من تمسك بالمعنى الكلي ينقطع طرد كلامه بمحل الوفاق في ضرب العقل على العاقلة ويضطر أن يقف موقف الطالبين ( ويقول ) الأصل تخصيص الغرم بالجاني فأقيموا دليلا في محل النزاع وإذا طالب ذكرنا مسلكا من ضرب الأمثلة فكان في حكم شبه لا يعارضه معنى غير أن الشبه ينبغي أن يكون على نهاية القوة في محاولة النقل من أصل كلي إلى الإلحاق بما هو عن قياس المعنى ولا مزيد في القوة على ما ذكرناه والمسألة مع ذلك مظنونة وليس هذا كتقدير ارش طرف العبد فإن من يوجب ما ينقص بطرد معنى فلا ينتقض عليه فيبغي اعتبار صاحب الشبه بالأخص فلينظر الناظر إلى جولان الحقائق في هذة المضايق
فصل ( في مراتب قياس الدلالة ) 1321 - أحدث المتأخرون لقبا لباب من ابواب القياس وراموا بذلك التلقيب تمييز فن كثير في مسالك الأحكام جار على منهاج واحد وهو عند المحققين إذا صح يلتحق بقياس الشبه من وجه وقد يتأتى في بعض أمثلته وجه يلحقه بقياس
المعنى واللقب الذي تواضعوا عليه هو قياس الدلالة وهو كقول الشافعي في الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم
1322 - والذي يقتضيه الترتيب تصدير الفصل بأن المستدل بهذا النوع يتوجه عليه سؤال المطالبة لا محالة كما ذكرنا قريبا منه ( فيما تمحض ) شبها فللمعترض أن يقول وأي مناسبة بين الطلاق والظهار ولم يجب أن يتساويا ثبوتا ونفيا مع العلم بانقسام الأحكام إلى التساوي والتفاوت فإن لم يبحث المطالب ويبدي وجها كان مقصرا
1323 - ثم ينقدح في الخروج عن المطالبة مسلكان نجريهما ثم ننهي كل واحد منهما النهاية المطلوبة ثم مسلك الحق وراء الاستقصاء المقول والمنقول فإن قال المطالب الطلاق مقتضاه التحريم والحل والكفر لا ينافي ذلك ومحل التصرف قابل له والظهار فيما ذكرته كالطلاق ( ولا ينافي الكفر المنكر والزور كما لا ينافي التصرف في الطلاق ) وإذا سلك هذا المسلك لم يبعد أن يكون ما ذكره جامعا بين الطلاق والظهار معنويا وقد يتمكن المطالب من منع يضاهي ما ذكرناه على ما يورده الفقهاء فهذا النوع إذا سلك صاحب هذا المسلك يلتحق بأقيسة المعاني
1324 - والمسلك الثاني في الخروج عن المطالبة ألا يخوض المطالب في
التزام طريق المعاني المستقلة الجامعة من طريق المعنى وهذا القسم ينقسم قسمين أحدهما أن يرد الأمر إلى طريق الاطراد والانعكاس وقد ذكرنا أن الطرد والعكس معتبر معتمد وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا فليقل المطالب اقترن الطلاق ( بالظهار ) ثبوتا ونفيا واقترنا في الصبي ومن لا يعقل انتفاء فكذلك القول في اقترانهما ثبوتا وانتفاء باختلاف صفات المحل في البقاء في النكاح والبينونة عنه فهذا مسلك مرضى
1325 - والقسم الثاني من هذا القسم أن يذكر المطالب بين ما استشهد به وبين المتنازع فيه شبها غير مخيل ولكنه يستقل في طريق الشبه فهذا مضطرب النظار فيما ذكرناه
1326 - وأنا أقول إذا تحقق وجوب الخروج عن المطالبة فلا يستقل بتمهيد قياس الدلالة إلا فطن دراك فإن المعلل لو سلك طريق ( إبداء ) المعنى فقد بين أن ما اعتمده وسكت عليه لم يكن كلاما ( تاما ) فإن إبداء المناسب إذا كان محتوما ولم يكن في الكلام الأول ذلك فسكوت المطالب بالدليل على ( ما جاء ) به يتضمن اعتقاد كونه مسقلا فإذا بين أن ( التمام ) في الجواب عن المطالبة فقد لاح أن ما أبداه مفتاح الحجة ومبدؤها وقد سكت عنه سكوت من يراه تاما مستقلا فهذ وجه
1327 - والوجه الآخر أنه جعل أصل قياسه المسلم فيما تمثلنا به
والآن إذا ابدى معنى جامعا بين الطلاق والظهار فقد صار الطلاق أصلا للظهار وخرج الكلام الأول عن نظمه وترتيبه وإن ابدى وجها من الشبه بين الطلاق والظهار فقد التزم الجمع تشبيها وهو تتمة الكلام ( كما ) قدمناه في المعنى المستقل وينقدح فيه تغيير الترتيب والنظم كما تقدم فإذا لا بد من مناسبة فقهية أو شبهية وكلاهما ينافي المسلك الأول الذي اعتمده
1328 - وإذا انتبه الناظر ( للغائلة ) التي ذكرناها فلا يظن أنها تشبيب برد هذا النوع من القياس فإنا من القائلين به ولكن الوجه في تمهيد هذا النوع ودفع المطالبة شيئان أحدهما الطرد والعكس كما تقدم وفيه التغليب المطلوب وتقرير نظر الدلالة الأولى ( من ) غير مسيس حاجة إلى إتمام او تعيين أصل بتقدير الصرف عن الاعتبار بالمسلم ويرد الأمر إلى اعتبار الظهار بالطلاق ومن اللطائف الجدلية في ذلك أن مطلق الشرط يشعر بالعكس فلا يكون من صاغ ( العلة ) على صيغة الشرط بإبداء الطرد والعكس مظهرا لما لم يتضمنه الكلام الأول والصحيح عندنا التحاق ذلك بالأشباه
1329 - ومن تتمة القول فيه إن قياس المعنى إذا انعكس كان العكس فيه ترجيحا فإذا لم يلتزم المعلل المعنى وتمسك بالاطراد والانعكاس كان متمسكه
شبها وكان قريبا من القسم الثاني الذي يستند إلى ضرب الأمثلة كما قدمناه في إلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل على العاقلة
1330 - ومما ينقدح في هذا النوع أن يقول المتمسك به الأصل المسلم وظهاره والفرع الكافر وظهاره والجامع بينهما شبه الطلاق فنفوذ الطلاق من المسلم والذمي شبه جامع بينهما في الظهار فغلب على الظن وهذا وإن كان يستمر شبها فكل شبه يعتضد كما ذكرت في تقاسيم الأشباه فإن تمكن الجامع من إبداء معتضد الشبه كما تقدم مفصلا كان حسنا وإن أراد الاجتزاء بالطرد والعكس عاد إلى المسلك الأول والأحزم في قياس الدلالة الاكتفاء بالطرد والعكس فهذا النوع من القياس يجري في الأغلب من المسائل التي يكون المعنى ممكنا فيها ولكن يطول الكلام في تقريره وتتسع العبارة في محاولة ضم نشره والمناظر المتحذق يبغي ضم أطراف الكلام وإرهاق الخصم بالمسلك الأقرب والسبيل المهذب إلى مضيق التحقيق في إيراد فرق يعسر إيراده على شرطه فلو تكلف المناظر الجمع بين الطلاق والظهار بمعنى مناسب لكثرت المطالبات في وجوه المناسبات ولم يأمن الجامع من التعرض للنقض ما لم يتناه في التصون والتحرز فيؤثر والحالة هذه جعل الطلاق وصفا ويربط الظهار به حكما ويتخذ المسلم اصلا ويجعل معتمده في إثبات الطريقة جريانها طردا وعكسا
1331 - ومما يتعين الإحاطة به في هذا الصنف ( أن ) المعنى المخيل حكم مناسب لحكم أو صورة تنبئ العبارة عنها وتقع مناسبة وقد يكون الجامع نفي حكم أو نفي مع ظهور المناسبة والسلامة عن المبطلات فإذا ظهرت الإخالة واتضحت السلامة قيل معنى مخيل مناسب جامع مستند إلى أصل
فلو قال المطالب وراء ذلك فلم زعمت أن الحكم الذي قدر وصفا يقتضي الحكم الذي فيه النزاع كان الجواب الكافئ فيه إيضاح الإخالة مع استمرار السلامة فإن اراد المطالب إبداء فرق بين الحكم المجعول وصفا وبين محل النزاع لم ينتظم فيه كلام على صورة الفرق ونظمه
1332 - نعم قد يبدى كلاما يقدح في المناسبة ويتعين على المستدل قطع ما دونه واستقلال مناط الحكم المتنازع فيه بمناسبة وإخالة وبيان ذلك بالمثال أنا إذا طلبنا مسلك المعنى وقلنا كلمة تتضمن التحريم فيثبت حكمها في حق الذمي كالطلاق وكان معنى التحريم مع قبول المرأة له واتصاف الكافر بالاستمكان منه مناسبا للنفوذ فإذا قال الخصم التحريم ينقسم إلى ما يقع تصرفا ( محضا ) في مورد النكاح غير متعلق بحق الله تعالى وإلى ما يتعلق بحق الله تعالى ( وتحريم الظهار يتعلق بحق الله تعالى ) والاستحقاق في في مورد النكاح قائم لم ينخرم والكافر لا يخاطب بما يقع حقا لله تعالى فقصد المعترض بهذا يرجع إلى ( توهين ) الإخالة في التحريم المطلق فيتعين الإجابة بطريقها وليس ما جاء به فرقا على نظمه المعروف
1333 - فإذا قلنا في هذه المسألة من صح طلاقه صح ظهاره فنحن رابطون نفوذا بنفوذ ولكن في تصرفين مختلفين يتأتى جعل أحدهما ( أصلا والآخر ) فرعا ونصب الجامع بينهما وإذا أمكن الجمع تصور الفرق ولا يمكن الجمع بين حكم مناسب لشيء وبين ذلك الشيء فلما أمكن الفرق ظهرت المطالبة بالجمع وتميز
هذا الصنف عما يتمحض فقها مناسا فكان القسم الذي فيه الكلام بين قياس المعنى من جهة مناسبة تصرف تصرفا على الجملة مع الجريان على السلامة وبين مسالك الأشباه من جهة تطرق المطالبة بالجمع وعدم التزام المعلل له والذي ( يحيك في الصدر ) أن المعنى إذا أمكن فهو ( أولى ) ونصبه في مراتب الأقيسة أعلى والتمسك بالادنى مع الاستمكان من الأعلى لا ( يتجه ) في طرق الفتوى والنظر تدوار على تمهيد طرق الاجتهاد التي هي مستند الفتوى فسبيل الجواب عنه أن نقول
1334 - إذا اشتملت المسألة المظنونة على مراتب من الأدلة متفاوتة فلا حرج على المستدل لو تمسك بأدنى المراتب وإنما يظهر تفاوت الرتبتين إذا تناقض موجب الحجتين فيقدم موجب الأعلى على الأدنى فأما إذا توافقت شهادات المراتب المختلفة على مقتضى الوفاق فلا معاب على من يتمسك بالأدنى وكذلك إذا اشتملت المسألة على خبر نص وقياس ولا يمتنع التمسك بالقياس الموافق الخبر وإنما يمتنع التمسك بقياس يخالفه نعم إذا كان المطلوب في المسألة علما فلا وجه للتمسك بقياس لا يقتضي العلم
1335 - وحاصل القول في هذا الفن إذا انتهى الكلام إليه يحصره أقسام أحدها يطلب العلم وما كان كذلك فالمطلوب منه ما يفضي إلى العلم ولا حكم لتفاوت الرتب بعد استواء ( الجميع ) في الأفضاء إلى العلم
1336 - والقسم الثاني ما تتفاوت الرتب فيه ومتعلق جميعها ظنون والرأي عندنا تسويغ التمسك بالجميع على ما يراه المستدل ومنع بعض الجدليين التمسك بالأدنى مع التمكن من الأعلى وهذا فيه نظر إذا تميزت المراتب بالقواطع وإن كانت كل مرتبة في نفسها لا تقتضى علما فأما إذا كان تفاوت الرتب مظنونا فلا يمتنع وفاقا من التمسك بأدنى آحاد الرتب
1337 - ومما يتعلق باستكمال الكلام في هذا الفصل أنه قد يتعلق ثبوت بنفي أو نفي بثبوت على مضاهاه قياس الدلالة وليس من قياس الدلالة في شئ وهو كقول القائل من لا يملك التصرف ( يل ) الوالى التصرف منه أو من يستقل بالتصرف لا يلي الوالى منه ما يستقل به فهذا إذا سلم يلتحق بأقيسة المعاني فإنه مناسب مخيل ولا ينتظم بين النفي والإثبات فرق
1338 - وقياس الدلالة ( يتميز ) عن محض قياس المعنى بهذا فإنه لا يمتنع رسم ( فرق ) بين وصف قياس الدلالة والحكم المنوط به ويمتنع ذلك بين نفي التصرف وإثبات الولاية وإثبات التصرف ومنع نفي الولاية
1339 - فهذا منتهى القول على قدر ما يليق بهذا المجموع في قياس الدلالة فإذا نجز قدر الحاجة في مراتب الأقيسة حان أن نرجع بناء الكلام إلى الترجيح فنقول
فصل ( الترجيح في الأقيسة ) 1340 - إنما يجري الترجيح في أقيسة لا يعترض عليها إلا من وجهة التعارض ثم الأصل المعتبر في الترجيح ( الخصيص ) بالأقيسة ( ينشأ ) من تفاوت الرتب مع اجتماع الجميع في الظن فأما اقيسة المعاني فمستندها قاعدة معنوية معلومة ولا ترجيح في معلوم فإذا انحط المعنى عن العلوم فقد تقدم ترتيب مسالك الظنون والأرجح فالأرجح أقربها إلى المعنى المعلوم وقد مضى ترتيبها في القرب والبعد
1341 - ومما يتعلق بالترجيح في المعاني النظر فيما يثبتها وقد تقدم القول مثبتات المعاني ورجع الحاصل إلى مسلكين أحدهما إيماء الشارع والثاني الإخالة ( مع السلامة وما يثبته الشرع مقدم على الإخالة ) التي لا دلالة في لفظ الشارع عليها والسبب فيه أن ما أشار الشارع إلى التعليل به أمن المستنبط من الوقوع في متسع المصالح التي لا يحصرها ضبط الشريعة وهذا أمر عظيم في الاجتهاد وهو محذور الحذاق من أهل النظر ثم الإخالة على الرتب المقدمة
1342 - ومن الأسرار في ذلك أن الاستدلال يصح القول به وإن لم يستند إلى أصل حكمه متفق عليه على الرأي الظاهر فلو عارض استدلال لا اصل له
معنى مستندا إلى أصل فالمستند إلى الأصل مرجح على الاستدلال والسبب فيه انحصاره في حكم ثابت شرعا متفق عليه والمستدل على خطر الخروج عن الضبط
1343 - فهذه قواعد الترجيح في أقيسة المعاني ثم أدناها مرجح على أعلى الأشباه المظنونة كما سبق في ذلك قول بالغ
1344 - فإذا تعارض شبه خاص ومعنى عام كلي فقد قدمنا وجه الرأي فيه فلا نعيده
1345 - والاستدلال إذا عارضه شبه ( ومن ) ضرورة الشبه استناده إلى أصل فالذي ذهب إليه المحققون تقديم الشبه لمكان استناده إلى أصل وقدم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله تعالى الاستدلال على الشبه والقول في ذلك يتعلق بالظن عندنا فليعمل كل مجتهد على حسب ما يؤدي إليه إجتهاده
1346 - فهذه مجامع الأقوال في ترجيح الأقيسة لا يشذ عنها إلا أفراد مسائل اضطراب فيها الجدليون ونحن نرسمها مسألة مسألة وفي استيفائها استكمال القول في الترجيح مسائل ( تشذ عن القاعدة العامة للترجيح ) مسألة
1347 - إذا تعارضت علتان إحداهما منعكسة والأخرى غير منعكسة فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن الانعكاس من المرجحات المعتمدة
وهذا يتجه جدا على قولنا إن الانعكاس مع الاطراد دليل صحة العلة وقد قدمنا في حقيقة العكس قولا بالغا مغنيا عن الإعادة ونحن نذكر من اسراره مأخذا يستدعيه ويقتضيه أمر الترجيح فنقول
1348 - القياس الشبهى إذا اطرد وانعكس كان الانعكاس مخيلة معتمدة جدا فإن أقوى متعلقات الأشباه الأمثلة كما قدمنا ذكرها والاطراد والانعكاس فن الأمثلة المغلبة على الظن فإذا فرضنا تعارض شبهين انعكس أحدهما دون الثاني كان ذلك ترجيحا مقتضيا مزيد تغليب الظن لا يجحده في هذا المقام إلا غبي بمآخذ الأقيسة ومراتبها
1349 - وإن فرض الانعكاس في أقيسة المعاني فلا بد من ذكر تقسيم في ذلك منبه على سر العكس أولا ثم يعود الكلام إلى غرضنا من الترجيح فنقول رب معنى مخيل مناسب لا يشعر انتفاؤه لانتفاء الحكم في وضعه وربما يشعر انتفاؤه بانتفاء الحكم الذي اقتضاه الطرد وبيان ذلك بالمثال أنا قلنا في تحريم النبيذ مشتد مسكر فهذا يناسب التحريم من جهة إفضاء السكر إلى الاستجراء على محارم الله تعالى والاستهانة بأوامره وعدم الشدة لا يشعر بالتحليل
1350 - وإذا قلنا مستقل بالتصرف فلا يولى عليه كان الاستقلال مشعرا بنفي الولاية وعدم الاستقلال مشعر بإثبات الولاية فإذا تمثل النوعان في قياس المعنى بنينا عليه غرضنا وقلنا إن لم يكن المعنى بحيث يخيل عدمه عدم حكم الطرد وفرض مع ذلك انعكاسه فقد تجمعت فيه
الإخالة والشبه فإذا عارضه معنى غير منعكس ولم يكن في وضعه بحيث يشعر عدمه بعدم الحكم فالمنعكس مقدم عليه بطريق الترجيح إذا اجتمع فيه إخالة فقهية وقوة شبهية
1351 - فإن تعارض معنيان وأحدهما يشعر في الطرد والعكس نفيا وإثباتا والثاني يخيل من وجه الطرد ولا يخيل من جهة العكس فان انعكس المخيل ولم ينعكس ما لا يخيل فالمنعكس مرجح وسبب ترجيحه قوة الإخالة وإن لم ينعكس ما لا يخيل من جهة العكس بسبب علة أخرى خلفت العلة الزائلة فالوجه ترجيحها على العلة التي لا تخيل في العكس فإن عدم الانعكاس فيما يخيل من جهة الانعكاس محمول على ثبوت علة اخرى خلفت العلة الزائلة وقوة الإخالة لا تزول
1352 - وتحقيق هذا أنا قدرنا عند انتفاء العلة التي فيها الكلام انتفاء علة أخرى ( لانتفي ) الحكم لقوة الخالة ( وشدة ) الارتباط ( ومقتضى 9 اقتران الحكم والعلة وهذا المعنى لا يتحقق فيما لا يقتضي الإخالة في جهة العكس
1353 - فلو لم تنعكس علة مقتضاها الانعكاس لمكان علة اخرى ( خالفت ) وانعكست التي لا تخيل في جهة العكس فقد اختلف المحققون في ذلك فقدم مقدمون المنعكس لاجتماع قوة الإخالة في الطرد وقوة الشبه في العكس وذهب أخرون إلى تقديم العلة التي تخيل في جهة العكس لاختصاصها بقوة الإخالة
وأدنى مأخذ المعاني مقدم على أعلى مسالك الاشباه ولا يقدح في قوة الإخالة عدم الانعكاس إذا ثبتت علة تخلف العلة في الطرد
1354 - ومما يتم به الغرض في ذلك أن العلة إذا أخالت في العكس فالعلة المخالفة يجب أن تكون أقوى من ( إخالة ) العلة الأولى في العكس لا محالة
1355 - فإن امتنع الانعكاس لنص أو إجماع فهذا موضوع التوقف قال قائلون عدم الانعكاس مفسد للعلة من حيث إنه أثر في فقهه وإخالته فكان هذا كالنقض في الطرد وقال المحققون لا يبطل العلة فلها في الثبوت دلالة وعلة عدم الحكم عدم العلة أمكن الانعكاس فالإجماع ( قدح انتفاء الحكم ) في تقدير العدم علة والنقض يخرج وجود العلة عن كونه علة والقول في النقض طويل وقد سبق تفصيله فيما تقدم فهذا هو اللآئق بغرض الترجيح في فصل الانعكاس مسألة
1356 - وقد تقدم القول في العلة القاصرة المقتصرة على محل النص فإذا رأينا صحتها فلو فرضنا علة متعدية عن محل النص ففي ترجيحها على القاصرة خلاف
1357 - وحاصل ما قيل فيه ثلاثة مذاهب أحدها وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ترجيح القاصرة والثاني وهو المشهور ترجيح المتعدية
والثالث وهو اختيار القاضي أنه لا ترجح إحداهما على الأخرى بالقصور والتعدي
1358 - وأول ما يجب به الافتتاح تصوير المسألة فإن فرضنا علتين قاصرة ومتعدية في نص واحد فالقول في هذا ينبني على أن الحكم الواحد هل يعلل بأكثر من علة واحدة وهذا أصل قد سبق تمهيده فإن لم يمتنع اجتماعهما فلا معنى لترجيح إحدى العلتين على الأخرى ولكن الوجه القول بالعلتين والقاصرة والمتعدية متوافيتان في محل النص الواحد لا تناقض بينهما ولا تعارض فإن المتعدية مستعملة مقول بها وراء النص وإن لم نر اجتماع ( العلتين لحكم واحد فإذ ذاك ) ينقدح الكلام في ترجيح القاصرة على المتعدية
1359 - ( أما الجمهور ) من أرباب الأصول فذاهبون إلى ترجيح المتعدية ووجه قولهم أن العلل ( تعني 9 كفوائدها والفائدة المتعدية فإن النص يغنى عن القاصرة فكان التمسك بالمتعدية أولى ومن رجع القاصرة احتج بأنها متأيده بالنص وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان التمسك بها أولى
1360 - ووجه القاضي إن الفوائد بعد صحة العلل ( وصحة العلل ) ترتبط بما يصحهها مما يقتضي سلامتها عن المبطلات فإذا دل الدليل على الصحة
واستمرت دعوى السلامة فلا نظر وراء ذلك في النتائج والفوائد قلت أو كثرت وليس من الرأى الترجيح بحكم العلة وهو النتيجه والفائدة والترجيح الحقيقي إنما ينشأ من مثار الدليل على الصحة وفائدة العلة في مرتبة ما يدعى لها
1361 - وقول القاضي في المسلك الذي ذكره أوجه الأقوال في مقتضى الأصول وما رآه الجمهور من النظر إلى الفوائد متروك بما ذكرناه وما اعتبره الأستاذ في مطابقة النص لحكم العلة القاصرة غير معتبر لما نبهنا عليه من أن حق المرجح ألا ينظر إلى حكم العلة ولا يرجح به بل الترجيح بما يصحح به العله ويقتضى مزيد تغليب الظن فيه وما ذكره مرجح العلة القاصرة من الأمن ( لا وقع ) له فإنه راجع إلى استشعار ( خيفة ) لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد
1362 - والذي ( يبتغى ) وراء ما ذكرناه أن العلة المتعدية إذا صحت على السبر ولم يناف صحتها طارىء فقد وجدنا معنى على شرط الصحة ومقتضاه اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو مستند إلى أصل ثابت منشؤه من قاعدة شرعية فلست أدري ردها لمكان حكمة تسنح من الفكر منطبقة على محل النص فإن المعاني إذا اتصفت بالصفات التي ذكرناها من اجتماع الأمور المرعية والسلامة عن المبطلات والاستناد إلى منصوص عليه
فالأولون من الأئمة كانوا مسترسلين على العمل بها وليس ما يجرى في الفكر من العلة القاصرة مناقضا فلا وجه لترك المتعدية قطعا وإنما المتروك من قول من يرجح العلة المتعدية ( تعلقه ) بالفوائد ومصيره إلى أن العلة ( تعنى ) لثمرتها وفوائدها وهذا واه ضعيف فالوجه التعلق باسترسال المجمعين على العمل بالقياس كما ذكرناه وهذا إذا ضمه الناظر إلى ما حصلناه من القول في العلة القاصرة انتظم له فيه حقيقة المراد
1363 - ( وعندنا أن ) هذه المسألة غير ( واقعة في الشريعة وإنما هي مقدرة ) والشريعة عرية عن اتفاق وقوعها
1364 - فإن قيل قد علل أبو حنيفة رحمه الله تعالى الربا في النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك
1365 - قلنا الوزن على باطلة عند الشافعي والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضى صحتها لو انفردت
1366 - ومن تمام الكلام في ذلك أن العلة القاصرة لو صح القول بها إن كانت غير مخيلة في جهة العكس فلا معارضة ولا مناقضة ( والنقدية ) ليست مخيلة في جهة العكس فكيف يتوقع اقتضاؤها نفي الحكم في العكس وقد ذكرنا في مراتب الأقيسة أن علة الربا في الأشياء الستة واقعة آخرا في درجات الأشباه ولا يتسلط المستنبط عليها ( إلا ) بتقدير الإرهاق والاضطرار إلى استنباطها فلسنا نرى للمسألة الموضوعة جدوى ولا فائدة
1367 - فإن قال قائل لو استنبط ناظر علة في محل التحريم فصادف اجتهاده علة قاصرة ورأى محل النزاع عكسا لها واستنبط مستنبط آخر في محل تحليل مجمع عليه علة متعدية وصورة النزاع طردها فما القول والحالة هذه قلنا لا يتصور أن يعارض عكس طردا فإن الطرد في منزلة العلة والعكس يقع في حكم ( العضد ) للإخالة على طريق التبعية ولا يقابل ما هو أصل ما يقع فرعا في معرض التلويح وهذا على التحقيق لو قيل به مصير إلى معارضة العلة ترجيحا
1368 - فإذا لم يتصور في اجتماع العكس قاصرة ومتعدية على حكم التوافق ( نظرا ) إلى الترجيح ولم يتحقق تعارض بين قاصرة ومتعدية في أصلين مختلفين فإن القول يرجع إلى معارضة الطرد والعكس وهذا لا سبيل إليه
1369 - فإن قيل علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت العبد قاصرة وقد قدمتموها على العلة المتعدية لأبي حنيفة قلنا هذا ساقط من أوجه أحدها أن ما اعتمده أصحاب أبي حنيفة من تعليل الخيار باطل في نفسه فلا ينتهى القول فيه إلى مقام الترجيح ومنها أن الرأي الظاهر عندنا ألا يعلل خيار المعتقة ( تحت العبد ) كما حققنا في ( الأساليب ) ومنها أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج
حر فلا معنى للاستشهاد بهذه الصورة في ادعاء الوقوع والاستشهاد به
1370 - فإذا هذه المسألة تقديرية لا نراها واقعة وقد ( كنا ) ذكرنا أن اجتماع العلل للحكم الواحد ينساغ في نظر العقول ( ولكنه غير متفق وقوعا في الشرع ) فلا معنى لإعادة ما سبق فهذا منتهى المراد ( في ذلك ) ثم فرع الجدليون وراء هذا مسألتين نرسمهما وهما عريتان عن الفوائد مسألة
1371 - قال من يرجح العلة المتعدية إذا تعارضت علتان فروع إحداهما أكثر من ( فروع ) الأخرى ( وهما جميعا متعديتان ) فكثيرة الفروع منهما مقدمة على الأخرى وقد ذكرنا أن أصل الكلام في المتعدية والقاصرة غير واقع وإنما يتكلم المتكلم على التقدير فالقول في المتعديتين يجرى على ذلك النحو فليس في المتفق عندنا علتان على الوفاق لحكم واحد منصوص عليه ومجمع عليه وكل واحدة على شرط الصحة
1372 - فإن قدر المقدر فرضهما فلسنا نرى تعطيل العلة الكثيرة الفروع لمكان أخرى تساويها في بعض مقتضياتها فليس هذا ( إذا ) لو اتفق ( من ) مسالك الترجيح في شيء فلو فرضنا علتين متناقضتين في محل النزاع وأصلاهما مختلفان فلا يقع الترجيح بكثرة فروع إحداهما قطعا ومن خالف في ذلك لم نبال به وإنما تتخصص إحدى العلتين بما يقتضي تغليبا على الظن والترجيح عائد إلى تلويح ظني وهذا القدر كاف
مسألة
1373 - من اعتقد أن كثرة الفروع تقتضي ترجيحا رسم مسألة وتكلم فيها مجادلا بما يصفه والغرض ألا يعرى هذا المجموع عما ( قيل في ) أصول الترجيح قال هؤلاء إذا كثرت فروع علة وقلت فروع أخرى ولكن القليلة الفروع اعتضدت بنظائر لها تضاهي في عدتها فروع العلة الكثيرة ( الفروع ) كانت كثرة النظائر في معارضة كثرة الفروع
1374 - وبيان ذلك بالمثال أن الشافعي خصص لزوم الكفارة العظمى من جملة المفطرات بالوقاع ورأى إتيان المرأة في المأتى الأصل وفيه واقعة الأعرابي وعدى علته إلى إيلاج الحشفة في كل فرج
1375 - واعتبر أبو حنيفة في إيجاب الكفارة الفطر ( بمتنوع ) ( المفطرات ) فكانت فروعه أكثر ولكن للاختصاص بالوقاع نظائر كثيرة كالغسل والحد ووجوب المهر وتكميله والإحصان والتحليل فكانت هذه النظائر في الاختصاص مضاهية لكثرة الفروع في علة الخصم
1376 - وهذا قول عرى عن التحصيل في مساق كلام هذا القائل إلى ( أن نذكر ) حقيقة المسألة فإن النظائر التي ذكرناها ما نراها معللة فلا وجه للاعتضاد بها وإن تمسك متمسك بها في مسلك الأشباه ( فلا ) تعلق أيضا بها فإن ثبوت ( الأحكام بالوقاع ) على الاختصاص لا يغلب على الظن أن يختص بها كل حكم
ينقل فيه ولا يجري مجرى الأمثلة التي ذكرناها للرتبة العليا من أقيسة الأشباه ومن فهم ما تقدم تميز عنده ما نحن فيه عما سبق
1377 - وبالجملة إن تلك الأمثلة تجري في غير المطلوب إذ النظر في اعتبار القليل بالكثير في ضرب العقل اعتضد بالقليل في حق الشريك وكان ذلك ناشئا من عين المطلوب والضرب مسترسل لا توقف فيه فلا أصل إذا لما ذكر هذا الإنسان ثم إنما يستقيم ما ذكره لو كانت علة الخصم صحيحة دون تقدير المعارضة وليست كذلك ولو صحت لما عارضتها علة أخرى تساويها وتوافقها في بعض مقتضياتها وقد ينشأ من فرض هذه المسألة أصل في الترجيح فليتأمله الناظر
1378 - فأما مسلك أبي حنيفة فمردود من جهة التناقض المنقول عنه في مذهبه وإنما المذهب المطرد مذهب مالك في تعليقه الكفارة بكل فطر هاتك حرمة الصوم من غير مناقضة فإذا استنبط ذلك من محل النص وهو الوقاع واستنبطناه فلا نرى لترجيح ما يستنبطه وجها مع جريان ما اعتبره مالك وإن تعلقنا بالأشباه وادعينا أن الوطء يجب أن يكون على مزية اعتبارا ( بالنسك ) فهذا شبه على بعد في معارضة معنى الهتك ( وليس من الانصاف معارضة شبه على هذا النعت بمعنى جار في محل النزاع وإن لم نر تعليل الكفارة لم ينتفع بهذا ما لم نبطل معنى الهتك ) لمالك وبالجملة قوله في تعميم الكفارة متجه جدا والعلم عند الله وليس هذا من القول في قواعد الترجيح ولكن وضع المسألة على ما وصفناه
مسألة متعلقة ببقايا الكلام في هذا الفن
1379 - قال قائلون من أصحاب الشافعي رضي الله عنه إذا تعارضت علتان وإحداهما أكثر فروعا بيد أن الأخرى منطبقة على الأصل والفرع من غير تأويل والكثيرة الفروع تحتاج إلى تقدير ( تأويل ) في بعض مجاريها فهذا يغض من جريانها ويقدح في الترجيح بكثرة فروعها
1380 - وبيان ذلك أن إذا اعتبرنا في القرابة المقتضية للنفقة والعتق البعضية وهذا يجري في الوالدين والمولودين على انطباق واعتبر أبو حنيفة رضي الله عنه الرحم والمحرمية وفروع علته وإن كانت مركبة أكثر فإنها تتناول الأصول والفروع غير أن الرحم والمحرمية لا يجريان إلا على تأويل بين الذكرين والأنثيين وذلك بأن يقدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى وهذا ركيك من الكلام لا ينساغ مثله لمتشوف إلى تحصيل وذلك أن الرحم لا تأويل فيه وكذلك المحرمية ولكن لا يظهر التحريم لا لتقاعد العلة ولكن لعدم المحل
1381 - وليس من الرأي التعويل على مثل هذا بعدما قدمنا القول في كثرة الفروع وقلتها وقد انتهى الغرض في هذا الفن ونحن نأخذ بعده في رسم مسائل في سائر أغراض المرجحين إن شاء الله تعالى
( مسائل ) ( في أغراض المرجحين ) مسألة
1382 - ذهب ذاهبون إلى أن ما تجاذبه أصلان وتعارض في إلحاقه بأحدهما نظر النظار فمن تمكن من توفير شبهى الأصليين كان مسلكه مرجحا ومثلوا ذلك بالقول في يمين اللجاج والغضب فإنها بين النذر الذي يوجب الوفاء وبين اليمين التي توجب الكفارة فمن خير بين الوفاء والكفارة كان مسلكه مرجحا من جهة توفير شبهى الأصليين
1383 - وهذا مزيف عندنا من جهة أنه ترجيح مذهب لا ترجيح علة جارية على شرط الصحة وقد قدمنا في أول ( الكتاب ) أن المذاهب لا ترجح ( و ) مأخذ مسألة يمين اللجاج من ( الآثار عندنا ) وكل من سلك هذا المسلك فهو يزعمه ( يوفر ) شبهين من أصلين على إبعاد في الكلام وهو على القرب بقطعة عنهما جميعا وهو غافل عما يأتي وبيانه أن مقتضى النذر إلتزام الوفاء ( لا تجويزه ) ومقتضى اليمين التزام الكفارة والتخيير مباين للمقتضيين ووضوح ذلك مغن عن بسط القول فيه مسألة
1384 - إذا تعارضت علتان واختصت إحداهما بالاستناد إلى أصول ففي الترجيح بكثرة الأصول خلاف بين أهل الأصول فذهب بعضهم إلى أن ذلك يقتضي ترجيحا من جهة أنها في محل الشواهد
وكثرة الشهادات تغلب على الظن وهو المقصود بالترجيح واستشهد هؤلاء بكثرة الرواة في تعارض الخبرين
1385 - والرأي الحق عندنا يقتضي تفصيلا فإن كان المعنى الجامع واحدا وكان مستندا إلى أصول فلست أرى الترجيح بكثرة الأصول والحالة هذه فإن الدلالة على الحكم ( هي ) المعنى وإنما يذكر الذاكر الأصل استئناسا به وأمنا من الوقوع في متسع الظنون مع العلم بأن مسالكها مضبوطة في الشريعة وهذا يحصل بأصل واحد وليس عدد الأصول بمثابة عدد الرواة فإن التعويل في الأخبار على الثقة وظهورها في الظن وهذا يزداد بزيادة عدد الرواة ولو استمكن القايس من جوامع وكل جامع معنى مستقل مستند إلى أصل ولم يتمكن الخصم إلا من معنى واحد فلا شك أن من كثرة معاينة مع الاستواء في الرتب مقدم لكثرة الدلالات وهذا الآن يناظر كثرة الرواة ولكن إذا عارض معنى الخصم معنى أخر ثم أتى بمعان فهذا من باب ترجيح دليل بدليل وقد تقدم القول فيه وهو متعلق بلفظ ( بعدما وضح ) أن صاحب المعاني يقدم مذهبه
1386 - ومما يتصل بهذا الفصل أن الناظر في مسلك الأشباه قد يلقى صورة تضاهي كثرة الأصول والترجيح بها واقع ومثاله أن أحمد بن حنبل رحمه الله جوز المسح على العمامة تشبيها بالمسح على الخفين ومنعه الشافعي رحمه الله تشبيها بالوجه واليدين
فإذا ما يمنع المسح فيه أكثر وهذا يقوي من جهة أن الكلام في قربه واحدة تشتمل عليها رابطة فكثرة الأمثلة فيها تقرب من مآخذ الأشباه وليس هذا كأصول متبددة يجمعها معنى واحد فليفهم الناظر ما يرد عليه
1387 - فإن قيل إلحاق الرجل بالرأس أخص وأمس من جهة أن التخفيف يتطرق إليها قيل هذا باطل فإن ما ابتنى على التخفيف أشعر ابتناؤه عليه باكتفاء الشرع به حتى لا مزيد وهذا يعتضد بأمر واقع وهو تيسير مسح الرأس مع العمامة من غير احتياج إلى ( تنحيتها ) بخلاف القدم والخف ثم محل الأشباه في الرخص البعيدة عن مدارك المعاني الجزئية والكلية ضيق جدا والأصل اتباع الأصل مسألة
1388 - إذا تعارض قياسان ومع أحدهما ظاهر معرض للتأويل فالعلماء على مذاهب قال بعضهم إذا كان الظاهر بحيث يسوغ تأويله بالقياس الذي يعارضه فلا وقع له ولا ترجيح به والقياسان متعارضان وقال قائلون القياس الذي يعتضد بالظاهر مرجح وقال آخرون القياسان يتساقطان والتعلق بالظاهر
1389 - فأما من أسقط الظاهر فمذهبه مردود وذلك أن تأويل الظاهر إنما ينساغ إذا اعتضد بقياس غير معارض والمسألة مفروضة في تعارض القياسين وإذا بطل هذا المذهب فالمذهبان الآخران بعده متقاربان وحاصلهما يئول إلى تقديم المذهب الذي توافق عليه الظاهر والقياس
1390 - والعبارة السديدة ترجح القياس المعتضد بالظاهر فإن الظاهر لا يستقل دليلا مع قياس يصلح لإزالة الظاهر فإذا لم يستقل دليلا واعتضد به قياس أفاده ترجيحا وتلويحا ولا مرد على من أسقط القياسين وتمسك بالظاهر والأمر بعد بطلان المذهب الأول قريب مسألة
1391 - إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي فمن يقول مذهب الصحابي حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا يقتضى تقديم المذهب الذي تطابق عليه القياس ومذهب الصحابي ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أم لا وإذا كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابي فلا أثر له في الترجيح وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم
1392 - وإن اعتضد القياس بمذهب صحابي شهد له الشارع بمزية علم في ذلك الفن كقوله عليه السلام أفرضكم زيد فهذا على المذهب الظاهر يقتضى ترجيحا وإن كنا لا نرى قول الصحابي حجة وذلك لما في هذا التوافق من تغليب الظن مع المصير إلى أن مجرد قوله ليس بحجة
1393 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه قول زيد في الفرائض أرجح من قول معاذ وإن ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أعرفكم بالحلال والحرام معاذ وذلك أن شهادة الرسول عليه السلام لزيد أخص في الفرائض وأدل على اختصاصه بمزية الدرك فيها وكذلك مذهبه مع انضمام قياس أرجح من مذهب علي رضي الله عنه وإن قال الرسول عليه السلام أقضاكم علي وهذا أوضح وأبين مما قدمناه في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية النظر في القضاء تشير إلى التفطن لقطع الشجار وفصل الخصومة والتهدي إلى تمييز المبطل عن المحق والشهادة بمزية العلم في الحلال والحرام أوقع في مظان الاجتهاد والشهادة بمزية العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب
1394 - فإذا لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المراتب فالقول في تقليد من يقلد يتعلق بكتاب الفتوى وبيان المفتى والمستفتى وسنستقصي القول في مذاهب الصحابة
1395 - فإن قيل إذا اعتضد مذهب يقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
فما الرأي فيه وقد قال عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا هذا أعم عندنا من الشهادة لعلي بمزية العلم في القضاء فإنا نجوز أن الرسول عليه السلام أشار إلى الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء الطاعة فإذا انضم إلى المراتب في الشهادة للصحابة رضي الله عنهم مرتبة رابعة فأعلاها وأولاها في التعلق أخصها وتليها الشهادة لمعاذ وتليها الشهادة لعلي رضي الله عنه ثم يلي ما ذكرناه الشهادة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
1396 - ثم قال الشافعي قول على في الأقضية كقول زيد في الفرائض وقول معاذ في التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض مسألة
1397 - إذا تعارضت علتان وإحداهما مستندة إلى أصل مجمع عليه ( أو إلى نص ) والأخرى ليست كذلك فالمستندة إلى الإجماع أو إلى محل النص مرجحة وبيان ذلك بالمثال أن أبا حنيفة رحمه الله إذا أوجب الكفارة في الطعام وقاسه على الوقاع فعلته مستندة إلى محل الإجماع والنص ونحن إذا أبقينا الكفارة واستنبطنا القياس من ( بلع ) الحصاة لم يكن مستند ( قياسنا ) مجمعا عليه وهو ( أظهر ) ما يعتني به في الترجيح
ولكن لا ينتهي القول مع أبي حنيفة إلى الترجيح فإن ما استنبطه باطل وإنما يقع الترجيح وراء الاستقلال نعم مصادمة مالك عسرة ( فإنه ) لا يناقض ولا يوجد معه أصل به مبالاة
1398 - ومن هذا القبيل الذي ذكرناه أن أبا حنيفة إذا استنبط علة في عتق الأمة تحت العبد وعداها إلى الأمة المعتقة تحت الحر فعلته إن صحت مستندة إلى محل النص فإن وجدنا محلا مجمعا عليه في نفي الخيار واستندنا إليه علة في عتق الأمة تحت الحر تفاوتت العلتان
1399 - وهذا تقدير ذكرناه تمثيلا وإلا فعله أبي حنيفة باطلة في تلك المسألة والصحيح عندي قصور العلة رأسا على خيار المعتقة تحت العبد كما ذكرنا في ( الأساليب ) فليتنبه الناظر لهذا الأصل العظيم في الترجيح وليكن على بال منه مسألة
1400 - إذا تقابلت علتان إحداهما ذات وصف واحد والأخرى ذات وصفين فصاعدا فذهب بعض الجدلين إلى تقدم التي هي ذات وصف واحد وعللوا بأمرين أحدهما أن ذات الوصف الواحد تكثر فروعها وفوائدها والآخر أن الاجتهاد يقل فيه وإذا قل الاجتهاد قل الخطر
1401 - وهذا المسلك باطل عند المحققين فأما كثرة الفروع فقد سبق القول فيه ثم إطلاق هذا القول لا وجه له فرب علة
ذات وصف لا تكثر فروعها وربما تكون قاصرة لا تعدو محل النص فإن فرض فارض ازدحام علتين على أصل واحد ( و ) لم تكونا قاصرتين فإذ ذاك ذات الوصفين أقل فروعا ويعود الكلام إلى تعليل حكم بعلتين
1402 - ونحن نقول ( و ) قد انتهى الكلام إلى هذا الحد من يتمسك بذات الوصفين لا يخلو إما أن يقول لا تستقل العلة بالوصف الواحد فعليه إبانة بطلانها ولا يكون هذا الكلام في محل الترجيح وإما أن يقول تستقل العلة بالوصف الواحد فلا معنى إذا لما يريده ولا يتعلق هذا بالترجيح
1403 - وهذا نمثله بقولين للشافعي في علة الربا مذهبه في الجديد أن العلة الطعم في الأشياء الأربعة وضم في القديم التقدير إلى الطعم فإن كان يرى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا تعين بيان فساد الاقتصار وإن كان يرى ذلك مسوغا فليس التقدير وصفا في العلة قطعا ولكن إن ذكره ذاكر فغايته أن يكون الكلام في التقدير أظهر منه دونه ويكون هذا بمنزلة من يتخذ صورة من صور الخلاف ويرى الكلام فيها أقرب فالقول بالتقديرين جميعا خارج عن محل الترجيح وإنما أجرينا هذا مثالا وإلا فلا ريب في أن الشافعي رأى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا
1404 - وأما ما ذكره من تقديم ذات الوصف من ( قلة ) الاجتهاد فقول
ركيك فإن ( النظر ) في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الخطر واستشعار الخوف والذي يحقق ذلك أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إن لم ينظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين والمقتصرين على طريق من الاجتهاد وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بها فقد كثر إجتهاده وتعرض للغرر ولكن أدى اجتهاده إلى النفي فإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها وكل ذلك يفسد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد واستشعار الخوف وتبين أن اقتحام الخطر حتم على كل مجتهد مسألة
1405 - إذا تضمنت إحدى العلتين نفيا والأخرى إثباتا فقد صار بعض الناس إلى تقديم العلة المثبة وهذا قول من لا يثبت فيما يأتي به فإن الترجيح لا ينشأ من النفي والإثبات فربما يكون الإثبات أغلب في مسالك الظنون وربما يكون الأمر على ( الظن في ) العكس فليتبع المتبع طريق التغليب على الظن مع الانحصار في مسالك الشريعةغيرمعرج على نفي أو إثبات
1406 - ويتصل بهذه المسألة أن إحدى العلتين إذا انطبقت على أصل مستقر
في الشرع وتضمنت الأخرى النفل عنه فهذا مقام النظر فقد قال قائلون النافلة أولى لاشتمالها على الزيادة واستشهدوا بخبرين أحدهما يثبت قول الشارع والآخر ينفيه فالمثبت أولى لاختصاصه بمزية درك يقدر ذهول النافي عنه وهذا قد فصلناه في ترجيح الأخبار
1407 - ولكن لو سلمنا الآن فليس مما نحن فيه بسبيل من جهة أن مأخذ الأخبار يستند إلى بصيرة النافلة ومرتبته في الدرك وقد يختص المثبت بها والعلل لا تؤخذ من هذا المأخذ ولكن مسالكها معلومه مسبورة فلتعرض ولينظر الناظر فيها ثم لا يقع الترجيح ( بحسبها ) نعم الوجه تقديم العلة المنطبقة علىالاصل المستقر فإنه في حكم الشهادة المؤكدة للعلة والنافلة تحتاج إلى مزيد وضوح يصادم قرار الأصل الذي يناقضها وإذا كان كذلك فالترجيح بمطابقة الأصل المستقر أولى ونقول بحسب ذلك إذا تقابلت علتان في الحكم بالحظر والتحليل ( فالتحليل في ) أصل الحظر علته أغلب فالمرجح العلة الحاظرة إلا أن تختص المحللة بمزية ظاهرة فهذا سر القول في هذا الفصل مسألة
1408 - إذا تقابلت علتان إحداهما حكم والأخرى أمر ثابت محسوس فلا يقع بينهما ترجيح
وذهب بعض الجدليين إلى أن المحسوس مرجح من جهة أن ثبوته معلوم قطعا وهذا الفن ساقط عندنا فإن الحكم عندنا ثابت قطعا وإن لم يكن ثبوته مقطوعا به والقول فيه يتعلق بما مهدناه في إستناد إحدى العلتين إلى مقطوع به وتردد الأخرى فأما إذا كان الحكم مجمعا عليه فلا وجه لما قاله هؤلاء مسألة
1409 - إذاكانت إحدى العلتين تعم الأحوال كعلة الشافعي في منع بيع الكلب فإنه اعتبر النجاسة وكانت العلة الأخرى تختص ببعض الاحوال كالانتفاع الذي تمسك به أبو حنيفة في جواز البيع وهذا لا يجري في الجرو فقد قال قائلون ( تقدم ) العلة التي تعم الأحوال وهذا عندنا عرى عن التحصيل فإن الجرو من جنس ما ينتفع به فلا ينتصب من مثل هذا شئ له وقع في مأخذ الدلة
1410 - ورأينا في مسألة الكلب أن التعلق بالنجاسة شبه لا يتأتى الوفاء بتقديرها معنى فقهيا ولكنه شبه مطرد وقول ابي حنيفة في الانتفاع معنى فقهي ولكنه منتقض والشبه المطرد مقدم على المخيل المنتقض فهذا وجه الكلام
1411 - والأمر المتبع في ترجيح الأقيسة ما مهدناه قبل الخوض في رسم المسائل ولكنا استوعبنا بهذه المسائل ما خاض فيه الخائضون وأوفينا على الاستيعاب وإن تركنا شيئا لم نتعرض له فقد مهدنا ما يرشد إلى ( قواعد ) القول فيه والله المستعان
باب ( النسخ ) 1412 - النسخ في وضع اللغة معناه الرفع ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخت الريح آثار القوم ومعناه في التواضع بين الأصوليين وحملة الشريعة مختلف فيه فأقرب عبارة منقولة عن الفقهاء أن النسخ هو اللفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تأخير عن مورده وقال القاضي أبو الطيب الدال على انتهاء أمد العبادة وهذا مزيف من جهة أن النسخ لا يختص بالعبادات والحدود تعني للجمع والاحتواء ولم يقيد كثير من الفقهاء الكلام بالتأخير وهذا يرد عليه الألفاظ المتضمنة للتأقيت على الأتساق والاتصال كقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فهذه الألفاظ ليست نسخا وفيها بيان أنتهاء الآماد وليس ما ذكرناه مذهبا ولكن أتى قوم من اختلال العبارة وقلة تصورهم عما يرد عليها
1413 - والمذهب الذي يعزى إلى الفقهاء ما ذكرناه عاما للأحكام مقيدا بشرط التأخير وحقيقته ترجع إلى أن النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ والمكلفون قبل وروده ( لا يقطعون بتناول ) اللفظ الأول جميع الأزمان على التنصيص وإنما يتناولها ظاهرا معرضا للتأويل
فالنسخ عندهم تخصيص اللفظ بالزمان كما أن ما يسمى تخصيصا هو إزالة ظاهر العموم في المسميات
1414 - وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق بأن النسخ تخصيص الزمان
1415 - وقالت المعتزلة النسخ هو اللفظ الدال على أن الحكم الذي دل عليه اللفظ الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لثبت مع التراخي ومذهبهم قريب من مذهب الفقهاء وقال القاضي أبو بكر بن الطيب النسخ رفع الحكم بعد ثبوته وهو لا يحتاج إلى التقييد بالتأخير فإن اللفظ الذي ينتظم لقصد التأقيت ليس فيه رفع حكم بعد ثبوته في قصد الشارع ومعتمد القاضي أن الحكم يثبت على التحقيق مؤبدا ثم يزول بعد ثبوته
1416 - ونحن نذكر لباب كلام القاضي في إتباع من يخالفه ثم نذكر بعد نجاز تفاوضهم ما هو الحق عندنا قال القاضي رحمه الله إذا كان النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ فلا فرق بينه وبين التخصيص وإزالة ظاهر اللفظ وهذا في التحقيق إنكار للنسخ وموافقة لجاحديه من اليهود وغلاة الروافض ويلزم منه تجويز النسخ بما يجوز به التخصيص حتى لا يمتنع نسخ نصوص القرآن والأخبار المتواترة بالخبر الذي ينقله الآحاد وبالقياس على رأى من يرى التخصيص به
1417 - وهذا الذي ذكره القاضي ( عندنا ) تشغيب غير مستند إلى مأخذ
من القطع فأما نسبته القوم إلى موافقة من ينكر النسخ فمردود من جهة أن منكريه لا يرون تخصيص الألفاظ في الزمان وما ذكره من إلزامهم تجويز النسخ بما يجوز التخصيص به كلام غير سديد فإن المعتمد في التخصيص ما ظهر من سيرة الصحابة رضي الله عنهم فلولا إزالتهم الظواهر لما أزلناها وقد رأيناهم لا يرون النسخ بما يرون التخسيس به فلا وقع إذا لهذا الكلام وإن تعلق متعلق باقتضاء النسخ الرفع في اللغة كان ذلك ركيكا من الكلام فإن مثل هذا الأصل العظيم لا يتلقى من اشتقاق اللغة مع اتساعها لتطرق التأويلات إليها
1418 - ثم إذا وضح ما ذكرناه فإن نفتتح بعده سؤالا موجها على القاضي ينكشف به وجه الحق فنقول إذا أثبت الله تعالى حكما على المكلفين فمعناه تعلق قوله الأزلى به في حق المكلفين فإذا علم ( الله ) أنه سيرد عليهم ما يسميه العلماء نسخا فخبره الأزلى يتعلق بتقديره وتحقيقه ويستحيل أن يتعلق خبره بثبوته على الأبد وارتفاعه على ( الجمع ) فإن ذلك لو قدر لكان ( تناقضا ) فلا معنى إذا لحقيقة الرفع بعد الثبوت وهذا ما لا جواب عنه ويتصل به أن اللفظ الأول الوارد على المكلفين إذا اقتضى تأبيدا فهو متضمن بشرط ألا يرد ما ينفي التأبيد وكان التقدير فيه أن المكلفين متعبدون بالحكم الأول أبدا بشرط ألا يرد عليهم ما ينافيه وهذا الشرط وإن لم يكن مصرحا به فهو ثابت قطعا
1419 - ولا يسوغ فهم الناسخ والمنسوخ مع تنزيه كلام الله تعالى عن التناقض
واعتقاد استحالة البداء عليه إلا على هذا الوجه فإذا الحكم الذي يرد النسخ عليه في علم الله تعالى غير مؤبد ولا لبس على الله تعالى وإنما حسب المتعبدون أمر بأن خلاف ما حسبوه ولو تحققوا لكانوا في استمرار الحكم الأول مجوزين للتقدير الذي ذكرناه فلا يكونون ( إذا ) قاطعين بالتأبيد في الحكم مع تجويزهم ورود ما ينافيه وعلمهم بأنه لا تبديل لقول الله عز و جل وموجب علمه فيرجع والحالة هذه النسخ إلى انعدام شرط دوام الحكم الأول والنسخ إظهار لذلك بعد أن كان مستورا عن المخاطبين ويرجع التقدير في الحكم الأول إلى أن الحكم ثابت بشرط ألا ينسخ فإذا ظهر النسخ لم يكن مقتضاه رفع ما تحقق ثبوته ولكن كان إبداء ( لانتفاء شرط ) الاستمرار والعبارة عن هذا المقصود أن النسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول
1420 - فإن قيل لا فرق بين هذا الاختيار وبين مذاهب الفقهاء قلنا لا فرق بين هذا وبين مذاهبهم في أن الحكم الثابت في علم الله وقوله تعالى لا يزول لما قدمناه ولكن في كلام الفقهاء ما يدل على أن اللفظ الدال على الحكم الأول ظاهر في الأزمان معرض للتأويل تعرض الألفاظ العامة للتخصيص وهذا فيه إيهام لا حاجة إليه فإن اللفظ العام في وضعه ليس نصا في استغراق المسميات وليس كذلك موجب اللفظ في تأبيد الحكم فإنا نجوز ورود النص في استغراق الزمان مطلقا مع ورود الناسخ بعده وليس ذلك من جهة تأويل اللفظ في وضعه وإنما هو من جهة ( تقدير ) شرط مسكوت عنه وهو متضمن كل أمر يجوز تقدير نسخه
1421 - فإن قيل لو قال الشارع هذا الحكم مؤبد عليكم لا ينسخه شئ
فهل يجوز تقدير النسخ فيه والحالة هذه قلنا إذا ثبت هذا المعنى نصا لم يجز ورود ( النسخ عليه ) فإن ( في ) تقدير ( ورود ) النسخ عليه تجويز الخلف ولهذا اعتقدنا تأبيد شريعتنا ولا يكاد يبقى خلاف معنوي مع الفقهاء وما ذكرناه إن كان تنبيها لم ( ينتبه ) إليه ( بحث ) الفقهاء ( و ) إشارة إلى تهذيب لفظ في التعرض لإظهار الشرط ( المقدر ) الذي لا بد منه فإذا رجع إلى أن الثابت في علم الله تعالى لا ينسخ التفتتت المذاهب إلى الوفاق فإن وافق القاضي ما ذكرناه فلا خلاف وإن أصر على أن النسخ يتضمن رفعا لم يكن لمذهبه وجه
1422 - والنسخ فيما اخترناه مثل ما نصفه فنقول إذا توجه الأمر الجازم على معين فهو مشروط بأن يبقى إمكانه فإذا اخترم تبينا لم يكن مأمورا فإن توجه الأمر مشروط بالإمكان والأمر وإن كان مطلقا فالإمكان مشروط ( فيه ) وإن لم يجر ذكره تصريحا وقد ذكرنا في ذلك قولا بليغا في كتاب الأوامر ونقلنا في ذلك لجاج القاضي وطريق تتبعه بالنقض مع بناء الأمر على ( امتناع ) تكليف ما لا يطاق
مسألة
1423 - منعت اليهود النسخ وتابعهم على منعه غلاة الروافض من التناسخية وغيرهم وافترق نفاته فرقتين فذهب أكثرهم إلى أن النسخ ممتنع عقلا فنقول لهؤلاء إن زعمتم أن وقوعه مستحيل وأن ( امتناعه من ) جهة استحالة وقوعه فقد جحدتم البديهة فإنا نعلم على اضطرار أن ذلك ممكن الوقوع
1424 - وإن جحدتم ذلك من جهة ان المأمور به الأول مستحسن فلو فرض النهي عنه لتضمن ( ذلك ) كونه مستقبحا وفي ذلك خروجه عن حقيقة الأولى فقد قدمنا في أول الكتاب أن الاستحسان والاستقباح لا يرجعان إلى حقائق الأفعال وصفات ذواتها ثم القول في النسخ غير مفروض فيما يزعم المخالفون أنه حسن لعينه أو قبيح لعينه وإنما تفرض مسائل النسخ في التفاصيل التي تتفق أرباب العقول على أن مداركها الشرع لا غير
1425 - وإن زعموا أن النسخ ممتنع من جهة إفضائه إلى البداء والقديم سبحانه وتعالى متعال عنه فلا حقيقة لهذا فإن البداء إن أريد به تبين ما لم يكن متبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ فإن الرب تعالى كان عالما في أزلة تفاصيل ما يقع فيما لا يزال ولئن كان يلزم من تجدد الإحكام البداء لزم من تجدد الحوادث إماتة وإحياء وإعاشة ( وإرداء ) ما ادعاه هؤلاء وليس الأمر كذلك
1426 - فإن ردوا الامتناع إلى ما يتعلق باستصلاح العباد واستفسادهم فهذا
غير مرضى عندنا في حكم الله تعالى ثم لا يمتنع في غيبه أن يكون الاستصلاح في تبديل الأحكام كلما فتر قوم في امتثال الأحكام أرسل الله تعالى إليهم مبتعثا جديدا بحكم جديد فلا وجه لادعاء الاستحالة من طريق العقل
1427 - وزعم زاعمون أن النسخ ممتنع من جهة السمة وادعى طوائف من اليهود أن موسى عليه السلام أنبأهم أن شريعته مؤبدة إلى قيام الساعة وزعم هؤلاء أن طريق معرفة ذلك من دينهم كطريق معرفتنا بذلك من ديننا
1428 - وهذا باطل من وجهين أحدهما أن الأمر لو كان كذلك لما قامت معجزة عيسى عليه السلام ومعجزة محمد صلى الله عليه و سلم بعده على نسخ ملة موسى فإن أنكروا قيام المعجزة رد الكلام معهم إلى أصل النبوات وكان سبيل إنكارهم معجزة من بعد موسى كسبيل إنكار من يجحد معجزة موسى
1429 - والوجه الثاني أن ما ادعوه من دينهم لو كان صريحا لأظهروه وباحوا به من عصر نبينا عليه السلام ولا تخذوا ذلك أقوى عصمهم ولو فعلوا ذلك لنقله الناقلون متواترا لأن الأمر الخطير لا يخفى وقوعه وتتوفر الدواعي على نقله فقد ثبت جواز النسخ عقلا وشرعا
1430 - ولو أردنا أن نبتدئ الدليل على جوازه فأقرب مسلك فيه التمسك
بمعجزة عيسى بعد موسى عليهما السلام ثم التمسك بالإجماع في تحريم الخمر بعد ثبوت تحليلها في صدر الشرع وهذا على من ينكر النسخ من اهل الملة ممن ينتمي إلى المسلمين ثم نقول لهؤلاء لا شك في مخالفة ( دين نبينا ) محمد صلى الله عليه و سلم دين موسى وعيسى عليهما السلام في معظم قواعد الشريعة فكيف السبيل إلى تصديق الأنبياء مع إنكار النسخ وهذا فيه أكمل مقنع مسألة مترجمة بالنسخ قبل الفعل
1431 - وهذه الترجمة فيها خلل من جهة أن كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سابق والغرض من هذه المسألة أنه إذا فرض ورود أمر بشئ فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به زمن يتسع لفعل المأمور به
1432 - فالذي ذهب إليه أهل الحق جواز ذلك وأطبقت المعتزلة على منعه وساعدهم على ذلك طوائف من الفقهاء
1433 - والدليل على تجويزه كالدليل على تجويز أصل النسخ فالوجه رد الكلام إلى التقاسيم السابقة في مسالك العقول التي يتلقى منها الجواز والاستحالة
1434 - فإذا قالوا النسخ يرجع إلى بيان مدة التكليف وليس رافعا لما ثبت في حكم الله تعالى ( ولو جوزنا النسخ في صورة الخلاف لكان ذلك رافعا للحكم لا محالة
قلنا ما ذكرناه من اختيارنا يجيب عن هذا فإنا نقول النسخ راجع إلى إظهار انتفاء لشرط بقاء الحكم فإن الحكم الموجه مشروط بألا ينسخ فإذا ثبت النسخ قبل انقضاء زمان يسع الفعل بان أنه لا حكم أصلا وهو من طريق التمثيل كزوال إمكان المكلف قبل استتمام الفعل
1435 - وإذا رد المعتزلة الكلام إلى استصلاح العباد لم يخف خلافنا لهم في أصل ذلك ثم لا يبعد في مجاري أحكام الغيب أن يكون الاستصلاح في أن يخاطبوا ويقبلوا ثم يرفع عنهم التكليف حتى يؤجروا على صدق نياتهم ويوفوا مالا يستقلون به في علم الله تعالى
1436 - ثم استدل أصحابنا في تجويز النسخ قبل الفعل بما جرى في قصة الخليل عليه السلام وابنه الذبيح الحق أو إسماعيل عليهم السلام ووجه التمسك أن الأمر بالذبح نسخ قبل وقوعه
1437 - فإن زعم المخالف أن المأمور به كان شدا وربطا وتلا للجبين كان ذلك باطلا من وجهين أحدهما أن الخليل عليه السلام اعتقد وجوب الذبح ( ولو لم يكن ) الأمر كذلك لما كان هذا بلاء عظيما كما أشعر به القرآن العظيم وهذا مقطوع به ويستحيل أن يكون معتقد النبي عليه السلام في الذي خوطب به خطا ثم الفداء دليل على ارتفاع الذبح بعد وقوعه الأمر ( به ) وقيام الفداء مقام ما كان المأمور به من الذبح
1438 - فإن ( تعلقوا ) بقوله تعالى قد صدقت الرؤيا
قيل لهم لم يقل قد حققت ( أوأ ) وقعت ما أمرت به بل قال صدقت وليس من شرط التصديق إيقاع ما يتعلق التصديق به
1439 - وقال بعض المخالفين وقع الذبح وجرت المدية وكانت تقطع ويلتحم ما انقطع وهذا بهت عظيم إذ لو كذلك لكان هذا أحق منقول وأظهر معجزة تتوفر الدواعي على نقلها ونص القرآن مع ما فيه من القيود والقرائن أصدق شاهد في ذلك فإنه قال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ولو كان ذبح لما وقع الاقتصار على ذكر التل للجبين دون وقوع المأمور به ثم ذكر الفداء بعد هذا مشعر بأن الذبح المأمور به لم يقع وأن الفداء قائم مقامه وهذا منتهى المثال في ذلك مسألة
1440 - قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد قوله في نسخ السنة بالكتاب والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع والمسألة دائرة على حرف واحد وهو أن الرسول لا يقول من تلقاء نفسه أمرا وإنما يبلغ ما يؤمر به كيف فرض الأمر ولا امتناع بأن يخبر الرسول الأمة مبلغا بأن حكم آية يذكرها قد رفع عنكم ويرجع حاصل القول في المسألة إلى أن النسخ لا يقع إلا بأمر الله تعالى ولا ناسخ إلا الله والأمر كيف فرض جهات تبليغه لله تعالى فهذا القدر فيه مقنع
1441 - فإن زعم الفقيه أن القرآن معجزة بخلاف السنة فليس المنسوخ نفس القرآن وإنما المنسوخ حكمه ولا إعجازه في الحكم ( و ) هذا عرى عن التحصيل
1442 - وإن تعلقوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فهذا خبر من الله تعالى وليس فيه ما يتضمن استحالة الوقوع وفيها الخلاف بل لا يمتنع تأويل الظواهر ولا وقع لها في القطعيات
1443 - ثم لا محمل لقول القائل لا تنسخ السنة بالقرآن فيقال لمن أنتحل هذا المذهب نزول القرآن بخلاف السنة ممتنع أم لا فإن منعه كان منكرا من القول وإن جوزه وزعم أن الرسول يسن عند نزوله سنة بخلاف السنة الأولى فيقع نسخ السنة بالسنة فهذا من الهزء واللعب والتلاعب بالحقائق وكيف يقدر وقوف النسخ وقد ورد القرآن وبالجملة إلى الله مصير الأمور ومنه النسخ والإثبات والرسول عليه السلام مبلغ في البين وهذا القدر كاف
مسألة مشهورة بالزيادة على النص
1444 - ومدارها على تحقيق تصويرها فإذا ورد نص في شئ ( واقتضى ) وروده الاقتصار على المنصوص عليه والحكم بالإجزاء فكان ذلك مقطوعا تلقيا من اللفظ والفحوى ولو فرضنا زيادة مشروطة لتضمن ثبوتها نسخ الإجزاء في المقدار الأول لا محالة ولا ( يسوغ ) تقدير الخلاف في ذلك
1445 - وإن اقتضى ما ورد به أولا الإجزاء وجواز الاقتصار اقتضاء ظاهرا وكان يتطرق التأويل إليه في منع الإجزاء فلو فرضت زيادة كانت في معنى إزالة الظاهر الأول ولم يتضمن نسخا اعتبارا بكل ظاهر يزال بحكم التأويل وهذا مما لا أرى فيه للخلاف مساغا
1446 - وإذا ثبت هذان الطرفان وهما حظ الأصول فالكلام بعدهما في ألفاظ ظنها الظانون نصوصا وهي ظواهر ثم القول في تفاصيلها مستقصى في ( الأساليب ) ولكنا نضرب للتمثيل صورا منها أن أصحاب أبي حنيفة ظنوا أن من أثبت النية في الطهارة فقد زاد على النص والكلام في ذلك مشهور وأقرب مسلك فيه أنا لا نبعد أن يكون غرض الآية مقصورا على بيان ( أفعال الطهارة ) وتقدير هذا لا يخالف نصا ولا فحوى وليس مع تجويز هذا لإدعاء النص وجه ومنها قوله تعالى في كفارة الظهار فتحرير رقبة قال أصحاب أبي حنيفة
زيادة الإيمان نسخ الأجزاء في الرقبة المطلقة وقد أوضحنا أن هذا تخصيص عموم ومنها قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان قالوا إثبات الشاهد واليمين يخالف هذا الحصر وهذا لا وجه له مع أن هذا الاحتياط مندوب إليه ونحن لا ننكر الندب ( إلى بينة ) كاملة مغنية عن الحلف ومنها قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا الآية مع استدلال الخصم بها في معنى التغريب وهذا من أظهر ما يتمسكون به وليس نصا فإنه لا يمتنع اشتمال الآية على بعض العقوبة وإحالة تمامها إلى بيان الرسول عليه السلام إذ ليس في الآية للرجم في حق المحصن ذكر فهذا بيان حقيقة القول في المسألة مسألة
1447 - أجمع العلماء على أن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون فالقرآن لا ينسخه الخبر المنقول آحادا والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به ووراء ما ذكرناه حقيقة هي كشف الغطاء ونحن نبينها بسؤال وجواب عنه فإن قيل ما المانع من انتصاب دليل قاطع على أن الخبر إذا نقله العدول يجب ترك حكم القرآن عند نقلهم قلنا هذا غير ممتنع لو ورد ولكن لم يرد ثم لو قدر وروده فالنسخ يتلقى من الدليل القاطع والخبر المنقول آحادا في حكم العلم الذي يقع العمل عنده لا به وقد تكرر
هذا الفن مرارا في مسائل هذا المجموع وهذا الذي ذكرناه في الخبر يطرد في القياس أيضا مسألة
1448 - يجوز نسخ رسم آية من القرآن في التلاوة مع بقاء حكمها ويجوز تقدير نسخ حكمها مع بقاء رسمها في آى القرآن وقد منع مانعون من المعتزلة الأمرين وصار إلى منع أحدهما دون الآخر ( على البدل ) صائرون وما ذكرنا في طريق إثبات الجواز في مسالك هذا الكتاب يجري على المنكر للجواز في هذه المسألة ثم الأمر بالتلاوة على نظم القرآن حكم غير القرآن فيؤل القول في الحقيقة إلى نسخ حكم فأما عين القرآن فلا يرد عليه نسخ ( أصلا ) مسألة
1449 - إذا ثبت النسخ ولم يبلغ خبره قوما فهل يثبت النسخ في حقهم قبل بلوغ الخبر إياهم هذا ما أختلف فيه الأصوليون وعندنا أن المسالة إذا حقق تصويرها لم يبق فيها خلاف فإن قيل على من لم يبلغه الخبر الأخذ بحكم الناسخ قبل العلم به فهذا ممتنع عندنا وهو من فن تكليف ما لا يطاق وهو مستحيل في تكليف الطلب وإن أريد بثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الخبر أن الخبر إذا بلغه لزمه تدارك أمر فيما مضى فهذا لا امتناع فيه وإذا ردت المذاهب المطلقة في النفي والإثبات إلى هذا التفصيل لم يبق
للخلاف تحصيل مسألة
1450 - لا يمتنع نسخ الحكم من غير بدل عنه ومنع ذلك جماهير المعتزلة وهذا تحكم منهم والدليل على جوازه ما تمهد في مسألة التجويز في أصل النسخ فلا معنى للإعادة بعد وضوح المقصد مسألة
1451 - إذا ورد نص واستنبط منه قياس ثم نسخ النص تبعه القياس المستنبط ( منه ) وقال أبو حنيفة لا يبطل القياس وإن نسخ النص وقد جرى له هذا المسلك في الأخذ من صوم ( يوم ) عاشوراء ( في ترك حكم التتبييت ) لما اعتقد وجوبه ثم ثبت نسخ وجوبه
1452 - والقول الواقع في ذلك عندنا أن المعنى المستنبط من الأصل الأول إذا نسخ أصله ( بقي ) معنى لا أصل له فإن صح استدلالا نظرنا فيه وإن لم يصح أبطلناه
فصل في الفرق بين النسخ والتخصيص 1453 - قال الفقهاء النسخ تخصيص في الأزمان دون المسميات المندرجة تحت ظاهر اللفظ والمعتزلة يقرب مأخذ كلامهم من مآخذ كلام الفقهاء فإن النسخ عند هؤلاء بيان
معنى اللفظ وأما القاضي فإنه يقول التخصيص بيان المراد باللفظ العام والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته والمختار عندنا أن التخصيص بيان المراد باللفظ والنسخ ( لا تعلق له بمقتضى اللفظ ) ولا يتضمن رفع حكم ثابت ولكنه إظهاره ما ينافي شرط استمرار الحكم الأول كما سبق تقريره ( والله أعلم وأحكم )
1454 - ثم الكتاب وقد نجز بحمد الله ( ومنة ) وحسن توفيقه الغرض من هذا المجموع في الأصول ونحن نرسم بعد ذلك مستعينين بالله تعالى كتابا جامعا في الاجتهاد والفتوى يقع مصنفا برأسه وتتمة لهذا المجموع إن شاء الله تعالى
خاتمة نسخة الشيخ الخضري والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله تم كتاب البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين على يد كاتبه لنفسه عبد الرحمن بن عبد الحي بن محمد الخضري الدمياطي الشافعي الشاذلي الأشعرى في يوم الخميس الثالث من شهر شوال سنة 1336 سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف صلى الله عليه و سلم صلاة لا تنقطع أبدا ولا تفنى أمدا ولا تنحصر عددا هذه خاتمة نسخة الشيخ الخضري التي في ملك نجله الشيخ أحمد كامل الخضري وهي غير الخاتمة الموجودة في نسخة دار الكتب المنقولة عن نسخة مصطفى مكاوي وهذا يشهد لما قلناه عند عرضنا لنسخ الكتاب ( انظر المقدمة )
ملحق البرهان الكتاب السادس كتاب الاجتهاد 1455 - ونحن نصدر هذا الكتاب بالكلام في تصويب المجتهدين ونردفه بمسألتين فيهما إنجاز الكتاب فإن معظم أحكام الاجتهاد تذكر في كتاب الفتاوى فنقول قد اضطرب الأصوليون في أن المجتهدين في المظنونات وأحكام الشريعة مصيبون على الإطلاق أم المصيب منهم واحد وهذا بعد إطباقهم على أن المصيب فيما اختلف فيه اجتهاد المجتهدين في المعقولات
وقواعد العقائد واحد والباقون على الزلل والخطأ
1456 - ولم يؤثر فيه خلاف إلا عن المعروف بالعنبري فإنه نقل عنه أن كل مجتهد مصيب في المعقولات والمظنونات جمعيا وهذا لا بد أن نتكلف له محملا ونبين له وجها ثم نزيفه إذ لا يظن بذي عقل أن يقول الاجتهادات الواقعة في أصل الملل والنحل كالاجتهادات الواقعة في حدث العالم وقدمه ووجود الصانع كالاجتهاد في المظنونات حتى يصوب فيه كل مجتهد ولو قال بهذا أحد لكان انسلالا عن الدين بالكلية وكيف يعتقد ذلك ( والعلم ) أحد الجانبين وما يعارضه جهل فكيف يعتقد الجاهل مصيبا
1457 - ولعل هذا القائل أراد بذلك أن النظر إذا انحط عن أصول الملل والنحل وانخرط في سلك الشريعة ثم تباينت الآراء وتفاوتت الأهواء كاختلافها في خلق الاعمال ونفيه وإرادة الكائنات وقدم القرآن ( وثباته الخاطئ ) فيه ببديع فمثل هذا يصوب فيه كل مجتهد
1458 - وغاية الإمكان في تقرير هذا المذهب أن يقال مطالب الخلق الوصول إلى الحق ولكن اكتفى منهم بعقدهم عليه ( مصممون ) فإذا خاضوا في طلب الحق ولم يحتمل عقلهم إلا ما اعتقدوه فيعذرون على اعتقادهم ولا يوبخون ولا نقول مع هذا إن معتقداتهم صحيحة أو يلزم من ذلك أن يكون التشبيه حقا ولا وجه له ولكن نقول يعذرون لأنهم تكلفوا ذلك ولم تحتمل عقولهم إلا ما اعتقدوه والذي يستند إليه نهاية هذا التقرير أن الأعراب في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يسألون والرسول عليه السلام يعلمهم تفاصيل أحكام الشريعة وكيفية الاستنجاء وتدوير الأحجار على الصفحات ولو كان البحث عن هذه الحقائق واجبا لكان ذلك أحرى بالتقديم ولكان يعلمهم ذلك
فاستبان بمجموع ذلك أن الخطأ في أمر لم يكلف بأصله سهل المدرك
1459 - وهذا مع ما أطنبنا فيه مزيف فإنا نقول لهم إن عنيتم بقولكم إن النظر في هذه الأبواب لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسلم وإن عنيتم به الاستغناء عنه في زماننا هذا فلا فإن البدع بعد قد ظهرت والفتن قد بدت ولا سبيل إلى تقرير المبتدعة على معتقداتهم ليفشوها ويدعوا الناس إليها وهذا لأنا نعلم على الاضطرار أن مبتدعا لو أظهر في عصر الصحابة رضي الله عنهم بدعة لكانوا يبالغون في تقريعه وتوبيخه فإذا لم يكن من التقريع بد جاز أن يكون البحث عنه مأمورا به
1460 - على أنا نقول هب أنه لم يؤمر به ولكنه يجوز أن يقال إذا خضت فيه فابغ درك اليقين ولا تقنع بما عداه وقولهم إن عقلهم لا يحتمل إلا ما اعتقدوه قلنا عقل من احتمل التنزيه كعقل من اعتقد التشبيه وإن عنيتم أنه لم يحتمل التنزيه فهو قائل للحق إذا ثم جاز أن ينتهض هذا عذرا لجاز أن يصوب اليهود على معنى بأنهم يعذرون لأنه لم يحتمل عقلهم إلا التهود وكذلك النصارى والمجوس فقد بطل هذا المذهب واستبان أن المصيب في المعقولات واحد
1461 - فأما المظنونات فقد اشتهر الخلاف فيه فصار القاضي وشيخنا أبو الحسن إلى تصويب المجتهدين وتابعهم الطبقة الغالبة ونقل القاضي عن الشافعي مثل مذهبة وقال لولا أن مذهبه هذا وإلا ما عددته من الأصولية
1462 - وصار الأستاذ أبو إسحاق إلى أن المصيب واحد ثم قال لمن يصوب المجتهدين هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي
1463 - ثم الذين قالوا بالتصويب انقسموا قسمين فصار المقتصدون منهم إلى أن الوقائع العرية عن النصوص والإجماع ليس لله فيها حكم معين ولكن على الناظر فيها الطلب والاجتهاد فإذا غلب على ظنه أمر فحكم الله عليه إتباع غلبة ظنه وموجبه
1464 - وأما الغلاة فإنهم قالوا لا مطلوب في الإجتهاد ولا اجتهاد فيفعل ما يختار أي الطرفين يشاء وعن هذا قال الأستاذ آخره زندقة إثبات الخيرة ورفع الحجة وتفويض الأمر إلى اختيار المريد وأوله سفسطة فإنه تحليل شئ محرم وعلى العكس
1465 - وأما الذين قالوا المصيب واحد ( فقد ) انقسموا أيضا انقسام الفرقة الأولى فصار المقتصدون إلى أن من أصاب منهما فله أجران والمخطئ معذور وأما الغلاة فإنهم قالوا المخطئ آثم معاقب معاتب ونحن نذكر ما لكل فريق مع التنبيه عليه ثم نذكر المختار عندنا
1466 - فأما الذين قالوا المصيب واحد فقد قالوا يستحيل أن يكون الشئ الواحد حلالا حراما فإنهما متناقضان متنافيان فقيل لهم الميتة حرام على غير المضطر وهي على المضطر حلال قالوا تفاوت الأحكام في التحليل والتحريم في حق شخصين قلنا ومن أوجب إتباع الظن يعتقد موجب الظنين صوابا وهما ظنان أيضا من شخصين
1467 - فإن قالوا إذا قلتم المصيب الواحد فالمستشفى يستفتى أيهما ( شاء )
قلنا وأنتم إذا صركم إلى أن المصيب كلاهما فالمستفتي يراجع منهما من فإن قلتم يراجع الأفضل الأورع قلنا كذلك إذا قلنا المصيب واحد فإن فرضوا مفتيه تحت مفت قال لها الزوج أنت بائن واعتقد الزوج أن لفظ البينونة لا يقطع الرجعة لكونها كناية واعتقدت الزوجة أن الكنايات تقطع الرجعة قالوا فإذا قلتم المصيب من المجتهدين واحد فكيف ينتظم الأمر بينهما ويفصل الأمر على أي رأي قلنا وأنتم إذا قلتم المصيب كلاهما فكيف تقطع الخصومة ولا سبيل إلى الجمع بينهما والصورة كما فرضتموها قال الأستاذ أبو إسحاق التحريم مقصود وله مسلك في الشريعة وللتحليل مسلك وله مطلب مقصود في الشريعة ومسلك التحريم والتحليل على المضادة والمناقضة فكيف نعتقد مسلكين متنافيين على حكم في محل متحد
1468 - وهذا فيه بعض النظر لأن من الخصوم من يعلو قبيله المطلوب بالنظر والاجتهاد ويثبت الخيرة فأنى يفند هذا الكلام معهم هذا منتهى ما يستدل به هؤلاء مع الإيجاز
1469 - وإما الذين صاروا إلى التصويب فمعتمدهم أنهم قالوا لا شك أن كل مجتهد يعمل بموجب اجتهاده هذا لا خلاف فيه بلا مرية وريب فالذي أدى اجتهاده إلى التحليل يلزمه العمل بموجب اجتهاده والذي أفضى اجتهاده إلى التحريم يحتم عليه الجريان على مقتضى اجتهاده ووجوب العمل بمقتضى الاجتهادين من أمر الله تعالى وإيجابه
1470 - فالمعنى بقولنا أنهما مصيبان أنهما فعلا ما كان الواجب عليهما في ذلك ويجوز أن يوجب البارئ تعالى حكما على شخص ويوجب على غيره خلافه فإن قيل بم تنكرون على من يزعم أن الواجب طلب الحق ودرك اليقين
وإحكام الآت الاجتهاد والتزام المستند في سبر الرشاد مفض إليه فأحد المجتهدين لما خالف مطلب التأني كان مقصرا في اجتهاده إذ لو أتم الاجتهاد على ما ينبغي لاتحد مطلب الاجتهادين قلنا أليس وجب عليه بإيجاب الله تعالى وأمره العمل بموجب الاجتهاد الذي هو مخطئ فيه فالواجب عليه ذلك فقد أصاب الحق وأما وهي الاجتهاد والتقصير في انقسامه فلا معنى له ولأن الاجتهاد ليس هو إلا طلبا فيه غلبة ظن وإذا أنتج غلبة الظن فقد أتم المقصود وإنهاء الاجتهاد نهايته مما يستحيل أن يخاطب به فإن غايته مجهولة ليست معلومة مفهومة مضبوطة فالأمر بإنهائه إلى نهاية غير مضبوطة تكليف ما لا يطاق وإذا لم يكلف ذلك فقد أدى من الاجتهاد ما أفاد غلبة الظن والشرع اوجب عليه العمل بموجبه فيبعد أن يوجب الشرع عليه عملا ثم يحكم بأنه مخطئ ( فيما ) أوجب الجريان عليه
1471 - فإذا حصلت الإحاطة بهذه الطرق فأقول المختار عندي أمر ملتفت وكأنه ملتقط من الطرفين وهو يجمع المحاسن وذلك أنا نقول للأستاذ إن عنيت بتخطئة أحدهما أنه لا يجب العمل بموجب غلبة الظن فهذا إنكار ما لا وجه لإنكاره إذ المجتهد إذا غلب على ظنه أمر فأمر الله عليه إتباع موجب ( ظنه ) ولا أن يناط لظنه غيره فيتأثر به وإن عنيت به أنه كلف المجتهد وراء غلبة الظن بتحصيل أمر آخر فلا وجه له أيضا إذ الامر والاجتهاد ينضبط به وغلبة الظن حاصل
1472 - وأما القاضي فنقول له إن عنيت بالتصويب وجوب العمل عليهما على وفق ظنهما فهذا مسلم وإن عنيت به رفع الاجتهاد وإثبات الخيرة واعتقاد التسوية بين التحليل والتحريم فهذا أمر يناقض وضع الشريعة على القطع وهذا معلوم على الضرورة
وبالبديهة وإن عنيت به أن لا حكم لله تعالى في الوقائع على التعيين فهذا أيضا جحد لأن الطلب لا ليستقل بنفسه ولا بد من مطلوب ويستحيل فرض طلب لا مطلوب له فإن الباحث عن كون زيد في الدار ( يقدر ) كونه فيه ويقدر أيضا خلافه ثم يطلب الوقوف على أحد الأمرين الذي هو الحقيقة ( فكذلك ) المجتهد إذا وقعت واقعة بطلب النصوص من الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم إن أعوز المطلوب فيه فينظر في قواعد الشريعة يحاول إلحاقا ( ويريد ) جمعا ويطلب شبها فيخل في نفسه وجود التشبه ثم يجتهد في طلب الأشبه فالمطلوب هو الأشبه
1473 - إذا ثبت هذا وتقرر أنه لا تخلوا واقعة عن حكم الله فنقول المجتهد مصيب من حيث عمل بموجب الظن بأمر الله مخطئ إذا لم ينه اجتهاده إلى منتهى حصل العثور على حكم الله في الواقعة وهذا هو المختار ونبين ذلك بمثالين أحدهما أن المجتهد إذا اجتهد في واقعة حكم الله فيها التحريم ثم اجتهاده أدرك التحريم فهو مصيب من كل وجه وإذا اجتهد الثاني فغلب ظنه الكراهة فعمل به فهو مصيب من حيث إنه وجب عليه العمل بالكراهة مخطئ من حيث إنه لم يدرك التحريم والمثال الثاني إذا اشتبه صوب القبلة فاجتهد أحدهما فأدرك صوب القبلة فاستقبله فهو مصيب في الجريان على مقتضى الاجتهاد عملا ومصيب من حيث إنه أدرك حكم الله فيه وإذا اجتهد الثاني وغلب على ظنه أن القبلة في صوب آخر فعليه أن يستقبله
وهو مصيب في استقباله مخطئ من حيث إنه لم يدرك صوب الكعبة الذي هو نهاية مطلوبه وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره فإن صوب القبلة واحد وهو متعين في علم الله لوجوب الاستقبال
1474 - فإن قال القاضي المجتهد لم يكلف طلب الكعبة وإنما أمر بتحصيل غلبة الظن إذ لو أمر بطلب صوب الكعبة فهو متعين وعليه أمارات يتصور الوقوف عليها على اليقين فلو كان كذلك لما ساغ له استقبال غيره بالاجتهاد وأما المظنونات فهي مشتبكة الطرق لا سبيل إلى حسم مواردها ومسالكها ولا يكون المظنون قط إلا مظنونا فلا يحصل له فيه علم فدل على أنه لا حكم لله فيه وعلى اليقين
1475 - قلنا نعم لا يتصور حصول علم فيه ولكن يتصور ظنه وللظنون مسالك وفوائد كما للعلوم وهو لم يكلف إلا تحصيل غلبة الظن في إنه ظفر بالأشبه وفي الحقيقة يئول الخلاف إلى لفظ إذ لا يستجيز مسلم تأثيم مجتهد وإذا ارتفع التأثيم وحصل الاتفاق على أن كلا يعمل بغلبة ظنه لم يبق للخلاف أثر ولكن شوفنا فيما أوردناه وردناه عودا على بدأ ان تبين أن للمجتهد مطلوبا ه هو شوفه وهو طلب الأشبه والأقرب ثم إن تعارضت ( الأشباه ) وانحسم مسالك الترجح فقد نقول هذه واقعة خلت عن حكم الله تعالى على ما سيأتى ونحن ننجز الأن المسألتين الموعودتين فيهما يتم الغرض مسألة
1476 - رددنا في كلامنا أن شوف الناظرين من الطالبين الأشبه وهذا قد اختلف الأئمة في حقيقة الأشبه الذي هو المطلوب فقال قائلون هو الذي يلوح للناظر فيه المشابهة والمقاربة ولا تنطبع عنه عبارة وهذا هذيان لا حاصل له وراءه
1477 - وقال ابن سريج الأشبه المطلوب هو الذي يغلب على الظن عند تقدير
ورود الشرع بحكم في المحل أنه كان ينص على ذلك الحكم وهذا حكم على الغيب
1478 - فإذا الذي عليه التعويل أنا نقول المسألة إذا ترددت بين أصلين في التحريم والتحليل ويجاذبهما أصل التحريم وأصل التحليل فالمطلوب تقرير الأشبه فإن كانت أشبه بأصل التحريم فالمطلوب الذي هو نهاية التشوف والتحريم وإن كانت على العكس فالتشوف التحليل ومن يسبق إلى الأشبه فله أجرا مصيب فيهما وإن أخطأ الشوف فهو مصيب في العمل مخطئ نهاية الشوف فكأن الذي لم ينته إلى نهاية الشوف مصيب من وجه مخطئ من وجه
1479 - فإن قال قائل مذهب أبي حنيفة أن كل مجتهد مصيب فما الفرق بينه وبينكم قلت إن عنى بالتصويب وجوب العمل فهو متابع عليه وإن عنى أنه مصيب غاية الشوف ففيه النزاع وإن عنى به أنه مصيب في الاجتهاد دون العمل فهو محال فإن كان المعنى به ما فصلنا في اختيارنا فلا ( نتبرأ ) عن أبي حنيفة أنى نطق بالحق ولا يحتج لوفاقه في الأصول ومطالب القطع لوفاقه مسألة
1480 - المجتهد إذا اجتهد وعمل ثم تبين أنه أخطأ نصا فلا شك أنه يرجع إلى مقتضى النص وهل يتدارك ما أمضاه ( فيه ) تردد فقهي والغرض الأصولى أنه إذا تبين أنه أخطأ نصا فهل يصوب فأما الذين صاروا إلى التخطئة في المظنونات فلا شك أنهم يقطعون بتخطئته وأما المصوبون فإنهم اختلفوا فمنهم من غلطه وخطاه ومنهم القاضي لأن التصويب كان لارتفاع المطلوب
وتخيل أن لا حكم لله فيه على اليقين وها هنا الحكم متعين بالنص وقد أخطأ لما لم يصبه وغلا من هؤلاء غالون فقالوا يأثم المجتهد لغفلته عن النص ومنهم من عذره وقال هو مخطئ غير آثم وصار بعض الغلاة من المصوبة إلى تصويبه وإن خالف نصا واستدلوا بأن قالوا إذا خفي النص وجب عليه الاجتهاد وإذا اجتهد مرتسما ما وجب عليه وأدى اجتهاده إلى أمر غلب على ظنه أنه الحكم وجب عليه العمل به فإذا عمل ما وجب فقد أصاب
1481 - والمختار عندي ما قدمته فإن الأشبه الذي هو شوف الطالبين فيما عدم النص فيه ( كالنص ) في محل وجوده فيخرج منه أن الذي أخطأ النص والشوف مصيب من جهة العمل مخطئ من حيث إنه لم ينته إلى نهاية الشوف ولا فرق بين قصور النظر عن الأشبه أو درك النص فما فيه الكلام وإن كان النص يفيد ركون النفس ولا يفيد الأشبه إلا غلبة الظن والله أعلم
-
الكتاب السابع كتاب الفتوى 1482 - ( المفتي ) مناط الأحكام وهو ملاذ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال ولك ينكر واحد ولا سبق إلى إنكاره من لا اعتبار به اتهم في دينه كيف والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون فيتبعون ويقضون فينفذون وكذلك من لدن عصرهم إلى زماننا هذا ثم مقاصد الكتاب يحصرها فصول
فصل 1483 - في صفات المفتي والأوصاف التي يشترط استجماعه لها وقد عد الأستاذ فيه أربعين خصلة ونحن نذكر ذلك في عبارات وجيزة فنقول يشترط أن يكون المفتي بالغا فإن الصبي وإن بلغ رتبة الاجتهاد وتيسر عليه درك الأحكام فلا ثقة بنظره وطلبه فالبالغ هو الذي يعتمد قوله
1484 - وينبغي أن يكون المفتي عالما باللغة فإن الشريعة عربية وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة من يفهمه يعرف اللغة ثم لا يشترط أن يكون غواصا في بحور اللغة متعمقا فيها لأن ما يتعلق بمأخذ الشريعة من اللغة محصور مضبوط وقد قيل لا غريب في القرآن من اللغة ولا غريب في اللغة إلا والقرآن يشتمل عليه لأن إعجاز القرآن في نظمه وكما لا يشترط معرفة الغرائب لا ( نكتفي ) بأن يعول في معرفة ما يحتاج إليه
على الكتاب لأن في اللغة استعارات وتجوزات قد يوافق ذلك مآخذ الشريعة وقد يختص به العرب بمذاق ينفردون به في فهم المعاني وأيضا فإن المعاني يتعلق معظمها بفهم النظم والسياق ومراجعة كتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ فأما ما يدل عليه النظم والسياق فلا ويشترط أن يكون المفتي عالما بالنحو والإعراب فقد يختلف باختلافه معاني الألفاظ ومقاصدها
1485 - ويشترط أن يكون عالما بالقرآن فإنه أصل الإحكام ومنبع تفاصيل الإسلام ولا ينبغي أن يقنع فيه بما يفهمه من لغته فإن معظم التفاسير يعتمد النقل وليس له أن يعتمد في نقله على الكتب والتصانيف فينبغي أن يحصل لنفسه علما بحقيقته ومعرفة الناسخ والمنسوخ لا بد منه 1486 وعلم الأصول أصل الباب حتى لا يقدم مؤخرا ولا يؤخر مقدما ويستبين مراتب الأدلة والحجج
1487 - وعلم التواريخ مما تمس الحاجة إليه في معرفة الناسخ والمنسوخ
1488 - وعلم الحديث والميز بين الصحيح والسقيم والمقبول والمطعون
1489 - وعلم الفقه وهو معرفة الأحكام الثابتة المستقرة الممهدة
1490 - ثم يشترط وراء ذلك كله فقه النفس فهو رأس مال المجتهد ولا يتأتى كسبه فإن جبل على ذلك فهو المراد وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب
1491 - وعبروا عن جملة ذلك بأن المفتي من يستقل بمعرفة أحكام الشريعة نصا واستنباطا فقولهم نصا يشير إلى معرفة اللغة والتفسير والحديث وقولهم استنباطا يشير إلى معرفة الأصول والأقيسة وطرقها وفقه النفس
1492 - والمختار عندنا أن المفتي من يسهل عليه درك أحكام الشريعة وهذا لا بد فيه من معرفة اللغة والتفسير وأما الحديث فيكتفي فيه بالتقليد وتيسير
الوصول إلى دركه بمراجعة الكتب المرتبة المهذبة ومعرفة الأصول لا بد ( منه ) وفقه النفس هو الدستور والفقه لا بد منه فهو المستند ولكن لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه في حالة واحدة ولكن إذا تمكن من دركه فهو كاف
فصل
1493 - ويشترط أن يكون المفتى عدلا لأن الفاسق وإن أدرك فلا يصلح قوله للإعتماد كقوله الصبى
1494 - معقود فيمن كان مجتهدا من الصحابة فلا يخفي على ذي بصيرة أن الخلفاء الراشدين كانوا مجتهدين مفتين لأنهم تصدوا ( للإمامة ) ولا يصلح لها إلا مجتهد وكانوا يفتون في زمنهم ويقضون ويحكمون وينفذون ولم يعترض عليهم ( فدل ) ذلك على القطع بأنهم كانوا مفتين
1495 - وأما أصحاب الشورى وهم طلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد ( والزبير ) وكان معهم عثمان وعلي إلا أنا قطعنا بأنهم كانا مفتيين فقال قائلون هؤلاء مجتهدون لأن عمر رضي الله عنه أسهم الخلافة بينهم وألقاها فيهم فدل على أنهم مستصلحون للإمامة ولا يصلح لها إلا مجتهد
1496 - قال القاضي وهذا الاستدلال ضعيف فإن عمر لم يفوضها إلى أحدهم ولذلك كان إذا ذكر واحد منهم له قال فيه قولا فذكر له الزبير فقال صاحب المد والصاع فإنه كان تاجرا فبين أن هذه المرتبة
العلية تترقى عن أفعال تلائم الخسة والركاكة وتفتقر إلى كمال العقل والثبات فذكر له سعد فقال صاحب مقت فذكر له طلحة فقال إنه ذو خير وإنه ذو استكبار فذكر له علي فقال لو وليتموه ليولين بني أبي معيط ولو ولاهم لتثورن الثوار والله لو فعلتم ذلك ليفعلن والله لو فعل ليفعلن ثم قال هذا أمر تقلدته حيا فلا أتقلده ميتا فدل على أنه لم يقطع بصلاح كل واحد منهم لهذا الشأن
1497 - وأما أبو هريرة فقال القاضي كان ناقلا وما كان مفتيا والمختار عندي في هذه التفاصيل ما نقول من تصدى للفتوى في زمان وشاع ذلك واستفاض ولم يبد من أهل الفتوى عليه نكير كان مفتيا وعليه بنينا القول في الخلفاء الراشدين فإنه ما كان يخفى أمرهم وعبد الله بن مسعود كان فقيه الصحابة وكذلك العبادله الأربعة لا يخفى تصديهم للفتوى وأما أبو هريرة فقد كثرت روايته ولم يتبين لنا أنه كان يفتى فالوجه أن نقول من كان يفتى في زمانهم ولم ينكروا فهو مفت ومن لم يفت فيهم نقطع القول بأنه ما كان مفتيا ومن ترددنا فيه نتردد في كونه مجتهدا مفتيا والشافعي قلد معاوية في مسألة وذلك يدل على أنه كان مجتهدا
1498 - وأما من انحط عنهم من التابعين فللشافعي عن الحسن البصري كلام ونحن نكلف أنفسنا عن تعدادهم فقد ذكرنا المختار وعليه يخرج كل كلام مقصود من
هذا الفن
1499 - وأما مالك رضي الله عنه فكان تدواره على النصوص حتى كان معظم أجوبته في المسائل الخالية من النصوص لا أدرى وقد اشتهر مذهبه في استصلاحات مرسلة يراها انسلت تلك القواعد عن ضبط الشريعة وقدم مذاهب أهل المدينة على الأحاديث الصحيحة
1500 - وأما أبو حنيفة فما كان من المجتهدين أصلا لأنه لم يعرف العربية حتى قال لو رماه بأبا قبيس وهذا لا يخفى على من شدا أدنى شيء من العربية ولم يعرف الأحاديث حتى رضي بقبول كل سقيم ومخالفة كل صحيح ولم يعرف الأصول حتى قدم الأقيسة على الأحاديث ولعدم فقه نفسه اضطرب مذهبه وتناقض وتهافت فلا يخفى أن الشريعة مجامعها ( الحث ) على مكارم الأخلاق والنهي عن الفواحش والموبقات ( وإباحة نفي في المحرمات ) ( فمن ) صار في العقوبة الآيلة إلى حقوق الآدمي مثل القصاص إلى إسقاطه بالمثقل فقد خرجت القاعدة التي لأجلها ثبت القصاص حيث قال تعالى ولكم في القصاص حياة ثم ترقى من نفي القصاص إلى إنكار الحس فحكم بكونه خطأ حتى ضرب العقل على العاقلة وأثبت فيه الكفارة مع نفيه الكفارة عن العمد وصار في العقوبات الثابتة لله تعالى إلى أن قطع السرقة يسقط فيما كان أصله على الإباحة والأشياء الرطبة ويضم ما لا قطع فيه إليه ( وحرم انهه العبادات بترتيب أقل ما يجري من الصلاة ) وأبطل مقصود الزكوات حيث أنكر وجوبها على الفور ثم
أسقطها بالموت ثم حج ذلك باعتقاده تغير حكم الله تعالى بقبول كل قاض فأباح زوجة زيد لعمرو بغير طلاق من زيد ومن غير عدة ولا نكاح من عمرو وبشهادة زور ودعوى باطلة ولم ير القصاص في القتل بالمثقل وكان يقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فقال كل فقه بعدك حرام ووقع ذلك منه موقعا عظيما وعن هذا قيل استتيب أبو حنيفة من الإرجاء مرتين فإن هذا مذهب ( المرجئة ) فكيف يظن وحاله هذا مجتهدا
1501 - وأما الشافعي فقد استبان تبحره في اللغة ولهذا قال حبر الصناعة الأصمعي صححت دواوين الهذليين على شاب من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي أما الأصول فهو أول من صنف فيه وأما فقه النفس وغيره فيتبين في كيفية ترتيبه الأدلة في الفصل ( التالي ) إن شاء الله
فصل 1502 - ذكر الشافعي في الرسالة ترتيبا حسنا فقال إذا وقعت واقعة فأحوج
المجتهد إلى طلب الحكم فيها فينظر أولا في نصوص الكتاب فإن وجد مسلكا دالا على الحكم فهو المراد وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة فإن وجده وإلا انحط إلى نصوص أخبار الآحاد فإن عثر على مغزاه وإلا انعطف على ظواهر الكتاب فإن وجد ظاهرا لم يعمل بموجبه حتى يبحث عن المخصصات فإن لاح له مخصص ترك العمل بفحوى الظاهر وإن لم يتبين مخصص طرد العمل بمقتضاه ثم إن لم يجد في الكتاب ظاهرا نزل عنه إلى ظواهر الأخبار المتواترة مع انتفاء المختص ثم إلى أخبار الآحاد
1503 - فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات لم يخض في القياس بعد ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة وعد الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في المثقل فإن نفيه يخرم قاعدة الزجر ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة التفت إلى مواضع الإجماع فإن وجدهم أطبقوا على حكم نصوا عليه فقد كفوه مؤنة البحث والفحص
1504 - فإن عدم ذلك خاض في القياس ونظر فإن وجد الواقعة في معنى المنصوص عليه فلا يثقل عليه سبر الطرق فإن أعوزه فيقيس ويطلب الإخالة والمناسبة والإشعار فإذا هجم عليه عمل به إذا لم يعارضه مثله فإن عارضه ما يوازيه في الإخالة يكلف الترجيح فإن استويا في طرق التلويح لم يفت بواحد منهما فإن تعسر عليه وجدان المخيل طلب الشبه إن جعلناه حجة لا مزيد على هذا الترتيب إلا أن ( يعينه الرب ) فإنه لو قدم الإجماع ليفتي به جاز فإنه مقدم على كل مسلك في المرتبة العلية والله أعلم
فصل
1505 - المجتهد في القبلة إذا كان من أهل الاجتهاد وضاق الوقت وخاف فوات الصلاة لو اشتغل بالإجتهاد فله أن يقلد مجتهدا آخر
1506 - وكذلك المجتهد إذا استشعر الفوات لو اشتغل بالاجتهاد في الأحكام فله أن يقلد مجتهدا
1507 - فأما المجتهد لو أراد التقليد مع سعة الوقت وإمكان الاجتهاد قال الشافعي ليس له أن يقلد بل عليه أن يجتهد وسلك الأستاذ أبو إسحاق في تقرير هذا المذهب مسلكا فقال ذكرنا مراتب الأدلة ودرجاتها وبينا أن النصوص مقدمة على غيرها ثم اجتهاد المرء في حقه يضاهي النص واجتهاد غيره في حقه بمثابة القياس فيجب أن يقدم اجتهاده على اجتهاد غيره كما يقدم النص على القياس
1508 - وهذا فيه خلل لأننا نقول من أين قلت ومن أين تلقيت ولم جعلت الاجتهاد كالنص واجتهاد الغير كالقياس والاجتهاد متبع ( في أي ) وقت بأن يكون المقلد عاميا أو مجتهدا
1509 - وسلك القاضي فيه مسلكا آخر فقال قول الغير لا يتبع إلا بدليل قاطع فإنا لم نقبل قول النبي إلا بمعجزة قاطعة دلت على الصدق وقد قام دليل قاطع على وجوب إتباع اجتهاد المجتهد ولم يقم دليل قاطع على وجوب إتباع المجتهد المجتهد في اجتهاده وانتفاء القاطع دليل قاطع على منع الإتباع وطرد هذا في الأخبار فقال كل ما دل قاطع على رده رددناه وما دل قاطع على قبوله قبلناه وما ترددنا فيه فانتفاء القاطع دليل على رده
1510 - ونحن لا نرى هذا إذ نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في قبول الأحاديث ثم من صار إلى قبولها لم يبال بخلاف من ردها وكان تقضي بها فالمتردد لم يقم دليلا على الرد وكذلك تقليد المجتهد وما دل على وجوب الإتباع
( يتبعه ) وما دل الدليل فيه على الرد فنرده وما ترددنا فيه فالمسألة في مظله الاجتهاد وهو محل التحري والتوخي وذلك من شأن الفقهاء وحظ الأصول منه ما ذكرناه
فصل 1511 - لا يخفى أن المقلد ليس له ان يقلد غيره إلا بعد نظر واجتهاد وقد اختلفوا فيما عليه
1512 - فقال القاضي في ( التقريب ) عليه ان يتلقف مسائل من كل فن مما يحتاج المفتي إلى معرفته من الأحاديث وغرائبه والقرآن ومشكلاته ومسائل الفقه فيمتحن من يوقع تقليده به فإن أصاب في الكل قلده وإن أخطأ فيه أو في البعض وقف في إتباعه ولا بد أن يخبره عدلان بأنه مجتهد
1513 - قال الأستاذ أبو بكر بن فورك إذا قال المفتي أنا مجتهد اعتمده واتبعه ويكتفي بأخباره وقال الآخرون لا بد من أن تستقصي كونه مجتهدا أو يتوافر ذلك بالتسامع
1514 - فنقول أما اشتراط الامتحان فلا وجه له فإنا نعلم أن الأجلاف من العرب كانوا يستفتون المجتهدين من الصحابة وما كانوا بمختبرة لهم فاشتراطه بعيد وأما التسامع فلا اعتبار به لأن المخبرين لا يخبرون عن محسوس وإنما يلهجون به عن قول مخبرين فلا ثقة بقولهم فإذا لعل المختار أن المفتي إذا قال أنا مفت صدق إذ كان عدلا واتبع والله أعلم
فصل
1515 - اختلف أهل الأصول في أن المستفتي هل يجب عليه أن يستفتي الأفضل أم له أن يراجع من هو دونه إذا كان مجتهدا قال قائلون يتحتم مراجعة
الأفضل لأن المقصود من المراجعة حصول الثقة بأمر الله تعالى والثقة في مراجعة الأفضل أكمل فمراجعته أولى وهذا يتأيد بوجوب تقديم الأفضل في الإمامة الكبرى
1516 - والمختار عندي أن الإمامة العظمى يتعين ( لها ) الأفضل لأن المقصود منه المصلحة وفي إتباع الأفضل المصلحة أظهر إلا أنا نقول إذا حصلت المتابعة من واحد أو من جمع لذي نجدة وشوكة فلا يخلع لنبايع الأفضل لأن فيه إظهار المفسدة ثوران نفتن أو كذلك إذا ( بويع ) المفضول ثم نشأ من هو أفضل منه ولم يخلع المفضول ولم يخلع لأنه إذا كان الأول صاحب شوكة كان خلعه مقتضيا إلى نقيض المقصود من الإمامة وأما الفتوى فعندي أنه لا تجب مراجعة الأفضل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يراجعون المفتين مع توافرهم وما كانوا يقتصرون على مراجعة من كان أفضلهم والله أعلم مسألة
1517 - إذا وقعت واقعة واستفتى فيها المستفتي ثم وقعت ثانية تلك الواقعة فهل يلزمه المراجعة ثانيا اختلفوا فيه فقال قائلون يلزم ذلك لأن الاجتهاد يتغير والمسؤل إذا سئل ثانيا لزمه تجديد الاجتهاد فإن نتيجة الإجتهاد في حقه كوحي يتصور نسخه
1518 - وعندي أن الفتوى الأولى إذا استقرت إلى قطع من نص فلا يلزمه المراجعة ثانيا لأنه لا يتصور تغيره وكذلك إذا كانت المسالة في مظنه الاجتهاد وعسر المراجعة في كل دفعة بأن كان يحتاج إلى انتقال وسفر والسبب فيه أنا نعلم أن أهل الفيافي كانوا يستفتون في عصر الصحابة مرة وكانوا يتخذون الإجوبة قدوتهم عند تكرار تلك الواقعة وكذلك إذا كانت المسألة فيما يتواتر ويتكرر كالاستنجاء والصلاة فقد يتكرر في كل يوم دفعات فإيجاب المراجعة في كل مرة تكليف مشقة وما عداه فعلى ما قاله الأولون
ولسنا نجعل المشقة دليلا فيما ( استقناه ) آخرا بل نستبين ( معظم المشقة ) أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يفعلونه بل يتسامحون فيه والله أعلم مسألة
1519 - الواقعة إذا ترددت بين مفتيين مستجمعين خلال الاجتهاد وتناقض جوابهما نفيا وإثباتا فالمتغني يتبع الأعلم والأورع فإن استويا في الفضل والعلم واختص أحدهما 0 بمزيد ) في الورع اتبع الأورع وإن استويا في الورع وكان أحدهما أفضل قلد الأفضل وإن أختص احدهما بتقدم في الورع وعارضها زيادة ورع في الجانب الثاني قدم الأفضل فاتباع الأعلم أولى فإما إذا استويا في الورع والفضل فقد اختلف الأصوليون فيه فقال قائلون يؤخذ بالأشد والأغلظ وقال آخرون يراجع نفسه فما شهد بصحته خاطرة وفكره عمل به وقال آخرون يتخير إن شاء عمل بهذا وإن شاء عمل بغيره وتفصيل القول في هذا يستدعي تقديم فصلين أحدهما القول في تقدير فتور الشرائع والثاني جواز خلو بعض الوقائع عن حكم الله تعالى فإذا التجز ننعطف إذ ذاك على المسألة ونرى المختار فيه فأما القول في فتور الشرائع فنذكره في فصلين أحدهما في تقدير فتور الشرائع
قبلنا والثاني في تجويز فتور شريعتنا
فصل 1520 - فأما الشرائع السالفة فمذهب عصبة الحق وبعض المخالفين من المعتزلة أنه يجوز تقدير فتورها وذهب الكعبي إلى منعه وهذا ( بناه ) على أصل له وهو أنه يعتقد أن الله تعالى عن قول المبطلين يجب عليه رعاية الأصلح على العباد ثم قال إذا اتقوا مسلك شريعتهم وقبلوه وقالو به فالأصلح أن يبقيه وفتوره سبب اشباك الغوايات وهو نقيض الأصلح
1521 - قلنا أصل معتقدك في وجوب الأصلح على الله تعالى باطل قطعا على ما يبرهن في محله ثم إن نزلنا على ما تخجيلته فمن الذي أنبأك أن الأصلح تقرير الشرائع فقد لا يكون الأصلح في فتورها حتى يعلموا بمقتضى عقولهم
فصل
1522 - فأما القول في فتور شريعتنا فالذين أحالوا فتور الشرائع قبلنا منعوا فتور هذه الشريعة والذين سبقوا إلى جواز فتور الشرائع اضطربوا في شريعتنا فمنهم من سوى بين الكل ومنهم من صار إلى أن هذه الشريعة لا يتطرق إليها الفتور والسبب فيه ان سائر الشرائع لم تكن محفوظة من النسخ والتبديل ولو قدر فيه فتور لظهرت الشريعة على قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي نتبع ولو تطرق الفتور إلى شريعتنا لاستمر ذلك إلى قيام القيامة وهذا الفرق لا أصل له فإن من مات منا في زمان الفتور في سائر الشرائع فقد
قامت قيامته ولا يلحقه ارتفاع الفتور
1523 - فالمختار عندنا أنا نقول الفتور في الشرائع جائز عقلا إذ ليس فيه ما يحيل ذلك ولا تخصص شريعة عن شريعة وقد صرح بهذا شيخنا أبو الحسن إلا أنه ضم إليه شيئا آخر لا يساعد عليه فقال تبقى التكاليف على العباد مع فتور الشرائع وهذا بناه على أصله في جواز تكليف مالا يطاق وقد صار الأستاذ أبو إسحاق إلى اختيار جواز الفتور وتخلف عن شيخنا ابي الحسن في تقرير التكليف إلا أنه قال يبقى تعبد على الخلق بإفتاء محاسن العقول وهذا أيضا مما لا يساعد عليه إذ لا يحسن في العقل ولا يقبح
1524 - فإن قيل أوقع ذلك قلنا الوقوع لا يتلقى من مسالك العقل وإنما يعرف ذلك من طريق السمع وقد طمع طامعون في إثبات نفي الفتور عن شريعتنا من طريق السمع واستدلوا بظواهر منها قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون قالوا إذا ضمن الحفظ أمن الفتور ومما استدلوا به قوله عليه السلام ( إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم )
15250 - وهذه ظنوها نصوصا وهي ظواهر ( فأما ) قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر فالمراد به القرآن والغرض أنه لا تندرس تلاوته فلذلك يزداد
القراء كل يوم وأما الحديث فالتأييد قد وقع ( ووقوع ) التأييد ليس فيه ما يدل على بقاء التأبيد إلى قيام الساعة ويعارض هذا قوله عليه السلام ( سيأتي يوما على أمتي زمان رجلان في فريضة فلا يجدان من يذكر حكم الله فيها ) والظواهر مع تطرق الاحتمال إليها إذا تعارضت كيف تنتج القطع
1526 - هذا قولنا في نفي القطع في نفي الفتور وأما غلبة الظن فليس معنا ما يدل حتى يفيد غلبة الظن ولكنا نقول إن قامت القيامة في خمسمائة سنة فيغلب على الظن أن الشريعة لا يندرس أصلها ولا تفاصيلها ( فأما سفرة حمالها وفي حملها كره ) والدواعي على تعلمها متوفرة وإن تمادت الآماد فيتوقع اندراسها بقبض العلماء الناقلين لها فانطماسها بقبض ( حملتها ) هذا نهاية القول في غلبة الظن وقد نجز الغرض من القول في الفتور
فصل 1527 - واما القول في خلو الواقعة عن حكم الله تعالى فقد اضطرب الأصوليون في جواز ذلك فصار القاضي إلى جواز ذلك وترقي عنه إلى وقوعه فقطع به وقال لا بد أن يقع ذلك فإن مآخذ الأحكام محصورة مضبوطة من الكتاب والسنة والإجماع والوقائع لا تنضبط ولا تتناهى ويستحيل أن يرد ما لا يتناهي إلى ما يتناهي
1528 - فنقول أما جواز خلو الواقعة عن الحكم فلا ينكره عقل وأما وقوعه فأنكر ذلك فإن الأمم الماضين المننقرضين كانوا يتصدون للفتوى مع ( كثرة )
ما ألقي إليهم ( وتفننها ) وكانوا يهجمون على الجواب فيها هجوم من لا يرى ( للأجوبة ) حصرا ومنتهى ولو كان يجوز خلو بعض الوقائع عن حكم الله ( لاتفق ) وقوع واقعة خلت عن حكم الله ( وبدت ) فإذا لم يتفق دل ( على ) أنهم ما اعتقدوه جواز خلو الواقعة عن حكم الله
1529 - وأما ما استدلوا به من كون المآخذ محصورة واستحالة ما لا يتناهي مما يتناهى فهو ( بين ) لا حاصل له فإن من تأمل قواعد الشريعة وجدها مترددة بين طرفين أحدهما محصور والآخر غير محصور فالنجاسة محصورة والطهارة لا حصر فيها والتحريم محصور والإباحة لا حصر لها فالواقعة إذا ترددت من الطرفين ووجدت في شق الحصر وذلك وإلا حكم فيها بحكم الشق الآخر الذي أعفى الحصر عنه
1530 - هذا نهاية القول في المقدمتين ( وإذا ) عدنا إلى المقصود فالواقعة إذا ترددت بين مفتتين وتناقض جوابهما فمن صار إلى الأخذ بالأغلظ فقد تحكم من غير ثبت ومن صار إلى إتباع ما يشهد له نفسه بالصحة فهو إتباع الهواجس والحماقات ومن صار إلى التخيير فهو أقرب قليلا وله الثبات على مأخذ المضربين فإنه ما من مسلك إلا ويجوز أن يفترض اختيار مجتهد وعن هذا صار بعض الناس إلى التخيير في مسألة التصويب من غير اجتهاد
1531 - وهذا مع ما هو عليه من القرب لا وجه له فإن التخيير استواء الإقدام والإحجام وهو حقيقة الإباحة فمنه صار إلى التخيير فقد أثبت الإباحة من غير أصل وثبت فإن قيل فما الذي تختارونه أنتم في هذه المسألة وقد زيفتم المسالك المقدمة
1532 - قلنا نبين أولا صورة نفرضها ثم تظهر حقيقة المراد فيها فنقول اختلف الشافعي وأبو حنيفة في وجوب الإتمام على العاصي ( بسفره ) فقال الشافعي بوجوب الإتمام وجوز أبو حنيفة القصر فإذا تناقض جواب المفتيين على هذا الوجه فنراجعهما ثانيا ونقول قد تناقض الأجوبة فإن اتفقا بعد التخالف فهو المراد فنتعلق بما اتفقا عليه فقد يجدان أصلا يستندان إليه كتغليب الدرء في القصاص وغيره والتحري في الصيود والذبائح وإن استمر على الخلاف ووجد أفضل منهما استفيناه واتبع قوله وإن ساوى الثالث الأوليين في الفضل ووافق قوله قول أحدهما فهل ترجح قول أثنين على قول واحد فقد سبق ترجيحه ولست أختاره ولا سبيل إلى التخير والأخذ بالأغلظ كما تقدم ولا يعتقد أيضا خلو الواقعة عن حكم الله تعالى ولا نرى ذلك في قواعد الدين
1533 - فالوجه أن نقول القول في هذه الواقعة كالقول فيمن يفرض في جزيرة بلفه أصل الدعوة بالإسلام ولم تبلغه تفاصيل الأحكام ونقول فيه لا تكليف الله عليه إذ شرط التكليف إفهام المكلف ما يكلف به
1534 - فإن قيل ألستم قلتم فيمن تردى في بئر من غير بعد ووقع على مصروع ولو مكث عليه لمات وفيه صرعى ( و ) لو انتقل إلى غيره لمات المنتقل إليه هذه واقعة خلت عن حكم الله قلنا لا تلك مسألة إذا فرضت كما وصفتموها فنقول لا تكليف على المتردى إذا كان كما وصفتموه للعلة التي تقدم ذكرها هذا نهاية القول في المسألة مع اختيار وإيجاز مسألة
1535 - المقلد إذا قلد إماما فمات إمامه وفي عصره مجتهد آخر فيتبع مقلده الميت أم يقلد الحي قال قائلون يقفي أثر المقلد الأول ويتبعه فإن المذهب لا يموت
بموت صاحبه وقال آخرون يتبع المجتهد الحي إذا أجمعت الأمة على أن واحدا لو أراد أن يتبع مذهب أبي بكر لم يجز الآن وإن شهد له الرسول صلى الله عليه و سلم بالتقويم على الكافة حيث قال ( والله ما طلعت الشمس ولا غربت ) والسبب فيه أن المجتهد الاخر الباحث الناظر أعرف بمذاهب من سبق وأخبر بحقيقة الحال والصحابة رضي الله عنهم ما اعتنوا بتبويب الأبواب ورسم الفصول والمسائل نعم كانوا مستعدين للبحث ( عند مسيس ) الحاجة إليه متمكنين وما اضطروا إلى تمهيد القواعد ورسم الفروع والأمثلة لأن الأمور في زمانهم لم تضطرب كل هذا الإضطراب والذين اعتنوا بالتمهيد أعرف بالأصول والفروع من غيرهم
1536 - وعلى هذا إذا قلد مقلد الشافعي لم يجز له أن يترك متابعته ويختار مذهب القفال وابن سريج أو غيره وعليه أن يتبع ما ينقل عن الصاحب ولكن ينبغي أن يكون الناقل موثوقا به فقيه النفس لأن الفقه لا يمكن نقله وإن لم يجد نصا ولا تخريجا فهل له أن يقيس منهم من منع وقال القاضي يجوز له أن يقيس على نص صاحبه كنص الحديث في حقه وكانه مجتهد في وجه دون وجه
فصل
1537 - ذكرنا اختلاف العلماء في تصويب المجتهدين إذا اختلفت آراؤهم في مسألة لا نص فيها فأما إذا اختلفوا وفي الواقعة نص غفل عنه احدهما فالذي حكم بالتخطئة ها هنا بالطريق الأولى
1538 - وأما المصوبة فقد اختلفوا ها هنا فمنهم من حكم بالتخطئة ومنهم من صوب ومنهم القاضي واستدل عليه بأن
قال المجتهد إذا خالف النص بحث وسبر وبذل المجهود ولم يأل جهدا في طلب حتى حصل على غلبة ظن ثم وجب عليه العمل بمقتضي غلبة الظن فقد عمل ما وجب عليه فكيف يقال أخطأ وقد عمل ما هو الواجب ولا يبعد أن يختلف حكم الله باختلاف الأشخاص فإن الميتة محرمة على صاحب الرفاهية وهى بعينها محللة على صاحب المخمصة والذي لم يعثر على النص كصاحب الضرورة والمخمصى فقد أدى ما أمر به
1539 - فإن قيل حكم الله تعالى في هذه الواقعة متعين كائن مستقر فالذي لم يجد النص هو الذي قصر لما لم ينه النظر نهايته فإنه لو لم يقصر وأنهى النظر لوجد النص وليس هذا كمسألة لا نص فيها فإن الحكم فيها غير متعين
1540 - قال القاضي مع هذا كله ( أليس ) قد وجب عليه العمل بمقتضى الظن المخالف للنص المستقر مع تقصيره ( و ) وجب عليه العمل بذلك فلا يحكم بتخطئته بعد ذلك فإن المجتهد الذي غفل عن النص أفتى بما قدر عليه واعتقد ألا مطلب وراءه فأمره بطلب النص تكليف ما لا يطاق إذ لا يتأنى افتتاح النظر ممن اعتقاده أنه تمم النظر ( فإذا أخطأ النص ذلك أنه لن يجب الوصول إليه وهذا كقول القائل لمن يصلي بالتيمم ولم يتوضأ ولكن يجب عليه الوضوء عند عسر الوصول إلى الماء ) قال القاضي ولست أبعد أن يرد الشرع بوجوب تدارك ما فاته من العمل الواقع بمقتضى الاجتهاد ولو ورد به لاتبعناه فإنا عبيد الشرع وإذا لم يرد فقد أدى ما كلف
1541 - قلت أما المختار فقد سبق في مسألة تصويب المجتهدين وهنا لا سبيل إلى إنكار أداء هذا المجتهد ما عليه ولا سبيل إلى إنكار مخالفة النص وكأنه مخطىء من وجه مصيب من وجه وأما القضاء والتدارك فأقول إذا اجتهد في القبلة ثم تبين أنه أخطأ والوقت باق ( فإن ) صح يقين آخر باستقبال عين القبلة وثبت أنه مقصود في نفسه وجب عليه
تداركه وإنما فرضته في قضاء الوقت لأن الوقت إذا زال فالقضاء إنما يلزم بأمر ( مجدد ) وإنما ردد الشافعي قوله في هذه الصورة لأنه تخيل أن المأمور به إذا لم يتوصل إليه باجتهاده ونفس استقبال القبلة مقصود في عينه فلهذا نقول الأظهر سقوط القضاء والله أعلم مسألة
1542 - اختلف الأئمة في الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجوز أن يجتهدوا منهم من قال يجوز كما يجوز الاجتهاد في عصرنا ودل على ذلك قوله عليه السلام في القصة المعروفة لما قال معاذ أجتهد رأيى الحمد لله الذي وفق رسول رسوله ( إلى ) ما يرضاه وقال آخرون كان لا يجوز لهم أن يجتهدوا فإنه غلبه الظن وقد أمكنهم تحصيل القطع بمراجعة رسول الله صلى الله عليه و سلم
1543 - والمختار عندنا أنه إن أمكن المراجعة ( كأن ) كان في بلدته تعين المراجعة وإن كان على مسافة يسوغ الاجتهاد وقد ظهر من الآثار أنهم كانوا يجتهدون في الغيبة ويشهد له قصة معاذ والذين كانوا معه كانوا لا يجتهدون مسألة
1544 - أختلف الأئمة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجتهد قال قائلون كان ينتظر الوحى ولا يجتهد وقال آخرون كان يجتهد وقد ظهر ذلك من قرائن أحواله حيث قال أرأيت لو تمضمضت ولعل الأصح أنه كان لا يجتهد في القواعد والأصول بل كان ينتظر الوحي فأما في التفاصيل فكان مأذونا له في التصرف والاجتهاد ويبقى بين اجتهاده واجتهاد غيره صلى الله عليه و سلم فرق وهو أن ما يراه أمارة تفيد القطع
واجتهاد غيره يفيد غلبة الظن والله أعلم مسألة
1545 - واختلف الأئمة في حقيقة التقليد وما هيته فقال قائلون التقليد هو قبول قول الغير من غير حجة 1 فعلى هذا قبول العامي قول المفتي تقليد وقبول من يروى أخبار الآحاد قولا وسمعه من خلق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس تقليدا لأنه حجة في نفسه وقبول قول الصحابي تقليد إن لم تجعل أقوالهم حجة ولم نر الاحتجاج بقولهم فإن جعلنا أقوالهم حجة يحتج ( بها ) فإذا ذاك لا يسمى قبول أقوالهم تقليدا وقال قائلون التقليد قبول قول الغير وأنت لا تدري من أين يقوله فعلى هذا قبول قول المفتي وقبول قول الصحابي تقليد لأنا لا ندري من أين يقولون وقبول قول النبي صلى الله عليه و سلم إن قلنا إنه كان يجتهد تقليد لأنا ندري أيقول عن وحي أم عن اجتهاد وإن قلنا كان لا يجتهد فقبول قوله ليس تقليدا فإنا نعلم أن ما يقوله يقوله عن وحي
1546 - قال القاضي عندي لا تقليد ولا مقلد وكل من قبل قولا كالعامي يقبل قول المفتي وجب عليه قبوله وكان قوله حجة في حقه
1547 - والمختار عندي على الضد والعكس فإن الخلائق عندي في أفعالهم وعقائدهم مقلدون ومن قبل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم فهو مقلد فإن قوله عليه السلام لا يكون حجة لذاته والمعجزة وإن قامت فلا تفيد كونها حجة ما لم يقدم عليه العلم بالمرسل فإذا كل من نظر فأدرك حدث العالم انحدر عنه إلى ما يليه فعلم وجود الصانع وصفاته ثم انحط إلى النبوات فأدرك جواز العصمة ونظر في المعجزة بعده فهو
العالم ومن عاداه ممن يترقى ( عن ) الشبهات إلى قبول قوله عليه السلام فهو مقلد تحقيقا وما قاله القاضي من أنه يجب قبوله قلنا كيف يكون ذلك حجة وهو لم يعلم المرسل والله أعلم مسألة
1548 - هل يجب الاحتجاج بأقوال الصحابة وهذا مما اختلف فيه الأصوليون فقال قائلون يجب لقول عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقوله عليه السلام خير القرون قرني ولأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم وشاهدوا الوحي والتنزيل وهذا لا يدل على وجوب أتباعهم ( وانتهاض ) أقوالهم حجة فقوله أصحابي كالنجوم يعني في التقوى والسيرة وقوله اقتدوا باللذين من بعدي يعني في الخلافة إذ ليس في العلماء من يخصص قولهما عن قول غيرهما من الصحابة وقوله خير القرون قرني فأي دليل فيه على وجوب الأتباع
1549 - وقال قائلون لا يجب أتباعهم لأنهم ليسوا معصومين عن الزلل فكيف يحتج بما ربما يكون غلطا وخطأ وأيضا فقد كانوا يختلفون في زمانهم فإذا لم يكن قول البعض منهم حجة على البعض لم يكن حجة في حق من بعدهم
وهذا يجانب الإنصاف فإن أخبار الآحاد حجة مع أن الناقل عرضة للزلل والخطأ فلا يبعد أن يكون قول الصحابي أيضا حجة وإن لم يكن معصوما فإن قيل قوله صلى الله عليه و سلم حجة قلنا نعم ولكن لا نقطع بإصابة هذا الناقل وأما العلة الثانية فنقول قول المفتي حجة على العامي وليس حجة على العالم المجتهد وكذلك لا يبعد أن يكون قولهم ليس حجة على من يعاصرهم ويكون حجة على غيرهم ممن بعدهم وقد تمسك الصائرون إلى الأتباع بأن قالوا وجدنا التابعين يقتفون آثار الصحابة ويستندون إليها ويحتجون بآثارهم احتجاجهم بالأخبار فلولا أنهم رأوا ذلك حجة وإلا لما أطبقوا على الأتباع هذا الإطباق وأجاب المانعون عن هذا بأن قالوا كان الصحابة إذا وقعت لهم واقعة يجتهدون فيها ثم يبدون ما غلب على ظنهم في معرض التردد مظهرين أن المسألة في مظنة الاجتهاد والاحتمال فإن كانوا لا يتخذون الأتباع بالقطع فكيف يحكم بكونه حجة وهذا أوقع مما قال الأولون
1550 - فنقول إظهار الحق فيه يستدعي تفصيلا في مسائل معينة فنقول لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وإن كانوا على رتبهم العلية ومناصبهم الرفيعة الجلية فما كانوا معصومين ولا تؤمن عثرتهم وليس في مسالك السمع ما يدل على وجوب الاتباع كما تقدم وكان الوجه أن يجعل قولهم كقول من عداهم من المجتهدين لكنا نقول على ما ذكره الصائرون إلى الاتباع والاحتجاج من قولهم وجدنا التابعين يحتجون بأقوالهم منقسمة منها ما جزموا القول فيه بنفي وإثبات باتين حكما ومنها ما ترددوا فيه وأفتوا مع ( استبقاء ) احتمال وظن وما كانوا قاطعين بل
كانوا مستدلين ( متمانعين ) فما كان كذلك فلا نرى الاحتجاج ( بنا منهم ) لأنهم قالوا ماقالوا عن ظن واجتهاد ونظر غيرهم واجتهادهم بمثابة اجتهادهم وأما ما قطعوا القول به ولم تكن المسألة في مظنة الاجتهاد فقالوا قولا مخالفا للقياس ما أرشد إليه نظر ولا يدل عليه اعتبار من تقليد أو غيره ورأيناهم حاكمين قاطعين فتحسين الظن بهم يقتضى أن يقال ما نراهم يحكمون من غير بينة ولا مستند لهذا الحكم من قياس فلعلهم لاح لهم مستند سمعى قطعى من نص حديث كان حكمهم بذلك فيجب اتباعهم لهذا المقام
1551 - وكان الشافعي يرى الاحتجاج بقول الصحابي قديما ثم نقل عنه أنه رجع عن ذلك والظن أنه رجع عن الاحتجاج بقولهم ( فيما ) يوافق القياس دون ما يخالف القياس إذ لم يختلف قوله جديدا وقديما في تغليظ الدية بالحرمة والأشهر الحرم ولا مستند فيه إلا أقوال الصحابة
1552 - فإن قيل فأحسنوا الظن بغير الصحابي كمالك في مسألة خيار المجالس فقولوا إنه خالف الحديث لدليل ثبت له مقدما على الحديث في الاستعمال قلنا إحسان الظن به ثابت ولكن إنما لم نتبعه لأنا عرفنا سبب مخالفته الحديث وذلك أنه كان يرى تقديم مذهب أهل المدينة على الحديث وهذا الذي ( البابت خطأ ) قطعا ومن هذا القبيل استحسان أبي حنيفة فإنه مخالف لأدلة الشرع بمسلك باطل فإن قيل صار ابن مسعود إلى إيجاب ألفى درهم في أجرة رد العبد الآبق وهذا تقدير لا يقتضيه قياس قلنا لم يثبت ذلك منه تقديرا في كل آبق وإنما حكم بذلك في قضية خاصة فلعل أجرة المثل في تلك الصور ( كانت ) ألفى درهم فإن قيل صار ابن مسعود إلى رد قيمة العبد أي مقدار الدية وانحط بعشرة فهلا اتبعتموه
قلنا لعله قال ذلك عن قياس تحلل مثله أبو حنيفة من تفضيل الحر على العبد وغيره على أنا في مسالك الأصول لا نلتفت إلى مسائل الفقه فالفرع يصحح على الأصل ( لا ) على الفرع مسألة
1553 - استبعد مستبعدون من الذين ( قصرت هممهم ) عن درك الحقائق ترديد الشافعي أقواله في المسائل وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين وجمع بين تحليل وتحريم في قضية واحدة وهذا جهل من هذا الظان وعماية وقلة دراية فإن التردد الذي ذكره الشافعي نفى المذهب واعتراف بالاعتراض والإشكال وتصريح منه أنه لا مذهب لي في الواقعة بعد ثم نقول أوقع لأبي حنيفة تردد في مسألة من مسائل الفقه فإن قالوا لا قلنا مثل هذا الرجل لا يعد من أحزاب الفضلاء فإنه مهد أبوابا
( وقعد ) قواعد في مسالك الظنون ومظان الغموض ( والإعتضال ) من غير نص كتاب وسنة ثم لم ( يستقله ) فيما يخبر به ظن يعارضه ظن بل تهجم على حكم الله في كل واقعة فهذا إنكار ومكابرة الضرورة وإن اعترفوا بتعارض الظنون في حقه قلنا فهو لم يعبر عن تردده والشافعي عبر عنه على أنا لا نحسب الأقوال القديمة من مذهب الشافعي فإنه رجع عنها جديدا والمرجوع عنه لا يكون مذهبا للراجع والشافعي بعد ما ردد الأقوال استقر رأيه على قول واحد في جلة المسائل ولم يبق
على التردد إلا في ثماني عشرة صورة فليس هو كثير التردد وقد صار أبو حنيفة على الشك في سؤر الحمار و ( اعتقد ) الشك فيه مذهبا وهذا عجب وأعجب منه رأى أصحابه نقلوا الشك عنه حتى انتهضوا ذابين عنه داعين إليه هذا نهاية الغرض من هذه المسألة وقد نجز بنجا
-----------------------------------------[222222222222222222222222......................
كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
التقاسيم بعبارتين فقال قائلون إذا اجتمع المطلق والمقيد في واقعة واحدة فالمطلق محمول على المقيد وفاقا وإن وقعا في واقعتين متباعدتين فلا حمل ومثلوا هذا بتقييد الشهادة بالعدالة وجريان ذكر الرقبة في الكفارة مطلقا معرى عن ذكر العدالة والأصلان متباعدان لا يجمعهما مأخذ فلا يحمل المطلق في أحدهما على المقيد في الثاني فإن قربت الواقعتان بعض القرب ولم يبعد في مأخذ الظنون تلاقيهما ككفارة الظهار وكفارة القتل فهذا موضع الخلاف فالذي يراه الشافعي حمل المطلق على المقيد في مسألة الخلاف المقدم بين أصحابه
وهذه العبارة عن الأقسام المشتملة على صور الوفاق والخلاف
335 - وذكر آخرون عبارة أقرب من هذه فقالوا إذا جرى إطلاق وتقييد واتحد قبيل الموجب والموجب فليس إلا حمل المطلق على المقيد مثل أن تطلق الرقبة في كفارة القتل وتفرض مقيدة في مواضع أخر فإذا اختلف الموجب والموجب فلا حمل كالشهادة والكفارة
وإذا اختلف الموجب واتفق صنف الموجب مثل كفارة القتل وكفارة الظهار فهذا موضع التردد
336 - وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم منعوا حمل الرقبة المطلقة في كفارة الظهارعلى الرقبة المقيدة بالإيمان في كفارة القتل وبنوا حقيقة أصلهم في ذلك على قاعدة لهم في النسخ
والمسألة حرية بأن تذكر في مسائل النسخ وهي مناسبة لأحكام العموم والخصوص فابتدرناها في كتاب العموم والخصوص ونحن الان ننبه على ما تخيلوه أخذا من النسخ
قالوا قوله في كفارة الظهار فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا مقتضى الاية إجزاء الرقبة المطلقة فمن قيدها بالإيمان كان زائدا على النص والزيادة على النص نسخ ووجه ادعائهم كونها نسخا أن مقتضى الخطاب يتضمن الإجزاء مع الإطلاق والزائد يرفع الإجزاء في الإطلاق وهو متضمن الاية فاقتضت الزيادة رفع ما تضمنه الإطلاق من الإجزاء فكان ذلك نسخا من هذه الجهة
ولا يدعى محقق أن الزيادة اقتضت نسخا على الإطلاق إذا لم تكن مرتبطة بالمزيد عليه بعض الارتباط ووجه الارتباط ما أشرنا إليه من أن اقتضاء الإطلاق الإجزاء دون رعاية صفة في الرقبة فمن زاد صفة كان مدعيا نسخا في الإجزاء المتلقى من مطلق الخطاب
ولا امتناع في نسخ القرآن على الجملة ولكنه لا يثبت نسخ القران بأخبار الاحاد والمقاييس المظنونه وليس مع من شرط الإيمان في رقبة الظهار ما يجوز نسخ القرآن به فهذا منتهى كلام القوم
337 - ومن ادعى من أصحاب الشافعي وجوب حمل المطلق على المقيد من طريق اللفظ لم يذكر كلاما به اكتراث وأقرب طريق لهؤلاء أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد وحق الخطاب الواحد أن يترتب المطلق فيه على المقيد وهذا من فنون الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله تعالى مختلفة متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن في كتاب الله تعالى النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة فقد ادعى أمرا عظيما ولا يغني في مثل ذلك الإشارة إلى اتحاد الكلام الأزلي ومضطرب المتكلمين على الألفاظ
وقضايا الصيغ وهي مختلفة لا مراء فيها فسقط هذا الفن ولم يبق بعد سقوطه إلا مسلكان
أحدهما ما ادعاه أصحاب أبي حنيفة من أن الزيادة على النص نسخ واستقصاء القول في ذلك يأتي في كتاب النسخ
338 - ولكنا نذكر الآن حظ حكم العموم والخصوص من هذه المسألة وفيه مقنع وبلاغ ونحصر ما نحاوله في ثلاثة أوجه من الكلام أحدهما يحوي مناقضات الخصوم بحيث لا يجدون عنها محيصا وإذا وجهت عليهم سكتوا لها مقرين بالحق أو نطقوا بالصدق فمما يلزمهم اشتراطهم سلامة الرقبة عن كثير من العيوب وهذا تقييد منهم للمطلق وليقع الإلزام في صفات لم يرجعوا في اشتراطها إلى قاطع كمصيرهم إلى اشتراط نطق الرقبة وامتناع إجزاء الأخرس مع تجويزهم إعتاق الأقطع الذي بقيت له يد
فإن هذي هاذون منهم وزعموا أن الرقبة يقتضي إطلاقها كمال الخلقة والسلامة مستفادة من إطلاق الرقبة قيل هذا مما لا يرضاه منتسب إلى التحقيق فإنا على اضطرار نعلم أن اسم الرقبة ينطلق على المعيبة انطلاقه على السليمة ولو كانت تسمية الرقبة المعيبة رقبة مجازا لكان تسميتها إنسانا وآدميا مجازا ولا ينتمي إلى التزام هذا المذهب ذو مسكة في عقله ولو أردنا أن نضرب الأيمان في البر والحنث ومجاري إطلاق الألفاظ وجدنا مقالا ومجالا ثم نقول لم أجزأ الأقطع والرقبة مطلقة ولم امتنع إجزاء الأخرس والخلقة كاملة وكيف
يرجو الخلاص من مثل هذا الخبط ذو فهم وقد قيد هؤلاء ذوي القربى بالفقر والاستحقاق في قوله تعالى ولذى القربى ولم يعتصموا في هذا التقييد بقاطع يجوز نسخ القران بمثله فهذا أحد الوجوه الثلاثة
339 - والوجه الثاني أن نقول أتدعون أن ذكر الرقبة على الإطلاق نص في إجزاء كل رقبة حتى لو تخيل متخيل اختصاص الإجزاء ببعض الرقاب كان خارما لمقتضى النص خارجا عن الفحوى المقطوع بها أم ترون فهم الإجزاء مظنونا متلقى من الظاهر فإن ادعوا كونه قاطعا بحيث لا يتطرق إليه التأويل كان ذلك بهتانا ومعاندة في مسلك العقول فإن الرب تعالى ذكر الرقبة مطلقة وذكر الطعام والكسوة على الإطلاق ولم يتعرض لتفصيلها وإنما استاقها استياقا لا يشتمل على التزام البيان والتفصيل كما جرى ذلك في قوله تعالى والسارق والسارقة وقوله تعالى والزانية والزاني وقوله تعالى فاقتلوا المشركين فهذه الاى لتأصيل الأصول ولا يمتنع أن يقع البيان في التفاصيل بعد استفادة التأصيل ووضوح احتمال ما ذكرناه يغنى اللبيب عن البسط في ذلك
وإن اعترفوا بأن الاجزاء ظاهر فقد كفونا المؤنة وأقروا بالحق فإن إزالة الظاهر ليس في حكم النسخ وهذا هو الوجه الثاني من الكلام
340 - والوجه الثالث أن الرقبة المطلقة تعم كل رقبة فحملها على خصوص من الرقاب عين التخصيص وقد قسم المحصلون التخصيص قسمين أحدهما قصر على بعض المسيمات من غير فرض تمييز ما وقع القصر عليه من غيره بصفات كحمل قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين على ثلاثة منهم
والقسم الثاني تخصيص تمييز وهو حمل المطلق المتناول في الإطلاق للمختلفات على مسميات متيزة بصفات عن أغيارها كحمل المشركين على أهل الحرب دون المهادين وأهل الذمة وكحمل السرقة على إخراج مخصوص من محل مخصوص في مقدار مخصوص وعلى الجملة المطلق يتناول المختلفات تناول عموم على ظهور لا على تنصيص لا يتطرق إليه إمكان تأويل
341 - وإذا لاح ما ذكرناه بنينا عليه ما نختاره ونقول لا يحمل المطلق عندنا على المقيد لا في حكم الإطلاق ولا في حكم التقييد ولكن المطلق عام يتصرف فيه بما يتصرف بمثله في العمومات فإن لاح تأويل واعتضد بدليل وترتب على الشرط الذي سنذكره في باب التأويل وأثر ظهور الدليل العاضد للتأويل على ظهور العام حكم به كان المقيد أو لم يكن فليس في تقييد الحكم بمجرده ما يوجب حمل المطلق على المقيد نعم إن انقدح قياس على المقيد يتسلط مثله على التخصيص إما على حكم المعارضة كما ارتضيناه إذ صرنا إلى الوقف أو على حكم القضاء بالتخصيص كما صار إليه الجمهور كان ذلك أحد ما يتمسك به ولا معنى لاشتراطه واقعا في ألفاظ الشرع فكم من عموم خص وليس على وفق ذلك التخصيص حكم مقيد في لفظ الشرع فإن التخصيص مستند إلى خبر الواحد على قطع كما سبق ذلك في اختيارنا ويستند عند معظم الفقهاء إلى القياس الجلى ولا يطيب التصرف في تفصيل ذلك إلا في أبواب التأويل
342 - فإن قيل فما معتمدكم في اشتراط ذكر الإيمان في الرقبة في كفارة
الظهار فهل ترون القياس على كفارة القتل قلنا هذا الآن ليس من شرط هذا الفن فإن غاية مقصودنا أن نلحق الكلام على المطلق بتخصيص العموم وندرجه في مسالك الظنون وقد ثبت ذلك قطعا وانتفى المراء عنه وليس من شرطنا وراء ذلك تفصيل مسالك الظنون فإنه محض الفقه
وقد نجز غرضنا فيهذه المسألة بذلك وفيها طرفان يستقصى أحدهما في كتاب النسخ عند ذكرنا وراء ذلك تفصيل القول في الزيادة على النص والثاني في باب التأويلات وقد توضح فيها أن الرقبة في الاية التي فيها الكلام ليس لها حكم العموم أيضا وما سيقت قصدا إلى تعميم كل رقبة وإنما أثبتت مع سائر خلال الكفارات ذكرا لتراجم الأصناف مع إحالة البيان على صاحب الشرع وهذا يأتي على أحسن وجه إن شاء الله
مسألة
343 - الصحابي إذا روى خبرا وعمل بخلافه فالذي ذهب إليه الشافعي أن الاعتبار بروايته لا بعمله
344 - وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز الاحتجاج بما رواه إذا كان عمله مخالفا له
345 - والذي نرضاه أن نفصل القول فيما أتاه ورواه فنقول إن تحققنا نسيانه لما رواه فلا يتخيل عاقل في ذلك خلافا ولا شك أن العمل بروايته وإن روى خبرا مقتضاه رفع الحرج والحجر فيما كان يظن فيه التحريم والحظر ثم رأيناه يتحرج فالاستمساك بروايته أيضا وعمله محمول على الورع والتعلق بالأفضل وإن ناقض عمله روايته مع ذكره لها ولم يحتمل محملا في الجمع فالذي أراه امتناع
التعلق بروايته فإنه لا يظن بمن هو من أهل الرواية أن يعتمد مخالفة ما رواه إلا عن ثبت يوجب المخالفة
واللفظ الوجيز فيه أنه إن فعل ماله فعله فالاحتجاج بما رواه وإن فعل ما ليس له أن يفعله أخرجه ذلك عن رتبة الثقة وأدنى المنازل فيه أن يجر إلى مرويه ظنونا متعارضة في الدين يقتضي الوقف بعضها
346 - وكل ما ذكرناه غير مختص بالصحابي فلو روى بعض الأئمة حديثا وعمله مخالف له فالأمر على ما فصلناه
347 - وقد اعترض للأئمة أمور أسقطت آثار أفعالهم المخالفة لروايتهم وهذه كرواية أبي حنيفة خبر خيار المجلس مع مصيره إلى نفى خيار المجلس فهذه المخالفة غير قادحة في الرواية من جهة أنه ثبت من أصله تقديم الرأي على الخبر فمخالفته محمولة على انتحاله هذا الرأي الفاسد وهو بين من فحوى كلامه
ومن رواة الحديث مالك بن أنس وهو لا يقول بخيار المجلس ولكن الصحيح عنه أن الذي حمله على هذا تقديمه عمل أهل المدينة على الأخبار الصحيحة والنصوص الصريحة فمهما جرى شيء من قبيل ما ذكرناه فالتعويل على الحديث المروي فإن روى الراوي خبرا وكان الأظهر أنه لم يحط بمعناه ورب حامل فقه غير
فقيه فمخالفته لا أثر لها في الرواية
والضابط للنفي والإثبات ما أجريناه في درج الكلام حيث قلنا إن وجدنا محملا للفعل غير احتمال للمخالفة فالتعلق بالرواية وإن لم نجد محملا إلا المخالفة فيمتنع التعلق بالحديث
348 - فإن قالوا رتبتم الكلام قبولا وردا على تحقيق النسيان والذكر فما تقولون إذا لم يتحقق واحد منها قلنا الوجه والحالة هذه التعلق بالمروى فإنه من أصول الشريعة ونحن على تردد فيما يدفع التعلق به فلا يندفع الأصل بسبب هذا التردد نعم إن غلب على الظن أنه خالف الحديث قصدا ولم نتحققه فهذا يعضد التأويل ويؤيده ويحقق معتضده من الدليل ويحط مرتبة الظاهر كما سيأتي
349 - ولو روى الصحابى خبرا وأوله وذكر محمله فتأويله مقبول عند الشافعي ولذلك تعلق بتأويل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله عليه السلام لا تبيعوا الورق بالورق إلا هاء وهاء فذكر الشافعي أربعة أوجه في معنى اللفظ وقدم فيها التقابض في المجلس لحمل عمر رضي الله عنه ( راوى الحديث ) اللفظ عليه وهذا يتعلق به كلام من أحكام التأويل سيأتي مشروحا
350 - ولو روى راو وكان إذ روى عدلا ثم فسق بعد روايته وتخلل زمن لا يغلب على الظن انعطاف غوائل الفسق على حال الرواية ثم إنه في زمن فسقه خالف ما رواه فلا أثر لمخالفته فإنه محمول على تجريه لا على محمل عنده في الحديث فهذا منتهى الغرض في ذلك
مسألة
351 - إذا ورد لفظ من الشارع وله مقتضى في وضع اللسان ولكن عم في عرف أهل الزمان استعمال ذلك اللفظ على خصوص في بعض المسميات
فالذي رآه الشافعي أن عرف المخاطبين لا يوجد تخصيص لفظ الشارع
وقال أبو حنيفة العرف من المخصصات وهو مغن عن التأويل والمطالبة بالدليل
وضرب العلماء لذلك مثالا وهو نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بالطعام فزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أن الطعام في العرف موضوع للبر وحاولوا حمل الطعام في لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما جرى العرف فيه
352 - وهذا الذي ادعوه من العرف ممنوع وهم غير مساعدين عليه ولو قدر ذلك مسلما لهم بمجرد العرف فمجرد العرف لا يقتضي تخصيصا فإن القضايا متلقاة من الألفاظ وتواضع الناس عبارات لا يغير وضع اللغات ومقتضى العبارات
فإن قالوا الناس مخاطبون على أفهامهم قلنا فليفهموا من اللفظ مقتضاه لاما تواضعوا عليه ولو تواضع قوم على تخصيص أو تعميم ثم طرقهم اخرون لم يشاركوهم في تواضعهم فإنهم لا يلتزمون أحكام تواطئهم فالشرع وصاحبه كيف يلزمهم حكم تواضع المتعاملين وقد خاطب المصطفى بشريعة العربية الأعاجم على اختلاف لغاتها على تقدير أن يسعوا في درك معاني الألفاظ التي خوطبوا بها والمسألة موضوعة فيه إذا لم يكن الرسول صاحب الشريعة ناطقا بما ينطق أهل العرف فلو ظهر منه مناطقة أهل زمانه بما اصطلحوا عليه فلفظه في الشرع لا ينزل على موجب اللسان
وإنما مأخذ المسألة في ظن الخصوم أن الشارع وإن لم يكن من الناطقين باصطلاح أصحاب العرف فإنه لا يناطقهم إلا بما يتفاوضون به وليس الأمر كذلك كما قدمناه
وقد انتجز الكلام في قضية الألفاظ العامة والخاصة وما يقتضي التخصيص ومالا يقتضيه على الجملة والتفصيل محال على باب التأويل ونحن نرى الان أن نذكر قولا بالغا في مفهوم الخطاب ليكون جامعا بين المنطوق به وبين المسكوت عنه ثم إذا انتهى القول فيه استفتحنا باب التأويل مستعينين بالله تعالى
فصل القول في المفهوم 353 - ما يستفاد من اللفظ نوعان أحدهما متلقى من المنطوق به المصرح بذكره والثاني ما يستفاد من اللفظ وهو مسكوت عنه لا ذكر له على قضية التصريح
فأما المنطوق به فينقسم إلى النص والظاهر وقد قدمنا فيهما تأصيلا وتفصيلا ما يقنع الناظر ولم يندرج المجمل في هذا التفسير لأنا حاولنا تقسيم ما يفيد
وأما ما ليس منطوقا به ولكن المنطوق به مشعر به فهو الذي سماه الأصوليون المفهوم والشافعي قائل به وقد فصله في الرسالة أحسن تفصيل ونحن نسرد معاني كلامه
354 - فمما ذكره أن قال المفهوم قسمان مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة
أما مفهوم الموافقة فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأولى وهذا كتنصيص الرب تعالى في سياق الأمر ببر الوالدين على النهي عن التأفيف فإنه مشعر بالزجر عن سائر جهات التعنيف
وأما مفهوم المخالفة فهو ما يدل من جهة كونه مخصصا بالذكر على وجه سيأتي الشرح عليه على أن المسكوت عنه مخالف للمخصص بالذكر كقوله عليه السلام
في سائمة الغنم الزكاة هذا التخصيص يشعر بأن المعلوفة لا زكاة فيها
وذكر الأستاذ أبو بكر بن فورك في مجموعاته فصلا لفظيا بين قسمى المفهوم فقال ما دل على الموافقة فهو الذي يسمى مفهوم الخطاب وما دل على المخالفة فهو الذي يسمى دليل الخطاب وهذا راجع إلى تلقيب قريب
وذهب أبو حنيفة إلى نفي القول بالمفهوم ووافقه جمع من الأصوليين
355 - وأما منكرو صيغ العموم ولما يتطرق إليها من تقابل الظنون فلا شك أنهم ينكرون المفهوم فإن تقابل الظنون فيه أوضح وهو بالتوقف أولى
وشيخنا أبو الحسن مقدم الواقفية وقد نقل النقلة عند رد الصيغة والمفهوم وفي كلامه ما يدل على القول بالمفهوم فإنه تعلق في مسألة الرؤية بقوله سبحانه كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وقال لما ذكر الحجاب على إذلال الأشقياء أشعر ذلك بنقيضه في السعداء وقد تحققت على طول بحثي عن كلام أبي الحسن أنه ليس من منكري الصيغ على ما اعتقده معظم النقلة ولكنه قال في مفاوضة مع أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ وال مذهبه إلى إنكار التعلق بالظواهر فيما ينبغي القطع فيه ولا نرى له المنع من العمل بقضايا الظواهر في مظان الظنون
نعم باح القاضي بجحد الصيغ في المواضع التي تقدم ذكرها في العقليات والعلميات وصرح بنفي المفهوم
356 - ثم من أنكر المفهوم لم يجحد ما يسمى الفحوى في مثل قوله تعالى فلا تقل لهما أف ثم اضطربوا فيه فقال قائلون كل ما دل من جهة الموافقة من حيث أشعر الأدنى بالأعلى فهو معترف به
وذهب المنتمون إلى التحقيق من هؤلاء إلى أن الفحوى الواقعة نصا مقبولة قطعا وليس ثبوتها من جهة إشعار الأدنى بالأعلى ولكن مساق قوله تعالى وبالوالدين إحسانا إلى مختتم الآية مشتمل على قرائن في الأمر بالتناهي في البر يدل مجموعها الى تحريم ضروب التعنيف وليس يتلقى ذلك من محض التنصيص على النهي عن التأفيف إذ لا يمتنع في العرف أن يؤمر بقتل شخص وينهى عن التغليظ عليه بالقول والمواجهة بالقبيح وضابط مذهب هؤلاء أن المقطوع به يستند إلى قرائن مجتمعة ولا سبيل إلى نفى القطع وما يتطرق إليه الظنون فهو من المفهوم المردود عندهم وإن كان مقتضيا للموافقة عند القائلين بالمفهوم
357 - ومما تردد فيه من رد المفهوم الشرط وأبوابه فذهب الأكثرون إلى الاعتراف باقتضاء الشرط وتخصيص الجزاء به وغلا غالون بطرد مذهبهم في رد اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء به وهذا سرف عظيم
358 - ومن قال بالمفهوم حصر مفهوم الموافقة في إشعار الأدنى في قصد المتكلم بالأعلى ثم ينقسم ذلك إلى ما يقع نصا وإلى ما يقع ظاهرا فالواقع نصا كالمتلقى من قوله فلا تقل لهما أف وما يقع ظاهرا كقوله ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنه فقال الشافعي تقييد القتل بالخطأ في إيجاب الكفارة يدل
على أن إيجابها في قتل العمد أولى وهذا الذي ذكره ظاهر غير مقطوع به إذ يتطرق إليه إمكان اخر سوى ما ذكره الشافعي من إشعار الأدنى بالأعلى
359 - فأما مفهوم المخالفة فقد حصره الشافعي في وجوه من التخصيص منها التخصيص بالصفة كقوله في سائمة الغنم زكاة وكقوله عليه السلام لي الواجد ظلم ومنها التخصيص بالعدد والتقدير والتخصيص بالحد والتخصيص بالمكان والزمان وظاهر هذه التخصيصات في هذه الجهات يتضمن نفى المسكوت عنه في الأمر المقصود في المخصص المنطوق به ونص رضي الله عنه على أن تخصيص المسميات بألقابها يتضمن نفى ما عداها
وذهب أبو بكر الدقاق من أئمة الأصول إلى أن التخصيص بالألقاب ظاهر في نفي ما عدا النصوص عليه وقد صار إلى ذلك طوائف من أصحابنا
وما ذكره الشافعي من حصر القول بالمفهوم في الجهات التي عدها من التخصيصات حق متقبل عند الجماهير ولكن لو عبر معبر عن جميعها بالصفة لكان ذلك منقدحا فإن المعدود والمحدود موصوفان بعدهما وحدهما والمخصوص بالكون في مكان وزمان موصوف بالاستقرار فيهما فإذا قال القائل زيد في الدار فإنما يقع خبرا ما يصلح أن يكون مشعرا عن صفة متصلة بظرف زمان أو بظرف مكان والتقدير مستقر في الدار أو كائن فيها والقتال واقع يوم الجمعة فالصفة تجمع جميع الجهات التي ذكرها ومن ينكر المفهوم فإنه يأبى القول في جميع هذه الوجوه
ونحن الان نعقد مسألتين تشتمل إحداهما على تعارض القائلين بالمفهوم ومنكريه وتحتوي على ما نختاره فيه وتشتمل الثانية على مكالمة الدقاق وإبداء السر في التخصيص بالألقاب
فلتقع البداية بالمسألة الأولى
مسألة
360 - يذكر وجوه احتجاج القائلين بالمفهوم ونتتبع ما لا نرضى منها بالإفساد ثم نعقبها بوجه الحق
فمن طرقهم أنه صار إلى القول بالمفهوم أئمة العربية منهم أبو عبيدة معمر بن المثنى وهو إمام غير مدافع ولئن ساغ الاحتجاج بقول أعرابي جلف من الأقحاح فالاحتجاج بقول أبي عبيدة أولى وقد قال في قول الرسول صلى الله عليه و سلم
مطل الغنى ظلم يدل على أنه لا ملام على المقتر وقد قال في قوله عليه السلام
لأن يتملىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلىء شعرا وهذا يدل على توبيخ من لا يعتني بغير الشعر فأما من جمع إلى علومه علم الشعر فلا يلام عليه والشافعي
من القائلين بالمفهوم وقد احتج بقوله الأصمعي وصحح عليه دواوين الهذليين
وهذا المسلك فيه نظر فإن الأئمة قد يحكمون على اللسان عن نظر واستنباط وهم في مسالكهم في محل النزاع مطالبون بالدليل والأعرابي ينطقه طبعه فيقع التمسك بمنظومه ومنثوره ولا يعدم من يتمسك بهذه الطريقة المعارضة وقصارى الكلام تجاذب ونزاع واعتصام بنفس المذهب
361 - طريقة أخرى لمثبتى المفهوم قالوا وردت أخبار نقلها آحاد وهي لو جمعت لالتحق معناها بالمستفيض الذي لا يستراب فيه وسبيله سبيل الحكم بجود حاتم وشجاعه على والأقاصيص المأثورة عنهما أفراد ثم نقل هؤلاء جملا من أخبار الآحاد وزعموا أنها تشعر بإثبات القول بالمفهوم فمما ذكروه ما روى عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب ما بالنا نقصر وقد أمنا وأشار إلى قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم فقال لقد تعجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال
صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
362 - ونحن لا نتجاوز خبرا من متمسكاتهم حتى نورد من طريق التفصيل عليهم ما يسقط معتصمهم فنقول على هذا الحديث قد كان ثبت وجوب الصلاة أربعا في غير حالة الخوف واستقر الشرع عليه وورد القصر مخصوصا بحالة الخوف فاعتقدوا وجوب الإتمام في غير حالة الخوف على ما تمهد الشرع عليه فلم
يكن ذلك قولا بالمفهوم والذي يحقق ذلك أنه لو فرض مع ما تقدم تخصيص بلقب لكان ما عدا المخصوص مقرا على ما استمر الشرع عليه قبل ذلك وإن لم يكن للألقاب مفهوم على أن الآية اقتضت التخصيص على صيغة الشرط فإنه تعالى قال إن خفتم وقد قال بتخصيص الشرط معظم من أنكر المفهوم
363 - ومما تعلقوا به قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قيل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأزيدن على السبعين قلنا هذا لم يصححه أهل الحديث أولا وقد قال القاضي رضي الله عنه من شدا طرفا من العربية لم يخف عليه أن قول الله تعالى لم يجر تحديدا بعدد على تقدير أن الزائد عليه يخالفه وإنما جرى ذلك مويسا من مغفرة المذكورين وإن استغفر لهم ما يزيد على السبعين فكيف يخفى مدرك هذا وهو مقطوع به عمن هو أفصح من نطق بالضاد
364 - وما يطلقونه من هذا الفن ما روى أن ابن عباس كان لا يرى
حجب الأم من الثلث إلى السدس باثنين من الإخوة والأخوات ويحتج بقوله تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس وكان يرى أن الأمر في الاثنين بخلاف الإخوة وقال لعثمان رضي الله عنه محتجا عليه ليس الأخوان إخوة في لسان قومك قلنا أولا انفراده بهذا المذهب ومخالفته جملة الصحابة يعارض احتجاجه وقد قيل إنه لما قال لعثمان ليس الأخوان إخوة في لسان قومك قال له عثمان ردا عليه إن قومك حجبوها باثنين يا صبي ثم قد تمهد للأم الثلث بالنص ثم استبان ردها إلى السدس في حالة مخصوصة فرأى ابن عباس تقرير ما عدا تيك الحالة على ما تمهد مطلقا قبل الحجب والرد
365 - وربما يستدلون بأن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتقدوا أنه لا غسل على من يواقع ويكسل ولا ينزل واعتصموا بقوله عليه السلام
الماء من الماء ومعناه وجوب استعمال الماء من نزول الماء قلنا قد كان الشرع على ذلك في ابتداء الإسلام وقد نقل الرواة فيه أخبارا
منها ما روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بدار رجل من الأنصار فناداه فتريث قليلا ثم برز ورأسه تقطر ماء فاستبان رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان مخالطا أهله وقد اغتسل فقال صلى الله عليه و سلم
لعلنا أعجلناك لعلنا أقحطناك إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك ثم تبين نسخ هذا الأصل بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت
وإذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاغتسلنا فلم يصح الاحتجاج بقوله عليه السلام
الماء من الماء وإنما نقل مذهب أقوام على الإطلاق وله محمل كما ذكرناه
وبالجملة ليس يخلو المتمسك لهولاء من وجه أو وجوه توهى ما يحولونه ويتخذونه معولهم فكيف يسوغ التعلق بالمحتملات في محاولة القطع والبتات
366 - ثم قال القاضي هذه الأخبار وإن زادت أضعافا مضاعفة فلا تبلغ مبلغ الاستفاضة فإن رواة هذه الأقاصيص لو اجتمعوا على نقل قصة واحدة لم تتواتر بنقلهم والمعتبر في ذلك أنا مضطرون إلى العلم بجود حاتم وشجاعة على ولا نجد في أنفسنا العلم الضروري باعتقاد الأولين اقتضاء التخصيص نفى ما عدا المخصص
367 - طريقة أخرى لأصحاب المفهوم ضعيفة وهي أنهم قالوا إذا قال الرجل لمن يخاطبه اشتر لي عبدا هنديا اقتضى ذلك نهيه عن شراء من ليس هنديا قالوا هذا ومثله مما لا يتمارى فيه أهل اللسان
فنقول لا حاصل لهذا الفن فإن المأمور كان محجورا عليه مقبوضا على يديه في حق من وكله قبل أن وكله واستنابه ثم ثبت التوكيل على الخصوص
واستمر ما كان ثبت قبل في غير المحل المخصوص بالصفات والذي يقطع الشغب عنا أن فرض التخصيص باللقب في هذا بمثابة فرض التخصيص بالصفات
368 - فأما الإمام الشافعي فإنه احتج في إثبات القول بالمفهوم بأن قال إذا خصص الشارع موصوفا بالذكر فلا شك أنه لا يحمل تخصيصه على وفاق من غير انتحاء قصد التخصيص وإجراء الكلام من غير فرض تجريد القصد إليه يزري بأوساط الناس فكيف يظن ذلك بسيد الخليقة صلى الله عليه و سلم فإذا تبين أنه إذا خصص فقد قصد إلى التخصيص فينبني على ذلك أن قصد الرسول عليه السلام في بيان الشرع يجب أن يكون محمولا على غرض صحيح إذ المقصود العرى عن الأغراض الصحيحة لا يليق بمنصب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا ثبت القصد واستدعاؤه غرضا فليكن ذلك الغرض آيلا إلى مقتضى الشرع وإذا كان كذلك وقد انحسمت جهات الاحتمالات في إفادة التخصيص انحصر القول في أن تخصيص الشيء الموصوف بالذكر يدل على أن العاري عنها حكمه بخلاف حكم المتصف بها والذي يعضد ذلك من طريق التمثيل أن الرجل إذا قال السودان إذا عطشوا لم يروهم إلا الماء عد ذلك من ركيك الكلام وهجره وقيل لقائله لا معنى لذكرك السودان وتخصيصهم مع العلم بأن من عداهم في معناهم
369 - وهذا تحرير كلام الشافعي وهو على مساقه بالغ حسن ولكن يرد عليه على انطباق تخصيص للأشياء بألقابها ويلزم من مضمون طلب الفائدة من التخصيص المصير إلى أن الشارع إذا خصص شيئا باسمه الذي ليس مشتقا اقتضى ذلك نفى الحكم فيما عداه ولو لم يكن كذلك لكان تخصيصه من غير قصد أو قصده من غير غرض أو غرضه غير محمول على مقاصد الشرع
وكل ذلك محظور لا سبيل إلى التزامه وإن كان ما ذكرناه في اللقب مسوغا لزم تسويغ مثله في الموصوف فإذا لا يستقل الكلام متعلقا بالتخصيص إلا بأحد وجهين إما أن يطرد في الألقاب كما ذهب إليه الدقاق وإما أن يوضح مع التمسك بالتخصيص أمرا يوجب ما ذكرناه في الموصوف دون غيره وليس في كلام الشافعي التزام ذلك على ما ينبغي من اختصاص أثر التخصيص بالموصوفات
370 - وقد حان الان أن نبدأ مسلك الحق على وجه يشتمل بيان المختار ونبين تدريج الكلام على مراتبه ونوضح القاصد في الأطراف فنقول لا يتبين المقصد من المسألة إلا باستفتاح التفصيل في آحاد الصور حتى إذا نجزت نرد الكلام إلى الضابط لها فنقول لا يتبين المقصد من المسألة إلا بذكر صور فمن الصور التي يجب الاعتناء بها الشرط والجزاء فإن سلم اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء به تعدينا هذه المرتبة وإن استقر على النزاع اكتفينا معه بنسبته إلى الجهل باللسان إو إلى المراغمة والعناد فنحن نعلم من مذهب العرب قاطبة أنها وضعت باب الشرط لتحصيص الجزاء به فإذا قال القائل من أكرمني أكرمته فقد أشعر باختصاص إكرامه بمن يكرمه ومن جوز أن يكون وضع هذا الكلام على أن يكرم مكرمه ويكرم غيره أيضا فقد نأى وبعد فآل الكلام معه إلى التسفيه والجهل والإحالة على تعلم مذاهب العرب ولسنها وحوارها
ولنعد إلى خصلة أخرى وهي التتمة وهي أنا نكتفي فيما ندعى بظهور الاختصاص ولا نحاول قطعا ناصا لا يتطرق إليه إمكان فإذا أنكر منكر ظهور ما
ذكرناه ظهر فساد قوله وانحطت رتبته عن استحقاق المفاوضات فهذا منتهى المراد في هذا الطرف
371 - ومما نذكره التحديد بالزمان والمكان أو العدد ونقول مما ظهر في الكلام ظهورا لا يستجاز المراء فيه أن الحدود تتضمن حصر المحدودات ولذلك تساق ولهذا الغرض تصاغ فإذا كان الحكم وراء المحدود كالحكم فيما يحويه الحد فلا غرض في الحد وظهور ذلك لا يجحد وهو من صور مسألة المفهوم ومن الصور تخصيص الموصوفات بالذكر كقوله عليه السلام في
سائمة الغنم زكاة وقوله
لي الواجد ظلم وهذا الفن عمدة المسألة وملتطم الكلام فليقع به فضل اعتناء والله المستعان
372 - فأقول إذا كانت الصفات مناسبة للأحكام المنوطة بالموصوف بها مناسبة العلل معلولاتها فذكرها يتضمن انتفاء الأحكام عند انتفائها كقوله صلى الله عليه و سلم
في سائمة الغنم زكاة فالسوم يشعر بخفة المؤن ودرور المنافع واستمرار صحة المواشي في صفو هواء الصحاري وطيب مياه المشارع وهذه المعاني تشير إلى سهولة احتمال مؤنة الإرفاق بالمحاويج عند اجتماع أسباب الارتفاق بالمواشي وقد انبنى الشرع على رعاية ذلك من حيث خصص وجوب الزكاة بمقدار كثير وأثبت فيه مهلا يتوقع في مثله حصول المرافق فإذا لاحت المناسبة جرى ذلك على صيغة التعليل
وكذلك النهي عن لي الواجد فإن الموسر المقتدر ذا الوفاء والملاء إذا طلب
بما عليه لم يعذر بتأخير الحق للمستحق وهذا في حكم التعليل لانتسابه إلى الظلم إذا سوف وماطل
فإن طولبنا بإثبات القول بالمفهوم فيما نصننا عليه فالقول الواضح فيه أن ما أشعر وضع الكلام بكونه تعليلا فهو أظهر عندي في اقتضاء التخصيص الذي من حكمه انتفاء الحكم عند انتفاء الصفة من الشرط والجزاء فإن العلة إذا اقتضت حكما تضمنت ارتباطه بها وانتفاءه عند انتفائها وإذا قال القائل إنما أكرم الرجل لاختلافه إلى كان ذلك أوضح في تضمن اختصاص إكرامه بمن يختلف إليه من قوله من اختلف إلى أكرمته
373 - فإن قيل إن العلل الشرعية ليس من شرطها أن تنعكس والمفهوم تعلق بادعاء العكس قلنا هذا الان كلام من لم يحط بما أوردناه والقول في العلل المستنبطة وشرائطها وقوادحها ليس مما نحن فيه بسبيل فإن غرضنا التعلق بما يقتضيه اللفظ في وضع اللسان اقتضاء ظاهرا ولا شك إن صيغة التعليل يظهر منها للفاهم ما أدرناه والقول في مآخذ العلل المستثارة لا يؤخذ من مقتضى العبارات والألفاظ فهذا ما أردناه
374 - فإن قيل خصصتم بالذكر الصفات المناسبة للأحكام وقد أطلق القائلون بالمفهوم أقوالهم بإثبات المفهوم بكل موصوف فأثبتوا في ذلك ما هو الحق قلنا الحق الذي نراه أن كل صفة لا يفهم منها مناسبة للحكم فالموصوف بها كالملقب بلقبه والقول في تخصيصه بالذكر كالقول في تخصيص المسميات بألقابها فقول القائل زيد يشبع إذا أكل كقله الأبيض يشبع إذ لا أثر للبياض فيما ذكر كما لا أثر للتسمية بزيد فيه ولنا كلام طويل على قوله صلى الله عليه و سلم
لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل تقصيناه في الأساليب فليطلبه مريده من ذلك الكتاب ومن سر
هذا الفصل أن شرط العلة المخيلة المستنبطة السلامة عن جمل من الاعتراضات والقوادح ولا يشترط شيء من ذلك في القول بمفهوم كلام الشارع إذا اشتمل على ذكر موصوف وفهم من الصفة مناسبة فإن الكلام في ذلك يدار على فهم الخطاب لا على شرائط العلل ولا يتضح الغرض في ذلك مع كل هذا التقرير إلا بذكر المسألة المعقودة على الدقائق
مسألة
375 - قد سفه علماء الأصول هذا الرجل في مصيره إلى أن الألقاب إذا خصصت بالذكر تضمن تخصيصها نفي ما عداها وقالوا هذا خروج عن حكم اللسان وانسلال عن تفاوض أرباب وتفاهمهم فإن من قال رأيت زيدا لم يقتض ذلك إنه لم ير غيره قطعا
376 - وعندي أن المبالغة في الرد عليه سرف ونحن نوضح الحق الذي هو ختام الكلام قائلين لا يظن بذي العقل الذي لا ينحرف عن سنن الصواب أن يخصص بالذكر ملقبا من غير غرض وإذا رأى الرائي طائفة والخبر عن رؤية جميعهم عنده مستو لاتفاوت فيه وهو في سماع من يسمع كذلك فلا يحسن أن يقول والحالة هذه رأيت فلانا فينص على واحد من المرئيين نعم إن ظهر غرض في أن المذكور في جملة من راه فقد ظهر عند المتكلم فائدة خاصة يفيدها السامع فإذ ذاك يحسن تخصيصه بالذكر ولا خفاء بذلك
فإن قيل هذا الذي ذكرتموه ميل إلى مذهب الدقاق قلنا الذي نراه أن التخصيص باللقب يتضمن غرضا مبهما كما أشرنا إليه ولا يتضمن انتفاء ما
عدا المذكور واللفظ في نفسه ليس متضمنا نفى ما عدا المذكور بل وضع الكلام إذا رد الأمر إلى المقصود يقتضي اختصاص المذكور بغرض ما للمتكلم والصفة المناسبة في وضعها تقتضي نفي الحكم عند انتفاء الصفة فظهر القول بمفهوم الصفة وظهر اقتضاء التخصيص باللقب غرضا مبهما فإنا نقول وراء ذلك لا يجوز أن يكون من غرض المتكلم في التخصيص نفى ما عدا المسمى يلقبه فإن الإنسان لا يقول رأيت زيدا وهو يريد الإشعار بأنه لم ير غيره فإن هو أراد ذاك قال إنما رأيت زيدا وما رأيت إلا زيدا فاستبان بمجموع ذلك أن تخصيص الملقب بالذكر ليس يخلو عن فائدة هي غرض للمتكلم منها حكاية الحال وإن بلغنا الكلام مرسلا اعتقدنا غرضا مبهما ولم نر انتفاء غير المسمى من فوائد التخصيص
377 - ومن تمام الكلام فيه أن متكلفا لو فرض عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال
في عفر الغنم الزكاة فهذا عندنا لا مفهوم له وهو كالمخصوص بلقبه ولكن يبعد من الرسول صلى الله عليه و سلم النطق بمثله وليس من الحزم أن يفرض من الشارع كلام لغو ويتعب في طلب فائدته فقد بان الآن مراتب العلماء
فقد صار قوم إلى إبطال المفهوم وهذا ذهول عن فائدة الكلام وصار قوم إلى أن لكل تخصيص مفهوما كالدقاق وهذا الرجل ابتدر أمرا لا ينكر وهو أن العاقل لا يخصص مذكورا هزلا وليس كل الغرض موقوفا على نفي ما عدا المسى واعتبر الشافعي الصفة ولم يفصلها واستقر رأيي على تقسيمها وإلحاق ما لا يناسب منها باللقب وحصر المفهوم فيما يناسب وهذا منتهى الكلام
مسألة
378 - فقد ذكرنا أن المفهوم ينقسم إلى ما يقع نصا غير قابل للتأويل ويغلب
ذلك في مفهوم الموافقة إذا انتهى إلى المرتبة العليا وإذ ذاك يسمى عند أرباب الأصول الفحوى والغالب على مفهوم المخالفة الظهور والانحطاط عن رتبة النصوص
فما يقع ظاهرا من تقاسيم المفهوم فالقول الضابط فيه أنه نازل منزلة اللفظ الموضوع للعموم وضعا ظاهرا فيجوز ترك المفهوم بما يسوغ به تخصيص العموم وهذا نفصله في باب التأويل إن شاء الله تعالى
379 - وغرضنا الان بعد إلحاق المفهوم باللفظ الموضوع للعموم أمران
أحدهما أن ترك جميع المفهوم بدليل يقوم بمثابة تخصيص العموم وليس كرفع جميع مقتضى اللفظ
والقول المقنع فيه أن المفهوم ليس مستقلا بنفسه وليس جزءا من الخطاب بذاته ولكنه من مقتضيات اللفظ فإن اقتضى ظهور أمر تركه فاللفظ بمقتضياته باق وفي تقدير رفع جميع متعلقات المنطوق رفع جميع مقتضى اللفظ وتعطيله ومعناه فكان المفهوم كبعض مسميات العموم
وإيضاح ذلك أنا ألفينا اللفظ الموضوع للعموم يستعمل تارة للاستغراق وتارة لبعض المسميات فلما استمر الأمران لم يكن في التخصيص خروج عن مقتضى اللسان وإن كان الظاهر الجريان على العموم وكذلك نرى العرب تخصص الشيء بصفة وهي تبغي نفي المخبر عنه عند انتفاء الصفة وقد لا تريد ذلك فليس قصد نفي ما عدا المخصص أمرا مقطوعا به فكان ترك المفهوم ورفع أصل التخصيص من السائغ الذي لا يستنكر مثله وشفاء غليل الطالب موقوف على وقوفه على حقائق التأويلات وهذا أحد الأمرين
380 - والثاني أن التخصيص إذا جرى موافقا لما يصادف ويلقى في مستقر
العرف فالشافعي لا يرى الاستمساك بالمفهوم فيه ويصير إلى حمل الاختصاص على محاولة تطبيق الكلام على ما يلقى جاريا في العرف وقد ذكر الشافعي في الرسالة كلاما بالغا في الحسن في هذا وذلك أنه قال إذا تردد التخصيص بين تقدير نفى ما عدا التخصيص وبين قصد أخراج الكلام على مجرى العرف فيصير تردد التخصيص بين هاتين الجهتين كتردد اللفظ بين جهتين في الاحتمال واللفظ إذا تعارض فيه محتملات التحق بالمجملات كذلك التخصيص مع التردد يلتحق بالمجملات ثم ضرب لذلك أمثلة من الكتاب منها قوله تعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فاستشهاد النساء مع التمكن من استشهاد الرجل مما لا يجري العرف به للعلم بما في ذلك من الشهرة وهتك الستر وعسر الأمر عند إقامة الشهادة فيقتضي التقييد إجراء للكلام على موجب العرف ومنها قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم وقوله عليه السلام
المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله فجرى ذلك
على الأعم الأغلب في أحوال المسافرين فلم يكن للتخصيص بالخوف مفهوم ومنها قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فظاهر الآية اختصاص المفاداة بحالة الشقاق وقد رأى الشافعي حمل ذلك على العرف الجاري في مثله في أن الزوجين لا يتخالعان ولا يتقامطان على الحب والمقة والتصافي وإنما تسمح المرأة ببذل المال المحبوب ويستبدل الزوج عنها مالا إذا أظهرا تقاليا وشقاقا فكان جريان التخصيص على حكم العرف وعلى هذا حمل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها إذ روت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فمقتضى التخصيص لو اتسق القول بالفهوم أن يصح النكاح بلفظها إذا أذن وليها ولكن الشافعي قال إنما تزوج المرأة نفسها إذا كانت متبرجة كاشفة جلباب الحياء عن وجهها مؤثرة لنفسها الخروج عن دأب الخفرات فإذ ذاك تستبد بنفسها وإن بقي فيها ملتفت إلى الأولياء فإنها تفوض أمرها إليهم فإن عضلوها حملت خاطبها على رفع الأمر إلى القاضي فجرى التخصيص على حكم العرف أيضا ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة فهذا مساق كلام الشافعي
381 - والذي أراه في ذلك أن اتجاه ما ذكره من حمل الأمر على خروج الكلام على مجرى العرف لا يسقط التعلق بالمفهوم نعم يظهر مسالك التأويل ويخفف الأمر على المؤول في مرتبة الدليل العاضد للتأويل والدليل عليه أن عين التخصيص لا يتضمن نفي ما عدا المخصص ولو صير إلىذلك ففيه تطرق إلى مذهب الدقاق وإنما ظهر نفي ما عدا المخصوص في إشعار المنطوق به شرطا أو تحديدا أو تعليلا ومقتضى اللفظ لا يسقط باحتمال يئول إلى العرف
والذي يحقق ذلك أنه لما قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في قوله تعالى أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أنقصر وقد أمنا قال عمر تعجبت مما تعجبت منه ولم ينكر عليه اعتقاد المفهوم من طريق اللسان وقد صار محمد بن الحسن إلى تنزيل مذهبه على مفهوم حديث عائشة ومنطوقه في النكاح بغير ولي فلست أرى المفهوم في هذا الفن متروكا من غير فرض دليل ومن حاسيك الصدور ترك المفهوم في مسألة النكاح بلا ولي وما ذكر في هذا الفصل فأنا أوفيه حظه إذا ذكرت طرق تأويلات المفهومات إن شاء الله تعالى
مسألة
382 - ما صار إليه المحققون أن قوله صلى الله عليه و سلم
تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم يتضمن حصرها بين القضيتين في التكبير والتسليم
وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى تنزيل هذا على المفهوم وقضوا بأنهم
من حيث لم يروا القول به لا يلزمون نفي ما عدا التكبير والتسليم وتمسكوا بهذا المسلك في قوله صلى الله عليه و سلم
الشفعة فيما لم يقسم
383 - وهذان فنان عندنا ونحن نخصص المثال الأول والثاني بما يليق بكل واحد منهما فأما قوله عليه السلام
وتحريمها التكبير فمقتضاه الحصر لا محالة وليس هذا من فن المفهوم المتلقى من تخصيص الشيء بالذكر كما سبق مفصلا وهذا يقرر من وجهين
أحدهما النقل والإحتكام إلى ذوي الحجا والأحكام في كل لسان ولغة فإذا قال القائل زيد صديقي لم يتضمن هذا نفي الصداقة عن غيره والقول بالمفهوم لا يتضمن في سياق هذا الكلام حصرا للصداقة ولا قصرا لها على زيد المذكور صدرا ومبتدأ ولو قال القائل صديقي زيد اقتضى هذا أنه لا صديق له غيره وهذا مما لا يبعد ادعاء إجماع أهل اللسان فيه ومن أبدى في ذلك مراء كان مباهتا محكوما عليه بالعناد فهذا وجه
والوجه الآخر أن ترتيب الكلام أن تقول زيد صديقي فإن وضع المبتدأ ذكر معرف تبتدره الأفهام حتى إذا فهم أسند إليه خبر لا يستقل معلوما في نفسه فينتظم من ارتباط الخبر به في إفادة السامع ما يقدر المتكلم أنه ليس عالما به فإذا قلب الكلام وقال صديقي زيد لم يصلح قوله صديقي صدرا مبدوءا به فإنه يترقب بعد البداية به خبره فحملت العرب تقديمه وصرف الاهتمام به على حصر معناه في زيد المذكور بعده ولولا ذلك لما انتظم الكلام وهذا معنى لا يفضي إلى
القطع بنفسه والمعتمد القاطع النقل كما ذكرناه فهذا في أحد الفنين وقد تحصل منه أنه ليس من المفهوم في شيء وإنما مأخذه ما ذكرناه
384 - وأما الفن الثاني وهو
الشفعة فيما لم يقسم فوجه التمسك به لا يتلقى من البناء على المفهوم وإنما مأخذه أن اللام في قوله الشفعة لتعريف الجنس فكأنه عليه السلام حصر جنس الشفعة فيما لم يقسم
385 - وقد نجز مقدار غرضنا من الكلام عن النص والظاهر والأمر والنهي والعموم والخصوص والمنطوق والمفهوم والمجمل والمفسر فهذه هي المراتب المقصودة في هذا الفن ولا يبقى بعد نجازها إلا ذكر مراتب التأويلات وما يقبل منها وما يرد وبيان مستنداتها ولكني أرى أن أخلل بين نجاز هذه المراتب وبين التأويلات القول في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنها من متعلقات الشرع والتأويلات والمحامل في حكايات الأحوال تتعلق بها
فنبتدىء مستعينين بالله تعالى بذكر أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم نعقب نجازها بكتاب التأويلات إن شاء الله تعالى
باب القول في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم
386 - الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم يستدعي تقديم صدر من القول في عصمة الأنبياء عليهم السلام ونحن نذكر منه القدر الذي تمس الحاجة إليه ثم نعود إلى نظم الكلام فنقول
387 - لا شك أن المعجزة تدل على صدق النبي عليه السلام فيما يبلغه عن الله تعالى فتجب عصمته عن الخلف في مدلول المعجزة ولو لم يكن كذلك لما كانت المعجزة دالة
فأما الفواحش والموبقات والأفعال المعدودة من الكبائر فالذي ذهب إليه طبقات الخلق استحالة وقوعها عقلا من الأنبياء وإليه مصير جماهير أئمتنا
388 - وقال القاضي هي ممتنعة ولكن مدرك امتناعها السمع ومستندة الإجماع المنعقد من حملة الشريعة على الأمن من وقوع الفواحش من الأنبياء ولو رددنا إلى العقل لم يكن في العقل ما يحيلها فإن الذي يتميز به النبي عن غيره مدلول المعجزة ومتعلقها والكبائر ليست مدلولها بوجه فلا تعلق للمعجزة بنفيها ولا بإثباتها نعم لو كان فيما ذكره من تنبي وتحدي به أنه منزه عن الفواحش واستشهد على صدقه بقيام المعجزة فوقعت على حسب الدعوى فكل ما أدرجه في كلامه إذا ارتبط قيام المعجزة به فنعلم على القطع إذ ذاك وجوب صدقه في جميع مخبراته ولا اختصاص لتعلق المعجزة بفن من الأخبار فإنها تقع على مطابقة دعوى النبي ووفقها فإن قامت ودعواه شيء واحد دلت على صدقه فيه وإن قامت ودعواه أشياء وقد استشهد على جميعها بقيام المعجزة دلت على صدقه في جميعها
والمختار عندنا ما ذكره القاضي
389 - وأما الصغائر ففي إثباتها أولا كلام كثير لسنا له الآن ولكن الذي نعنيه بذكر الصغائر مالا يتضمن فسق من صدر منه وانسلاله عن نعت العدالة وهذا أيضا إحالة على جهالة ولكن الكلام يجمل في غير مقصوده ويتبين في مقصوده
390 - والذي صار إليه أئمة الحق أنه لا يمتنع صدورها عن الرسل عقلا وترددوا في المتلقى من السمع في ذلك فالذي ذهب إليه الأكثرون أنها لا تقع منهم ثم اضطربوا وتخبطوا في تأويل آى مشهورة في قصص المرسلين والذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع في ذلك نفيا وإثباتا والظواهر مشعرة بوقوعها منهم
391 - ومما نقدمه قبل الخوض في الغرض النسيان فلا امتناع في تجويز وقوعه فيما لا يتعلق بالتكاليف فأما ما يفرض متعلقا بالتكاليف ففيه اضطراب ونحن قاطعون بأنه لا يمتنع وقوعه عقلا إلا أن يقول النبي أنه لا يقع منى نسيان ويقيم المعجزة عليه وهذا مطرد في كل خبر يتردد بين الصدق والكذب
فإذا تأيد بقيا المعجزة تعين الصدق فيه و إذا لم يتأيد بقيام المعجزة على الاختصاص به ففيه الكلام والنسيان إن لم يقع انتفاؤه مدلولا للمعجزة فهو مسوغ عقلا والظواهر دالة على وقوعه من الرسل
392 - وقد قال من لم يحط بمأخذ الحقائق إنهم عليهم السلام غير مقرين على النسيان بل ينبهون على قرب وهذا لا تحصيل له فليس يمتنع أن يقروا عليه زمانا طويلا ولكن لا ينقرض زمانهم وهم متمرون على النسيان وهذا متلقى من الإجماع لا من مسالك العقول
فهذا القدر مقنع فيما نبغيه في ذلك وفي أدراجه ملامح كافية في إيضاح المختار والدليل عليه
393 - ونحن نقول بعد ذلك إذا لم يبعد وقوع الذنب من الرسول عليه السلام فكيف يتخيل الناظر وجوب الاقتداء به في فعل وإن بنينا الأمر على امتناع وقوع الذنب منه فالكلام يقع وراء ذلك في حكم فعله
حكم فعل الرسول صلى الله عليه و سلم
394 - وأجمع تقسيم فيه أن نقول فعله صلى الله عليه و سلم ينقسم إلى ما شهد عليه قول منه ناص وإلى ما لم يشهد عليه قول ناص فأما ما يشهد عليه قول منه فهو كأفعاله في صلاته في قوله
صلوا كما رأيتموني أصلي وكأفعاله في نسكه مع قوله
خذوا عني مناسككم فهذا الفن خارج عن متعلق الغرض من الكلام في الأفعال فإن الأقوال هي المتبعة في هذا القسم والأفعال في حكم الأعلام ولكنا ذكرنا ذلك لاستيعاب الأقسام
395 - فأما ما ورد غير مقترن بقول شاهد عليه فينقسم إلى الأفعال الجبلية التي لا يخلو ذو الروح عن جميعها كالسكون والحركة والقيام والقعود وما ضاهاها من تغاير أطوار الناس فإذا ظهر ذلك فلا استمساك بهذا الفن من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم
396 - وأما ما لم يقترن به ما يدل على كونه من الأفعال الجارية في العادات فإنه ينقسم إلى ما يقع بيانا وإلى مالا يظهر ذلك فيه
فأما ما يقع بيانا فهو بمثابة ورود قول في الكتاب على إجمال فإذا وقع من رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم فعل في حكاية حال أو مراجعة وسؤال فظهور قصده في بيان الإجمال ينزل منزلة القول المقترن بالفعل الشاهد عليه
397 - فأما ما لم يظهر فيه قصد البيان فهو ينقسم إلى ما يقع في سياق القرب ويظهر كونه في قصد الرسول عليه السلام قربة وإلى مالا يقع في سياق القرب فأما ما يقع قربة في قصده فهو الذي اختلف فيه الخائضون في هذا الفن فذهب طوائف من المعتزلة إلى أن فعله صلى الله عليه و سلم محمول على الوجوب ويتعين اتباعه فيه وذهب إلى هذا المذهب ابن سريج وأبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا
وذهب ذاهبون إلى أن فعله لا يدل على الوجوب ولكنه محمول على الاستحباب وفي كلام الشافعي ما يدل على ذلك
وذهب الواقفية إلى الوقف فإنهم في ظواهر الأقوال سباقون إليه فالفعل الذي لا صيغة له بذلك أولى
398 - فأما من صار إلى أن فعله على الوجوب فمما استدلوا به قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وهذا الاستدلال مدخول فإن من يقف لا يسلم أن فعله يعدوه ويقول بحسب ذلك إن فعله ليس هو مما آتانا به
الرسول عليه السلام وفعله مختص به لا يتعداه وقد تكلم هؤلاء على الآية من وجه واقع وهو قول شيخنا أبي الحسن فإنه قال أراد ما أمركم به الرسول فخذوه والشاهد لذلك قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا والنهي إنما يقارنه على مضادة الأمر وبالجملة الاية محتملة وغاية المستمسك بها أن يسلم له ظهورها في غرضه والظهور مع تطرق فنون الظنون لا يقنع في القطعيات
ومما تمسك به هؤلاء أن قالوا أجمع المسلمون قبل اختلاف الآراء على أنه يجب على الأمة التأسى برسولها ومتابعته ومن متابعته أن يوافق في أفعاله
وهذا زلل عظيم فإن منصب النبوة يقتضي كون النبي متبوعا على معنى أنه مطاع الأمر فأما وجوب متابعته في أفعاله فليس ذلك مدلول معجزته ولا قضية نبوته ولا حكم مرتبته والملك الذي يتبع أمره لا يفعل مثل ما فعله إلا إذا أمر به
399 - فأما من صار إلى أن الفعل يدل على الاستحباب فيما يقع قربة فهذا أقرب قليلا من المسلك الأول في القسم الذي فيه الكلام فإنا لم نفرض قولنا إلا فيما يقع من الرسول في معرض القرب فإذا ظهر تقربه بفعل إلى الله تعالى فقد يظن الظان أن الأمة في ذلك بمثابته فإنه أسوة الخلق وقدوتهم في قربه وعبادته وليس ذلك كالفعل المرسل الذي ينقل عنه من غير أن يبين كونه قربة في حقه
وهذا الرأي غير سديد أيضا فإن ما ثبت قربة في حق المصطفى فليس في نفس الفعل ما يتضمن الدعاء إلى مساواته فيه والفعل في نفسه لا صيغة له وليس بدعا أن
يختص صاحب الشريعة بشيء دون أمته لعلو منزلته ورتبته وهذا متمسك الواقفية إذا حاولو إثبات الوقف
400 - والرأي المختار عندنا أنه يقتضي أن يكون ما وقع منه مقصودا قربة محبوبا مندوبا إليه في حق الأمة وشرطنا انتحاء الوسط في كل مسلك والنزول عن طرفي السدف في الإثبات والنفي فمن ادعى أن الفعل بعينه يقتضي ذلك فهو زلل فإن الفعل لا صيغة له ومن ادعى أنه لا يتأسى بفعل المصطفى صلى الله عليه و سلم فيما ثبت قصد القرب فيه فقد أبعد أيضا
والوجه في ذلك أن يقال ثبت عندنا أن صحب رسول الله صلى الله ليه وسلم كانوا يتحرون لأنفسهم في القربات ما يصح عندهم من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا إذا اختلفوا في قربة فروى لهم صادق موثوق به عن المصطفى صلى الله لعيه وسلم فعلا كانوا يتبدرونه ابتدارهم أقواله ولا ينكر هذا منصف فالوجه أن نقول إن رددنا إلى الفعل ومقتضاه أو إلى مدلول المعجزة فإنهما يفضيان إلى الوقف كما قال الواقفية ولكن تأكد عندنا من عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم التأسي به في كيفية أفعاله في قربة فليحمل هذا على الإجماع ولا يقطع به في مقتضى العقل والمعجزة وكل ذلك فيما ظهر وقوعه على قصد القربة من الرسول صلى الله عليه و سلم
401 - فأما فعله المرسل الذي لا يظهر وقوعه منه على قصد القربة فقد ذهب طوائف من حشوية الفقهاء إلى أنه محمول على الوجوب كالذي سبق في
القرب وقد عزى ذلك إلى ابن سريج بعض النقلة وهذا زلل وقدر الرجل عن هذا أجل ومذهب الوجوب وإن لاح بطلانه في القرب فهو على حال يصلح أن يكون معتقدا لمعتقد من حيث إنه يقول هو إمام الخليقة في الطاعة فإذا لم يظهر انتفاء الوجوب بنى الأمر على الوجوب أخذا بالأحوط فأما التزام هذا المذهب في كل فعل يصدر منه وإن لم يظهر كونه قربة فبعيد جدا
402 - فإن قيل فما المرتضى في هذا القسم قلنا أما الواقفية فيطردون مذاهبهم في الوقف ومذهبهم في هذه الصورة أظهر وأما أصحاب الندب فقد يصيرون إليه وهو ردىء مزيف بمثل ما زيفنا به مذهب أصحاب الوجوب في هذا القسم فإن انقسام فعله إلى الواجب وغيره كانقسام فعله إلى المندوب وغيره فالمختار إذا أن فعله لا يدل بعينه ولكن يثبت عندنا وجوب حمله على نفى الحرج فيه عن الأمة ومستند هذا الاختيار إلى علمنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو اختلفوا في حظر أو إباحة فنقل الناقل في موضع اختلافهم فعلا عن المصطفى لفهموا منه أنه لا حرج على الأمة في فعله وجاحد هذا جاهل بمسالك النقل فضلا عن المعنى واللفظ وأما ادعاء اعتقادهم أن فعله واجب على غيره أو مندوب مستحب فدعوى عرية لا تستند إلى قضية المعجزة ولا إلى عادتهم ولا إلى صفة الفعل
فهذا منتهى القول في أقسام أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو نجاز الغرض في هذا الفصل
فصل يحوى بقايا من أحكام الأفعال حكم الأفعال التي تظهر فيها خصائص الرسول صلى الله عليه و سلم
403 - قد تبين أن معتصمنا ما ظهر لنا من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في اعتقاد القربة فيما يجري عن المصطفى في سياق القربة وفي اعتقاد نفي الحرج فيما لا يظهر فيه قصد القربة منه ولم نتحقق على حاصل في فن من أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ما يتعلق بقبيل يظهر في خصائصه فليس عندنا نقل لفظي ولا معنوي في أنهم رضي الله عنهم كانوا يقتدون به في هذا النوع ولم يتحقق عندنا نقيض ذلك فهذا محل الوقف
404 - فلينظر الناظر كيف لقطنا من كل مسلك خياره وقررنا كل شيء على واجبه في محله وهذه غاية ينبغي أن ينتبه من يبغي البحث عن المذاهب لها فإنه يبعد أن يصير أقوام كثيرون إلى مذهب لا منشأ له من شيء ومعظم الزلل يأتي أصحاب المذاهب من سبقهم إلى معنى صحيح لكنهم لا يسبرونه حق سبره ليتبينوا بالإستقراء أن موجبه عام شامل أو مفصل ومن نظر عن نحيزة سليمة عن منشأ المذاهب فقد يفضى به نظرة إلى تخير طرف من كل مذهب كدأبنا في المسائل
حكم فعلى الرسول صلى الله عليه و سلم المختلفين المؤرخين
405 - ومما نذكره في أحكام الأفعال بعد ثبوت التاسي به على التفصيل المقدم أنه إذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلان مؤرخان مختلفان فقد صار كثير من العلماء إلى أن التمسك باخرهما واعتقاد كونه ناسخا للأول وتنزيلهما منزلة القولين المنقولين المؤرخين فإن اخرهما ناسخ لأولهما إذا كانا نصين وللشافعي صغو إلى ذلك وهو مسلكه الظاهر في كيفية صلاة الخوف بذات الرقاع فإنه صحت فيها رواية ابن عمر وصالح بن خوات فرأى الشافعي رواية ابن خوات متأخرة ورأى رواية ابن عمر في غير تلك الغزوة فقدرها في غزاة سابقة عليها وربما سلك مسلكا آخر فسلم اجتماع الروايتين في غزاة واحدة ورآهما متعارضتين ثم تمسك من طريق القياس بأقرب المسلكين إلى الخضوع والخشوع وقلة الحركة
406 - وذهب القاضي إلى أن تعدد الفعل مع التقدم والتأخر أو غير ذلك محمول على جواز الأمرين إذا لم يكن في أحدهما ما يتضمن حظرا
والذي ذكره القاضي ظاهر في نظر الأصول فإن الأفعال لا صيغ لها ولكن إذا ادعى مدع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يتمسكون بالأحداث فالأحدث فهو منصف والقول في ذلك على الجملة ملتبس فإن ادعاء ذلك عليهم في الأفعال على الخصوص نأي عن القطع وإن استمر فيه قطع فلا يبعد أنهم كانوا يرون الأخير أفضل أحواله وأولى أفعاله
مسألة
407 - مما يتعلق بالكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم بيان حكم تقريره غيره على أمر
فالذي ذهب إليه جماهير الأصوليين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأى مكلفا يفعل فعلا أو يقول قولا فقرره عليه ولم ينكر عليه كان ذلك شرعا منه في رفع الحرج فيما رآه
قالوا من لم ير التعلق بأفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم من جهة تردد أفعاله بين خواصه وبين ما يشاركه فيه غيره فإنه يقول إذا قرر غيره على أمر كان ذلك شرعا فإن تقريره يتعلق بالمقرر وكان ذلك في حكم الخطاب له وقد تمهد أن خطابه للواحد في حكم الخطاب للأمة
وهذا كما ذكروه ولكن فيه مستدرك فإنه لا يبعد أن يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم أبيا عليه ممتنعا من القبول منه على أمر فلا يتعرض له وهو معرض عنه لعلمه
بأنه لو نهاه لما قبل نهيه بل يأباه وذلك بأن يكون من يراه منافقا أو كافرا فلا يحمل تقريره هؤلاء وسكوته عنهم على إثبات الشرع فهذا تفصيل لا بد منه في التقرير
مسألة
408 - استدل الشافعي رضي الله عنه في إثبات القافة بتقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم مجززا المدلجي على قوله إذ قال لما نظر إلى أسامه وزيد وهما تحت قطيفة وقد بدت منهما أقدامهما إن هذه الأقدام بعضها من بعض فاستبشر رسول الله وسره ما قاله في القصة المشهورة وموضع الاستدلال للشافعي تقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الرجل
409 - قال القاضي هذا فيه نظر فإن قول مجزز كان موافقا لظاهر الحال وكان المنافقون يبدون غمزة في نسبة زيد وأسامة قاصدين به أذى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان الشرع حاكما بالتحاق أسامه بزيد فجرى قول مجرزا منطبقا على وفق الشرع والظاهر والأمر المستفيض الشائع وهو بمثابة ما لو قال فاسق مردود الشهادة هذه الدار لفلان يعزوها إلى مالكها وصاحب اليد فيها فلو قرر الشارع مثل هذا الرجل على قوله لم يكن ذلك حكما منه بأقوال الفسقة في محل النزاع وقيام الحاجات إلى إقامة البينات
وإن انتصر منتصر للشافعي قائلا إنما استدل الشافعي باهتزاز رسول الله صلى الله ليه وسلم ومن تمام كلام الشافعي أن الرسول لا يسره إلا الحق فإذا سره قول مجزر تبين أنه من مسالك الحق قيل يمكن أن يحمل ذلك على علم رسول الله صلى الله عليه و سلم برجوع العرب إلى أقوال القافة والقيافة لم تزل عندهم مرجوعا إليها وهي من أبواب الكهانة وكان المغمز منهم فلما رأى ما يكذبهم سره ما ساءهم
410 - فأقصى الإمكان في ذلك أن الرسول لو لم يكن معتقدا قبول قول القائف لعده من الزجر والفأل والحدس والتخمين ولما أبعد أن يخطىء في مواضع وإن أصاب في مواضع فإذا تركه ولم يرده كان الكلام على الأنساب بطريق القيافة فهذا من هذا الوجه قد يدل على أنه مستند الأنساب فهذا هو الممكن في ذلك
وقد انتجز بنجازه أحكام الأفعال والأقوال
وأنا أرى على أثر ذلك أن أتكلم في شرع من قبلنا وأوضح مذاهب الناس فيه فإن من العلماء من قدر شرائع الأنبياء الماضية شرعا لنا إذا لم يثبت في شرعنا ناسخ له على التعيين
باب القول في التعليق بشرائع الماضين 411 - اضطربت المذاهب في ذلك فصار صائرون إلى أنا إذا وجدنا حكما في شرع من قبلنا ولم نر في شرعنا ناسخا له لزمنا التعلق به وللشافعي ميل إلى هذا وبنى عليه أصلا من أصوله في كتاب الأطعمة وتابعه معظم أصحابه
412 - وذهب ذاهبون من المعتزلة إلى أن التعلق بشرع من قبلنا غير جائز عقلا وبنوا مذهبهم على أن ذلك لو قدر لأشعر بحطيطة في شريعتنا ولتضمن ذلك أيضا إثبات حاجة إلى مراجعة من قلنا وهذا حط من مرتبة الشريعة وغض من منصب المصطفى عليه السلام
413 - وصار صائرون إلى أن ذلك لا يمتنع عقلا ولكنه ممنوع شرعا واعتصموا بما روى أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم بلغه أن عمر كان يراجع اليهود في أقاصيص بني إسرائيل فسأله رسول الله صلى الله ليه وسلم عن ذلك ونهاه عن صنيعه وقال
لو كان ابن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي
414 - والمختار عندنا أن العقل لا يحيل إيجاب اتباع أحكام شرع من قلنا إذا لم يرد في شرعنا ناسخ له وما ذكره بعض المعتزلة من أن ذلك غض من الدين
وحط من مرتبة الشريعة وتنفير من اتباع شرعة الحق ساقط لا حاجة إلى إيضاح بطلانه ولكن ثبت عندنا شرعا أنا لسنا متعبدين بأحكام الشرائع المتقدمة والقاطع الشرعي في ذلك إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يترددون في الوقائع بين الكتاب والسنة والإجتهاد إذا لم يجدوا متعلقا فيهما وكانوا لا يبحثون عن أحكام الكتب المنزلة على النبيين والمرسلين قبل نبينا عليهم الصلاة والسلام
415 - فإن قيل امتنع ذلك عليهم من جهة أن أهل الأديان السابقة حرفوا كتبهم وغيروها عن الوجوه التي نزلت عليها قلنا هذا باطل من وجوه أحدها أن ما ذكروه يجر مساقه إلى أنه لا يجب التتبع للشرائع المتقدمة لمكان التباسها واندراسها فكأن هؤلاء وافقوا المذهب وخالفوا في العلة
والوجه الثاني أنه لو كان لنا متعلق في شرع من قبلنا لنبهنا الشارع على مواقع التلبيس حتى لا يتعطل علينا مرجع الأحكام والوجه الثالث أنه كان أسلم من الأحبار المطلعين على مواقع التغيير طائفة منهم عبد الله بن سلام وقد استشهد الله به في نص القرآن وقال ومن عنده علم الكتاب وقال وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم وأسلم كعب الأحبار في زمن عمر وكان المنتهى في علوم الأديان والإحاطة بالكتب وبالجملة لم يثبت قط رجوع إمام في عصر من الأعصار إلى تتبع الأحكام من الملل السابقة فانتهض ما ذكرناه قاطعا شرعيا فيما نحاوله
416 - فإن تمسك فقهاؤنا بقوله سبحانه وتعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقوله ملة أبيكم إبراهيم وقوله شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا قيل المراد بمساق هذه الآى الرد على المشركين وبيان إطباق النبيين على الدعاء إلى التوحيد وكان إبراهيم صلى الله عليه و سلم على مسلكه المعروف رادا على عبدة الأوثان فلما بلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم جرت الآى المشتملة على ذكر إبراهيم صلى الله عليه و سلم في تأييد التوحيد والرد على عبدة الأوثان
مسألة
417 - مما ذكره الأصوليون متصلا بهذا الفن القول فيما كان النبي عليه السلام قبل أن يبعثه الله نبيا وهذا ترجع فائدته وعائدته إلى ما يجرى مجرى التواريخ ولكن مأخذه الأصول كما سنبين الآن
418 - فذهبت المعتزلة إلى أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن على اتباع نبي ولكن على شريعة العقل في اجتناب القبائح وإتيان المحاسن العقلية وزعموا أنه لو عهد متبعا قط لكان في ذلك غميزة فيه لما بعث نبيا
وهذا كلام مستندة أصلان باطلان أحدهما القول بشريعة العقل وقد أبطلناه والثاني أن ما ادعوه من إفضاء اتباعه إلى منقصة في منصبه فهذا قد تكرر منهم مرارا ووضح سقوطه
419 - وذهب ذاهبون إلى أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام كما قدمناه في المسألة السابقة وقد أوضحنا أنها واردة في التوحيد والتمسك بها في هذه
المسألة ليس بشيء قطعي وغاية ما يسلم لهم ظاهر معرض للتأويل وقد تقرر أن الظواهر لا يسوغ التمسك بها في محاولة القطعيات ثم يعارضها قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
420 - وذهب ذاهبون إلى أنه كان على شرع نوح لهذه الاية فإن تعلق بها صاحب هذا المذهب فاية إبراهيم تعارضها
421 - وصار طائفة ممن ينتمي إلى التحقيق إلى أنه كان على شريعة عيسى فإنها آخر الشرائع قبل شريعة المصطفى وكان الخلق عامة مكلفين بها وكان الرسول صلى الله عليه و سلم من المكلفين
وهذا غير سديد من جهة أنه لم يثبت عندنا أن عيسى عليه السلام كان مبعوثا إلى الناس كافة ولو ثبت ابتعاثه إليه فقد كانت شريعته دارسة الأعلام مؤذنة بالانصرام والشرائع إذا درست سقط التكليف بها
422 - وقال القاضي لم يكن عليه السلام على شرع وقطع بهذا ولكنه لم يأخذه من مأخذ المعتزلة حيث أحالوا ذلك عقلا بل القاضي قطع بجواز ذلك في العقل ولكن متعلقة فيما صار إليه أنه عليه السلام لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره لها لما بعث نبيا ولتحدث بذلك أحد في زمانه وبعده فإن الأمر ظاهر لا يكاد يخفى في مستقر العادات على ما سيأتي ذلك مستقصى في كتاب الأخبار وما يجب أن يتواتر منها
423 - والمختار عندنا أن الأمر في ذلك ملتبس فلا وجه لجزم القول في نفي ولا إثبات وما ذكره القاضي من اقتضاء العادة ظهور دين مثله عليه السلام فهو في
مسلكه بين ولكن يعارضه أنه لو لم يكن على دين أصلا لذكر فإن ذلك أبدع وأبعد من المعتاد مما ذكره القاضي فقد تعارض الأمران
والوجه أن يقال كانت العادة انخرقت برسول الله عليه السلام في أمور منها انصراف الناس عن أمر دينه والبحث عنه فهذا منتهى القول في ذلك
ونحن الان بتوفيق الله وتأييده نبتدىء الكلام في التأويل مستعينين بالله تعالى وهو خير معين
باب التأويلات 424 - التأويل رد الظاهر إلى ما إليه ماله في دعوى المؤول وإنما يستعمل إذا علق بما يتلقى من الألفاظ منطوقا ومفهوما والألفاظ تنقسم انقساما أولا إلى المجمل والمجمل الذي لا يستقل بإفادة المعنى وإلى ما ليس مجملا
فأما المجمل فلا يسوغ فرض الاستدلال به حتى يقدر احتياج المستدل عليه إلى تأويله فإذا حسب المستدل المجمل ظاهرا اكتفى المستدل عليه بإبدائه كونه مجملا فإذا اشتغل المستدل عليه بتفسيره كان مجاوزا حد النظر متعديا مسلك الجدال مائلا إلى الانحلال فليكتف ببيان الإجمال وفيه سقوط استدلال المستدل
فأما ما ليس مجملا فينقسم إلى النص الظاهر وقد قدمنا ما يتميز به أحد البابين عن الثاني ومسائل هذا الكتاب تفصل تلك الضوابط إن شاء الله تعالى
فالنص ما لا يتطرق إلى فحواه إمكان التأويل وينقسم إلى ما ثبت أصله قطعا كنص الكتاب والخبر المستفيض وإلى ما لم يثبت أصله قطعا كالذي ينقله الآحاد ولا مجال لتأويل في النوعين وإنما يتعلق الكلام فيهما بتقديم المراتب عند فرض المعارضات مثل أن يعارض نص متواتر نص الكتاب إن أمكن ذلك أو يعارض خبر ناص مستفيض خبرا مثله أو يعارض خبر نقله الآحاد ما ثبت أصله قطعا أو يعارض مثله والقول في ذلك يأتي مشروحا في آخر كتاب التأويل إن شاء الله تعالى
425 - والقول الوجيز الآن فيه على ما تقتضيه التوطئة والتمهيد أن
الناظر يقدم ما يقتضي العقل والشرع جميعا تقديمه عند تفاوت المراتب فإن استوت المراتب وتحقق التعارض والألفاظ نصوص فالكلام في ذلك يئول إما إلى الإسقاط وإما إلى الترجيح على ما يأتي في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
426 - فأما الظاهر الذي يتطرق إمكان التأويل إليه وإنما ظهوره في جهته مظنون غير مقطوع به فعليه ينبني هذا الكتاب
427 - والوجه تصدير هذا الفصل بأمرين
أحدهما إبانة بطلان الاستدلال بالظاهر فيما المطلوب منه القطع لأن ظهور معناه غير مقطوع به فلا يسوغ وضع الاستدلال به على ما هذا سبيله وإن قدر ذلك من مستدل أشعر بجهله بأحد أمرين إما أن يجهل كونه ظاهرا أو يعتقده نصا والأمر على خلاف ما يقدره وإما أن يجهل تمييز مواقع العلوم عن مجال الظنون والجاهل بالوجه الأول أحق بأن يعذر من الجاهل بالرتبة الثانية ثم إذا فرض ذلك في المستدل فليس من حق المستدل عليه أن يشتغل بالتأويل بل يكفيه أن يبين تطرق الاحتمال وخروج اللفظ عن القواطع
وإذا وضح ذلك التحق الظاهر في محل طلب العلم بالمجملات التي لا تستقل بأنفسها
428 - والثاني أن الظاهر حيث لا يطلب العلم معمول به والمكلف محمول على الجريان على ظاهره في عمله وقد قدمنا في أثناء الكلام في ذلك قولا بالغا وإن حاولنا تجديد العهد به فالمعتمد فيه والأصل والتمسك بإجماع علماء
السلف والصحابة ومن بعدهم فإنا نعلم على قطع أنهم كانوا يتعلقون في تفاصيل الشرائع بظواهر الكتاب والسنة وما كانوا يقصرون استدلالاتهم على النصوص ومن استراب في تعلقهم بالقياس لم يسترب في استدلالهم بالظواهر ولم يؤثر منع التعلق بالظواهر عمن بخلافه ووفاقه مبالاة وإن ظهر خلاف فاستدلالنا قاطع بالمسلك الذي ذكرناه ومستنده الإجماع وسبيل نقل الإجماع التواتر
429 - فإن قيل أنتم تعلمون وجوب العمل بالظاهر وربط العلم بالمظنون محال وهذا رددوه مرارا وبان مسلك الحق فيه إذ قلنا الظاهر بنفسه لا يثبت علما بوجوب العمل وإنما المفيد للعلم الإجماع فهو يقتضي العلم بوجوب العمل وليس يتطرق إليه ظن وهذا نجريه في خبر الواحد والأقيسة المظنونة وقد صدرنا الكتاب بذلك لما حاولنا بيان ماهية أصول الفقه فإذا تبين جواز التعلق بالظواهر في المحال التي ذكرناها وتأويل الظواهر على الجملة مسوغ إذا استجمعت الشرائط اتي سنصفها إن شاء الله تعالى ولم ينكر أصل التأويل ذو مذهب وإنما الخلاف في التفاصيل وإن قدرنا فيه خلافا فالمعتمد في الرد على المخالف إجماع من سبق فإن المستدلين بالظواهر كانوا يؤولونها في مظان التأويل وهذا معلوم اضطرارا كما علم أصل الإستدلال ثم إذا ثبت جواز التأويل فلا يسوغ التحكم به اقتصارا عليه من غير عضد له بشيء إذ لو ساغ ذلك لبطل التمسك بالظواهر واكتفى المستدل عليه بذكر تطرق الإمكان إلى الظاهر وهذا إن
قيل به يسقط أصل الاستدلال ويلحق جمال الإجمال بما يطلب فيه العلم المحض
فإذا وضح أن أصل التأويل مقبول وتبين أن التحكم به مردود فيفتح بعد ذلك الكلام في تفصيل التأويل وما يعضد كل قسم منه من فنون الدليل
430 - ولجميع مسائل الباب عندنا ضبط في النفي والإثبات هو المتبوع وإليه المرجع
والذي أراه في طريقة الإفهام رسم مسائل في التأويلات اضطرب العلماء فيها فقبلها بعضهم وردها آخرون ونحن نطردها على وجوهها ونبين المختار منها حتى إذا نجزت نبهنا بعد نجازها على سر الكتاب
مسألة
431 - استدل الشافعي رضي الله عنه في اشتراط الولى في النكاح بحديث عائشة فإنها روت عن النبي عليه السلام أنه قال
أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث
وتعرض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه لذكر محامل وتأويلات ونحن نشير إلى وجوهها على إيجاز حتى يفضي الكلام إلى مقصود هذه المسألة
432 - قال قائلون الحديث محمول على الصغيرة فأنكر عليهم وقيل لهم ليست الصغيرة امرأة في حكم اللسان كما ليس الصبي رجلا وألزموا سقوط التأويل على مذهبهم فإن الصغيرة لو زوجت نفسها انعقد النكاح صحيحا موقوف النفاذ على إجازة الولى وقد قال عليه السلام
فنكاحها باطل ثم أكد البطلان بتكرير الباطل ثلاثا وكان عليه السلام إذا أراد تأكيدا كرر ثلاثا
فقالوا وجه تسمية نكاحها باطلا أنه إلى البطلان مصيره عند فرض رد الولى
واستشهدوا بقوله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون قيل لهم نكاحها يتردد بين النفوذ عند تقدير الإجازة من الولى وبين الرد عند فرض الرد منه ولا يسوغ والحالة هذه التعبير عن إحدى العاقبتين مع تجويز الأخرى وإنما يعبر عما سيكون بالكائن فيما يكون لا محالة كالموت الذي إليه مصير كل ذي روح
433 - ومن تأويلاتهم أنهم يحملون لفظ الرسول على الأمة وزعموا أنه لا يمتنع تسمية الأمة امرأة كما لا يمتنع تسمية السيد وليا ورد ذلك عليهم بوجهين أحدهما أنه نكاح صحيح موقوف كما ذكرنا في الصغيرة ومنتهى الكلام فيه كما سبق والثاني أنه عليه السلام قال
فإن مسها فلها المهر ومهر الأمة لمولاها
434 - وزعم من يدعي التحقيق والتحذق من متأخريهم أن الحديث محمول على المكاتبة واستفادوا بالحمل عليها على زعمهم استحقاقها المهر ثم الأمر عند هؤلاء قريب في حمل المرأة على الأمة والولي على المولى ومن هذا المنتهى منشأ مقصود المسألة
435 - ذهب معظم الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إلى أن هذا الصنف من التأويل مقبول
436 - وقال القاضي هو مردود قطعا وعزا هذا المذهب إلى الشافعي قائلا إنه على علو قدره كان لا يخفى عليه هذه الجهات في التأويلات وقد رأى الاعتصام بحديث عائشة اعتصاما بنص وقدمه على الأقيسة الجلية وكان ذلك شاهد
عدل في أنه رضي الله عنه كان لا يرى التعلق بأمثال هذه المحامل
ومجموع ما نوضح به هذه المسألة طرق نعددها
437 - الأولى أنه عليه السلام ذكر أعم الألفاظ إذ أدوات الشرط من أعم الصيغ وأعمها ما و وأي فإذا فرض فرض الجمع بينهما كان بالغا في محاولة التعميم وقرائن الأحوال متقبلة عند الكافة فإذا قال من ظهرت به مخايل الضجر لمرضه أو إلمام مهم به لبوابه لا تدخل على أحدا فلو أدخل البواب كل ثقيل ولم يدخل أقواما مخصوصين زاعما أني حملت لفظك على الذين منعته لم يقبل ذلك منه
فإذا ابتدأ الرسول عليه السلام حكما ولم يجره جوابا عن سؤال ولم يضفه إلى حكاية حال ولم يصدر منه حلا للإعضال والإشكال في بعض المحال بل قال مبتدئا وإليه ابتداء الشرع بأمر الله وشرح ما أعضل من كتاب الله أيما امرأة فانتحى أعم الصيغ وظهر من حاله قصده تأسيس الشرع بقرائن بينة فمن ظن والحالة هذه أنه أراد المكاتبة على حيالها دون الحرائر اللواتي هن الغالبات والمقصودوات فقد قال محالا ولا يكاد يخفى أن الفصيح إذا أراد بيان خاص شاذ فإنه ينص عليه ولا يضرب عن ذكره وهو يريده ولا يأتي بعبارة مع قرائن دالة على قصد التعميم وهو يبغى النادر قال الشافعي الشاذ ينتحى بالنص عليه ولا يراد على الخصوص بالصيغة العامة
438 - الطريقة الثانية أن التعلق بالظاهر يقتضي ظهوره في مقصود المتكلم من جهة وضع اللسان ومن جهة العرف والتأويل الذي يصغى إليه ثم
يطالب بالدليل عليه وهو الذي ينساغ من ذي الجد من غير أن يتولج في فن الهزء والهزل واللغز وما يقع كذلك فهو مردود
وبيان ذلك بالأمثلة أن الرجل إذا قال رأيت أسدا فقد يعني السبع المعروف وقد يعني به رجلا عجوما مقداما فهذا مساغ لا ينافيه الجد ولكنه تأويل فلو قال رأيت أسدا ويعني رجلا دميما أو أبخر لم يكن ذلك وجها منساغا فإن هذا لا يطلقه أرباب اللغات على انتحاء مسالك التأويل ولا على الجريان على الظواهر فإن أراد مريد ذلك كان ملغزا وإن ادعى جاهل تأويل مثل هذا الوجه لم يقبل ذلك منه ومن الأمثلة التي ذكرناها أن من قال رأيت جمعا من العلماء ثم لما روجع فسر بقطيع من البقر ذهابا منه إلى أنها على علوم تتعلق بمصالحها ومضارها ومنافعها وكذلك لو فسره برؤية سفلة من الجهلة ثم زعم أنهم من العلماء لم يقبل ذلك ولم يعد من المحامل المسوغة وإذا قال القائل لا تمنع فلانا شيئا من مالي ثم فسره بكسرة أو شربة عد جاهلا أو هازلا
439 - ثم اختتم كلامه بطريقة ثالثة تعضد ما تقدم وتستقل بنفسها فقال فقد سلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم المخالف والمؤالف أنه كان على النهاية القصوى من الفصاحة ولا حاجة إلى الإطناب في إثبات هذا ولا يخالف من معه مسكة من العقل أن الحمل على ما ذكره هؤلاء يحط الكلام عن مرتبة الفصاحة والجزالة ويحل المتكلم به محل الحصر العيى الذي يعمم في غير غرض ويبتغي التخصيص من غير إشعار به وكل ما يتضمن إلحاق كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمستهجن الغث
فهو مردود على قائله
440 - ثم لما استكمل رضي الله عنه الطرق ختم كلامه بأن قال كل ما قدمته توطئة وتمهيد وضرب أمثال وأنا أعلم على الضرورة والبديهة أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يرد بقوله أيما امرأة المكاتبة دون غيرها
فهذا منتهى القول في هذا ولا مزيد على ما ذكره القاضي
441 - فإن احتج من يسوع هذا الفن بأن قال الإماء والمكاتبات داخلان تحت العموم عند فرض التمسك بظاهر العموم وكل ما يدخل تحت الظاهر في العموم لا يبعد تنزيل العموم عليه تخصيصا وهذا الذي ذكروه فإنه لا يعارض ما نبهنا عليه فليس المعتبر فيما يقبل ويرد أقيسة وتشبيهات وتلفيق عبارات ولكن إنما يسوغ في التأويلات ما يسوغه الفصحاء وقد قدمنا في صدر هذا المجموع انحسام مسلك القياس في اللغات فإن إرادة النوادر مع إرادة الظواهر ليست بدعا وكذلك إرادة بعض ما يظهر باللفظ العام ليس مستنكرا على شرائط ستأتي فأما إرادة الأقل الأخص باللفظ الأعم الأشمل فهو مردود بالوجه الذي قدمناه
442 - فإن قالوا التخصيص حال في تمييز حكم عموم اللفظ محل الاستثناء ثم يجوز إطلاق لفظ عام يعقبه استثناء لا ينفى إلا الشاذ الأخص فليسغ ذلك في التخصيص أيضا وهذا من الطراز الأول فإنه قياس وتشبيه وتلفيق عبارات مع معاندة القطع
ثم لا يجوز أن يصدر من الرسول عليه السلام مثل هذا الاستثناء وقد منع القاضي
مثله من غير الرسول عليه السلام على ما ذكرناه في مسائل الاستثناء ومن جوز ذلك من غير الرسول عليه السلام فهو في حكم النص المصرح به وإن جىء به في صيغة ركيكة والرسول منزه عن مثل ذلك فقد لاح الغرض من هذه المسألة
مسألة
443 - استدل الشافعي رضي الله عنه في اشتراط تبييت النية في صوم رمضان بقوله صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فذكر المخالفون أسئلة تداني ما اشتلمت عليه المسألة الأولى ونحن نعيدها على الإيجاز ونتعداها إلى فن آخر من التأويل المردود
444 - فمما ذكروه حمل الحديث على القضاء والنذر المطلق وهذا مردود بالمسالك المقدمة فإنه عليه السلام قال ابتداء لا صيام ولا النافية إذا اتصلت على حكم التبرئة باسم منكور وجاء الاسم بعدها مبنيا على الفتح كان بالغا في اقتضاء العموم فإذا قال المصطفى صلى الله عليه و سلم ابتداء لابناء على سؤال ولا تطبيقا للكلام على حال لا صيام فظن ظان أن الصوم الذي هو ركن الإسلام وهو القاعدة في الصيام لم يعنه ولم يرده وإنما أراد ما يقع فرعا للفرائض الشرعية كالمنذورات وفرعا للأداء كالقضاء فقد أبعد ونأي عن مأخذ الكلام وهلم جرا إلى استتمام الطرق المقدمة في المسألة الأولى
445 - وذكر أصحاب أبي حنيفة مسلكا آخر في التأويل وعزوه إلى الطحاوي وذكروا أنه كان يتبجح به وهو أنه قال أراد صلى الله عليه و سلم نهى الرجل عن
الاكتفاء بنية صوم الغد في بياض نهار اليوم فقال فعليه أن يؤخر النية إلى غيبوبة الشمس حتى يكون بإيقاع النية في الليل مبيتا وزعم هذا المؤول أن مسلكه هذا يجري في جميع أنواع الصيام فرضها ونفلها وهذا كلام غث لا أصل له وهو يحط من مرتبة الطحاوي أن صح النقل عنه
446 - والدليل على بطلانه وجهان قريبان أحدهما أن هذا اللفظ لو سمعه عربي ناشىء من منبع اللغة لم يسبق إلى فهمه النهي عن إيقاع نية صوم الغد في يوم قبله وبالجملة هذه صورة شاذة نادرة تجري في أدراج الكلام للوسواس يضعها المتكلفون وظاهر الخطاب ينزل على ما يفهمه المخاطبون فإن أنكر الخصم أن المفهوم من الخطاب ما ذكرناه سقطت مكالمته ولم يبق إلا أن يرد إلى حكم اللسان وتفاهم أهل التحاور وإن اعترف أن هذا هو الظاهر فحمل كلام الرسول عليه السلام على نادر شاذ باطل بالمسلك الذي ذكرناه
447 - والوجه الثاني أن هذا الفن إنما يذكر نهيا عن الذهول وتحذيرا من الغفلة واستحثاثا على تقديم التبييت وهذا يجري مجرى الفحوى التي لا ينكرها محصل فإذا حمل حامل ذلك على النهي عن التقديم على الليل كان ذلك نقيض مقصود الخطاب
448 - والكلام الوجيز فيه أن مقصود الخطاب الأمر بتقديم النية والنهي عن تأخيرها عن وقت التبييت وموجب ما ذكره النهي عن التقديم والأمر بالتأخير وليس تخيل ما ذكره هذا القائل في اليوم الذي يلي الغد بأولى من تخيله من يوم قبله بسنة
449 - واعلم هديت لرشدك أن هذه الفنون من الكلام ما كانت تجري في عصور العلماء الأولين وإنما أقدم عليها المتأخرون لأمرين أحدهما التعري عن
مأخذ الكلام والثاني الاستجراء على دين الله تعالى والتعرض لخرق حجاب الهيبة نعوذ بالله منه
450 - مما وجه على هذا الحديث من التأويل حمل النفي فيه على نفي الكمال وهذا أقرب قليلا إلى مسالك التأويلات ولكنه مردود من وجهين أحدهما أن حمل هذا اللفظ على نفي الكمال غير ممكن في القضاء والنذر وهما من متضمنات الحديث وإذا تعين حمل اللفظة على حقيقتها في بعض المسميات تعين ذلك في سائرها فإن الإنسان الفصيح ذا الجد لا يرسل لفظه وهو يبغي حقيقتها من وجه ومجازها من وجه
فإن قالوا ليس القضاء والنذر مقصودين كما ذكرتم قلنا نعم ولكن الشاذ لا يعني باللفظ العام تخصيصا واقتصارا عليه وانحصارا عليه ولا يمتنع أن يشمله العموم مع الأصول
والذي يحقق هذا أنه لو حمل لفظه على نوع من الصوم ثم حمل فيه على نفي الكمال لما كان اللفظ عاما أصلا وكان مختصا بنوع واحد وهو من أعم الصيغ كما تقدم تقريره والدليل عليه أن ما ذكروه من أن الرسول عليه السلام لم يرد القضاء والنذر ليس مذهبا لذي مذهب فإنه إذا امتنع قبول التأويل من غير دليل فلأن يمتنع من غير مذهب أولى
مسألة
451 - استدل الشافعي رضي الله عنه في نكاح المشركات بالقصص المشهورة في الذين أسلموا على العشر والخمس والأختين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لغيلان وقد أسلم على عشر نسوة ثم راجع الرسول عليه السلام في مفارقتهم أو إمساكهن
فقال عليه السلام
أمسك أربعا وفارق سائرهن وقال للذي أسلم على اختين
أمسك أيتهما شئت وفارق الاخرى
فجرت تلك الأقاصيص نصوصا عند الشافعي في أن الكفار إذا أسلموا على عدد من النساء لا يوافق حصر الإسلام فعليهم أن يمسكوا عدد الإسلام ويفارقوا الباقيات ولا يؤاخذون برعاية الأوائل والأواخر ولا يكلفون الجريان على أحكام التواريخ ووجه التمسك بين فإنه عليه السلام علم أنهم على حداثة العهد بالإسلام ولم يخبروا تفاصيل الأحكام ثم أطلق لهم الخيرة في إمساك من شاءوا على شرط رعاية عدد الإسلام
452 - فوجه المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة سؤالين ركيكين أحدهما يسقطه اللفظ فلتقع البداية به ومقصود المسألة السؤال الثاني فأما ما
يدفعه اللفظ فدعواهم أنه أمرهم أن يختاروا الأوائل وهذا
يدفعه قوله عليه السلام لصاحب الأختين
اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى وقال عليه السلام لبعضهم وقد أسلم على خمس
اختر أربعا وفارق واحدة قال صاحب الواقعة فعمدت إلى أقدمهن صحبة ففارقتها فلا حاجة إلى الإطناب في ذلك وهو على معاندة اللفظ
453 - فأما الثاني وهو المقصود الذي عقدت المسألة له فهو أنهم قالوا إنه عليه السلام أراد بقوله
أمسك أربعا أن يمسكهن ويجدد عليهم الأنكحة على موجب الشرع
وهذا عند المحققين سرف ومجاوزة حد وقلة احتفال بكلام الشارع فإن الرسول عليه السلام ذكر لفظ الإمساك أولا وموجبه الاستدامة واستصحاب الحال والثاني أن النقلة لم ينقلوا تجديد العقود بل رووا الحكايات رواية من لا يستريب أنهم استمروا في عدد الإسلام على مناكحتهم فيهن وكان المخاطبون على قرب عهد والرسول صلى الله عليه و سلم لا يخاطبهم إلا بما يقرب من أفهامهم والتعبير عن ابتداء النكاج بالإمساك بعيد جدا ناء عن المحامل الظاهرة وفي القصص أنهم جاءوا سائلين عن الفراق أو الإمساك فانطبق جواب رسول الله صلى الله عليه و سلم على سؤالهم ثم النكاح على الابتداء لا يختص بهن بل جوازه سائغ في نسوة العالم وقوله
أمسك أمر وما ذكروه تخيير فينتظم من جوامع الكلام ما يحل محل قرائن الأحوال التي تفضى إلى العلم بإرادة المتكلم
وهذا وإن كان يستدعي مزيد تقرير في النظر ففي هذا المقدار تأصيل الكلام والمحصل ذو المنة يورده إيرادا مقررا وإن أردنا أن نأتي بكلام قريب جدا يستوي في نيله و الإفهام به المتشدق البليغ وذو العي الحصر قلنا
454 - إن جحدا معاند إفضاء ما ذكرناه إلى الغرض نصا لم يجحد ظهور ما ذكرناه وغلبة الظن في صغو قصد الشارع إلى ما قررناه ولا خلاف بين العالمين بالظواهر أن تأويلاتها لا تقبل غير مقترنة بأدلة وغاية المتمسك بهذا المسلك أن يأتي بقياس مظنون ومعنى الظن في أنه يحسبه أنه منصوب الشارع ظنا منه وتقديرا وقد غلب على الظن مقصود الشارع في لفظه فما يغلب متصلا بلفظه على الظن أولى مما يغلب على الظن كونه منصوبا للشارع في فنون الأقيسة وهذا يقع من الظن بعيدا بدرجات عن الظن المختص بلفظ المصطفى عليه السلام
455 - فإن قيل كأنكم تبنون هذا على تقديم الخبر على القياس فتثبتون استواء الظنين ثم تقدمون إحدى المرتبتين وقد لا تساعدون على تقديم الخبر على القياس قلنا ما أهون إثبات هذا علينا وسنذكره مستقصى في كتاب الأخبار
ثم هذه المسألة لا تختص بهذا المأخذ فإن من يرى هذا الفن من التأويل يطرده في تأويل ظواهر القرآن والأخبار المتواترة وإن كان القياس لا يقدم على نصوص القران والسنة المتواترة
456 - والذي يقطع مادة الإشكال في ذلك أنا نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا إذا وجدوا ما يظهر عندهم قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه اكتفوا به ولم يميلوا إلىغيره ورأوا من يركن إلى القياس لإزالة ظاهر ما صح عندهم في حكم الراد لخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو تتبع المتتبع الأخبار التي رويت لهم فعملوا بها لوجدها ظواهر والجحد في هذا المقام الآن إنكار البديهة ومداره الضرورة ثم معتضد القياس عملهم به لا غير فإن أنصف الخصم علم أنهم كانوا لا يقيسون في هذه الحال وإن ركب رأسه وطرد شماسه لم يمكنه أن يثبت قياسهم في هذه الصورة ولهذا لا يطمع فيه إلا أخرق ولا شك أنهم ما قاسوا في كل محل
457 - فليتخذ الناظر هذا الفصل معتضدة الأقوى في هذه المسألة وأمثالها وهنالك استبان أن كل ما ظهر في قصد الشارع لم يجر مخالفة ظاهر قصده بقياس فلهذا لم يشتغل الأوائل المتقدمون بما أنشاه ناشئة الزمان من التأويلات
المزخرفة ولم يكن ذلك لغفلتهم عن أمثالها
مسألة
458 - مما يجريه أبناء الزمان في أدراج الاعتراضات ادعاء أمور من طريق الاحتمال من غير نقل فحاولوا بها مداراة الاستدلال
وهذا بمثابة قول بعض أصحاب أبي حنيفة في المسألة التي تقدمت في نكاح المشركات حيث قالوا لم يكن في عدد النساء حصر في ابتداء الشرع ولعل الذين أسلموا كانوا نكحوا في الشرك حين لا حصر وكانت تلك الأنكحة على الصحة ولما أسلموا كان الحصر مستقرا في الشرع فلم يبطل رسول الله صلى الله عليه و سلم أنكحتهم السابقة الموافقة في وقت وقوعها موجب الشرع ولم يقرر عليها بالكلية
459 - وسبيل الكلام على هذا الصنف أن نقول لم يثبت ما ذكروه من أحكام الإسلام في ابتداء الأيام ولا مبالاة بما جاءوا به فلفظ الرسول عليه السلام محمول على ما الشرع عليه الآن ومن قدر أمرا على مخالفة ما يصادفه الآن فدعواه من غير حجة مردودة عليه وهذا متفق عليه فإن أمثال هذه الاحتمالات لو طرقت إلى حكايات الأحوال وأقوال الرسول فيها لما انتظم الاستدلال بواحد منها فإن هذه الفنون المدافعة للاستدلال ممكنة في كل أصل
460 - فإن قيل أليس تأويل الظواهر مقبولا بالإحتمال قلنا ليس الاحتمال مقتضيا قبول التأويل ولكنا رأينا الأولين على الجملة يتمسكون بالتأويلات وكما
رأيناهم متفقين على التأويل مع التعويل على دليل يعضده رأيناهم غير مكتفين بهذه الإمكانات وهذا بمثابة دعوى النسخ من غير ثبت فإن من ادعى نسخا فقد ادعى ممكنا ولكن لا يقبل منه بالإجماع إلا بثبت يعول عليه
فإن نقل أصحاب أبي حنيفة من التواريخ الصحيحة أن الحصر لم يكن في ابتداء الإسلام فيعسر التمسك بتلك الأقاصيص وعلى المتمسك بها أن يثبت وقوعها بعد الحصر وإلا كان الاستدلال معرضا لإجمال واحتمال ومثل هذا الاحتمال مع ثبوت الأصل في حكايات الأحوال ينزل منزلة الاحتمال في صيغ الأقوال
461 - ولكن لو صح ما ذكروه انقدح وراءه نوعان من الكلام
أحدهما أنه إن استقام النقل فيما ادعوه وهيهات فهو مما ادعاه ناشئة الزمان في الحصر في العدد فأما الجمع بين الأختين فلم يصر أحد إلى أنه عهد مسوغا في صدر الشريعة وقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف معدود عند المفسرين من باب الاستثناء من غير الجنس والمراد من قوله إلا ما قد سلف ما سلف في الجاهلية قبل مبعث المصطفى صلى الله عليه و سلم والدليل عليه أنه قال إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا وكان إذا جرى على صيغته فصيفته تتضمن الإخبار عما مضى فهذا وجه
462 - والوجه الاخر أنا نقول لو صح ما ادعوه من صحة مناكح المشركين لكان قياس الشرع يقتضي أن يبطل جميعها عند ورود الحجر والحصر بالتدافع كما إذا نكح الرجل رضيعتين جميعا أرضعتهما امرأة وثبتت الأخوة بينهما فاستدامة نكاحهما ممتنعة وتخصيص ارتفاع النكاح بأحدهما لا سبيبل إليه فلزم تدافع
النكاحين فإذا سلموا أن طريان الحجر لا يوجب التدافع قام عليهم مسلك في القياس قبل لهم به كما ذكرناه في مسائل الفقه فليطرد الناظر مقصود هذه المسألة في أمثالها وليحمل الخصم على تصحيح النقل فيما يدعيه ولا يكتفي بمجرد الاحتمال أصلا
مسألة
463 - إن صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله
من ملك ذا رحم محرم فهو حر فلا يصح تأويل متبعي الشافعي إذا حاولوا حمل اللفظ على الذين هم عمود النسب وهم الأصول أو الفصول وهذا الفن مما لا يلفى في الزمان من يجحده وهو باطل قطعا عند ذوي التحقيق وهذه المسألة عبرة لأمثالها فليمعن الناظر النظر فيها مستعينا بالله تعالى
464 - فنقول قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم للتعميم واضح لائح في قوله
من ملك ذا رحم محرم فإن ذلك مما نقل عنه ابتداء لا في حكاية حال ولا جوابا عن سؤال ولا في قصد حل إعضال وكان يعتاد تأسيس الشرع ابتداء فإذا قال من ملك ذا رحم محرم تبين أنه أراد المحارم من ذوي الرحم أجمعين ولو أراد الاباء والأمهات والبنين وعلم تخصيصهم بهذه القضية لنص عليهم فإذا ذكر الأقارب ثم علم أنهم ينقسمون إلى المحارم وغيرهم فخص الحكم الذي نص
عليه بالمحارم من ذوي الأرحام تقرر أنه قصد بذلك الضبط والتشوف إلى ما يسميه أهل الصناعة الحد فكيف يستقيم أن يظن به عليه السلام أنه أراد الذين هم عمود النسب وجرى أيضا كلامه مجرى تعظيم أمر الرحم إذا انضمت إليه المحرمية فانتظم من مجموع ما ذكرناه ظهور قصد التعميم من الرسول فمن رام مخالفة قصده لم يقبل منه وإن عضده بقياس فمستنده ظن المستنبط أنه مراد الشارع وليس له في ألفاظه ذكر فما يظهر من لفظ الرسول عليه السلام كيف يترك بما يظنه القايس على بعد من لفظ الرسول صلى الله عليه و سلم
465 - والقول الضابط في ذلك أنه لو تقدم قياس مظنون على ظاهر من لفظ الرسول عليه السلام لاقتضى ذلك تقديم مرتبة القياس على مرتبة الخبر وسنبين أن الخبر مقدم على القياس
466 - والقدر المقنع فيها أن لو رددنا إلى عقولنا لما سفكنا الدماء المحقونة في أهبها ولما حللنا الأبضاع المعظمة بأقيسة مستندها ظنون ولكنا ألفينا صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم الأكرمين يقيسون في غير موارد النصوص وثبت عندنا بالقاطع السمعي أن الإجماع حجة فإذا وقع العمل عند القياس بإجماعهم والإجماع مقطوع به ثم كانوا لا يقيسون ما وجدوا خبرا وكان الراوي البدوي الموثوق به إذا روى خبرا وظهر لهم قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم في تعميم حكم لم
يعرجوا على التأويلات البعيدة لأقيسة تعن لهم
فإذا الألفاظ المأثورة على ثلاث مراتب عندنا
467 - المرتبة الأولى أن يلوح للمؤول أن الشارع لم يقصد التعميم بها فما كان كذلك فلا يسوغ الاستدلال بحكم العموم فيه ولا حاجة إلى التأويل فيه وهذا نضرب فيه أمثالا منها أن الرسول عليه السلام قال ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بنضح أو دالية ففيه نصف العشر فإذا استدل الحنفي بهذا الظاهر في إثبات العشر في كل ما تنبته الأرض كان ذلك مردودا عليهم فإن الرسول استاق كلامه هذا للفرق بين السيح والنضح لا للتعرض لجنس ما يجب فيه العشر فإذا ظهر أن هذا الفن من العموم لم يقصده الشارع وإن جرى في كلامه اللفظ الصالح له وهو ما سقت السماء فالاستمساك به في قصد التعميم باطل إذ ظهر من كلامه خلافه ومن أمثلة ذلك استدلال من استدل من أصحاب أبي حنيفة بقوله تعالى وثيابك فطهر أن قالوا كل ما يقع به التطهير مندرج تحت مقتضى الأمر قال الشافعي الغرض من الآية التعرض لأصل التطهير لا التعرض لأصل التخصيص والتعميم في آلات التطهير والذي يحقق ذلك أن الباحث عن آلة التطهير عند اتصال هذا الخطاب به سائل عن الشيء على وجهه والذي يحقق ذلك قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم استاق الاية لبيان كيفية الوضوء ولم يخصص الغسل بآلة مخصوصة مع اختصاصها بالماء وفاقا
فهذه مرتبة فلتقس على الأمثال التي ذكرناها ما في معناها
468 - والمرتبة الثانية أن يظهر قصد التعميم من الشارع عليه السلام فهذا لا يسوغ تأويله بقياس مظنون كما سبق
469 - والمرتبة الثالثة أن يرد اللفظ ولا يقترن به ما يدل على قصد التعميم ولا ما يدل على نقيضه فهذا ملتطم التأويل وموقف التشاجر بين المستدل باللفظ وبين مدعى التأويل بمعاضدة بالقياس
والقول في هذه المرتبة عندي هين مدركه والحكم الجم لى فيه أن الأمر في ذلك أيضا ليس متروكا سدى بل على الناظر أن يزن حكم ظنه قياسه ومبلغ ظنه في عموم اللفظ وضعا فإن رجحت كفة ظنه في القياس حكم يغالب ظنه وإن غلب الظن في الشق الآخر أتبع الحكم موجب اللفظ وإن استويا فقد قال القاضي يقف الناظر فلا يعمل بهما وأنا أقول يعمل بالخبر فإن الظنين إذا تساويا فالخبر مرجح لعلو المرتبة وهذا مثله قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات فإذا تمسك الشافعي به في الطهارة كان تمسكه به معرضا للتأويل على القانون المقدم فنتخذ هذه عبرة في مسائل الشرع
مسألة
470 - مما رده المحققون من طرق التأويل ما يتضمن حمل كلام الشارع من جهة ركيكة تنأى عن اللغة الفصحى فقد لا يتساهل فيه إلا في مضايق القوافى وأوزان الشعر فإذا حمل حامل آية من كتاب الله أو لفظا من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه و سلم على أمثال هذه المحامل وأزال الظاهر الممكن إجراؤه لمذهب اعتقده فهذا لا يقبل
471 - ومن أمثلة ذلك حمل الكسر على الجوار في قوله وأرجلكم إلى الكعبين من غير مشاركة المعطوف عليه في المعنى وهذا في حكم الخروج عن نظم الإعراب بالكلية وإيثار ترك الأصول لإتباع لفظة لفظة في الحركة وهذا ارتياد الأردأ من غير ضرورة وإذا اضطر الشاعر إليه في مضايق القوافي لم يعد ذلك من حسن شعره كما قال امرؤ القيس ... كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل ...
فقوله مزمل خبر عن قوله كبير أناس جار معه مجرى الصفة ووجه الكلام كبير أناس مزمل في بجاد ولكنه أتبع كسرة اللام الكسرات المتقدمة لما كانت القافية على الكسرة
472 - وقال من أحاط بعلم هذا الباب حمل قراءة من قرأ وأرجلكم بالفتح على المسح في الرجل والمصير إلى أنه محمول على محل رءوسكم أمثل وأقرب إلى قياس الأصول من حمل قراءة الكسر على الجوار فإن كل مجرور
اتصل الفعل به بواسطة الجار فمحله النصب وإنما الكسر فيه في حكم العارض فاتباع المعنى والعطف على المحل من فصيح الكلام ومن كلامهم يا عمر الجواد فإن المنادى المفرد العلم وإن كان مبنيا على الرفع فأصله النصب فرد الصفة إلى محله وأصله حسن بالغ
473 - فالمختار إذا في قوله وأرجلكم ما ذكره متبوع الجماعة وسيد الصناعة سيبويه إذ قال الكلام الجزل الفصيح يسترسل في الأحايين استرسالا ولا تختلف مبانيه لأدنى تغيير في معانيه وترى العرب المسح قريبا من الغسل فإن كل واحد منهما إمساس العضو ماء فإذا جرى في الكلام عطف مقتضاه التشريك وتقارب المعنيان لم يبعد إتباع اللفظ اللفظ وهو كقول قائهم ... ولقد رأيتك في الوغى متلقدا سيفا ورمحا ...
والرمح يعتقل ويتأبط ولا يتقلد ولكن التقلد والاعتقال حملان قريبان وهو مسكوت عنه في المعطوف فسهل احتماله ومنه قول الاخر ... فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجهلتين ظباؤها ونعامها ...
قال سيبويه وهذا الذي ذكرناه وجه لا يخرج الكلام عن أساليب البلاغة والجزالةوتبسط المتكلم واسحنفاره وعدم انصرافه عن استرساله في التفاصيل أحسن وأبلغ من خرم اتساق الكلام لدقائق في المعاني لا تحتفل بها العرب ثم عضد ما قاله بأن قال ذكر الرب تعالى فرض الرجلين ذكره فرض اليدين
وربط منتهى الغرض في الرجلين بالكعبين ربطه واجب منتهى فرض اليدين بالمرفقين ومن يكتفي بالمسح فلا معنى لذكر الكعبين عنده وهذا راجع إلى إطباق حملة الشريعة قبل ظهور الاراء على غسل الرجلين ولما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبين الوضوء غسل رجليه فاجتماع هذه الأمور في القرآن والسنة وفعل السلف أظهر من الجريان على ما يقتضيه ظاهر العطف
474 - ومال الكلام في المسألة راجع إلى أن من حمل كلام الشارع على وجه ركيك من غير ضرورة مخققه ولا قافية مضيقة جره ذلك إلى نسبة الشارع إلى الجهل باختيار فصيح الكلام أو إلى ارتياد الركيك من غير غرض وكلا الوجهين باطل
475 - فإن قيل بناء فعالل و فعاليل مما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وصرفه معدود من ضرورات الشعر وفي القران قراءات عصبة من القراء سلاسلا وأغلالا وقواريرا فما وجه صرف ذلك وليس صرفه مسوغا في سعة الكلام
قلنا اختلف أصحاب المعاني في ذلك فقال قائلون الألف في سلاسلا تضاهى إطلاق القوافى ثم قد تبدل العرب الألف نونا فتستروح إلى عينها استرواحها إلى استرسال الألف وفي الغايات ومقاطع الآيات بعض أحكام القوافى والصحيح أن الأصل صرف كل اسم متمكن وليس في صرف ما لا ينصرف خروج عن وضع الكلام وإنما منع الصرف في حكم تضييق طارىء على الكلام وأما كسر الجوار فخارج عن القانون كما سبق تقريره
ولسنا نلتزم الان تتبع كل مشكلة في القرآن وإنما غرضنا أن نبين أن الاحتكام بتأويل يتضن صرف الكلام إلى وجه ركيك في محل الظن غير سائغ من غير غرض
مسألة
476 - مما غلظ الشافعي فيه القول على المؤولين كل ما يؤدي التأويل فيه إلى تعطيل اللفظ
وخرج الشافعي على ذلك مسائل مستفادة ونحن نرى أن نفردها مسألة مسألة
477 - ونبدأ الان بالكلام على قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء الآية قال الشافعي أضاف الله تعالى الصدقات بلام الاستحقاق إلى أصناف موصوفين بأوصاف فرأى بعض الناس جواز الاقتصار على بعضهم ذاهبا إلى أن المرعى الحاجة وهذا في التحقيق تأسيس معنى يعطل تقييدات أمر الله تعالى فلو كانت الحاجة هي المرعية لكان ذكرها أكمل وأشمل وأولى من الأقسام التي اقتضاها اللفظ ومقتضاها الضبط
فإذا قال المؤول الغرض التعرض للحاجة في جهة من هذه الجهات كان معطلا مؤولا فإن الحاجة قد لا تستمر في بعض الأصناف كالعاملين عليها وكبعض الغارمين الذين يتحملون الحمالات لتطفئة النائرة والفتن الثائرة فقد بطل التعويل على الحاجة
وإن كان أبو حنيفة يرعى الحاجة في جميع الأصناف فالمصير إلى
الكفاية ببعض جهات الحاجات تحكم والنص مصرح بذكر جميع الحاجات في معرض التشريك والعطف والتمليك ولو كان المراد ما تخيله المؤول لكان وجه الكلام إنما الصدقات للفقراء والمساكين فاستبان أن ما صار إليه المعترضون تعطيل وليس بتأويل
478 - واحتج الشافعي بالوصية على هؤلاء ولم يظن أن أحدا يجسر أن يقدم فيها على منع وتمام كلامه أنه إذا تعين اعتبار لفظ الموصى واعتقاده نصا فيجب تنزيل لفظ الكتاب على مثل ذلك وقد أحدث بعض المتأخرين منعا في الوصية وزعموا أنها بمثابة الصدقات فيجوز صرفها إلى واحد من ذوي الحاجات وهذا باطل قطعا فإن الوصايا تتلقى من ألفاظ الموصين فإذا صرف واحد طائفة من ماله إلى جهات عددها كان كما لو صرفها إلى أشخاص معينين فهذا منتهى المراد في هذه المسألة
مسألة
479 - مما عده الشافعي من القبيل المقدم الكلام على قوله تعالى فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى فقال علق الله الاستحقاق بالقرابة ولم يتعرض لذكر الحاجة فاعتبر أبو حنيفة الحاجة ولم يشترط القرابة والذي ذكره مضادة ومحادة
وقد ينقدح عندي نوع من الكلام في ذلك وهو أن يقال حرمت الصدقات على ذوي القربى فكان فائدة ذكرهم في خمس الفىء والغنيمة إيضاح أنه لا يمتنع من صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات وهذا مما لا ينبغي أن يغتر
به فإن صيغة الآية ناصة على سبب الاستحقاق لهم على حكم التخصيص والتشريف والتنويه والتنبيه على عظم أقدارهم فمن أراد حمل ذلك مع ما ذكرناه على جواز أن يصرف إليهم مع معارضة هذا الجواز جواز حرمانهم فقد عطل فحوى الاية
وهذا يعظم وقعه عليهم مع مصيرهم إلى أن اشتراط الإيمان في رقبة الظهار زيادة على النص فإن الرقبة مطلقة والقرابة في الاية مطلقة فيلزمهم أن يعتقدوا اشتراط الحاجة معها في حكم الزيادة
والذي نختتم المسألة به وهو البالغ أنهم لو حتموا صرف شيء إلى القرابة وشرطوا الحاجة لقرب ما ذكروا بعض القرب فأما وأصلهم أن المخصوصين من نسب الرسول والدانين من شجرته كالعجم الطماطم فلا يبقى مع هذا لمذهبهم وجه
مسألة
480 - من فاسد تصرفات أصحاب أبي حنيفة قولهم في قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا تقديره فإطعام طعام ستين مسكينا قصدوا بهذا رد العدد إلى الطعام كي ينتظم لهم مذهبهم في جواز صرف الأطعمة إلى مسكين واحد
وهذا كلام خارج عن الضبط لا يخفى درك فساده على من شدا طرفا من العربية ونحن نذكر في ذلك على الإيجاز قولا بليغا
فنقول الإطعام مما يتعدى إلى مفعولين والفعل المتعدى إلى مفعولين ينقسم قسمين قسم يتعدى إلى مفعولين لا ينتظم منها مبتدأ وخبر لو فرض حذف الفعل
فتقول أعطيت زيدا درهما وأطعمت عمرا طعاما فلا يتسق من زيد والدرهم وعمرو والطعام مبتدأ وخبر عند تقدير حذف الفعل فلا تقول زيد درهم ولا عمرو طعام
والقسم الثاني ما يتعدى إلى مفعولين ينتظم منهما مبتدأ وخبر إذا حذف الفعل كقوله ظننت زيدا عالما فلو حذفت الفعل فقلت زيد عالم لكان كلاما مفيدا فما كان مفعولاه مبتدأ وخبرا تقديرا فإذا ذكر المتكلم أحد المفعولين تعين ذكر الثاني لما بين المفعولين من ارتباط الخبر بالمخبر عنه وما يختلف المفعولان فيه كالقسم المقدم فلا يمنع ذكر أحدهما والسكوت عن الثاني فتقول أعطيت زيدا وتقتصر وتقول أعطيت درهما ولا تذكر الموهوب له وقد تذكرهما والكل فصيح بالغ والسبب فيه أنه لا ارتباط لأحد المفعولين بالثاني من طريق الإخبار وإنما البناء للفعل والمخبر يتخير إن أحب أسنده إليهما وإن أحب أسنده إلى أحدهما فالتعويل على الفعل في باب الإعطاء ولهذا لا يسوغ تعطيل عمله وإن تقدم المفعولان في وجه الكلام فتقول زيدا درهما أعطيت فإذا تقدم مفعولا ظننت لم يقع فعل الظن موقعا فتقول زيد عالم ظننت لا يتجه غيره وإن وسطت الفعل تخيرت بين الإعمال والإلغاء فإن شئت قلت زيد ظننت عالم وإن شئت قلت زيدا ظننت عالما وإن قدمت الفعل فوجه الكلام الإعمال لظهور الاعتناء بالفعل إذا قدم
481 - فإذا ثبت ما نبهنا عليه من هذه القاعدة رجع بنا الكلام بعد هذا إلى قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا والمساكين معطون والطعام في هذاالتقدير المفعول الثاني فقد جرى الكلام على إظهار أحد المفعولين وترك الثاني لما في الكلام من الدليل عليه وقد أوضحنا أن ذلك سائغ غير ممتنع وإذا ظهر أحد المفعولين أشعر ظهوره بقصد المتكلم إلى تصديق الاعتناء به والاكتفاء في الثاني
بما في الكلام من الدلالة عليه وطعام المسكين مشعر بقدر سداده وكفايته فلم يجر للقدر المذكور ذكر ووقع الاعتناء بذكر عدد الاخذين
هذا بيان الكلام فمن عذيرنا ممن يقدر حذف المظهر المعتبر وإظهار المفعول المسكوت عنه وهذا عكس الحق ونقيض الصدق وتغيير قصد الكلام بوجه لا يسيغه ذو عقل وقد أجرينا في الأساليب والعمد مسائل ومعتمد المذاهب فيها الأخبار وتناهينا في الكلام عليها فمن أرادها فليطلبها في مواضعها كمسألة خيار المجلس وبيع العرايا والمصراة وغيرها
ومن أعظم ما انبسط الكلام فيه نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع البر بالبر في مسألة الحفنة بالحفنتين فلم نرسم هذه المسائل واكتفينا بإيرادها في مواضعها
مسألة
482 - إذا ظهر من رسول الله صلى الله عليه و سلم لفظ يدل على تعليل حكم فلا يرى الشافعي إزالة ذلك الظاهر بقياس وهذا كما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر قال للسائل
أينقص الرطب إذا يبس فقال نعم قال عليه السلام
فلا إذا فعلل منع بيع الرطب بالتمر بنقصان الرطب عند الجفاف عن التمر وهذا وإن لم يكن نصا في وضع اللسان في التعليل بحيث لا يقبل إمكان التأويل فهو ظاهر فيه فمن أراد أن يزيل هذا الظاهر بقياس كان ما يحاوله مردوا عليه والسبب فيه أن أصل قياسه إذا كان القياس قياسا معنويا معلل والقايس مطالب بإثبات العلة
وسيتعلق إذا طولب بمسلك من الظنون وظهور كلام الرسول في التعليل مقدم على ما يظهر في ظن المستنبط ويرجع بناء الكلام إلى تقديم مرتبة الخبر على مرتبة ظن القياس وهذا إذا لم يجد المؤول العاضد تأويله بالقياس لأصل قياسه كلاما يظهر للشارع في تعليل أصل القياس فإن وجد ذلك من كلام الشارع استوت المنزلتان والتحق ذلك بالتعارض وسيأتي قول بالغ في التعارض في كتاب الأخبار إن شاء الله تعالى
مسألة
483 - إذا وردت مناه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في عقود وظهر من شيم العلماء القائمين بالشرع حملها على الفساد فإذا اتفق التعلق بنهي عن العقد وهو على صيغ سائر المناهى فالشافعي لا يقبل حمله على الكراهية وهذا كنهيه عليه السلام عن نكاح الشغار فمن أراد حمله على الكراهية قيل له قد ثبت من عادات السلف الماضين حمل أمثال ما ذكرناه وتمسكنا به على الفساد وهذا الذي تعلقنا به على صورة سائر المناهى ونحن نعلم بما تحقق عندنا من شيم الماضين أن هذا لو نقل إليهم لجروا فيه على ما القوه في أمثاله فمن أراد مخالفة ما ظهر لنا منهم كان في حكم المخالف لهم
484 - وهذا عندي لا يبلغ في السقوط مبلغ ما تقدم من التأويلات في المسائل لا سيما والذي مثلنا به نواه في البيع والنكاح في وضعه بعيد الشبه بالبيع فلا يلزم من جريانهم على حمل المناهى في البيع القابل للفساد بالشروط الحكم بمثل ذلك عليهم في النكاح البعيد عن قبول الفساد بالشرط
وهذا الذي ذكرناه من المسائل لم نقصد بها حصر ما يفسد ويصح فإن
ذلك لا ينحصر ولكن رمنا بإيرادها الإيناس بها وإجراءها أمثالا وشواهد في تمهيد الأصول
485 - والضابط المنتحل من مسائل هذا الكتاب أن المؤول يعتبر بما يعضد التأويل به فإن كان ظهور المؤول زائدا على ظهور ما عضد التأويل به فالتأويل مردود وإن كان ما عضد التأويل به أظهر فالتأويل صائغ معمول به وإن استويا وقع ذلك في رتبة التعارض والشرط استواء رتبة المؤول وما عضد التأويل به فإن كان مرتبة المؤول مقدمة فالتأويل مردود وكل ذلك إذا كان التأويل في نفسه محتملا فإن لم يكن محتملا فهو في نفسه باطل والباطل لا يتصور أن يعضد بشيء
فليتخذ الناظر ما ذكرناه مرجوعه ومعتبره في جميع مسائل الشريعة
عود إلى ترتيب الكتاب
486 - وقد نجز مرادنا في التأويل تفصيلا وتأصيلا ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشتمل على ما مضى من الكتاب وعلى ما سيأتي منه حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية
فنقول والله المستعان
487 - مقصود هذا الفن ذكر أصول الفقه على حقائقها ومراتبها ومناصبها وتفاصيلها وجملها
فأصول الفقه أدلته كما صدرنا الكتاب به وما يحال عليه أحكام الشرع وتعتقد مرتبطا لها ثلاثة أقسام نطق الشارع والإجماع الحاصل من حملة الشريعة وهم علماؤها ومسالك الاستنباط من مواقع ألفاظ الشارع وهو القياس
فأما نطق الشارع فنعني به قول الله تعالى وقول الرسول عليه السلام وينقسم الصنفان إلى النص والمجمل والظاهر وقد سبقت مفصلة فيقع القول في مقتضيات الألفاظ فنا كبيرا وصنفا عظيما ويحوي العموم والخصوص وصيغة الأمر والنهي وما يلحق بهذه الأبواب وقد مضى جميع ذلك
ثم قول الرسول عليه السلام ينقسم إلى متواتر وإلى ما ينقله الاحاد كما سيأتي إن شاء الله تعالى
فأما قول الله فهو الذي أجمع المسلمون عليه من السور والآيات في القرآن وألحق بعض المتكلمين القراءات الشاذة بأخبار الآحاد وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى والحق المختار عندنا في كتاب الأخبار
وقد ذكرنا أحكام الألفاظ وبقى علينا تقاسيم أخبار الرسول عليه السلام ومواقعها والمقطوع به منها والظنون
ونحن الآن نفتح كتاب الأخبارعلى أشمل وجه وأوجزه فإذا انتجز عقبناه بالإجماع ثم نذكر بعده كتاب القياس ثم نعقبه بكتاب الترجيح ثم نذكر بعده النسخ ثم إذا انتجز ذكرنا الفتوى وصفات المفتين والاستفتاء وما على المستفتين وأوصاف المجتهدين ونختتم الكتاب بالقول في تصويب المجتهدين وهو غاية الغرض من هذا المجموع فنبتدىء الآن
باب الأخبار 488 - الأخبار صنف من أصناف الكلام وهو قائم بالنفس عند معتقد كلام النفس والعبارات تراجم عنه وقد ذكرنا في إثبات كلام النفس والغوائل المتطرقة إلى مثبتيه ما فيه مقنع للمعتبر ومضطرب للمتفكر
والخبر هو الذي يدخله الصدق والكذب ويتميز بذلك عن جميع أقسام الكلام كالأمر والنهي والاستخبار على ما قدمنا رأى كل فريق في تقاسيم الكلام
فرأى القاضي الصدق والكذب على التنويع بلفظ أو إذ ذلك أمثل من الإتيان بهما فإن من قال الخبر يدخله الصدق والكذب أو هم إمكان اتصالهما بخبر واحد وإذا ردد ونوع فقال ما يدخله الصدق أو الكذب فقد تحرز من ذلك والذي تقتضيه صناعة الحد ارتياد أبلغ الألفاظ وأبعدها عن الإيهام وأقربها إلى الأفهام والذي لم يأت بالكلام على صيغة التنويع قال لسنا نحاول حد خبر واحد وإنما نتعرض لجنس الخبر والصدق والكذب يجريان في جنس الخبر والقول في ذلك قريب
489 - فإن قيل لم سمى الأصوليون ما نقله الرواة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبارا ومعظمها أوامر ونواه
فأجاب القاضي عن ذلك بوجهين أحدهما أن حاصل جميعها آيل إلى الخبر فالمأمور به في حكم المخبر عن وجوبه وكذلك القول
في النواهي وبهذا دلت المعجزة على وجوب قبولها منه والمعجزة تدل على الصدق والسر فيه أنه عليه السلام ليس آمرا على الاستقلال وإنما الآمر حقا الله تعالى وموضع صيغ الأمر من المصطفى صلى الله عليه و سلم في حكم الأخبار عن أمر الله فهذا وجه تسمية جميع المنقول خبرا
490 - والوجه الثاني أنها سميت أخبارا لنقل النقلة المتوسطين وهم مخبرون عمن روى لهم والذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا لا يقولون إذا بلغهم أمر أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بل يقولون أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمنقول إذا استجد اسم الخبر في المرتبة الثالثة إلى حيث انتهى
ثم أول ما نبتديه القول في تقاسيم الأخبار إلى المتواتر والمنقول آحادا وإذا تم غرض القمسين نجز بنجازه معظم مقصود الكتاب
فلتقع البداية بالخبر المتواتر
القول في الخبر المتواتر
491 - الذي يقتضيه الترتيب أن نصدر الخبر بذكر شرائطه ونصف الخبر المتواتر ثم نذكر قول الناس فيه وفي إفضائه إلى العلم
فنقول ذكر الأصوليون شرائط الخبر المتواتر
منها أن يخبر المخبرون عما علموه ضرورة فإذ ذاك يتضمن العلم ويقتضيه فأما إذا أخبروا عما علموه نظرا فنفس خبرهم لا يقتضي علما وإن أخبر
أهل الزمان قاطبة بحدث العالم لم يفد خبرهم علما وكانت طلبات العقل قائمة إلى حين قيام البرهان والذين أخبروا عن كثير من النظريات زائدون على عدد النقلة تواترا
والسبب في ذلك أن النظر مضطرب العقول ولهذا يتصور الاختلاف فيه نفيا وإثباتا فلا يستقل بجميع وجوه النظر عاقل والعقلاء ينقسمون أولا إلى راكن إلى الدعة والهويني من برحاء كد النظر وإلى ناظر ثم النظار ينقسمون ويتحزبون أحزابا لا تنضبط على أقدار القرائح في انتهاء ذكائها واتقادها وبلادتها واقتصادها ومن أعظم أسباب اختلافهم اعتراض القواطع والموانع قبل استكمالها النظر فلا يتضمن أخبار المخبرين في مجارى النظريات صدقا ولا كذبا
492 - وقيد طوائف من الأصوليين هذا الركن الذي فيه نتكلم باشتراط إسناد الأخبار إلى المحسوس ولا معنى لهذا التقييد فإن المطلوب صدر الخبر عن العلم الضروري ثم قد يترتب على الحواس ودركها وقد يحصل عن قرائن الأحوال ولا أثر للحس فيها على الاختصاص فإن الحس لا يميز احمرار الخجل والغضبان عن احمرار المخوف المرعوب وإنما العقل يدرك تمييز هذه الأحوال ولا معنى إذا للتقييد بالحس
493 - والوجه اشتراط صدر الأخبار عن البديهة والاضطرار ثم لا نظر إلى تفاصيل مقتضيات العلوم الضرورية فهذا شرط
494 - ومما يشترط في الخبر المتواتر الذي يفضي إلى العلم صدوره عن عدد وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابا فاحشا فنقل أصحاب المقالات عن النظام أنه قال قد يتضمن إخبار الواحد العلم الضروري فلا يشترط على موجب هذا النقل عنده عدد ولا يتضح مذهبه الآن نبين حقيقته عند ذكرنا الحق المختار
495 - وذهب من سواه من الخائضين في هذا الفن إلى اشتراط العدد ثم تباينت مذاهبهم فيه فلم يغادروا على اختلاف الاراء عددا في الشرع وهو مرتبط حكم أو جار وفاقا في حكاية حال إلا مال ذاهبون بالاعتقاد إليه فذهب قوم إلى اعتبار الأربعين مصيرا إلى عدد الجمعة عند بعض الفقهاء وذهابا إلى أن هذا العدد هو الذي نزل فيه قوله تعالى يايها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين نزلت هذه الاية لما امن أربعون من الرجال وكملت العدة بإسلام عمر وذكر بعضهم عدد رجال بدر وهم ثلثمائة وثلاثة عشر وذكر آخرون عدد أهل بيعة الرضوان وهم كانوا ألفا وسبعمائة واعتبر آخرون السبعين لقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا وقال طوائف من الفقهاء ينبغي أن يبلغوا مبلغا لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد وهذا سرف ومجاوزه حد وذهول عند مدرك الحق
496 - وقال القاضي أعلم أن عددهم يزيد على اقصى العدد المرعى في بيانات الشريعة وزعم أن إخبار الأربعة لا يتضمن العلم فإنه عدد بينة الزنا ونحن نعلم أن البينات في تفاصيل الحكومات لا تثمر العلوم وما زال القضاة مكتفين بغلبات الظنون في أقضيتهم ثم لم يقطع القاضي بأن إخبار الخمسة يوجب العلم ولم ينفه وإنما
محل قطعه أن الأربعة لا يوجب إخبارهم العلم
وذكر القاضي رحمه الله في بعض مصنفاته أن الوجه في درك ذلك أن يمتحن اللبيب أخبار المخبرين عن الضروريات فلا يجد من نفسه العلم على عدة مخصوصة والمخبرون يتزايدون والممتحن في ذلك يحس وجدان نفسه وما يدركه من الثلج واليقين ويتخذ العدد الذي اتصل بأخبارهم علمه معتبرا
497 - والذي أراه أن هذه المذاهب منقسمة فمنها ما هو مصروف عن مدرك الحق ومنها ما هو محوم وليس بوارد ونحن نتتبع جميعها بالنقض حتى إذا بطلت لاح من منتهى بطلانها الحق المبين ونستفتح عند ذلك وجه الحق مستعينين بالله
498 - ونبدأ باتباع مذاهب أصحاب الأعداد ونتكلم على جميعهم بثلاثة أنواع من الكلام أحدها أن نعارض بعض المذاهب ببعض فلا يتجه عند تعارضها ترجيح بعض على بعض وإن عن ترجيح فليس ذلك من مدارك الحق المقطوع به فإن الترجيحات ثمراتها غلبات الظنون في مطرد العادة
499 - والثاني أنه لا يتعلق شيء من هذه الأعداد التي هي مستندات المذاهب بالأخبار وإنما هي قضايا واتفاقات جرت في حكايات أحوال وليس في العقل ما يقضى بمناسبة شيء منها لاقتضاء العلم فلا وجه لاعتبار شيء منها
500 - والوجه الثالث أن المطلوب من الخبر المتواتر وجدان الصدق على ثلج من الصدر في المخبر عنه وما من عدد تمسك به طائفة إلا ويمكن فرض تواطئهم على الكذب فكيف يفيد النظر إلى عدد ربط به مقصود غير مناسب للمطلوب من الخبر المتواتر مع إمكان تصور الخبر على حكم الخلف الذي يبغى سامع الخبر انتفاءه
وبالجملة الأعداد التي تمسك بها هؤلاء منقسمة إلى ما تقدر معتبرة في أقاصيص وحكاية أحوال على وفاق وكان لا يمتنع أن يقع أقل من تلك المبالغ أو أكثر وإلى ما ورد في أحكام لا تعلق لها بالصدق والكذب فلا معنى للتمسك بها
501 - وأما ما ذكره القاضي فهو موافق فيما أخرجه عن الضبط ونفاه حيث قال ليس الأربعة عدد التواتر فأما تردده في الخمسة فلا وجه له فإنا لا نبعد في مجرى الاعتياد التواطؤ على الكذب من خمسة وستة وليس ذلك من الأمور البديعة المعدودة من نوادر وقائع الزمان والذي جعله معتبرا من أمر البينات ليس بالمرضى فيما نطلبه فإن مما ورد الشرع به الاستظهار بمزيد العدد في الوقائع الخطيرة وقد يستظهر القاضي بعد تمام عدة البينة بالتماس مزيد في الشهود ثم ما يفرض من مزيد لا يفضى إلى العلم المقطوع به فلئن كان الخامس خارجا عن عدد البينات فهو داخل في الاستظهار المأذون فيه ولم نذكر هذا الفصل لنتخذه معولنا ولكنا عارضنا القاضي بما ينقض عليه مذهبه
502 - وأما من قال إن عدد التواتر لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد فقد أسرف فإن التواتر يقع بدون ذلك وإذا أخبر جمع كثير في بلدة عن واقعة
شاهدوها واستجمع إخبارهم الشرائط المرعية التي نحن في تفصيلها فيحصل العلم الضروري بإخبارهم وهم بعض من أهل البلدة والخروج عن إمكان العدد لا يعتبر شرطا وليس عدد معظم أهل الدنيا خارجا عن إمكان البشر
فإذا بطلت هذه المذاهب ولم يبق إلا مذهب النظام فسندرجه في مجاري الكلام المشتمل على اختيار الحق
503 - فإن قيل فماذا ترضون في ذلك
قلنا الخوض فيما نؤثره يستدعي تقديم أمر وهو أن العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها ولا سبيل إلى حجدها إذا وقعت وهذا كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل ونشط الثمل وعضب الغضبان ونحوها فإذا ثبتت هذه القرائن ترتب عليها علوم بديهية لا يأباها إلا جاحد ولو رام واجد العلوم ضبط القرائن وصفها بما تتميز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلا فكأنها تدق عن العبارات وتأبى على من يحاول ضبطها بها
وقد قال الشافعي رحمه الله من شاهد رضيعا قد التقم ثديا من مرضع ورأى فيه اثار الامتصاص وحركات الغلصمة وجرجرة المتجرع لم يسترب في وصول اللبن إلى جوف الصبي وحل له أن يشهد شهادة باتة بالرضاع ولو أنه لم يبت شهادته في ثبوت الرضاع ولكنه شهد على ما رأى من القرائن وأطنب في وصفها واستعان بالوصافين المعرفين فبلغ ذكر القرائن مجلس القاضي فلا يثبت
الرضاع بذلك لأن ما سمعه القاضي وصف لا يبلغ مبلغ العيان والذي يفضي بالمعاين إلى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الوصافين ولو قيل لأذكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا افصل بين حمرة الخجل وحمرة الغضب وبين حمرة المرعوب لم تساعده عبارة في محاولة الفصل فإن القرائن لا تبلغها غايات العبارات
504 - فإذا تمهد ذلك قلنا
لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود وعدد معدود ولكن إذا ثبتت قرائن الصدق ثبت العلم به فإذا وجدنا رجلا مرموقا عظيم الشأن معروفا بالمحافظة على رعاية المروءات حاسرا رأسه شاقا جيبه حافيا وهو يصيح بالثبور والويل ويذكر أنه أصيب بوالده أو ولده وشهدت الجنازة ورؤى الغسال مشمرا يدخل ويخرج فهذه القرائن وأمثالها إذا اقترنت بإخباره تضمنت العلم بصدقه مع القطع بأنه لم يطرأ عليه خبل وجنة والذي ذكره النظام ما أراه إلا في مثل هذه الصورة فإنه لا يخفى على غبي من حثالة الناس أن الواحد قد يخبر صادقا وقد يخبر كاذبا فلا تقع الثقة بأخباره
ولكن لعله قال لا يبعد أن يحصل الصدق بإخبار واحد فعزى إليه جزم القول في ذلك مطلقا وليس من الإنصاف نسبة رجل من المذكورين إلى الخروج عن المعقول من غير غرض
505 - وإذ ذكرت إمكان حصول العلم بصدق مخبر واحد فإنى أفرض تخلف العلم بالصدق عن إخبار عدد كثير وجم غفير إذا جمعتهم إيالة وضمنهم في اقتضاء الكذب حالة فإن الملك قد يواطىء قواد الجند في مكيدة ليواطئوا بالمترتبين في جملتهم وغرضه إخفاء أمره ليشن غارة فيقع التواطؤ على الكذب فيما أشرنا
إليه ولا تعويل على العدد بمجرده أصلا
ولكن إذا انتفى ما ذكرناه من تقدير جامع على التواطؤ وبلغ المخبرون مبلغا لا يقع في طرد العادة اتفاق تعمد الكذب فيهم ولا يجري ذلك من امثالهم سهوا وغلطا أيضا فتصير حينئذ الكثرة مع انتفاء أسباب التواطؤ قرينة ملحقة بالقرائن التي ترتبت عليها العلوم فالعدد في عينه ليس مغنيا إذ يتصور معه تقدير حالة ضابطة وإيالة حاملة على الكذب رابطة للكذب
506 - وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها ويقضى العجب من الاطلاع عليها ويتنبه لسبب اختلاف الاراء فيها ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير
507 - أما النظام فإنما نظر إلى إمكان الصدق مع القرينة وإن اتحد المخبر ولم يطرد ذلك في كل أحد
508 - ونقل النقلة عن السمنية أنهم قالوا لا ينتهى الخبر إلى منتهى يفضي إلى العلم بالصدق وهو محمول على أن العدد وإن كثر فلا يكتفي به حتى ينضم إليه ما يجري مجرى القرينة من انتفاء الحالات الجامعة
509 - وذهب الكعبي إلى أن العلم بصدق المخبرين تواترا نظرى وقد كثرت
المطاعن عليه من أصحابه ومن عصبة الحق والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت إيالة جامعة وانتفائها فلم يعن الرجل نظريا عقليا وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج وليس ما ذكره إلا الحق
510 - وظن ظانون أن العدد معتبر فانقسموا قسمين فاختبط قوم ولم يجدوا متعلقا عقليا فارجحنوا إلى أعداد سمعية وكان هؤلاء أبعد البرية عن درك الحق
وتفطن آخرون لبطلان هذا المأخذ مع الاصرار على التشوف إلى العدد فغلا غالون فقالوا هم الذين لا يحويهم بلد وهذا كلام ركيك واقتصد القاضي فضبط ما رآه دون عدد التواتر وبقى على تردد في عدد التواتر
511 - ومن عجيب الأمر وهو خاتمة الكلام ما أبديه الان قائلا الكثرة من جملة القرائن التي تترتب عليه العلوم المجتناة من العادات مع انضمام انتفاء الإيالات عنها وكل قرينة تتعلق بالعادة يستحيل أن تحد بحد أو تضبط بعد وما عندي أن ذلك يخفى على المستطرفين في هذا الفن فليت شعري كيف تشوفوا إلى ضبط ما يستحيل ضبطه ثم اختلفوا وتقطعوا
512 - وأنا أقول المحكم في ذلك العلم وحصوله فإذا حصل استبان للعاقل ترتبه على القرائن فإن العلم في العادة لا يحصل هزلا وقد يختلف ذلك باختلاف الوقائع وعظم أخطارها وأحوال المخبرين وهذا هو المنتهى الذي ليس بعده مطلب لمتشوف
ونحن نذكر بعد ذلك مجامع من كلام الناس في شرط التواتر وراء ما ذكرناه بعضها قريب مقتصد وبعضها باطل
513 - فمما ذكره الأصوليون في شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة وعنوا به أن العصور إذا تناسخت فلا يكفي توافر الشرائط وكمال العدد في طرف النقل من الرسول صلى الله عليه و سلم مثلا بل ينبغي أن يدوم ذلك في كل عصر وقد ينقلب التواتر احادا وقد يندرس ما تواتر دهرا على ما سيأتي ذلك مشروحا
فالمتواتر من أخبار الرسول صلى الله عليه و سلم في حقوقنا ما اطردت الشرائط فيه عصرا بعد عصر حتى انتهى إلينا وهذا لا خفاء به ولكنه ليس من شرائط التواتر وحاصل ذلك أن التواتر قد ينقلب احادا وليس الأمر كذلك ولكنه من تفاصيل القول فيما يتواتر وينقلب احادا وليس من شرائط وقوع التواتر
514 - وذكر بعض أصحاب المقالات عن اليهود أنها اشترطت في التواتر أن يكون في المخبرين أصحاب ذلة وصغار وزعموا أنه إذا كان أصحاب الأخبار أصحاب الاختيار ولم يختلط بهم أقوام هم تحت صغار الانتهار فقد يظن بذوي الاختيار الاستجراء على الكذب
وهذا ساقط فإنا على اضطرار نعلم أن الجمع العظيم مع رعاية القرائن المذكورة إذا أخبروا عن واقعة عاينوها نعلم صدقهم وإن لم يكن من جملتهم أهل ذلة ومثل هذا لا يعارضه تشكيك المتخيلين وما تشبثوا به من اجتراء أهل الاختيار على الكذب معكوس عليهم بإمكان حملهم على الكذب انتهارا وإجبارا
515 - والجملة في ذلك أن التواتر من أحكام العادات ولا مجال لتفصيلات الظنون فيها فليتخذ الناظر العادة محكمة
وقد أتى هذا المقدار على أسرار لا تحويها أسفار وهو على إيجازه لا يغادر وجها من البيان تمس إليه الحاجة وينزل كل كلام وراءه كالفضل المستغنى عنه
فصل في تقاسيم الأخبار 516 - ذكر الأئمة رضي الله عنهم تقاسيم الأخبار وقالوا إنها ثلاثة أقسام
أحدها ما يقطع بصدقه والثاني ما يقطع بكذبه والثالث مالا يقطع فيه بواحد منهما
517 - فأما ما يقطع بصدقه فمنه ما يوافق المعقول ثم المعقول ينقسم إلى ضروري مهجوم عليه وإلى نظري يوصل إليه صحيح النظر فأما الخبر عن الضروري فكقول القائل الضدان لا يجتمعان وكإخبار المخبر عن المحسوسات ونحوها من البدائه وأما الخبر عن النظري فكقول القائل العالم حادث مفتقر إلى صانع مختار إلى غير ذلك
518 - ومما يتخالج في الصدر من هذا القسم أن المعترض قد يعترض فيقول خير المخبر في الفنون التي ذكرتموها ليس مقتضيا صدقا وإنما السبيل المفضى إلى درك المخبر به نظر العقول في ضرورتها والأمر في ذلك قريب فإن الغرض منه عد ما يوصف بالصدق من الأخبار وما ذكرنا بهذه الصفة ومما يحكم بصدقه ما يقتضي اطراد العادة موافقته وهو الخبر المتواتر الذي سبق وصفه ووضح أن تلقى الصدق منه مستند إلى مستقر العادة والقرائن العرفية
519 - وذكر الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله قسما اخر بين التواتر والمنقول آحادا وسماه المستفيض وزعم أنه يقتضي العلم نظرا والمتواتر يقتضيه ضرورة ومثل ذلك المستفيض وما يتفق عليه أئمة الحديث
وهذا الذي ذكره مردود عليه فإن العرف واطراد الاعتياد لا يقضي بالصدق فيه ولا نرى وجها في النظر يؤدي إلى القطع بالصدق نعم ما ذكره مما يغلب على الظن الصدق فيه فأما أن يفضي إلى العلم به فلا
520 - وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله الخبر الذي تلقته الأئمة بالقبول محكوم بصدقه وفصل ذلك في بعض مصنفاته فقال إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد وإن تلقوه بالقبول قولا وقطعا حكم بصدقه
521 - قال القاضي لا يحكم بصدقه وإن تلقوه بالقبول قولا وقطعا فإن تصحيح الأئمة للخبر مجرى على حكم الظاهر فإذا استجمع خبر من ظاهره عدالة الراوي وثبوت الثقة به وغيرها مما يرعاه المحدثون فإنهم يطلقون فيه الصحة ولا وجه إذا للقطع بالصدق والحالة هذه
ثم قيل للقاضي لو رفعوا هذا الظن وباحوا بالصدق فماذا تقول فقال مجيبا لا يتصور هذا فإنهم لا يتوصلون إلى العلم بصدقه ولو قطعوا لكانوا مجازفين وأهل الإجماع لا يجتمعون على باطل
522 - ومن أقسام الصدق مدلول المعجزة والتحق به صدق النبي وصدق كل من صدقه النبي عليه السلام
523 - فأما القسم الثاني من الأقسام الثلاثة فهو ما يقطع بكونه كذبا
وهو متنوع فمنه ما يخالف المعقول ضرورة أو نظرا وهو مناقض لما يوافق المعقول في القسم الأول
ومنه ما يجري على وجه يكذبه حكم العادة وهذا يتفنن فنونا منها
أن يخبر آحاد بوقوع حادثة عظيمة حكم العادة فيها أن تشيع لو وقعت فإذا لم تشع تبين كذب المخبرين وهي كإخبار أقوام من الآحاد عن مقتلة هلك فيها أمم في البلدة على قرب من العهد وكالإخبار عن دخول ملك صقعا فهذا وما في معناه حكم العرف فيه الشيوع وهذا من الأصول العظيمة التي تستند إليها امور خطيرة وتتوجه فيها غائلة هائلة ونحن نعددها ونأتي بمجامعها إن شاء الله تعالى
524 - فمما نبينه على ذلك إيضاح بهت الروافض في ادعاء النص على على كرم الله وجهه في الإمامة فإن هذا لو كان لما خفى عن أهل بيعة السقيفة ولتحدثت به المرأة على مغزلها ولأبداه مخالف أو موالف وبهذا المسلك يتبين بطلان قول من يقول إن القرآن الكريم قد عورض فإن ذلك لو جرى لما خفى وبه يتبين فساد قول العيسوية إذ قالوا في التوراة إن موسى آخر مبعوث فإن ذلك لو كان لذكره أحبار اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما أبدوا عنه معدلا إلى تحريف نعت رسول الله عليه السلام وتبديل الأقرن
بالأبلج والأدهم بالأشقر إلى غير ذلك من تحريفاتهم
525 - والقول الواضح في ذلك أن مسلك العلم بصدق الخبر المتواتر على ما سبق وصفه أن المخبرين لا يتواطئون عند زوال القرائن الضابطه والايالات الحاملة على التواطؤ ويئول مستند القول إلى مطرد العرف وهذا المسلك بعينه مطرد في شيوع الفنون التي ذكرناها
526 - ثم ما يقضى العرف فيه بالشيوع ينقسم فمنه ما يثبت على الشيوع عند الوقوع وينقله المخبرون تواترا زمنا ثم يتناقص اهتمام النقلة بنقله حتى ينتهي إلى نقل الآحاد وقد يفضى طول الأمد إلى دروسه ومنه ما يتمادى زمان التواتر فيه إذا قامت في النفوس دواعي نقله
والقسم الأول يمثل بدخول ملك بلدة أو ما ضاهاها والقسم الثاني يمثل بالأمور الدينية فإن همم أصحاب الدين متوفرة على نقل الجليات فيه فإن وهي فبالحرى أن يتداعى إلى الأخبار الدينية الدروس
527 - ومما يتعلق بذلك أن الجمع العظيم إذ تواطئوا على الكذب لامر إيالى فإن كذبهم يستبين على ممر الزمان في حكم العرف وينكشف الغطاء فيه على قرب
528 - فهذه الأصول مهدناها وبينا ما يستند من أمور الدين إليها
ونحن نوجه الآن أسئلة يتعين الاعتناء بالبحث عنها ونذكرها أولا ثم نتعقبها بالكلام عليها إن شاء الله
529 - فمنها أن حجة الوداع كانت من أظهر الوقائع وقد اختلف الرواة في حج رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقل طائفة أنه أفرد ونقل اخرون أنه قرن
ومنها أن انشقاق القمر كان من أعظم الايات ثم لم يثبت النقل فيه تواترا على أنه أمر ديني
ومنها وهو أعوصها إفراد الإقامة وتثنيتها فإن بلالا كان يقيم بعد الهجرة إلى انقلاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رضوانه في اليوم والليلة خمس مرات ثم اختلف النقلة فيه وغاية بعض العلماء أن يثبت ظهور رواياتهم ومحل الإشكال أنه كيف لم ينقل تواترا
530 - فهذه الأسئلة يتعين الاعتناء بالانفصال عنها وتنزيلها محالها
فأما إحرام رسول الله عليه السلام فسبب التردد في نقله أنه صلى الله عليه و سلم
كان على تردد في أمره وقيل إنه مطلقا ينتظر الوحى فنزل عليه جبريل ان يجعله حجا هكذا رواه جابر بن عبد الله وهو أحسن الرواة سياقا للرواية وهذا إلى علم الصحابة بأن الإفراد والقران جميعا مسوغان ولا يبعد في حكم العادة عدم الاعتناء بالأفضل والأكمل ولا يمتنع أن يلتحق بما ذكرناه في أثناء الكلام وهو ما يقتضى العرف إشاعته أولا مع إفضاء الأمر إلى الدروس على قرب وليس هذا ببعيد في السبر
وبالجملة ما ذكرناه من حكم الشيوع متلقى من ضرورات العقول فليس فيه مراء فإن عورضنا بواقعة وجهل السائل فيها جريانها على خلاف الأصل الممهد لم يقبل ذلك منه قطعا واعتقد في الواقعة خروجها عن حكم القاعدة ومباينتها لها في وجه ثم الخيرة إلينا أن أحببنا اقتصدنا على إجمال ذلك وإن أحببنا تكلفنا محملا يقتضي الخروج عن حكم العرف ولا سبيل إلى تشكيك الأنفس
531 - فأما انشقاق القمر فذهب بعض علماء الإسلام إلى أن معنى قوله تعالى وانشق القمر أنه سينشق عند قيام الساعة وشهد لذلك ذكره مقترنا باقتراب الساعة والشيء إذا تناهى قربه يقام الماضي فيه مقام المستقبل قال الله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه معناه سيأتي أمر الله وقد مال الحليمي إلى هذا المذهب ويمكن أن يقال انشقاق القمر اية ليلية لعله جرى والخلق نيام والمتيقظون في أكنان لا يترقبون القمر وإن لحظة لاحظ وفاقا فغير بدع أن يحمله على تشعب في أشعة البصر وانعراج عن الاستداد فهذا وجه التكلف فيه فإن وقع الانشقاق فلا محل لعدم الشيوع فيه إلا ما ذكرناه والتعويل على ما سبق من أن الأمر الضروري لا تخرمه التخييلات
532 - وأما أمر الإقامة وهو من أغمض الأسئلة فإنها من الشعائر الجلية المتكررة فلم ينقدح عند القاضي وجه في عدم الشيوع إلا أنه قال لعله كان
يثنى مرة ويفرد أخرى فلم يشع واحد منهما وهذا قد يعترض عليه وجوب الشيوع في أن بلالا رضي الله عنه كان يفعل تارة هكذا وتارة هكذا ثم المعتمد عندي في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم هونت أمر الإفراد والتثنية فلم يعتنوا بالإشاعة فإذا أشاعوا أفضى إلى الدروس وليس ذلك بدعا فيما ليس من العزائم وهذا تنضم إليه بدع ثارت مع تواتر من أصحاب سلطنة واقتهار فإنه جرى من اخر أيام على كرم الله وجهه إلى قريب من مائة سنة دواه تشيب النواصي واستجرأ على تغيير ما كان منوطا بالأمراء وكانت الجماعة وإقامة شعائرها من أهم ما يهتم به الأمراء فلعل الشيوع على حكم العادة كان قد أثبت ثم ألهى الناس عنه ما أحدثه النابغون وحقنا أن نحكم الأصول فيما نأتي ونذر ولا نسلك بمسلك الحقائق ذبا عن مذهب
533 - فإن زعم زاعمون أن ما ذكرتموه يتوجه في النص على على رضي الله عنه قلنا لو كان لظهر يوم السقيفة فإن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ما كانت أيدت بشوكة قاهرة وإنما كان الأمر فوضى وهذا واضح وأيضا فإن أمر الولايات من أخطر الأشياء في العادات ولا تتشوف النفوس لنقل شيء تشوفها إلى ما يتعلق بالولايات ففيها تطير الجماجم عن الغلاصم وتتهالك النفوس في
الملاحم وهذا مطرد في أحكام العادات وفي عرف أهل الديانات والولايات
وأما الإقامة فشعار مسنون ليس بالعظيم الوقع في العرف والشرع وقد يمر بالناس أيام لو روجعوا عن كيفية الإقامات في الجماعات لم يذكروها
534 - ومما يلزم من هذا الفن اضطراب الرواة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح مكة عنوة وصلحا وهذا قريب فإن أصل دخوله عليه السلام مع أكمل العدد والعدد منقول متواترا ولا شك أنه عليه السلام لم يلق قتالا والأمر وراء ذلك تقديرات تختبط فيها النقلة فلم يلزم مع تمادى الأمر وطول الزمن استمرار حكم الشيوع فيها
وقد نجز ما حاولناه في هذا القسم إذ قلنا كل خبر يخالفه حكم العرف فهو كذب
535 - ومما نذكره من أقسام الكذب أن يتنبأ متنبىء من غير معجزة فيقطع بكذبه وهذا مفصل عندي
فأقول إن تنبأ متنبىء وزعم أن الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهو كاذب فإن مساقه مفض إلى تكليف ما لا يطاق وهو الأمر بالعلم بصدقه من غير سبيل مؤد إلى العلم فأما إذا قال ما كلف الخلق اتباعي
ولكن أوحى إلى فلا يقطع بكذبه
536 - فإن قيل من أصلكم القول بالكرامات الخارقة للعادات فإذا أخبر المخبر أن جبلا يقلع له من أصله فهذا إخبار يخالف حكم العرف والعادة ويلزم منه أن يقال أخبرنا مخبر ونحن في كن أن الجبل المظل القريب منا قد يقلع الآن ينبغي أن يجوز صدقه الآن حملا على الكرامة وهذا يهدم أحكام العرف وما يتلقى منه
قلنا هذا مما نستخير الله فيه فلا وجه للتشكيك في كذب هذا المخبر وإنما تجوز الكرامات وقوعا عند عموم انخراق العادات ومصير الأمر إلى حالة لا يستبعد أهل العادة صدق المخبر فيما يخبر عنه فلينعم المنتهى إلى هذا الفصل نظره وليتدبر غائلته بالبدل
537 - فأما القسم الثالث فهو الذي لا يقطع فيه بالصدق ولا الكذب وهو الذي نقله الاحاد من غير أن يقترن بالنقل قرينة تقتضي الصدق أو الكذب على ما سبقت الإشارة إلى القرائن فهذا الصنف لا يفضى إلى العلم بصدق المخبر ولا يقطع بكذبه أيضا
ونحن نسعين بالله ونستفتح الآن القول في أخبار الآحاد والله الموفق للسداد
أخبار الآحاد
مسألة
538 - ما ذهب إليه علماء الشريعة ومفتوها وجوب العمل عند ورود خبر الواحد على الشرائط التي سنصفها ثم أطلق الفقهاء القول بأن خر الواحد لا يوجب العلم ويوجب العمل وهذا تساهل منهم والمقطوع به أنه لا يوجب العلم ولا العمل فإنه لو ثبت وجوب العمل مقطوعا به لثبت العلم بوجوب العمل وهذا يؤدي إلى إفضائه إلى نوع من العلم وذلك بعيد فإن ما هو مظنون في نفسه يستحيل أن يقتضي علما مبتوتا فالعمل بخبر الواحد مستند إلى الأدلة التي سنقيمها على وجوب العمل عند خبر الواحد وهذا تناقش في اللفظ ولست أشك أن أحدا من المحققين لا ينكر ما ذكرناه
وذهب طوائف من الروافض إلى أن خبر الواحد لا يناط به وجوب العمل وهؤلاء أنكروا الإجماع إذا لم يكن في المجمعين قول الإمام القائم في هذيان طويل
وقد مال إلى ذلك بعض المعتزلة
539 - ثم افترق نفاة العمل بخبر الواحد فذهب بعضهم إلى أن العقل يحيل التعبد بالعمل به وذهب الأكثرون إلى أنه لا يستحيل ورود الشرع به وهو من تجويزات العقل ثم افترق هؤلاء من وجه اخر فذهب ذاهبون إلى أن في الشرع ما يمنع التعلق به وقال اخرون لم تقم دلالة قاطعة على العمل به فتعين الوقف
وقد أكثر الأصوليون وطولوا أنفاسهم في طرق الرد على المنكرين
540 - والمختار عندنا مسلكان أحدهما يستند إلى أمر متواتر لا يتمارى فيه إلا
جاحد ولا يدرؤه إلا معاند وذلك أنا نعلم باضطرار من عقولنا أن الرسول عليه السلام كان يرسل الرسل ويحملهم تبليغ الأحكام وتفاصيل الحلال والحرام وربما كان يصحبهم الكتب وكان نقلهم أوامر رسول الله عليه السلام على سبيل الآحاد ولم تكن العصمة لازمة لهم فكان خبرهم في مظنة الظنون وجرى هذا مقطوعا به متواترا لا اندفاع له إلا بدفع التواتر ولا يدفع المتواتر إلا مباهت فهذا أحد المسلكين
والمسلك الثاني مستند إلى إجماع الصحابة وإجماعهم على العمل بأخبار الاحاد منقول متواترا فإنا لا نستريب أنهم في الوقائع كانوا يبغون الأحكام من كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا للمطلوب ذكرا مالوا إلى البحث عن أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يبتدرون التعويل على نقل الأثبات والثقات بلا اختلاف فإن فرض مزاع بينهم فهو آيل إلى انقسامهم قسمين فمنهم من كان يتناهى في البحث عن العدالة الباطنة ولا يقنع بتعديل العلانية وربما كان يضم إلى استقصائه تحليف الراوي ومنهم من كان لا يغلو في البحث فأما اشتراط التواتر فعلى اضطرار نعلم أنهم ما كانوا يرونه فإن أنكر منكر الإجماع فسيأتي إثباته على منكريه في أول كتاب الإجماع إن شاء الله تعالى فهذا هو المعتمد في إثبات العلم بخبر الواحد
541 - وأما الرد على من يزعم أن تكليف العمل بخبر الواحد يستحيل في العقل فهين فقد تكرر مرارا أن إطلاق الاستحالة يتردد بين أن يستحيل وقوعه وجودا كاستحالة اجتماع الضدين ونحوها وهذا ساقط فإن تقدير اتباع العمل عند اتفاق أمر يغلب على الظن غير مستحيل قطعا والواحد منا يكتسبه
في حق مأموره وعبده والمحالات يستحيل تقدير وقوعها شاهدا وغائبا فهذا قسم
وقد نقول ليس يستحيل تقدير وقوعه استحالة اجتماع الضدين ولكن يستحيل وقوعه لما فيه من استفساد الخلق وهذا ينجر الان إلى الصلاح والأصلح والاستفساد والاستصلاح وكل ذلك مرتب على التقبيح والتحسين العقليين وقد سبق القول فيهما في صدر هذا المجموع
542 - على أنا إن رمنا انتقالا عن هذه المحاجة فليس يتجه لهم ادعاء نقيض الاستصلاح فإنه لا يمتنع في العقل أن يقع في علم الله تعالى أن الخلق لو كلفوا اتباع غلبات الظنون لصلحوا ولو تركوا سدى إلى وجدان اليقين لفسدوا أو كادوا فقد بطل جميع ما ذكروه وإذا تقرر الجواز عقلا وقد قامت الدلالة السمعية كما تقدم ذكره لم يبق مضطرب يلوذ الخصم به
فإن قيل ليس في العقل ما يوجب العمل بخبر الواحد وليس في كتاب الله تعالى ناص عليه ولا مطمع في التواتر والإجماع مع قيام النزاع ويستحيل أن يثبت خبر الواحد بخبر الواحد وإذا انحسم المسلك العقلي والسمعي فقد حصل الغرض
قلنا بنيتم كلامكم على أمرين أنتم منازعون فيهما أحدهما أنكم قلتم لم يستند العمل بخبر الواحد إلى التواتر وقد أوضحنا استناده إليه والثاني أنا نقلنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد فقولكم أن لا إجماع خطأ ونحن تمسكنا بإجماع سابق على مسائل الخلاف وإن تمسكوا بأن في
إيجاب العمل بخبر الواحد ادعاء العلم بوجوبه بخبر الواحد فقد تكلمنا عليه وبينا القول فيه فهذا لباب المسألة ومقصودها المنتخل المحصل
543 - ولكنا نذكر وراء ذلك عيونا من شبهات المخالفين حتى يشتمل الكلام على المسلك الحق واستيعاب جماهير وجوه القول استدلالا وسؤالا وانفصالا وقد يستدلون بظاهر قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم والمخبر الذي ليس معصموما عن الخطأ وإمكان تعمد الكذب لا يتضمن خبره علما فهو بحكم القران مما لا يجوز اقتفاؤه واحتذاؤه وهذا مما لا يسوغ التمسك به فإن مضمون الآية النهي عن اقتفاء الظنون من غير ضبط متأيد بمراسم الشارع وليس الغرض الإضراب عن كل ما ليس معلوما فالمقصود إذا النهي عن المجازفة في الظنون ثم غاية المتمسك بالاية أن يسلم له عموم معرض للتأويل ولا يجوز التعلق بالظواهر فيما يبتغي القطع فيه فالجواب الحق أن المتبع هو الدليل القاطع على وجوب العمل بخبر الواحد وقد قدمنا ما فيه مقنع في ذلك وذلك الدليل هو المقتفى لا الخبر وفيه غنية وقد تقرر هذا مرارا
544 - وربما يعودون إلى استبعاد تعليق الأمور الخطيرة بأقوال مخبرين لا يمنع أن يعتمدوا الكذب أو يزلوا من غير قصد
فإذا روى واحد ظاهر العدالة خبرا مقتضاه سفك دم فالاستمرار على حقن الدم وانتظار قاطع فيه أغلب على الظن وأرجح في مسلكه وقد تكلمنا على ذلك وأوضحنا أن المعتمد هو الخبر المتواتر من سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو
إجماع الأمة وهما يفيدان العلم على قطع ثم ما ذكروه منقوض عليهم بشهادة الشهود في تفاصيل القضاء فإن الأمور الخطيرة تربط بها وإن كانت لا تفضي إلى القطع وهي متلقاة بالقبول وكذلك قول المفتى مقبول وإن كان متعرضا لما ذكروه في مضطرب الأوهام فقد سقط معلوهم فإن اعتذروا عن الشهادات والفتوى وزعموا أنها مستندة إلى الإجماع فهذا قولنا في خبر الواحد
مسألة
545 - ذهبت الحشوية من الحنابلة وكتبة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم وهذا خزى لا يخفى مدركه على ذي لب
فنقول لهؤلاء أتجوزون أن يزل العدل الذي وصفتموه ويخطىء فإن قالوا لا كان ذلك بهتا وهتكا وخرقا لحجاب الهيبة ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه
والقول القريب فيه أن قد زل من الرواة والأثبات جمع لا يعدون كثرة ولو لم يكن الغلط متصورا لما رجع راو عن روايته والأمر بخلاف ما تخيلوه
فإذا تبين إمكان الخطأ فالقطع بالصدق مع ذلك محال ثم هذا في العدل في علم الله تعالى ونحن لا نقطع بعدالة واحد بل يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر ولا متعلق لهم إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع
مسألة
546 - ذهب الجبائي إلى أن خبر الواحد لا يقبل بل لا بد من العدد وأقله
اثنان وهذا الذي قاله غير متلقى من مسالك العقول فإنها لا تفرق بين الواحد والاثنين وإمكان الخطأ يتطرق إلى اثنين تطرقه إلى الواحد فيتعين عليه أن يسند مذهبه هذا إلى سبيل قطعى سمعي وهو لا يجده أبدا
547 - وما ذكرناه من التمسك بكتب الرسول عليه السلام ورسله يجري عليه فإنه كان لا يتكلق جمع رسولين إلى كل صوب بل كان يبعثهم ويحملهم نقل الشريعة على ما تقتضيه الأحوال مفردين ومقترنين وهذا بين
وكذلك مسلك الإجماع فإنا نعلم قطعا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يعملون في الوقائع بالأخبار التي ترويها الاحاد من جملة الصحابة ولا نستريب أنه لو وقعت واقعة واعتاص مدرك حكمها فروى الصديق رضي الله عنه فيها خبرا عن الصادق المصدوق المصدوق عليه السلام لابتدروا العمل به ومن ادعى أن جملة الأخبار التي استدل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في أحكام الوقائع رواها أعداد فقد باهت وعاند وخالف ما المعلوم الضروري بخلافه
548 - فإن قيل أليس كان على يستظهر برواية العدد وروى أن أبا موسى الأشعري لما استاذن على عمر ولم يأذن له انصرف ورده عمر وعاتبه في انصرافه وقال هلا وقفت فقال سمعت رسول الله عليه السلام يقول
الاستئذان ثلاثة فإن أذن لكم وإلا فانصرفوا فقال إن جئت بمن يشهد لك وإلا أوجعت طهرك ضربا فجاء بأبى سعيد الخدري فشهد له
ولما التبس على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الجدة في الميراث قال المغيرة بن شعبة أشهد أن رسول الله عليه السلام أطعم الجدة السدس قال أبو بكر لا أو تأتي بمن يشهد لك فكان ذلك من أبي بكر اشتراط عدد في الرواة
549 - قلنا أما على كرم الله وجهه فلم ينقل عنه اشتراط العدد ولكنه كان يحلف بعض الرواة وهذا رأى انفرد به استظهارا وأما ما جرى للصديق والفاروق رضي الله عنهما فمحمول على الاستظهار لريبة معترضة وأحوال مقتضية مزيد تغليب على الظن وهذا جرى منهم على شذوذ وندور كدأب القضاة في بعض الحكومات إذا استدعوا مزيدا على الأعداد المرعية في البينات فمن ادعى أن ذلك كان أصلا عاما في جميع الروايات والرواة فقد ادعى نكرا وقال هجرا
ثم ما ذكره يؤدي إلى رد معظم الأحاديث إذا تطاولت العصور وتناسخت الأزمان والدهور فإنه شرط في النقل عن كل راو وراويين والأعداد إذا تضاعفت أربت عند طول الأعصار على عدد التواتر
وهذا منتهى القول في العدد والكلام في بقية الكتاب يتعلق بفصول
فصل في صفة الرواة وفصل مشتمل على التعديل والجرح وفصل في الإسناد والإرسال وآخر في كيفية التحمل وآخر في كيفية الرواية
فصل في صفة الرواة
550 - العقل والإسلام والعدالة معتبرة وأصحاب أبي حنيفة وإن قبلوا شهادة الفاسق لم يجسروا أن يبوحوا بقبول رواية الفاسق فإن قال به قائل فقوله مسبوق بإجماع من مضى على مخالفته
551 - فأما البلوغ فقد اختلف الأصوليون في اشتراطه وتردد الفقهاء في ذلك أيضا وعليه بنوا اختلافهم المشهور في قبول قوله في رؤية الهلال والقاضي يرى رد رواتيه وهو المختار عندنا
والدليل عليه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ما راجعوا الصبيان الذين كانوا يخالطون رسول الله عليه السلام ويلجون على ستوره مع مسيس حاجتهم إلى من يخبرهم عن دقائق أحوال رسول الله صلى الله عليه و سلم وراء الحجب فلم يؤثر عن أحد من الحكام والمفتين إسناد حكمه في قضية إلى رواية صبي والذين اعتنوا بجمع الروايات وتأليف المسندات لم ينقلوا عن صبي أصلا والذي يعضد الطريقة أن معولنا في إثبات العمل بأخبار الاحاد إرسال رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبه ورسله وبعثه ولاته وإجماع الصحابة ولا مأخذ سوى هذين
فأما المأخذ الأول فلم يبعث عليه السلام رسولا صبيا ولم يحمله أداء بيان حكم الشريعة وأما الإجماع فعلى ما سبق تقريره وليس في العقول ما يرشد إلى القبول والرد
552 - ثم ذكر القاضي طريقة لطيفة فقال الصبي إن كان غير متكامل التمييز فلا شك في ردهم روايته وإن كان مميزا فقد بلغه أنه غير مؤاخذ بالكذب ولا يزعه عن الهجوم عليه وازع وهذه الصفة منه تؤمنه عن اللائمة ومحذور المعتبة فبالحري أن يجريه على الخلف وفي النفوس على الجملة صغو بين إلى التحريف ونقل الأعاجيب فإذا الصبا أولى بأن ينتهض ردا للرواية من الفسق وما ذكرناه يغنى عن التمسك برد أقاريره وألفاظ عقوده فإن هذا من القياس الفقهي فلا يثمر قطعا
ونحن نرى القطع برد روايته وفي كلام القاضي في بعض مصنفاته تشبيب بإلحاق هذه المسألة بالمظنونات وهذا ظاهر رأى الفقهاء والذي نراه القطع بالرد كما تقدم
مسألة
في رواية المستور الذي لم يظهر منه نقيض العدالة ولم يتفق البحث الباطن عن عدالته
553 - تردد المحدثون في روايته والذي صار إليه المعتبرون من الأصوليين أنه لا تقبل روايته وهو المقطوع به عندنا
والمعتمد فيه الرجوع إلى اجماع الصحابة فإنا نعلم منهم بمسلك الاستفاضة والتواتر أنهم كانوا لا يقبلون روايات المجان والفسقة وأصحاب الخلاعة ولو ناداهم إنسان برواية لا يبتدروا العمل بروايته ما لم يبحثوا عن حالته ويطلعوا
على باطن عدالته ومن ظن أنهم كانوا يعملون برواية كل مجهول الحال فقد ظن محالا وظهور ذلك مغن عن تقريره وإذا كنا نتعلق في العمل بالرواية بإجماعهم فإن لم نتحقق إجماعهم على التوقف في العمل برواية المستور لم نجد متعلقا نتمسك به في قبول روايته فكيف وقد استمر لنا قطعا منهم التوقف في المجهول المتسور الحال
554 - والذي أوثره في هذه المسألة ألا نطلق رد رواية المستور ولا قبولها بل يقال رواية العدل مقبولة ورواية الفاسق مردودة ورواية المستور موقوفة إلى استبانة حالته ولو كنا على اعتقاد في حل شيء فروى لنا مستور تحريمه فالذي أراه وجوب الانكفاف عما كنا نستحله إلى استتمام البحث عن حال الراوي وهذا هو المعلوم من عادتهم وشيمهم وليس ذلك حكما منهم بالحظر المترتب على الرواية وإنما هو توقف في الأمر فالتوقف عن الإباحة يتضمن الانحجاز وهو في معنى الحظر فهو إذا حظر مأخوذ من قاعدة في الشريعة ممهدة وهي التوقف عند بدء ظواهر الأمور إلى استتبابها فإذا ثبتت العدالة فالحكم بالرواية إذ ذاك
555 - ولو فرض فارض التباس حال الراوي واليأس من البحث عنها بأن يروي مجهول ثم يدخل في غمار الناس ويعسر العثور عليه فهذه مسألة اجتهادية عندي والظاهر أن الأمر إذا انتهى إلى اليأس لم يلزم الانكفاف وانقلبت الإباحة كراهية
556 - فإن قيل أليس روى أن أعرابيا شهد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم
على رؤية الهلال فأمر النبي عليه السلام بالصيام ولم يبحث عن حال الأعرابي قلنا لعله علمه وأحاط به علما فلا يصح التمسك بمثل هذا مع تعارض الاحتمالات فيه والمطلوب القطع
557 - فإن قالوا الأصل نقيض الفسق فليطرد قبول الرواية إلى تحقق الفسق قلنا هذه دعوى عرية عن البرهان وهو في التحقيق اقتصار على ترجمة المذهب فإنا نقول الرواية قبولها موقوف على ظهور العدالة ومن يخالف يزعم أن الرد منوط بظهور الفسق وعلى الجملة لسنا نرتضي التمسك بالتخييلات في مسالك القطعيات وفي كل أصل من الأصول قاعدة كلية معتبرة فكل تفصيل رجع إلى الأصل فهو جار على السبيل المطلوب وكل ما لم نجد مستندا فيه ومتعلقه تخييل ظن فهو مطرح والأصل في العمل بالأخبار إجماع الصحابة وقد قررنا سبيله فما ذكروه ليس قادحا فيه فلا يحتفل به
558 - فإن قيل ثبت في الشرع الأمر بتحسين الظن بآحاد المسلمين إلى أن يظهر ما يناقض ذلك وإذا رددنا رواية المستور كان ذلك منافيا لتحسين الظن به قلنا هذا من الطراز الأول فلا احتفال به
على أنا أمرنا بتحسين الظن حتى لا تطلق الألسنة بالمطاعن فهذا فائدة تحسين الظن فأما أن يقال نبتدر إلى إراقة الدماء وتحليل الفروج برواية كل هاجم على الرواية بناء على تحسين الظن فهذا لا يتخيله إلا خلو من التحصيل والله الموفق
فصل في التعديل والجرح 559 - إذا تقرر أن الفاسق مردود الرواية وواضح أن القبول متوقف على ظهور العدالة ولا يقع الاكتفاء بظاهر الستر فنحن نذكر وراء ذلك التعديل والجرح المعتبرين في الرواة ونقدم على غرضنا أصلا وهو مرجوع الكتاب وأصل الباب في أخبار الآحاد
فنقول قد لاح لنا على السبر والمباحثة أن المعنى المعتمد في قبول الرواية ظهور الثقة بقول الراوي وكل ما لا يجزم الثقة فليس شرطا في الرواية وما يجزم الثقة ففيه الكلام وليس في الرواة والروايات تعبدات شرعية كما وردت توقيفات الشرع بأمثالها في رتب الشهادات ومنازل البينات من نحو اعتبار العدد وألفاظ مخصوصة ومكان معلوم إلى غير ذلك ومن التعبدات المرعية في الشهادة اشتراط الحرية فليتخذ الناظر الثقة في الرواية معتبره فيما يأتى ويذر فعليه إحالة معظم الكلام
والدليل القاطع فيه الرجوع إلى شيم الأولين فإنا نعلم أنهم كانوا يقبلون الرواية عند ظهور الثقة من المرأة والمملوك قبولهم من الحر وقد رددنا على من يتخيل اعتبار العدد في الرواية فإذا تمهد ذلك وستكون لنا عودات إليه فالكلام في التعديل والجرح متفرع علىذلك ونحن ننقل المذاهب فيهما ونؤثر المختار عندنا ونؤكده بالحجاج اختيارا للإيجاز إن شاء الله تعالى
560 - فالتعديل والجرح يقعان على وجهين أحدهما التصريح والثاني الضمن فأما وقوعهما تصريحا فقد قال قائلون لا بد من ذكر أسبابها جميعا ولا يكفى إطلاق التعديل والجرح
قال الشافعي رحمه الله إطلاق التعديل كاف فإن أسبابه لا تنضبط ولا تنحصر وإطلاق الجرح لا يكفي فإن أسبابه مما اختلف الناس فيه فقد يرى بعض الناس الجرح بما لو أظهره لم يوافق عليه فلا بد لذلك من ذكر أسباب الجرح وهذا مذهبه رضي الله عنه في تعديل الشهود وجرحهم
وقال بعض الأصوليين يكفي إطلاق التعديل والجرح جميعا ولا حاجة إلى التعرض للأسباب فيهما
وقال القاضي رضي الله عنه إطلاق الجرح كاف فإنه يخرم الثقة وهي المعتبرة وإطلاق التعديل لا يحصل الثقة حتى يستند إلى أسباب ومباحثات وهذا الذي ذكره القاضي رضي الله عنه أوقع في مآخذ الأصول
561 - والذي أختاره أن الأمر في ذلك يختلف بالمعدل والجارح فإن كان المعدل إماما موثوقا به في الصناعة لا يليق به إطلاق التعديل إلا عند علمه بالعدالة الظاهرة فمطلق ذلك كاف منه فإنا نعلم أنه لا يطلقه إلا عن بحث واستفراغ وسع في النظر فأما من لم يكن من أهل هذا الشأن وإن كان عدلا رضا إذا لم يحط علما بعلل الروايات فلا بد من البوح بالأسباب وإبداء المباحثة التامة
والجرح أيضا يختلف باختلاف أحوال من يجرح والعامى العرى عن
والتحصيل إذا جرح ولم يفصل فلا يكترث بقوله فأما من يثير جرحه المطلق خرم الثقة فمطلق جرحه كاف في اقتضاء التوقف
فهذا بيان المذاهب والإيماء إلى مستند كل فريق وذكر المختار مؤيدا بمعتبر الباب هو بيان التصريح بالتعديل والجرح
562 - ثم قال المحققون يكفي في التعديل والجرح قول واحد وذهب بعض المحدثين إلى اشتراط العدد وهذا مما ليس يحتفل به فإنه قد ثبت أن أصل الرواية لا يعتبر فيه العدد فلا معنى للاحتكام باشتراطه في التعديل والجرح ولا يشك منصف أن الصديق رضي الله عنه وغيره من جلة الصحابة رضي الله عنهم لو فرض انفراده بتعديل أو جرح لما كان أهل العصر يعتبرون انضمام قول اخر إلى قول المعدل أو الجارح وهذا كله مرتبط بالثقة كما تقدم فإذا كان قول الواحد يفيد الثقة كفى وإذا كان الجارح الواحد يخرمها أفاد جرحه ردا أو توفقا
563 - فأما التعديل والجرح الواقعان ضمنا فلتقع البداية بالتعديل فمما عد في التعديل ضمنا إطلاق الرجل العدل الرواية عن الرجل من غير تعرض له بجرح أو تعديل فهذا مما اختلف في المحدثون والأصوليون
فذهب ذاهبون إلى أن إطلاق الرواية تعديل ومنع آخرون ذلك والرأى فيه عندي التفصيل فإن ظهر من عادة ذلك الراوي الانكفاف عن الرواية عمن يتغشاه ريب واستبان أنه لا يروي إلا عن موثوق به فرواية مثل هذا الشخص
تعديل وإن تبين من عادته الرواية عن الثقة والضعيف فليست روايته تعديلا وإن أشكل الأمر فلم يوقف على عادة مطردة لذلك الراوي في الفن الذي أشرنا إليه فلا يحكم بأن روايته تعديل وهذا من أصناف ما يعد تعديلا ضمنا
564 - ومما يذكر في هذا القسم عمل الراوي بما رواه مع ظهور إسناده العمل إلى الرواية وقد قال قائلون إنه تعديل وقال اخرون ليس بتعديل
والذي أرى فيه أنه إذا ظهر أن مستند فعله ما رواه ولم يكن ذلك من مسالك الاحتياط فإنه تعديل وإن كان ذلك في سبيل الاحتياط لم يقض بكونه تعديلا فإن المتحرج قد يتوقى الشبهات كما يتوقى الجليات وهذا ينعطف أيضا على الثقة واعتبارها
وهذا نجاز الكلام في هذا الفن
مسألة
565 - قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه إذا لم نجد معتصما مقطوعا به في العمل بخبر الواحد قطع برده وإن لم يظهر له قاطع ناص في الرد وبنى ذلك على أن معتمدنا في العمل بأخبار الاحاد قطعا إجماع من قبلنا فحيث لا نجد قاطعا لا نحكم بالعمل إذ لو حكمنا به لكنا بانين القطع بالعمل على غير قاطع وهذا لا سبيل إليه
وهذا الذي ذكره وإن كان مخيلا فالذي أراه أنه يلتحق بالمجتهدات ويتعين على كل مجتهد فيه الجريان على حكم اجتهاده
والدليل القاطع فيه أنا نعلم أنه كان يقع في عصر أصحاب رسول الله
صلى الله عليه و سلم أحاديث يقبلها بعض ويتوقف عن قبولها اخرون ثم كان القابلون لها لا يعابون ولا يكثر النكير عليهم من الرادين وكانوا يجرون ذلك مجرى المجتهدات في مظان الاحتمالات فإذا قطعنا بوقوع ذلك منهم وإلحاقهم ذلك بمواقع التحري والتوخي فقد صادفنا قاطعا في وجوب العمل بالاجتهاد في مجال الظن وهذا بالغ حسن فإذا جرت أمثال من المجتهدات أحلناها على هذا القانون
مسألة
566 - جرى رسم الأصوليين بعقد مسألة في فن من التعديل والجرح مشتملة على تعديل صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما تمس الحاجة إليها في أصول الإمامة ولكنها قد تتعلق ببعض مسائل الشرع ففي الفقهاء من طرق مسالك الطعن والغمز إلى أقوام من مشاهير أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كأبى هريرة وابن عمر وغيرهما
ونحن نذكر نكتا قاطعة يتخذها المرء وزره ومعتضدة إذا عارضه طعان يحاول مغمزا في رواة أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصحابة
567 - فمما نصدر القول به الآيات المشتملة على تقريظهم وإطرائهم وحسن الثناء عليهم كاية أهل البيعة بيعة الرضوان فإنه تعالى قال لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة والآيات الواردة في المجاهدين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرة واتفق المفسرون على أن قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس واردة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هم
معدلون بنصوص الكتاب مزكون بتزكية الله تعالى إياهم
568 - ومن أقوى ما يعتصم به على الجاحدين المعاندين سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان يعرف أهل النفاق بأعيانهم لا يخفى عليه مضمر الشقاق بينهم وقد سماهم بأعينهم لصاحب سره ومؤتمنه حذيفة بن اليمان وكان عليه السلام يبجل أهل الإخلاص منهم وينزلهم منازلهم ويحل كلا على خطره في مجلسه وكانوا رضي الله عنهم معدلين بتعديله عليه السلام مزكين أبرارا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتمدهم في نقل آثاره وأخباره ويسألهم عن أخبار غابت عنه وكانوا عنه ناقلين ومخبرين واشتهر ذلك من سيرته صلى الله عليه و سلم فيهم فكان ذلك مسلكا قاطعا في ثبوت عدالتهم بتعديل الرسول عليه السلام إياهم عملا وقولا
569 - ومما يتمسك به في أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر مع تنزهه عن المداراة والمداجاة والمداهنة اعتمده وولاه في زمانه أعمالا جسيمة وخطوبا عظيمة وكان يتولى زمانا على الكوفة وكان يبلغه روايته عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلو لم يكن من أهل الرواية لما كان يقرره عمر رضي الله عنهما مع العلم بإكثاره
وقد اجتمع السابقون على الرواية عن هؤلاء وكذلك الأئمة المعتبرون من أهل الحديث قال محمد بن إسماعيل البخاري روى عن أبي هريرة سبعمائة من أولاد المهاجرين والأنصار وأما ابن عمر فلا يتعرض للقدح فيه إلا
جسور وقد زكاه جبريل عليه السلام إذ قال لرسول صلى الله عليه و سلم نعم الرجل عبد الله
فقد ثبت تعديلهم بنصوص الكتاب وسيرة الرسول عليه السلام واتفاق الصحابة والتابعين وأئمة الحديث رضي الله عنهم أجمعين ولا احتفال بعد ذلك بمطاعن النابغة الثائرين بعد انقراض الأئمة الماضين
570 - فأن قيل ما تمسكتم به من تعديل الرسول عليه السلام إياهم وإكرامه لهم إن سلم لكم فإنه ليس متضمنا نصا بعصمتهم في مستقبل الزمان وقد أحدث بعضهم هنات واقتحموا موبقات يزول بأدناها نعت العدالة واستقامة الحالة وربما اندفعوا في أقاصيص وأحوال جرت في مثار الفتن ولو تتبعناها لطال المغزى والمرام وتعدى الكلام حد الاختصار
فالوجه المحصل لغرضنا القاطع الشغب عنا أن نقول لا يتعلق متعلق بشيء يبغى به طعنا إلا وينقدح مثله متطرقا إلى من يعدله الطاعن ويؤدي مساق إلى الطعن في جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل مسلك يفضي إلى تعميم الطعن في جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو مردود من سالكه فهذا وجه مقطوع به عظيم الوقع والخطر
571 - والذي يعضد ذلك أن من تعلق بشيء من المطاعن في معين من الصحابة فعورض بمثله فيمن يوافق على تعديله فسينتهض الطاعن لحمل ما عورض به على محامل في الجواز وتحسين الظن ويتجه أمثالها وأجلى منها فيمن ذكره وإذا تعارضت الأقوال على نحو واحد وعسر الجمع بينها والقضاء بها ولم يكن بعضها
أولى من بعض فالوجه سقوطها والإضراب عنها والاستمساك بما تمهدت به عدالتهم من المسالك المتقدمة
572 - وإنما تعدينا طور الاقتصار قليلا لسؤال به اختتام الإشكال وفي جوابه تحقيق الانفصال وهو أن قائلا لو قال غايتكم حملكم ما نقل من هناتهم على وجوه ممكنه في الجواز ولستم قاطعين بها بل وافقتم الطاعنين على أنه لا يجب عصمة غير المرسل عليه السلام فإذا ترددت أحوالهم فليقتض ترددها وقوفا عن تعديلهم فإن التردد يناقض الحكم البات
وسبيل الجواب عن هذا أن نقول هذا أولا نزول عن التصريح بالطعن ورضا بأن ينكف عن تعديلهم ففيه ظهور بطلان القطع بالطعن
على أنا نقول ما ذكرتموه مدفوع بالإجماع فإن الأمة مجمعة على أنه لا يسوغ الامتناع عن تعديل جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وما ذكره هذا السائل يوجب التوقف في تعديل كل نفر من الذين لابسوا الفتن وخاضوا المحن ومتضمن هذا الانكفاف عن الرواية عنهم وهذا باطل من دين الأمة وإجماع العلماء فانتهض الإجماع على بطلان هذا الطرف حجة باتة على بناء الأمر على تحسين الظن وردهم إلى ما تمهد لهم من المآثر بالسبيل السابقة وهذا من نفائس الكلام
ولعل السبب الذي أتاح الله الإجماع لأجله أن الصحابة هم نقلة الشريعة ولو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما استرسلت على سائر الأعصار
فصل في المراسيل والمسندات وذكر المذاهب فيها وإيضاح المختار منها 573 - نصدر هذا الفصل بذكر صور المرسلات ثم ننقل المقالات ونشير إلى عمدة كل فريق ونختتم الكلام بالمرتضي المختار عندنا
فمن صور المراسيل أن يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عله وسلم فهذا إضافة إلى الرسول عليه السلام مع السكوت عن ذكر الناقل عنه وهذا يجري في الرواة بعضهم مع بعض في الأعصار المتأخرة عن عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم
وإذا قال واحد من أهل عصر قال فلان وما لقيه ولا سمى من أخبر عنه فهو ملتحق بما ذكرناه
ومن الصور أن يقول الراوي أخبرني رجل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو عن فلان الراوي من غير أن يسميه
ومن الصور أن يقول أخبرني رجل عدل موثوق به رضا عن فلان أو عن رسول الله عليه السلام
ومن صور المراسيل إسناد الأخبار إلى كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما التحق هذا القسم بالمرسلات من جهة الجهل بناقل الكتب ولو ذكر من يعزو الخبر إلى الكتاب ناقله وحامله التحق الحديث بالمسندات فهذه صور المراسيل
حكم العمل بالمراسيل وقبولها 574 - وأبو حنيفة قائل بجميعها قابل لها عامل بها والشافعي رضي الله عنهما لا يعمل بشيء منها ومتعلق أصحاب أبي حنيفة أن الراوي إذا كان في نفسه عدلا ثقة فروايته محمولة على وجه يقتضي القبول ولو عين من روى عنه وعدله وكان من أهل التعديل لقبل تعديله كما قبلت روايته فإذا أرسل الحديث جازما وأطلق الرواية باتة أشعر بنهاية الثقة
575 - وقال بعض أئمة الحديث إذا قال التابعي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ذلك أولى من ذكره معينا منهم فإنه لا يحكم بإثبات قول رسول الله صلى الله عليه و سلم مع السكوت عن ذكر من نقله إلا مع انتفاض قلبه عن الشبهات وطرق الريب وإذا ذكر معينا فكأنه لا يتقلد صحة الرواية وإنما يكل الأمر إلى الناظرين فيمن روى عنه
576 - ومما تمسك به القائلون بالمراسيل أن أخبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبولة وإن كان في بعضها إرسال لا سيما أخبار الذين كانوا صبية في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم وفرت حظوظهم من العلوم بعد انقلاب رسول الله إلى رحمه الله صلى الله عليه و سلم كابن عباس وابن الزبير وغيرهما رضي الله عنهم ثم كانت أخبارهم مقبولة في الصحابة والتابعن مع القطع بأن معظمها مراسيل ونحن نتتبع ذلك على ما ينبغي عند ذكرنا ما نختاره إن شاء الله تعالى
577 - وأما الشافعي رضي الله عنه فإن استدل على رد المراسيل بأن الراوي إذا لم يذكرمن روى له فهو مجهول في حقوقنا وقبول خبر من نجهله ولا نعرفه مستجمعا للصفات المرعية لا وجه له وربما علم الراوي تعديل من روى الحديث ولو ذكره لغيره لعرف المخبر عنه ما لم يعرفه فإذا الإضراب عن ذكر الراوي يخرم الثقة ويطرق إلى القلوب التردد فإذا سمى الراوي من حدثه وعدله وطرد الناظرون الجرح إن وجدوه واستمر الزمن ولم يعثر على سبب جارح فيحصل به الثقة وإذا لم يسم المروى عنه فليست العدالة مقطوعا بها لأن معتمدها أمور ظاهرة وأسباب الجرح أخفى منها والتعديل على الإبهام مع تركه تسمية المعدل لا يتضمن الثقة في حق غير المعدل هذا معتمد الشافعي ويقوى كلامه جدا في بعض الصور كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى
578 - وما اعتمده أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه أولا يعارض هذا المسلك فيوهنه
وما ذكروه من أمر الصحابة رضي الله عنهم وإرسالهم الحديث فقد قال القاضي منتصرا للشافعي ثبوت الاحتجاج بما أطلقه أحداث أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم من الروايات مع ترددها بين الإسناد والإرسال لا يثبت الاحتجاج بما تحقق الإرسال فيه إلا من جهة القياس والأقيسة الظنية المعنوية منها والشبهية يقتضي ما يصح منها على السبر العمل ولا يسوغ استعمالها في القطعيات في النفى والإثبات
حاصل التمسك بذلك اعتبار ما تحقق فيه الإرسال بما تعارض فيه احتمال الإسناد والإرسال فقد بطل على ما زعم هذا المسلك
579 - فإذا وضح اعتبار ما تمسك به النفاة والمثبتون فقد جاز أن نوضح المختار قائلين
وقد ثبت أن المعتمد في الأخبار ظهور الثقة في الظن الغالب فإن انخرمت اقتضى انخرامها التوقف في القبول وهذا الأصل مستندة الإجماع الذي ثبت نقله من طريق المعنى استفاضة وتواترا فإذا سبرنا ما ردوه وما قبلوه يحصل لنا من طريق السبر أنهم لم يرعوا صفات تعبدية كالعدد والحرية وإنما اعتمدوا الثقة المحضة فلتعتبر هذه قاعدة في الباب
ومساقها يقتضي رد بعض وجوه الإرسال وقبول بعضها فإذا قال الراوي سمعت رجلا يقول قال فلان فليس في هذا المسلك من الرواية ما يقتضي الثقة فالوجه القطع بردها وإن قال سمعت رجلا موثوقا به عدلا رضا يقول سمعت فلانا وكان الراوي من يقبل تعديله لعدالته واستقامة حالته وعلمه بالجرح والتعديل ودرايته فهذا يورث الثقة لا محالة
580 - وليست الثقة على قضية واحدة بل هي على أنحاء ولها مبتدأ ومنتهى ووسائط بينهما ويبعد أن يشترط في الراوي أن يعرفه كل من يبلغه خبر مسند حتى يسنده إليه وإذا استحال اشتراط هذا لزم على الاضطرار تعديل حال من يلتزم موجب الإخبار على تعديل الأئمة المشهورين وعرفانهم فإذا قال أخبرني الثقة أو من لا أتمارى فيه خيرا ونبلا فقد أفضى ذلك إلى المطلب المقصود في الثقة أو من لا أتمارى فيه خيرا ونبلا فقد أفضى ذلك إلى المطلب المقصود في الثقة وكذلك إذا قال الإمام الراوي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
فهذا بالغ في ثقته بمن روى له فليطرد الطارد ما ذكرناه طردا وعكسا في صور الإرسال وليحكم في رده وقبوله بموجب الثقة
581 - ثم مخالفة الشافعي في أصول الفقه شديدة وهو ابن بجدتها وملازم أرومتها ولكني رأيت في كلام الشافعي ما يوافق مسلكي هذا وتقر به الأعين
قال رحمه الله مرسلات ابن المسيب حسنة وشبب بقولها والعمل بها وقال في كتاب الرسالة العدل الموثوق به إذا أرسل وعمل بمرسله العاملون قبلته
وقد تعرض القاضي لتفصح كلام الشافعي في هذا الفصل فقال قوله مراسيل ابن المسيب حسنة لست أدري ما الذي يحسنها وقد بلغت عن هذا الحبر أنه قال في بعض مجموعاته تتبعت مراسيل سعيد فألفيت معظمها مسندا من غير طريقه
وهذا فيه نظر فإن التمسك بإسناد من أسند وعليه إحالة العمل والقبول لا على المراسيل فأما العمل إن لم يكن على وفاق فلا وقع له وإن كان على وفاق فالتمسك بالإجماع فهذا معترضه على الشافعي
582 - والذي لاح لي أن الشافعي ليس يرد المراسيل ولكن يبغي فيها مزيد تأكيد بما يغلب على الظن من جهة أن الإرسال على حال يجر ضربا من الجهالة في المسكوت عنه فرأى الشافعي أين يؤكد الثقة فليثق الناظر بهذا المسلك الذي ذكرته فعلى الخبير سقط وقد عثرت من كلام الشافعي على أنه إن لم يجد إلا المراسيل مع الاقتران بالتعديل على الإجمال فإنه يعمل به فكأن
إضرابه عن المراسيل في حكم تقديم المسانيد عليها وهذا إذا اقترن المرسل بما يقتضي الثقة وهذا منتهى القول في ذلك والله أعلم
583 - وقد سمى الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله قول التابعي قال رسول الله عليه السلام وقول تابع التابعي قال الصحابي منقطعا وسمى ذكر الواسطة على الإجمال مرسلا مثل أن يقول التابعي قال رجل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا وليس ذلك متعلقا بفرق معنوي وإنما هو ذكر ألقاب في الباب ذكرناها حتى يطلع الناظر عليها إذا وجدها في كلام الأئمة والقول في الرد والقبول على ما تفصل وتحصل
فصل في تحمل الرواية وجهة تلقيها ومن يصح منه تحملها 584 - فنقول إذا روى الشيخ الذي منه التلقى شفاها ونطق بما سمعه لفظا ووعاه السامع وحواه فهذا هو التحمل والتحميل
585 - ولو كان الحديث يقرأ والشيخ يسمع نظر فإن كان يحيط بما يحرفه القارىء ولو فرض منه تصريف وتحريف لرده فسكوته والأخبار التي تقرأ بمثابة نطقه والحديث يستند بذلك فإن قيل هذا تنزيل منكم للسكوت منزلة القول وهذا من خصائص من يجب له العصمة قلنا إخباره تصريحا ونطقا كان تحميلا للرواية من جهة أنه أفهم بما أسمع السامع من عباراته
فإذا كان الحديث يقرأ وهو يقرر ولا يأبى مع استمرار العادات في أمثال ذلك فهذا على الضرورة حال محل التصريح بتصديق القارىء ومن لم يفهم من
هذه القرائن ما ذكرناه فلا يفهم أيضا من الإخبار النطقي
وأما ما ذكره السائل من أن السكوت إنما ينزل منزلة التقرير ممن يجب عصمته فيقال السكوت مع القرائن التي وصفناها ينزل منزلة النطق ثم النطق ممن لا يعصم عرضة للزلل أيضا ولكنا تعبدنا بالعمل بظواهر الظنون مع العلم بتعرض النقلة لإمكان الزلل وتعمد الخلف والكذب ثم ما ذكرناه يتأيد بإجماع أهل الصناعة فما زالوا يكتفون بما وصفناه في تلقى الأحاديث من المشايخ وهذا إذا كان الشيخ يدري ما يجري
ويلتحق بهذا القسم أن يكون عنده للأحاديث التي تقرأ عليه نسخة مهذبة وكان ينظر فيها فهذا ثبت يكتفي بمثله ولا يشترط استقلال الشيخ بحفظ الأحاديث عن ظهر قلبه
586 - وإذا كان لا يحيط بها وكان لا ينظر في نسخة يعتمدها ولو فرض التدليس عليه لما شعر فإذا قرىء عليه على هذه الصفة شيء من مسموعاته فهذا باطل قطعا فإن التحمل مرتب على التحميل فإذا لم يحمل الشيخ السامع الرواية فكيف يحملها وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتا وأجراسا لا يأمن تدليسا والتباسا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه والغرض المطلوب الفهم والإفهام
وتردد جواب القاضي فيه إذا كانت النسخة بيد غير الشيخ وكانت الأحاديث تقرأ وذلك الناظر عدل مؤتمن لا يألو جهدا في التأمل وصغوه الأظهر إلى أن ذلك لا يصح فإن الشيخ ليس على دراية فيه فلم ينهض مفهما محملا فلئن جاز الاكتفاء بنظر الغير فينبغي أن يجوز الاكتفاء بقراءة القارىء المعتمد من النسخة المصححة فهذا ما يتعلق بالتحمل وفيه بيان الغرض من التحميل
587 - ثم المرعى في صفة المتحمل الاستمكان من الفهم والتحمل والمعتبر في صفته هو المعتبر في صفة متحمل الشهادة ثم إذا نجزت النوبة والشيخ على خبرة مما يجرى فلا حاجة أن يقول الشيخ للقارىء كما قرأت أو أصبت أو ما جرى هذا المجرى من الألفاظ وقد اشترط بعض المحدثين ذلك فإن كان هذا مذكورا للتأكيد والاستقصاء فالأمر فيه قريب وإن ذكر هؤلاء ذلك شرطا في صحة التحمل والتحميل فهو ساقط عند قرائن الأحوال كما تقدم وصفها حالة محل التصريح بالقول قطعا والتعويل على وقوع الإفهام والفهم وتحقق الإحاطة والعلم ووضوح ذلك يغنى الناظر عن مزيد البيان
مسألة
588 - إذا قال الشيخ المتلقى عنه أجزتك أن تروى عني ما صح عندك من مسموعاتي أو عين كتابا وأجاز له الرواية عنه فقد تردد الأصوليون في ذلك
فذهب ذاهبون إلى أنه لا يتلقى بالإجازة حكم ولا يسوغ التعويل عليها عملا ورواية
589 - والذي نختاره جواز التعويل عليها فإن المعتمد في الباب الثقة فإذا تحقق سماع الشيخ وذكر المتلقى منه سماعه وسوغ له إسناد مسموعاته إلى إخباره فلا فرق بين أن يعلق الإخبار بها جملة وبين أن يعلقه تفصيلا وقد تمهد بما تقدم أن إفصاحه بالنطق ليس شرطا فإن الغرض حصول الإفهام وترتب الفهم عليه وهذا يحصل بالإجازة المفهمة
ثم هي على مراتب
أعلاها الإشارة الى كتاب وربطه إجازة الرواية مع الإخبار عن صحة السماع فيه وقد يؤكد بعض المحدثين هذا القسم بالمناولة وهي أن يناول الشيخ المتلقى عنه كتابا ويقول دونكه فاروه عني ولست أرى في المناولة مزيد تأكيد
فإذا فوض المجيز إلى المتلقى تصحيح المسموعات ولم ينص عليها فهذه إجازة مترتبة على عماية والأمر في تصحيحها موكول إلى صحة بحث الراوي عن ثبوت سماع الشيخ مع انتفاض الشيخ عن التحريفات وهذا يعسر دركه ويتطرق إليه جهات من الجهالات تنخرم الثقة بأدناها
فإن كان المتلقى معولا على خطوط مشتملة على سماع الشيخ فلست أرى ذلك مقنعا
وإن تحقق ظهور سماع موثوق به فإذ ذاك وهيهات
590 - ومما يتعلق بتتميم الكلام في هذا أن الذي مستندة الإجازة يعمل بما يتلقاه ويعمل غيره بما رواه على هذه الجهة ولكن اللائق به أن يذكر جهة تلقيه الإجازة فإن ذلك أدفع للبس وأرفع للريب فإن قال حدثني فلان أو أخبرني مطلقا فلست أرى ذلك خلفا محضا لتحقق الثقة وقد تقدم أن نفس لفظ الشيخ ليس شرطا وليس قوله حدثني في الإجازة عبارة مرضية لائقة بالتحفظ والتصون فالوجه البوح بالإجازة
وللمحدثين مواضعات يرتبونها ويقولون في بعضها أخبرني وفي بعضها حدثني وليست على حقائق وليسوا ممنوعين من اصطلاحهم ولكل طائفة في الفن
الذي تعاطوه عبارات مصطلحة
مسألة
591 - إذا وجد الناظر حديثا مسندا في كتاب مصحح ولم يسترب في ثبوته واستبان انتفاء اللبس والريب عنه ولم يسمع الكتاب من شيخ فهذا رجل لا يروى ما رآه
592 - ولكن الذي أراه أنه يتعين عليه العمل به ولا يتوقف وجوب العمل على المجتهدين بموجبات الأخبار على أن تنتظم لهم الأسانيد في جميعها
والمعتمد في ذلك أن روجعنا فيه الثقة والشاهد له أن الذين كانوا يرد عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أيدي نقلة ثقات كان يتعين عليهم الانتهاء إليها والعمل بموجبها ومن بلغه ذلك الكتاب ولم يكن مخاطبا بمضمونه ولم يسمع من مسمع كان كالذين قصدوا بمضمون الكتاب ومقصود الخطاب
ولو قال هذا الرجل رأيت في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري ووثقت باشتمال الكتاب عليه فعلى الذي سمعه يذكر ذلك أن يثق به ويلحقه بما تلقاه بنفسه ورآه ورواه من الشيخ المسمع
ولو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه فإن فيه سقوط منصب الرواية عند ظهور الثقة وصحة الراوية وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول
593 - وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها وهذا هو المعتمد الأصولي فإذا صادفناه لزمناه وتركنا وراءه المحدثين ينقطعون في وضع ألقاب وترتيب أبواب
مسألة
594 - إذا قال الصحابي من السنة كذا فقد تردد فيه العلماء فذهب ذاهبون إلى أن قوله هذا محمول على النقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا فإن السنة إذا أطلقت تشعر بحديث الرسول عليه السلام
وأبي المحققون هذا فإن السنة هي الطريقة وهي مأخوذة من السنن والاستنان فلا يمتنع أن يحمل ما قاله على الفتوى وكل مفت ينسب فتواه إلى شريعة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم مستند الفتوى قد يكون نقلا وقد يكون استنباطا واجتهادا فالحكم بالرواية مع التردد لا أصل له
وكذلك إذا قال أمرنا بكذا فهو بمثابة قوله من السنة كذا فهذا منتهى القول في التحميل والتحمل ويلتحق الان بذلك مسائل
مسألة
595 - إذا نقل الراوي العدل خبرا من شيخ فروجع الشيخ فيه فأنكره
فالذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة وطوائف من المحدثين أن ذلك يوهى الحديث ويمنع العمل به
وأطلق الشافعي القول بقبول الحديث وإيجاب العمل به
وذكر القاضي في ذلك تفصيلا ونزل مطلق كلام الشافعي رحمه الله عليه فقال إن قال اشيخ المرجوع إليه كذب فلان الراوي عني أو قال غلط وما رويت له قط ما ذكر فإذا جزم الرد عليه أوجب ذلك سقوط تلك الرواية
فإن ردد الشيخ قوله ولم يثبت الرد على الراوي عنه ولكنه قال لست إذكر هذه الرواية فهذا لايتضمن ردا ررواية إذا كان الراوي عن الشيخ موثوقا به
596 - فأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم احتجوا بالشهادة على الشهادة فإن الفروع وإن كانوا عدولا إذا شهدوا ولم يمض القاضي قضاءه بشهادتهم حتى روجع الأصول فتوقفوا في أصل الشهادة اقتضى ذلك أبطال شهادة الفروع وامتنع أيضا التمسك بها والفروع في حكم الناقل عن الأصل شهادته وربما أطلقوا استدلالا وقالوا قد ذكرتم أن التعويل على ظهور الثقة ولا شك أن التردد من الشيخ أو تصريحه بالرد على الراوي عنه يوهى الثقة ويخرمها ويتضمن التوقف
597 - وقال الشافعي أما الشهادة فلا يجوز اعتبار الرواية بها لا فيها من التعبدات التي لا يعتبر شيء منها في الروايات فإذا أمكن حمل ما ذكروه في الشهادة على وجه في التعبد فلا يسوغ اعتبار الرواية بها وإن اتجه للخصم تقدير انخرام الثقى استغنى باتجاه ذلك عن القياس على الشهادة
ثم قال الشافعي رحمه الله الذي يؤكد سقوط اعتبار الرواية بالشهادة أنه لا يجوز اعتماد شهادة الفروع مع إمكان مراجعة الأصول ويجوز اعتماد رواية الثقة من غير مراجعة لشيخه فيها فوضح بذلك افتراق البابين في غر ما دفعنا إليه
ولو شبب مشبب بوجوب مراجعة الشيخ في الرواية عند الإمكان لم يترك ورأيه ورد عليه بقاطع لا استرابة فيه وهو أنا نعلم أن الصحابة رضي
الله عنهم كان يروى بعضهم لبعض أحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فيتلقونها بالقبول ولا يلتزمون على الطرد مراجعة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع الإمكان وكذلك القول في رواية بعضهم عن البعض
وهذا الذي ذكره الشافعي تأكيد متغنى عنه والتعويل على ما ذكرناه من حمل أمر الشهادة على التعبد وإمكان ذلك كاف في إبطال الاستدلال به و أما ما ذكروه من ادعاء وهاء الثقة فباطل لا أصل له والقول فيه عندنا يحققه التفصيل الذي أشار إليه القاضي
598 - فإن قال الشيخ لست أذكر هذه الرواية والراوي عنه قاطع بروايته مع ظهور عدالته واستقامة حالته فالوجه حمل تردد الشيخ على الذهول والنسيان ولا يوهن قطع الذاكر تردد غيره فالثقة إذا لم تسقط ولا تنحزم انخراما يسقط الاعتبار بالرواية
ولكن لو فرض تصديق الشيخ الراوي لدى المراجعة لكان ذلك أظهر في الثقة وأوضح في اقتضاء الاعتماد ونهاية الثقة ليست شرطا في أصل القبول وإنما يؤثر تفاوت الدرجات فيها في الترجيحات على ما سيأتي في كتابها وهذا بمثابة إضافة رواية رجل عدل إلى رواية إمام الدهر وموثوق العصر ومن إليه الرجوع في الأمر فلا شك أن رواية العدل تنحط عن مثل هذا الشخص برتب ظاهرة ولا يوجب ذلك رد رواية العدل بل يتعين حملها على القبول
وقد قال الشافعي لو روى عدل خبرا في أثناء خصومة وكان فحواها حجة على الخصم فالرواية مقبولة ولا تجعل للتهمة موضعا إذا كان الراوي عدلا
وكذلك إذا وقعت الرواية جارة منفعة إلى الراوي أو إلى والده أو ولده فلا ترد الرواية مع ظهور عدالة الراوي وإن كانت الشهادة مردودة في أمثال ذلك فإذا لا يعارض تردد من شيخ قطعا من راو عدل معارضة تحبط الثقة المعتبرة
599 - وهذا إذا لم يصرح الشيخ بالرد فأما إذا كذبه أو قطع بنسيته إلى الغلط فقد يظهر انخرام الثقة في هذه الحالة
واعدى القاضي على الشافعي أنه قال ترد الرواية في مثل هذه الصورة
والذي أختاره فيها أن نزل قول الشيخ القاطع بتكذيب الراوي عنه مع رواية الثقة العدل عنه منزلة خبرين متعارضين على التناقض فإذا اتفق ذلك فقد يقتضي الحال سقوط الاحتجاج بالروايتين وقد يقتضي ترجيح رواية على رواية بمزيد العدالة في إحدى الروايتين أو غير ذلك من وجوه الترجيح فلا فرق بين ذلك وبين تعارض قولين من شيخ وراو عنه
فصل في كيفية الرواية وتفصيلها وما يقبل منها وما يرد مسألة
600 - ما ذهب إليه معظم الأصوليين أن رواية الخبر على المعنى من غير اعتناء باللفظ جائزة إذا كان الراوي المترجم عنه قاطعا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه
وامتنع من ذلك معظم المحدثين وشرذمة من الأصوليين
601 - والدليل على الجواز مع القطع وانتفاء الريب أمور
منها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا ينقلون معنى واحدا في قصة واحدة بألفاظ مختلفة ولا محمل لذلك إلا اعتناؤهم بنقل المعنى وها قاطع في فنه ومما تواتر عنهم في ذلك أنهم كانوا يرددون العبارات في محاولة إفهام من لا يفهم وهذا بعينه تعرض للمعنى ومما يشهد له في ذلك أن الرسول عليه السلام كان يحمل رسله تبليغ أوامره ونواهيه ولا يكلفهم حفظ ألفاظه ومن جحد ذلك فهو مباهت فكان أصحابه رضي الله عنهم يصرفون عنايتهم إلى الألفاظ التي يفهموم أنهم متعدبون بتحفظها كألفاظ التشهد وغيرها وكانوا لا يجرون جميع ما يسمعون من أوامر رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا المجرى
والذي يحقق ذلك أنا على قطع نعلم أن الرسول عليه السلام كان يقصد أن تمتثل أوامره وكان لا يبغى من ألفاظه غيرذلك
والذي يوضح ما قدمناه أنه عليه السلام كان مبتعثا إلى العرب والعجم ولا يتأتى إيصال معنى أوامره إلى معظم خليقة الله سبحانه وتعالى إلا بالترجمة ومن أحاط بمواقع الكلام عرف أن إحلال الألفاظ من ثقة محل الألفاظ أقرب إلى الاقصاد من نقل المعاني من لغة إلى لغة
فإن استدل من منع ذلك بما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال نضر الله امرا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها قلنا هذا أولا من أخبار الاحاد ونحن نحاول الخوض في مخاض القطعيات وقد قال بعض المحققين من أذى المعنى على وجهه فقد وعى وأدى والتأويل الصحيح لو رمنا الكلام على الحديث أنه صلى الله عليه و سلم أراد بذلك من لا يستقل بفهم المعنى على القطع وتتميم الحديث شاهد فيه فإنه عليه لسلام قال في اخره فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه
إلى من هو أفقه منه فيشهد مساق الكلام على أن ما قاله فيه إذا كان يتوقع من الناقل زللا ولو ترجم
مسألة
602 - من سمع حديثا مشتملا على أحكام فهل له أن ينقل بعضها دون بعض بقدر مسيس الحاجة ولا يسوق الحديث على وجهه
اختلف العلماء في ذلك فمنع بعضهم الاقتصار على بعض الحديث وهذا قريب من التزام نقل اللفظ على وجهه وأجاز ذلك اخرون
603 - والمرضى عندنا التفصيل فإن كان ما سكت الراوي عنه حكما يتميز عما نقله ولم يكن للمسكوت عنه تعلق بالمنقول وكان لا يختل البيان في المروى بترك بعض الحديث فيجوز تخصيص البعض بالنقل على هذا الشرط وإن كان يختل البيان في القدر المنقول بسبب ترك المسكوت عنه فهذا إخلال في النقل ممتنع
604 - وقد تردد كلام الشافعي على خبرين ونحن نذكر سياق كلامه فيهما وبه يتم غرض المسألة قال الشافعي رحمه الله نل بعض النقلة عن ابن مسعود أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بحجرين وروثة ليستنجي بها فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم الروثة وقال إنها رجس وروى بعض الرواة أنه رمى بالروثة ثم قال ابغ لي
ثالثا والسكون عن ذكر الثالث ليس يخل بنقل الرواية وبيان أنها رجس ولكن قد يوهم النقل على هذا الوجه جواز الاكتفاء بحجرين فلا يجةو مع هذا الإيهام الاقتصار على بعض الحديث ويحمل رواية المقتصر على أنه لم يبلغه غير ما رواه
605 - والذي أختاره في هذا المسلك أن الراوي إن قصد إثبات منع استعمال الروث ونقل ما يدل على ذلك من رمى رسول الله صلى الله عليه و سلم الروثة وحكمه بأنها نجسة فهذا سائغ غير بعيد وإن لم يعلق روايته بقصده منع استعمال الروثة ولكنه استفتح الرواية غير متعلقة بغرض معين فلا يسوغ الاقتصار على ذكر رمى الروثة فإن ذلك يوهم جواز الاكتفاء بحجرين كما ذكر الشافعي فهذا أحد الخبرين
606 - والخبرالثاني في هذا القبيل حديث ماعز في الرجم في مقابلة ما روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم الثيب بالثيب جلد مائة والرجم
قال الشافعي رحمه الله هذا منسوخ بحديث ماعز فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر برجمه ولم ينقل أنه جلده ثم استوفى الشافعي الكلام في صيغة الأجوبة عن أسئلة وجهها على مانسوقها على وجهها قال فإن قيل لعله جلده ورجمه قيل له كانت فصة مشهورة من مشاهير القصص ولو جلد لنقل
فإن قيل رب تفصيل في القصة لا يتفق نقله ودواعي النفوس إنما تتوفر على نقل كليات الأقاصيص وقد صح في الحديث المقدم التصريح بالجلد فلا يعارضه التعلق بعدم النقل في حديث مع اتجاه وجه ترك النقل فيه
قال الشافعي مجيبا الأمر كذلك والحق أحق أن يتبع ولولا أن أبا الزبير روى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا ولم يجلد لكنا نعارض الحديث الأول بقصة ماعز
607 - قال القاضي ما ذكره الشافعي يتأكد بالإجماع على ترك الجلد وليس ما ذكره القاضي مسلما ففي السلف من يجمع بين الجلد والرجم ولولا ذلك لما اعتني الشافعي بالكلام على الحديث ثم قال القاضي وما أرى الحديث الأول إلا هفوة فإن من يقتل الأحجار أي معنى لجلده مائة وهو يدق بالأحجار إلى الموت فلعل الراوي سمع الجلد في البكر فاطرد على ذكره في الثيب ولا نهاية لمواقع إمكان الغلطات في الروايات
وهذا الذي ذكره القاضي لا يسوغ التعلق بمثله في رد رويات الثقات ولكن تقوى به مسالك التأويل وتظهر غلبات الظنون وهذا منتهى القول في ذلك
مسألة
608 - إذا روى طائفة من الأثبات قصة وانفرد واحد منهم بنقل زيادة فيها
فالزيادة من الراوي الموثوق به مقبولة عند الشافعي وكافة المحققين ومنع أبو حنيفة التعلق بها
واستدل الشافعي بأن انفراد بعض الناقلين بالاطلاع على مزيد ليس بدعا والناقل قاطع بالنقل فلا يعارض قطعه ذهول غيره وإذا ظهرت عدالة الراوي ولم يعارض نقله نقل يعارضه فلا يسوغ اتهام مثبت في نقله لعدم نقل غيره والدليل عليه أنه لو شهد جمع مجلس الرسول عليه السلام فنقل بعضهم حديثا ولم ينقل غيره من الحاضرين شيئا منه فهو مقبول ولا يسوغ تقدير الخلاف فيه فإن معظم الأحاديث التي نقلها الاحاد والأفراد عزوها إلى مشاهد لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومجالسه بين أصحابه كان كذلك ولو شرط نقل كل من شهد لرد معظم الأحاديث
والذي يعضد ما ذكرناه أن الشهادات تبر في وجوه من التعبدات على الراويات وهي تضاهيها في أصل اعتبار الثقة ثم لو شهد جمع من العدول رجلا وشهدوا على إقراره لإنسان وانفرد عدلان من الشهود الحضور بمزيد في شهادتهما فهي مقبولة ولا يقدح فيها سكوت الباقين عنها فإذا كان ذلك لا يقدح في الشهادات مع أنها قد ترد بالتهم فالروايات بذلك أولى وليس
ما ذكرناه من فن القياس ولكنا أوردنا ما أوردناه استشهادا في تحقيق الثقة
609 - قال الشافعي من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القران وبين رد الزيادة الت ينفرد بعض الرواة الثقات مع العلم بأن سبيل إثبات القران أن ينقل استفاضة وتواترا فما كان أصله كذلك إذا قبلت الزيادة فيه شاذة نادرة فلأن تقبل فيما سبيل نقله الاحاد كان أولى
610 - وهذه المسألة عندي بينة إذا سكت الحاضرون عن نقل ما تفرد به بعضهم فأما إذا صرحوا بنفى ما نقله عند إمكان غطلاعهم على نقله فهذا يعارض قول المثبت ويوهيه وقد أرى قبول الشهادة على النفي إن فرض الاطلاع عليه تحقيقا
مسألة
611 - كل أمر خطير ذي بال يقتضي العرف نقله إذا وقع تواترا إذا نقله احاد فهم يكذبون فيه منسوبون إلى تعمد الكذب أو الزلل وقد أجرينا هذا في أدراج أحكام التواتر ووجهنا أسئلة مخيلة وانفصلنا عنها
وقال أبو حنيفة بانيا على هذا لا يقبل خبر الواحد فيما يعم به البلوي فإن سبيل ما كان كذلك أن ينقل استفاضة
612 - ونحن نقول رد أبو حنيفة أخبار الاحاد في تفاصيل ما يعم به البلوي وأسند مذهبه إلى ذلك وهذا زلل بين فإن التفاصيل لا تتوافر الدواعي بها على نقلها توافرها على الكليات فنقل الصلوات الخمس مما يتواتر فأما تفصيلها في
الكيفية فلا يقضي العرف بالاستفاضة والدليل القاطع فيه أنه لو كان مما يتواتر لنقل تواترا فإذا لم ينقل نقيضه مع القطع بأنه لا بد من وقوع أحدهما دل على أن ما ورد خبر الاحاد فيهمن قبيل ما لا يجب التواتر فيه على حكم الاعتياد
وتمام البيان فيه أنا إنما نكذب المنفرد بالنقل في كلى متواتر قطعا لو وقع أو في تفصيل يقضي العرف التواتر فيه ثم لا بد أن يتواتر نقيض ما نقله المنفرد بنقله
مسألة
613 - ظاهر مذهب الشافعي أن القراءة الشاذة التي لم تنقل تواترا لا يسوغ الاحتجاج بها ولا تنزل منزلة الخبر الذي ينقله احاد من الثقات ولهذا نفى التتابع واشتراطه في صيام الأيام الثلاثة في كفارة اليمين ولم ير الاحتجاج بما نقله الناقلون من قراءة ابن مسعود في قول الله تعالى فصيام ثلاثة أيام متتابعات
وشرط أبو حنيفة التتابع وتعلق بهذه القراءة ولا يكاد يخفى أولا على ذي بصيرة أن العمل بزيادة في القران بنقل الاحاد يناقض رد ما ينفرد به بعض الثقات من الزيادات في الأخبار التي لا تقتضي العادة نقلها متواترا
614 - والذي يحقق سقوط الاحتجاج بالقراءة الشاذة أمران أحدهما أن القران قاعدة الإسلام وقطب الشريعة وإليه رجوع جميع الأصول ولا أمر في الدين أعظم منه وكل ما يجل خطره ويعظم وقعه لا سيما من الأمور الدينية فأصحاب الأديان يتناهون في نقله وحفظه ولا يسوغ في اطراد الاعتياد رجوع
الأمر إلى نقل الاحاد ما دامت الدواعي متوفرة والنفوس إلى ضبط الدين متشوفة
وهذا يستند إلى ما سبق تمهيده فيما يقتضي تواتر الأخبار فهذا وجه
والوجه الثاني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أجمعوا في زمن أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه على ما بين الدفتين واطرحوا ما داه وكان ذلك عن اتفاق منهم وابن مسعود لما شبب بنكر ناله من خليفة الله تعالى أدب بين ولم ينكر على عثمان في ذلك منكر وكل زيادة لا تحويها الأم ولا تشمل عليها الدفتان فهي غير معدودة في القران
615 - وأما ما يتعلق باختلاف القراءة في اعراب القران فليس مما يحوي المصحف المجمع عليه مخالفة له فإنه لم يثبت في المجموع في الأم قطع في التعرض لذلك فكان الأمر فيه محالا على نقل القراءة تواترا فإن خالج قلب من لم يعن بحفظ القران ريب في تواترها فذلك لأنه ليس من القراء والمرعى في التواتر ما يتلفى من أهل ذلك الشأن والتوار ينقسم منه ما يعم الكافة لاشتراكهم في سببه كنقل الدول والبلدان ومنه ما يختص به طوائف وفرق لاختصاصهم بالاعتناء به
616 - ولا ينبغي أن ينسبنا الناظر والمنهخى إلى هذا المقام إلى تقصير فيما يتعلق بمحل الإشكال في نقل القران العظيم فإنه قطب عظيم لم يشف القاضي فيه الغليل في كتاب الانتصار وإن عد ذلك من أجل مصنافته وفي نفسي أن أجمع من ذلك ما تقر به الأعين إن شاء الله تعالى وحظ هذه المسألة مما ذكرنا أن نقل
الاحاد في القران يلتحق بنقل الاحاد فيما يقتضي العادة في التواتر وهذا كاف
وقد نجزت مسائل الأخبار
-
الكتاب الثاني - كتاب الإجماع
617 - أصدر هذا الكتاب مستعينا بالله تعالى بثلاث مسائل ثم نخوض بعد نجازها في ترتيب الكتاب تأصيلا وتفصيلا
إحدى المسائل الثلاث في تصور الإجماع وقوعا والأخرى في كونه حجة وذكر الخلاف فيه والأخرى في المسالك الدالة على كون الإجماع حجة
مسألة
618 - ذهب طوائف من الناس إلى أن الإجماع لا يتصور وقوعه واشتد كلام القاضي ونكيره على هؤلاء وتعدى حد الإنصاف قليلا
ونحن نسلك مسلكنا في استيعاب ما لكل فريق حتى إذا لاحت نهايات النفي والإثبات وضح منها مدرك الحق
619 - فأما الذين منعوا تصور الإجماع فإنهم قالوا قد اتسعت خظة الإسلام ووقعته وعلماء الشريعة متباعدون في الأمصار ومعظم البلاد المتباينة لا تتواصل الأخبار فيها وإنما يندرج المندرج من طرف إلى طرف بسفيرات ورفيقات
ولا يتفق انتهاض رفقة ومدها مدة واحدة من الشرق إلى الغرب فكيف يتصور والحالة هذه رفع مسألة إلى جميع علماء العالم ثم كيف يفرض اتفاق ارائهم فيها مع تفاوت الفطن والقرائح وتباين المذاهب والمطالب وأخذ كل جيل صوبا في اساليب الظنون فتصور اجتماعهم في الحكم المظنون بمثابة تصور اجتماع العالمين في صبيحة يوم على قيام أو قعود أو أكل مأكول ومثل ذلك غير ممكن في اطراد العادة نعم إن انخرقت لنبي أو ولى على رأى من يثبت الكرامات فنعم وبالجملة لا يتصور الإجماع مع اطراد العادة فهذا قول هؤلاء ثم زاجوا إيهاما اخر فقالوا لو فرض الإجماع فكيف يتصور النقل عنه تواترا والحكم في المسألة الواحدة ليس مما تتوفر الدواعي على نقله
فقد أسندوا كلامهم إلى ثلاث جهات مترتبات في العسر أولها تعذر عرض مسألة واحدة على الكافة والأخرى عسر اتفاقهم والحكم مظنون والثالثة تعذر النقل تواترا عنهم واختتموا هذه بأن قالوا لو ذهب ذاهب من العلماء إلى مذهب فما الذي يؤمن من بقائه عليه وإصراره على مذهبه إلى أن يطبق النقل طبق الأرض فهذه عين كلام هؤلاء
620 - قال القاضي معترضا عليهم متتبعا مسالكهم نحن نرى إطباق جيل من الفار يربى عددهم على عدد المسلمين وهم متفقون على ضلالة يدرك بأدنى فكر بطلانها فإذا لم يتمتنع إجماع أهل الدين على الإحاطه بذلك منهم وإن أردنا
فرض ذلك في الفروه فنحن نعلم إجماع علماء أصحاب الشافعي على مذهبه في المسائل مع تباعد الديار وتنائي المزار وانقطاع الأسفار فبطل ما زخرفه هؤلاء
ثم قال القاضي لا يمتنع تصور ملك تنفذ عزائمه في خظة أهل الإسلام إما باحتوائه على البيضة أو بعلو قدره واستمكانه من إحضار من يشاء من المماليك بجوازم أوامره المنفذه إلى ملوك الأطراف وإذا كان ذلك ممكنا فلا يمتنع أن يجمع مثل هذا الملك علماء العالم في مجلس واحد ثم يلقى عليهم ما عن له من المسائل ويقف على خلافهم ووفاقهم فهذا وجه في التصوير بين لا يتوقف تصوره على فرض خرق العادة فهذا منتهى كلامه
621 - ونحن نفصل الان القول في ذلك قائلين لا يمتنع الإجماع عند ظهور دواع مستحثه عليه داعية إليه ومن هذا القبيل كل أمر كلى يتعلق بقواعد العقائد في الملل فإن على القلوب روابط في أمثالها حتى كأن نواصي العقلاء تحت ربقة الأمور العظيمة الدينية ومن هذا القبيل ما استشهد به القاضي من اجتماع جموع الكفار على ما وقتوه من دينهم ومنه اجتماع أتباع إمام على مذهبه فإن كل من رأسه ازمان يصرف إليه قلوب الأتباع وبذلك يتصل النظام وهذا مستبين في الجلى والخفى
وما ضوره القاضي من إحضار جميع العلماء ليس منكرا فقد تكون أطراف المماليك في حق الملك العظيم كأنها بمرأى منه ومسمع فلا يبعد ما قاله على ما صوره
622 - وأما فرض اجتماع على حكم مظنون في مسألة فردة ليست من
كليات الدين مع تفرق العلماء واستقرارهم في أماكنهم ونتفاء داعية تقتضي جمعهم فهذا لا يتصور مع اطراد العادة فإذا من أطلق التصور أو عدم التصور فهو زلل والكلام المفصل إذا أطلق نفيه أو إثباته كان خلفا ومن ظن أن تصور الاجماع وقوعا في زماننا في احاد المسائل المظنونة مع انتفاء الدواعي الجامعة هين فليس على بصيرة من أمره نعم معظم مسائل الإجماع جرى من صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم مجتمعون أو متقاربون فهذا منتهى الغرض في تصوير الإجماع
المسألة الثانية في كونه حجة إذا وقع
623 - ما ذهب إليه الفرق المعتبرون من أهل المذاهب أن الإجماع في السمعيات حجة وأول من باح بردة النظام ثم تابعه طوائف من الروافض وقد يطلق بعضهم كون الإجماع حجة وهو في ذلك ملبس فإن الحجة عنده في قول الإمام القائم صاحب الزمان وهو منغمس في غمار الناس فإذا استفر الإجماع كان قوله من جملة الأقوال فهو الحجة وبه التمسك
624 - وعمدة نفاة الإجماع أن العقول لا تدل على كون الإجماع حجة وليس يمتنع في مقدور الله تعالى أن يجمع أقوام لا يعصم احادهم عن الخطأ على نقيض الصواب فإذا ليس في العقل متعلق في انتصاب الإجماع حجة فلم يبق إلا تتبع الأدلة السمعية وتعيين انتفاء القاطع فيها والقاطع نص الكتاب أو نص
السنة متواترا والمسألة عرية عنهما فلا دليل إذا على أن الإجماع حجة وهذا الكلام مخيل بالغ في فنه إن لم يسلك المسلك المرضى في تتبعه
625 - ثم تمسك القائلون بالإجماع باى من كتاب الله تعالى ونحن نذكر أوقعها فمما استدل به الشافعي قول الله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الايه ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما نولى ونصله جهنم وساءت مصيرا فإذا أجمع المؤمنون على حكم في قضية فمن خالفهم فقد شاقهم المعترضون وظنى أن معظم تلك الاعتراضات الفاسدة تكلفه المصنفون حتى ينتظم لهم أجوبة عنها ولسن لأمثالها
بل أوجه سؤالا واحدا يسقط الاستدلال بالاية فأقول إن الرب تعالى أراد بذلك من أراد الكفر وتكذيب المصطفى صلى الله عليه و سلم والحيد عن سنن الحق وترتيب المعنى ومن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين المقتدين به نوله ما تولى فإن سلم ظهور ذلك فذلك وإلا فهو وجه في التأويل لائح ومسلك في الإمكان واضح فلا يبقى للمتمسك بالاية إلا ظاهر معرض للتأويل ولا يسوغ التمسك بالمحتملات في مطالب القطع وليس على المعترض إلا أن يظهر وجها في الإمكان ولا يقوم للمحصل عن هذا جواب إن أنصف
626 - فإن تمسك مثبتو الإجماع بما روى عن النبي عليه لسلام أنه قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وقد روى الرواة هذا المعنى بألفاظ مختلفة فلست أرى
للتمسك بذلك وجها لأنها من أخبار الاحاد فلا يجوز التعلق بها في القطعيات وقد تكرر هذا مرارا
ولا حاصل لقول من يقول هذه الأحاديث متلقاة بالقبول فإن المقصود من ذلك يئول إلى أن الحديث مجمع عليه وقصاراه إثبات الإجماع بالإجماع على أنه لا تستتب هذه الدعوى أيضا مع اختلاف الناس في الإجماع
ثم الأحاديث متعرضة للتأويلات القريبة المأخذ الممكنة فيمكن أن يقال قوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتى على ضلالة بشارة منه مشعرة بالغيب في مستقبل الزمان مؤذنه بأن عليه السلام لا ترتد إلى قيام الساعة وإذا لم يكن الحديث مقطوعا به نقلا ولم يكن في نفسه نصا فلا وجه للاحتجاج به في مظان القطع
627 - فإن قيل قد تحقق أن العقول لا تدل على ثبوت الإجماع واستبان أنه ليس في المعيات قاطع دال على أن الإجماع واجب الاتباع فلا معنى بعد ذلك إلا الرد والإجماع عصام الشريعة وعمادها وإليه استنادها
قلنا الإجماع حجة قاطعة والطريق القاطع في ذلك أن نقول للإجماع صورتان نذكرهما ونذكر السبيل المرضى في إثبات الإجماع في كل واحدة منهما إحداهما أن نصادف علماء العصر على توافرهم في أطراف الخطة وأوساطها مجمعين على حكم مظنون وللرأي فيه مضطرب فنعلم والحالة هذه أن اتفاقهم إن وقع لا يحمل على وفاق اعتقاداتهم وجريانها على منهاج واحد فإن ذلك مع تطرق
وجوه الإمكان واطراد الاعتياد مستحيل بل يستحيل اجتماع العقلاء على معقول مقطوع به في أساليب العقول إذا كان لا يتطرق إليه إلا بإنعام نظر وتسديد فكر وذلك لاختلاف الناظرين في نظرهم فإذا كان حكم العادة هذا في النظر القطعي فما الظن بالنظر الظني الذي لا يفرض فيه قطع فإذا تقرر أن اطراد الاعتياد يجيل اجتماعهم على فن من النظر فإذا ألفيناهم قاطعين بالحكم لا يرجعون فيه رأيا ولا يرددون قولا فنعلم قطعا أنهم أسندوا الحكم إلى شيء سمعي قطعي عندهم ولا يبعد سقوط النقل فيه فهذا مسلك إثبات الإجماع في هذه الصورة
628 - فأما الصورة الثانية وهي إذا أجمعوا على حكم مظنون وأسندوه إلى الظن وصرحوا به فهذا أيضا حجة قاطعة والدليل على كونه حجة أنا وجدنا العصر الماضية والأمم المنقرضة متفقة على تبكيت من يخالف إجماع العلماء علماء الدهر فلم يزالوا ينسبون المخالف إلى المروق والمحادة والعقوق ولا يعدون ذلك أمرا هينا بل يرون الاجتراء على مخالفة العلماء ضلالا بينا فإجماعهم على
هذا مع الإنصاف كالقطع في مجال الظن عند نظر العقل فإذا التحق هذا بإجمناعهم قطعا في حكم مطنون قطع به المجمعون من غير ترديد ظن فليكن الإجماع على تبكيت المخالف وتعنيفه مستند قاطع شرعي ولا يبعد أن يكون ذلك بعض الأخبار التى ذكرناها تلقاها من تلقاها من فلق في رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلم بقرائن الحال قصد المصطفى عليه السلام في انتصاب الإجماع حجة ثم علموا ذلك وعملوا واستمروا على القطع بموجبه ولم يهتموا بنقل سبب قطعهم فقد تقرر الان انتصاب الإجماع دليى قاطعا وبرهانا ساطعا في الشرع
المسألة الثالثة
629 - في التنصيص على المسلك الذي ثبت الإجماع به إذ لا مطمع في إسناده إلى العقل وكذلك لا مطمع في إسناده إلى دليل قاطع سمعي هجوما عليه من غير اعتبار واسطة
فإذا الواسطة التي هي العمدة النظر في قضيات اطراد العادات كما سبق تقرير ذلك في الصورتين ثم إذا أنعم الباحث نظره كان متعلقه دليلا قاطعا سمعيا يشعر الإجماع به
فإن قيل ما ذكرتموه إخراج الإجماع عن كونه حجة قلنا هذه الان غباوة فإن ذا التحصيل لا يطمع في كون إجماع الناس حجة لعينه وإنما المطلوب المكتفي به استناده إلى حجة والدليل عليه أن قول المصطفى صلوات الله عليه في نفسه ليس
بحجة ولكنه مشعر بتبليغ قول الله تعالى حقا صدقا وهو المطلوب المقصود وليس وراء الله للمرء مذهب
فصل 630 - الكلام بعد هذه المسائل الثلاث في أربعة فنون
أحدها في عدد المجمعين وصفتهم
والثاني في الزمن لمعتبر في الإجماع
والثالث في كيفية الإجماع قولا أو سكوتا أو فعلا
والرابع فيما يثبت بالإجماع وفيما لا يثبت
631 - فأما الفن الأول فإنه ينقسم إلى مسائل خلافية وفصول مذهبية ومجموع القول فيه يقع في نوعين
أحدهما في صفة المجمعين والثاني في عددهم
فأما الصفة فلا شك أن العوام ومن شدا طرفا قريبا من العلم لم يصر بسبب ما تحلى به من المتصرفين في الشريعة وليسوا من أهل الإجماع فلا يعتبر خلافهم ولا يؤثر وفاقهم وأما المفتون المجتهدون فلا شك في اعتبارهم وأما الذين تبحروا في الأصول وقواعد الشرع وأطراف من الفقه والذين تبحروا في يجمعه مضمون المسألة التي نرسمها إن شاء الله تعالى
مسألة
632 - ذهب القاضي إلى أن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه يعتبر خلافه ووفاقه
والذي ذهب إليه معظم الأصوليين خلاف ذلك فإن من وصفه القاضي ليس من المفتين ومن لم يكن منهم ووقعت له واقعة لزمه أن يستفتي المفتين فيها فهو إذا من المقلدين ولا اعتبار بأقوالهم فإنهم تابعون غير متبوعين وحملة الشريعة مفتوها والملقدون فيها
واحتج القاضي لمذهبه بأن قال من وصفته من أهل التصرف في الشرع وهو ممن يستضاء برأيه ويستهدي بنهجة وأنحائه في مجلس الاشتوار وإذا كان كذلك فخلافه يشير إلى وجه من الرأي معتبر وإذا ظهر على اعتباره في الخلاف انبنى عليه اعتبار الوفاق وعضد ما قاله بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا في النظر في المشكلات لا ينكرون على ذوي الفطن والأكياس من الناس رأيهم إنكار توبيخ وتقريع وتحذير من مخالفة الإجماع وأهله فإن ابن عباس كان يفاوض حلة الصحابة رضي الله عنهم وما كان بلغ بعد مبلغ المدتمهدين
وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر فإنه ما أظهر ابن عباس الخلاف إلا بعد استجماعه خلال الكمال فمن ادعى أنه وقت مخالفته ما كان من المدتهدين فقد أحال قوله على عماية لا تحقق فيها
وعلى الجملة إذا أجمع المفتون وسكت المتصرفون فيبعد أن يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم وأخذ رأيهم فإن الذين لا يستقلون بأنفهم في جواب مسألة ويتعين عليهم تقليد غيرهم فوجوب مراجعتهم محال وإن فرض عدم الإنكار عليهم إذا أبدوا وجها في التصرف إن سلم ذلك فهو محمول على إرشادهم وهدايتهم إلى سواء السبيل وإن أبدوا أقوالهم إبداء من يرغم الإجماع فالإنكار يشتد عليهم
633 - والقول المغنى في ذلك أنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ المجتهدين وليس بين من يقلد ويقلد مرتبة ثالثة فإن قيل إذا أجمع المفتون والمتصرفون الذين لم يبلغوا ذروة الفتوى فهذا إجماع مقطوع به وإذا أجمع المفتون وخالفهم المتصرفون فيلتحق هذا بما لا يقطع بكونه إجماعا وإنما يقوم الإجماع حجة إذا كان النظر مقطوعا به قلنا النظر السديد يتخطى كلام القاضي وعصره ويترقى إلى اعصر المتقدم ويفضي إلى مدرك الحق قبل ظهور هذا الخلاف
فأما التحقيق خالف القاضي أو وافق أن المجتهدين إذا اطبقوا لم يعد خلاف المتصرفين مذهبا محتفلا به فإن المذاهب لأهل الفتوى فإن شبب القاضي بأن المتصرف الذي ذكره من أهل الفتوى في كلامه تشبيب بهذا فنشرح القول في كتاب الفتوى والكلام الكافى في ذلك أنه إن كان مفتيا اعتبر خلافه
مسألة
634 - ذهب معظم الأصوليين إلى أن الورع معتبر في أهل الإجماع والفسقة وإن كانوا بالغين في العلم مبلغ المجتهدين فلا يعتبر خلافهم ووفاقهم فإنهم بفسقهم خارجون عن الفتوى والفاسق غير مصدق فيما يقول وافق أو خالف
635 - وهذا فيه نظر عندي فإن الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره بل يلزمه
أن يتبع في وقائعه ما يؤدي إليه اجتهاده وليس له أن يقلد غيره فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده مخالف اجتهاد من سواه وإذا بعد انعقاد الإجماع في حقه استحال انعقاد بعض حكمه حتى يقال انعقد الإجماع من وجه ولم ينعقد من وجه
فإن قيل هو عالم في حق نفسه باجتهاده مصجق عليه فيما بينه وبين ربه وهو مكذب في حق غيره فلا يمتنع انقسام أمره على هذا الوجه فينقسم حكم الإجماع في حقه قلنا هذا محال فإن الفاسق لا يقكع بكذبه ولا يقطع بصدقه فهو كعالم في غيبته فإن تاب كان كما لو اب الغائب فهذا ما تمس الحاجة إلى ذكره من صفات المجمعين
636 - والقول الضابط في كل ما لم نذكره أن كل ما لا يعتبر عند المفتين فهو غير معتبر في المجمعين كالحرية والذكورة وغيرهما والكافر وإن حوى م علوم الشريعة أركان الاجتهاد فلا معتبر بقوله أصلا وافق أو خالف فإنه ليس من أهل الإسلام والحجة في إجماع المسلمين والمبتدع إن كفرناه لم نعتبر خلافه ووفاقه وإن لم نكفره فهو من المعتبرين إذا استجمع شرائط المجتهدين وقد قبل الشافعي شهادة أهل الأهواء ولم ينزلهم منزلة الفسة فهذا أحد طرفي هذا الفن
637 - فأما الكلام في عدد المجمعين فإن كان علماء العصر بالغين مبلغا لا يتوقع
منهم التواطؤ وهم الذين يسمون عدد التواتر فلا شك في انعقاد الإجماع بوفاقهم وإن فرض نقصان عدد علماء العصر عن هذا المبلغ فهذا موضع التردد
مسألة
638 - ذهب بعض أهل الأصول إلى أنه لا يجوز انحطاط علماء العصر عن مبلغ التواتر فإنهم قومة للملة وحفظة للشريعة وقد ضمن الله قيامها ودوامها وحفظها إلى قيام الساعة ولو عاد العلماء إلى عدد لا ينعقد منهم التواطؤ فلا يتأتي منهم الاستقلال بالحفظ
وقال الأستاذ يجوز بلوغ عددهم إلى مبلغ ينحط عن عدد التواتر ولو أجمعوا كان إجماعهم حجة ثم طرد قياسه فقال يجوز ألا يبقى في الدهر إلا مفت واحد ولو اتفق ذلك فقوله حجة كالإجماع
639 - والذي نرتضيه وهو الحق أنه يجوز انحطاط عددهم بل يجوز شغور الزمان عن العلماء وتعطيل الشريعة وانتهاء الأمر إلى الفترة وهذا نيقصيه في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى فأما من قال إن إجماع المنحطين عن مبلغ التواتر حجة فهو غير مرضى فإن مأخذ الإجماع يستند إلى طرد العادة كما تقدم ذكره ومن لم يحن إسناد الإجماع إليه لم تستقر له قدم فيه
الفن الثاني
فأما الفن الثاني فهو القول في الزمان وتفصيل المذهب في اشتراط
انقراض العصر في انعقاد الإجماع
مسألة
640 - اختلفت مسالك القائلين بالإجماع في اشتراط انقراض المجمعين في انعقاد الإجماع
فذهب أقوام إلى أنه لا يحكم بانعقاد الإجماع ما بقى من المجمعين أحد
ثم هؤلاء يقولون لو أجمع العلماء في عصر ثم لحقهم لاحقون وبلغوا رتبة المجتهدين فلا يعتبر انقراضهم إذ قد يلحقهم اخرون
وهذا يفضي إلى عسر تصوير الانقراض فالمرعى إذا انقراض الذين أجمعوا أولا
ومن مقتضى هذا المذهب أنه لو رجع واحد من المجمعين فهو سائغ وتعود المسألة نزاعية بعد ما كانت تظن إجماعه وإنما يمتنع الخلاف إذا استمروا على الوفاق حتى انقرضوا
ثم قال هؤلاء لو اتفق اجتماع العلماء ومصيرهم إلى مذهب في واقعة ثم خر عليهم سقف على القرب أو عمهم وجه من وجوه الهلاك فقد انبرم إجماعهم في ذلك الحكم وإن كان ذلك في زمن قريب ولو بقوا زمنا طويلا مصمين على ما قالوه لم ينعقد الإجماع ما لم ينقرضوا
وقال القاضي إذا أجمعوا قامت الحجة من غير استئخار وانتظار انقراض ولو فرض خلاف بعد الوفاق كان المخالف خارجا عن حكم الإجماع خارقا ربقة الوفاق
وقال الأستاذ أبو إسحاق وطائفة من الأصوليين إن كان الإجماع قوليا لم يشترط فيه الانقراض وإن كان حصوله بسكوت جماهير العلماء على قول واحد منهم من غير إبداء نكير عليه فهذا النوع يشترط في انعقاده ووجوب الحكم به انقراض العصر خليا عن إظهار الإنكار
641 - والحق المرضى عندنا أن الإجماع ينقسم إلى مقطوع به وإن كان في مظنة الظن وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم
فأما ما قطعوا به على خلاف موجب الاعتياد فتقوم الحجة به على الفور من غير انتظار واستئخار فإنا أوضحنا أن ذلك إذا اتفق فهو محمل على رجوعهم إلى أصل مقطوع به عندهم وتقدير خلاف ذلك مخالف موجب طرد العادة والعادة لا تنخرق لا في لحظة ولا في اماد متطاولة
إن اتفقوا على حكم وأسندوه إلى الظن فلا يتم الإجماع ولا ينبرم مع إسنادهم ما أفتوا به إلى أساليب الظنون ما لم يتطاول الزمن فإن الإجماع على الحكم مع الاعتراف بالتردد في الأصل لا يعد إجماعا وإطباقا ولو فرض من بعضهم إظهار خلاف ما عن لهم على البدار لم يعد ذلك المخالف والحالة كما صورناه عاقا خارقا حجاب الهيبة فإنهم إذا قالوا قالوا قرنوه بما يرخى طول الناظر المتفكر وسوغ له طرق التفكير نعم إن استمروا على حكمهم ولم ينقدح على طول الزمن لواحد منهم خلاف فهذا الان يلتحق بقاعدة الإجماع وهذا عسر التصور فإن المظنون مع فرض كول الزمن فيه يبعد أن يسلم عن خلاف مخالف من الظانين فإذا تصور فالحكم ما ذكرناه فإن امتداد الأيام يبين إلحاقهم بالمصرين ويرفعهم عن رتبة المترددين ويتجه إذ ذاك توبيخ المخالفين ومخاكبتهم بأن ما ذكرتموه لو كان وجها معتبرا لما أغفله العلماء المفتون
وشرط ما ذكرناه أن يغلب عليهم في الزمن الطويل ذكر تلك الواقعة وترداد
الخوض فيها فلو وقعت الواقعة فسبقوا إلى حكم فيها ثم تناوسها فلا أثر للزمان والحالة هذه
ثم إذا لاح أن المعتبر ظهور الإصرار بتطاول الزمن فلو قالوا عن ظن ثم ماتوا على الفور كما تقدم تصوير ذلك فلست أرى ذلك إجماعا من جهة أنهم أبدوا وجها من الظن ثم لم يتضح إصرارهم فهذا هو المغزى
642 - ثم لو روجعنا في ضبك ذلك الزمان فقد أحوجنا إلى كشف الغطاء فإنا سنقول مجيبين المعتبر زمن لا يفرض في مثله استقرار الجم الغفير على رأى إلا عن حامل قاطع أو نازل منزلة القاطع على الإصرار وهذا إذا يمنع تصوير الإصرار مع البوح بالظن في جميع الزمان إلا أن يتكلف متكلف فيه وجها فنقول وقد يفهم ظهور وجه من الظن فإن الأمر البالغ الجلى الظني تبتدره العلماء ابتدارهم اليقين ولكن لا يلوح جلاؤه إلا بالإصرار
وللفطن أن يقول من انتهى إلى هذا المنتهى فقد اعتزر إلى القطع فإن ما بلغ في الوضوح مبلغا يجمع شتات الرأي فهو مسلك متبوع قطعا فليفهم الناظر ما يلقى إليه
643 - وإما إطلاق القاضي القول بقيام الحجة من غير تفصيل ففي أطراف كلامنا ما يدرؤه واشتراط الموت مع طول الزمن لا معنى له والاكتفاء به على قرب لا طائل وراءه
وما ذكره الأستاذ أبو إسحاق من ربط الإجماع السكوتي بالانقراض فغير مرضى فإنا سنوضح أن سكوت العلماء على قول قائل محل الظن لا يكون إجماعا ثم ما ذكره يلزمه اعتبار الزمان إذا باحوا بصدور حكمهم عن
موجب الظن كما قدمناه ثم لا معول على الانقراض فالذي اخترناه استثمار طرق الحق في المسالك كلها فهذا منتهى القول في الزمان وما يتعلق به
الفن الثالث في وجه انعقاد الإجماع
فأما الفن الثالث فمضمونه تفصيل القول في وجه انعقاد الإجماع
644 - والكلام في ذلك تفصله مسائل خلافية وفي أدراجها فصول مذهبية ونرسم المسائل أولا ونذكر ما فيها ونجرى في أثنائها ما يتعلق بحكاية المذاهب ثم إذا نجز الفن ختمناه بضابط يسهل التناول ويبين صور الخلاف والوفاق
مسألة
645 - إذا قال واحد في شهود علماء العصر فكان ذلك القول موافقا لبعض مذاهب العلماء في محل الاجتهاد ومسلك الظن فسكت العلماء عليه ولم يبدوا نكيرا على القائل فهو يكون تركهم النكير تقريرا نازلا منزلة إبداء الموافقة قولا
اختلف الأصوليون في ذلك فظاهر مذهب الشافعي وهو الذي يميل إليه كلام القاضي أن ذلك لا يكون إجماعا
والذي مال إليه أصحاب أبي حنيفة أنه إجماع وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق فنذكر ما تمسك به أصحاب أبي حنيفة ونتتبعه ثم نذكر المختار عندنا
فإن قالوا أهل الإجماع معصومون عن الزلل والعصمة واجبة لهم كما تجب للبني ثم إذا رأى النبي مكلفا يقول قولا متعلقا بأحكام الشرع فسكت عنه ولم ينهه كان ذلك تقريرا منه نازلا منزلة التصريح بالتصديق وإبداء الوفاق
وهذا الذي ذكروه لا حاصل له فإنه أولا محاولة إثبات الإجماع بطريق القياس وهذا ما لا سبيل إليه فإن الأقيسة المظنونة لا مساغ لها في القطعيات وغاية هذا الكلام تشبيه صورة بصورة وقياس حالة من قوم على حالة من الشارع عليه السلام
والذي يوضح فساد هذا المسلك أنه لا يمتنع في مقتضى العقل ورود التعبد باعتقاد تقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم شرعا مع التعبد بالعلم بأن سكوت العلماء لا ينزل منزلة تصريحهم بالقول فإذا لم يكن هذا ممتنعا في حكم العقل ولم يقم دليل قاطع سمعي على تنزيل سكوت العلماء منزلة سكوت الشارع عليه السلام فقد فسد هذا الاعتبار وال حاصلة إلى محاولة إثبات مقطوع به بمسلك هو في مجرى مظنون ثم لا عذر للشارع في السكوت على الباطل فإن الحق عتيد عنده وإن لم يكن فتلقى وجه الحق من مورد الوحى الذي هو بمر صاده هين عليه فأما أهل الإجماع إذا سكتوا في محل ظن حيث يرون للاجتهاد مساغا ومضكربا فسكوتهم محمول على تسويغ ذلك القول لذلك القائل فلاح الفرق مع الاستغناء عنه فإن القطعي لا ينتظم فيه جمع فيحوج إلى الفرق
646 - فالمختار إذا مذهب الشافعي فإن من ألفاظه الرشيقة في المسألة لا ينسب إلى ساكت قول ومراده بذلك أن سكوت الساكتين له محملان أحدهما موافقة القائل كما يدعيه الخصم والثاني تسويغ ذلك القول الواقع في محل الاجتهاد لذلك القائل وهذا ممكن بطرد العرف غير ملتحق بالنوادر
والدليل عليه أنا لو فرضنا اجتماع العلماء في مجلس وقام سئل إلى رجل حنفى وسأله عن مسألة اختلف العلماء فيها فلو أجاب المفتى الحنفي بما يوازى مذهب أبي حنيفة فسكت الحاضرون عليه لابتدرت الأوهام إلى حمل سكوتهم على التسويغ في محل الاجتهاد وتمهيد عذر المفتي المعرب عن مذهبه المسوغ وإذا تردد سكوتهم كما ذكرناه والإجماع هو القول الجازم المبتوت فيستحيل ادعاؤه على صفته وشروطه في محل تقابل الاحتمالات
وهذا يتضح بصورة تناقض صورة الخلاف وهي أن واحدا لو ذكر على رءوس الأشهاد وجمع المفتين قولا خرق به الإجماع وخالف دين الأمة فالمفتون لا يسكتون عليه بل يثورون مبادرين إلى الإنكار عليه وتجهيله وتسفيه عقله وذلك لأن الذي جاد به ليس قولا ينقدح تسويغه لقائل فهذا معنى قول الشافعي لا ينسب إلى ساكت قول
647 - ونحن نصور هذه المسألة في صورتين ونذكر في كل واحدة منها ما يليق بها حتى يستبين الناظر وجوه مجاري الكلام في نظائرهما من مسائل الشرع
فنقول قد يدعى أصحاب أبي حنيفة في بعض المسائل انتشار قول الصحابي في علماء العصر مع سكوتهم وتركهم الإنكار ثم يبنون عليه أن سكوتهم تقرير نازل منزلة التصديق بالقول ولا يستمر لهم إثبات الانتشار وذلك كتعلقهم تقرير نازل منزلة التصديق بالقول ولا يستمر لهم إثبات الانتشار وذلك كتعلقهم بقضاء عثمان رضي الله عنه بتوريث المبتوتة في قصة تماضر زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ويتجه في هذه الصورة وأمثالها أسئلة قبل الانتهاء إلى ابداء الخلاف في المسألة
منه أنا نقول ما ادعيتموه من الانتشار في كافة علماء الأمصار فأنتم منازعون فيه وليس كل قضاء يقضي به إمام أو وال من الولاة يشاع ويذاع في كافة العلماء ومن اعتاص عليه حكم من قضايا مطرد العادة في العصور المنقرضة فليصور
مثله في عصره فإن الأزمنة وأهلها على التداني في أحكام العادات ونحن نعلم في زمننا أن أقضية القضاة لا تنتشر في كافة العلماء وهذا السؤال إذا حققنا المباحثة فيه لم يجد الخصم عنه مهربا ولم يبق بيده مستمسك يحاول به إثبات غرضه فهذا نوع من السؤال متقدم على الخلاف في المسألة التي نحن فيها
648 - والسؤال الثاني أن نقول إن ثبت الانتشار فلعل بعض العلماء أنكر فدعوى سكوتهم لا اعتضاد له بثبت وتحقيق وغاية الخصم فيه أن يقول لو جرى إنكار لاشتهر وعنه جوابات واقعان أحدهما أنه إنما يشتهر كل خطب ذي بال وإنكار واحد من العلماء على قاض من القضاة ليس من الأمور الجسيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها فهذا وجه والوجه الثاني أن نقول لعله اشتهر أولا ثم انصرفت الدواعي عن المواظبة على تذكاره ودرس ما كان متواترا وذلك كثير في العرف وهذه الطلبات لا محيص عنها ولا يتواصل الخصم معها إلى تصوير صورة المسألة من الانتشار وعدم الإنكار على قطع استمرار فإن تأتي له التصوير وهيهات فما قدمناه قاطع من تقابل الاحتمالات فيمحامل السكون ولا سبيل إلى القطع مع التردد فهذه إحدى الصورتين
649 - والصورة الثانية لا يتجه فيها بعض هذه الأسئلة وهي كتعلق أصحاب أبي حنيفة في ترك انتظار بلوغ الأطفال في الاقتصاص بحديث قتل الحسن بن علي رضي الله عنهما عبد الرحمن بن ملجم وفي الورثة صبيان فلا سبيل في هذه القصة إلى ابداء مراء في الانتشار فإن الأمر عظيم والخطب جسيم ولكن ينقدح ادعاء نكير من بعض العلماء من غير انتشار الإنكار وسبيل التقرير ما مضى ثم وراء تسليم ذلك الدليل القاطع الذي قدمناه وين1م إلى تحقيقه حكم الأب في ترك الاعتراض على الأئمة فإنه ليس للعلماء إذا جرى قضاء قاض بمذهب مسوغ أن ينكروا
عليه مع نفوذ قضائه فهذا إذا وجه في الاستحثاث على السكوت فهذا منتهى القول في هذه المسألة
650 - وبعد ذلك كله غائلة هي خاتمة المسألة وغاية سرها ونحن نبديها في معرض سؤال وجواب فإن قيل إن اتجه في حكم العاة سكوت العلماء على قول مجتهد فيه مظنون في مسألة فاستمرارهم على السكوت زمنا متطاولا يخالف العادة قطعا إذا كان يتكرر تذاكر الواقعة والخوض فيها ومن لم يجعل السكوت إجماعا فإنما يستقيم له مطلوبة في السكوت في الزمان القصير ولهذا السؤال اشترط بعض المحققين في الأصول في الإجماع السكوتي انقراض العصر
651 - وأنا أقول لا يتصور دوام السكوت مع تذاكر الواقعة في حكم العادة قطعا وهذه صورة يحيل العقل وقوعها فإن هؤلاء سيخوضون فيها إما بوفاق أو خلاف لما يبدون حكمه وافقوا أو خالفوا فإذا لم يتصور استمرار السكوت حتى يبنى عليه ادعاء القطع ومن عجيب الأمر أن هذا القائل أحال إدامة السكوت من غير قطع ولم يعلم أنهم لو أضمروا القطع لأبدوه ولم يسكتوا إذا تطاول الزمان فرجعت صورة المسألة على الضرورة إلى السكوت في الزمان القصير وفيه الاحتمالات التي قدمناها ولا قطع من الاحتمال وهذا منتهى المسألة تصويرا وتقريرا
مسألة
652 - إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على قولين واستمروا على الخلاف
فالذي صار إليه معظم المحققين أن اختراع قول ثالث خرق للإجماع
وذهب شرذمة من طوائف الأصوليين إلى أن ذلك لا يكون مخالفة الإجماع واستدلوا بأمر تخيلوه على نقيض الصواب فقالوا اختلافهم يناقض الاتفاق ويفيد النازر أن المسألة في محل الظنون والخلاف متطرق إليها ولهذا لا يتضمن المنع من قول ثالث بل لو قيل إنه متضمن جواز الخلاف لكان ذلك قريبا وعضدوا هذا بأن قالوا التنصيص على القولين من غير قطع فريق بتخطئة الاخر بمثابة تصريحهم بأن الأمر مظنون وكل ذي ظن على ظنه
653 - وهذا الذي ذكروه ساقط فإن الذي انتعض معتمدا للإجماع بعد السبر والمباحثة ما تحصل وتنخل من قولنا إن المجتمعين قد يقطعون بما أجمعوا عليه وقد يسندونه إلى الظن فإن قطعوا فالأمر فيه متلقى من حكم العادة وهي قاضية لا محالة بإسناد المجمعين إلى قاطع فإن أسندوا المحكوم به إلى الظن فمعتمد الإجماع في هذه الصورة قطع العلماء في العصر الماضية بتبكيت من يخالف وليس ذلك أمرا معقولا فيستند القطع بالتبكيت إلى قاطع
654 - فإذا تجدد العهد بالمسلك الحق في الصورتين قلنا بعد ذلك إن ذكر علماء العصر قولين وقطعوا بنفي ثالث سواهما ورددوا الظن في القولين فنفيهم الثالث قطع في حصر الحق في القولين فإن فرض من يخترع مذهبا ثالثا فهو مخالف لإجماع مقطوع به وإن لم يصرحوا بنفي ثالث على قطع فتركهم التعرض له وحصرهم التردد في القولين في حكم اتفاقهم على حكم مظنون مع التصريح باستناده إلى الظن والتبكيت يتطرق إلى من قال قولا ثانيا والعلماء
الماضون على خلافه كذلك يتطرق التبكيت إلى من يخترع مذهبا ثالثا لم يصر إليه صائر من المتقدمين وإن كانوا مختلفين
وما ذكره الخصم تلبيس لا حاصل له فإن الصائرين إلى القولين سوغوا الخلاف منحصرا في القولين وهم قاطعون بنفي ما وراءهما أو ظانون وكلا الوجهين في نفي القول الثالث إجماع فقطعه ملحق بالقطع بالحكم الواحد وظن نفي القول الثالث ملحق بالإجماع على مذهب واحد مع الإسناد إلى الظن
655 - فإن رددوا كلاما واستدلوا به شاديا مبتديا فالسبب فيه والوجه في كشفه ما ننبه عليه فنقول
وقد ذكرنا أن القول الواحد المظنون إذا فرضنا الاتفاق عليه لم يكن الاتفاق عليه وهو مظنون إجماعا على القرب حتى يتمادى الزمن عليه على ما سبق تقريره في مسألة اشتراط انقراض المجمعين فإذا كان ذلك والقول واحد فهو أولى أن يعتبر والعلماء على قولين فإن ترديد القولين نهاية في تطريق الظنون ولو قيل تمادى الزمن المعتبر في هذه الصورة يبر على تماديه في اتحاد القول لكان حقا مبينا فهذا مغزى المسألة
مسألة
656 - إذا اختلف علماء العصر على قولين ثم رجع المتمسكون بأحد القولين إلى القول الاخر وصاروا مطبقين عليه فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن هذا إجماع
وذهب القاضي إلى أن هذا لا يكون إجماعا
وإذا انقرض العلماء على سجية الاختلاف ثم أجمع علماء العصر الثاني على أحد القولين فالاختلاف في هذه الصورة أظهر
قال قائلون هذا ليس بإجماع ولو تعلق متعلق بالقول المضرب عنه لم يكن خارقا للإجماع وميل الشافعي رضي الله عنه في أثناء ما يجريه إلى هذا
وقال قائلون هذا إجماع
وأما القاضي فلا شك أنه لا جعل هذا أجماعا ومن مذهبه أن المختلفين في العصر الأول لو رجعوا إلى قول واحد لم يكن ذلك إجماعا فإذا كان هذا غور مذهبه فكيف الظن به والإجماع من أهل العصر الثاني ثم إنه يستدل على تمهيد قاعدته بنكته واحدة فيقول إذا اختلف علماء عصر على مذهبين فقد ظهر اختلافهم في التحليل والتحريم مثلا ثم تضم تقرير كل قوم أصحابهم على مذهبهم إجاعا من كافتهم على أن الخلاف سائغ فيحصل في ضمن الخلاف مع التقرير الإجماع على جواز الخلاف فإذا فرض الرجوع إلى قول واحد فهذا غير منكر عملا ووقعا ولكنه مسبوق بالإجماع على تسويغ الخلاف وهذا يجري في العصر الواحد فإذا جرى فيه فلأن يجري في العصرين أولى
657 - وأما الذين جعلوا الاتفاق على قول من القولين السابقين إجماعا فإن بعضهم يتعلق ويستدل على بعض باجتماع المختلفين على أحد القولين قبل أن ينقرضوا ويقولون أيضا لو وقعت واقعة فاتفق علماء العصر على حكم واحد فيها كان اتفاقهم حجة وإكباقهم على قول واحد يجري هذا المجرى
ولا يستقر لهؤلاء قدم إلا بتخييل هو مكتتهم وعنها صدر ما قدمناه وذلك
أنهم قالوا المختلفون كأنهم بعد على تردد النظر وليس التردد مذهبا محققا وإنما يتلقى الإجماع من استقرار العلماء وليس تردد المترددين حجة على مخالفة قطع القاطعين
658 - والرأي الحق عندنا ما نبديه الان فنقول إن قرب عهد المختلفين ثم اتفقوا على قول فلا أثر للاختلاف المتقدم وهو نازل منزلة تردد ناظر واحد أولا مع استقراره اخرا وإن تمادى الخلاف في زمن متطاول على قولين بحيث يقضي العرف بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين على طول المباحثة لظهر ذلك للباحثين فإذا انتهى الأمر إلى هذا المنتهى فلا حكم للوفاق على أحد القولين وذلك أن ما صورناه من اختلافهم في الزمان مع مشاورة الذكر وترديد البحث يقتضي ما ذكره القاضي من حصول وفاق ضمني على أن الخلاف في هذه المحال سائغ
وشفاء الغليل في ذلك أن رجوع قوم وهم جم غفير إلى قول أصحابهم حتى لا يبقى على ذلك المذهب الثاني أحد ممن كان ينتحله لا يقع في مستقر العادة فإن الخلاف إذا رسخ وتناهى وتمادى الباحثون ثم لم يتجدد بلوغ خبر أو اية أو أثر يجب الحكم بمثله فلا يقع في العرف دروس مذهب طال الذب عنه فإن فرض فارض ذلك فالإجماع فيه محمول على أنه بلغ الراجعين أمر سوى ما كانوا يخوضون فيه في مجال الظنون ثم غاية النظر إن انتهى الأمر إلى هذا أنهم إن قطعوا بذلك فوفاقهم إجماع حملا على هذا وعلى هذا انبنى أصل الإجماع وإن فرض فارض عدم القطع مع الرجوع عن المذهب القديم فهذا يعيد في التصوير وإن تصور ذلك على تكلف فما أرى ذلك بالغا مبلغ الإجماع فإنه لا ينقدح فيه دعوى تبكيت من يتعلق بالقول المرجوع عنه حسب انقداح ذلك في مواقع القطع
وإذا ظهر في التردد زال ادعاء الإجماع فإن الإجماع واجب الاتباع وهو المقطوع به فهذا قولنا مع اتحاد العصر
659 - فأما إذا انقرض علماء العصر مع طول الزمان فإن المعتمد عندنا طول الزمان على الخلاف ثم إذا اجتمع علماء العصر الثاني على أحد المذاهب فالوجه أن لا يجعل ذلك إجماعا لما قرره القاضي من استنباط الإجماع على تسويغ الخلاف وما ذكره الأولون من اعتبار هذه الصورة جمع بترديد ناظر أولا واستقراره اخرا فقول عرى عن التحصيل فإن استمرار العلماء الغواصين المعتنين بالبحث المتدارك على الخلاف قطع منهم بأن لا سبيل إلى القطع فإن اجتمع في العصر الثاني قوم على أحد المذاهب فهو اجتماع وفاقى على مذهب مسبوق بقطع الأولين بنفى القطع وتسويغ الخلاف وأين يقع هذا ممن يتردد أولا ثم يتمم نظره
والذي يحقق ذلك أن المذاهب التي انتحلها الأولون جرت بها أقضية وأحكام ونيط بها سفك دماء وتحليل فروج من غير إنكار فريق على فريق والمتردد في نظره لا ينوط بتردده حكما ومن العبارات الرشيقة للشافعي أنه قال المذاهب لا تموت بموت أصحابها فيقدر كأن المنقرضين أحياء ذابون عن مذاهبهم وتحقيق هذا ما ذكرناه
مسألة
660 - إذا اتفق أهل الإجماع على عمل ولم يصدر منهم فيه قول فقد قال قوم من الأصوليين فعل أصحاب الإجماع كفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سبق تفصيل
المذاهب في أفعال رسول الله عليه السلام
ومتعلق هؤلاء أن العصمة ثابته لأهل الإجماع ثبوتها للشارع فكانت أفعالهم كفعل الشارع صلى الله عليه و سلم
661 - قال القاضي وهذا غير مرضي عند المحققين من أوجه منها أن اجتماع أهل الإجماع على فعل يبعد تصويره فإنهم لا يعصمون عن الخطأ والزلل ولكن وفاقهم على قول حجة على الترتيب المقدم وإن زعم زاعم أنه يجب عصمتهم عن زلل عن الفعل فمعنى ذلك أن العصمة تجب لجميعهم فأما أن تجب لاحادهم عن زلل عن الفعل فمعنى ذلك أن العصمة تجب لجميعهم فأما أن تجب لاحادهم فلا فلم يمتنع صدر الزلل عن بعضهم وإذا كان كذلك فكيف يتأتي في العادة تصور عدد لا يسوغ منهم التواطؤ ثم يطبقون على فعل واحد فإن تكلف متكلف في تصويره فإنما يمكن فرضه إذا اجتمعا في مجلس واحد ثم ان تصور فلا احتفال به فإن متعلق الإجماع في الصورتين المتقدمتين ما قدمناه وليس يتحقق ذلك في الفعل فإنه لا يمتنع إذا فرض جمعهم أن يفعلوا فعلا ويعترف كل واحد منهم بأنه عاص به
662 - والذي أراه أنه إن تيسر فرض أجتماعهم في الفعل فهو حجة وهو خارج على الأصل الذي هو مستند الإجماع فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو جمعهم مجلس وقدم إليهم شيء فتعاطوه وأكلوه فمن حرمه عد خارقا للإجماع وتناهى أهل العصر في تبكيته فإذا يدل فعلهم على ارتفاع الحرج على حسب ما قدمناه في فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا إلى الفعل المطلق فإن تقيد بقرينة دالة على وجوب أو استحباب ثبت ما دلت القرينة عليه
الفن الرابع
في الأمر الذي ينعقد الإجماع فيه وفيما ينعقد الإجماع عنه
663 - فأما ما ينعقد الإجماع فيه حجة ودلالة فالسمعيات ولا أثر للوفاق في المعقولات فإن المتبع في العقليات الأدلة القاطعة فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق
664 - وأما ما ينعقد الإجماع عنه فالقول ينقسم فيه كما تقدم فإن كان المجمعون قاطعين على الحكم في مجال الظنون فلا يتأتى فرض هذا الإجماع إلا عن قاطع وإن أسندوا إجماعهم إلى ظن لم يمتنع أيضا ثم مستند الإجماع في كونه حجة قطع أهل الإجماع بتقريع من يخالف الإجماع
فهذا مجامع القول في الإجماع تفصيلا وتأصيلا وقد حاولنا جهدنا في إدراج مسائل الكتاب تحت التقاسيم وقد شذت مسائل قريبة منها ونحن نرسمها الان مرسلة إن شاء الله تعالى
مسائل متفرقة في الإجماع
مسألة
665 - اختلف الأصوليون في أن الإجماع في الأمم السالفة هل كان حجة
فزعم زاعمون أن إثباته حجة من خصائص هذه الأمة فإنها أمة مفضلة على سائر الأمم مزكاة بتزكية القران قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقال تعالى لتكونوا شهداء على الناس
ومنع مانعون هذا الفرق فقالوا لم يزل الإجماع حجة في الملل
وقال القاضي لست أدري كيف كان ولا يشهد له موجب عقلي على وجوب التسوية ولا على وجوب الفرق ولم يثبت عندنا في ذلك قاطع من طريق النقل فلا وجه إلا التوقف
666 - والذي أراه أن أهل الإجماع إذا قطعوا فقولهم في كل مسألة يستند إلى حجة قاطعة فإن تلقى هذا من قضية العادات والعادات لا تختلف إلا إذا انخرقت فأما إن فرض إجماع من قبلنا على مظنون من غير قطع فالوجه الان ما قاله القاضي لإنا لا ندري أن الماضيين هل كانوا يبكتون من يخالف مثل هذا الإجماع أم لا وقد تحققنا التبكيت في ملتنا
مسألة
667 - نقل أصحاب المقالات عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى اتفاق أهل المدينة يعني علماءها حجة وهذا مشهور عنه ولا حاجة إلى تكلف رد عليه فإن صح النقل فإن البقاع لا تعصم ساكنيها ولو اطلع مطلع على ما يجري بين لابتي المدينة من المجاري قضى العجب فلا أثر إذا للبلاد ولو فرض احتواء المدينة على جميع علماء الإسلام فلا أثر لها فإنه لو اشتمل عليهم بلدة من بلاد الكفر ثم أجمعوا لاتبعوا والظن بمالك رحمه الله لعلو درجته أنه لا يقول بما نقل الناقلون عنه نعم قد يتوقف في الأحاديث التي نقلها علماء المدينة ثم خالفوها لاعتقاده فيهم أنهم أخبر من غيرهم بمواضع الأخبار وتواريخها
مسألة
668 - إذا اتفق علماء التابعين على حكم في واقعة عنت في زمنهم فإجماعهم كإجماع الصحابة رضي الله عنهم
وذهب بعض المنتيم إلى الأصول إلى أن الحجة في إجماع الصحابة
وهذا تحكم لا أصل له فإن الدال على وجوب الإجماع في الأعصار واحد كما تقدم وليس للتحكم بتخصيص عصر وجه لا في عقل ولا في سمع وهو بمثابة قول من يقول لا احتجاج إلا في قياس الصحابة ولولا إرادتنا الإتيان على جميع المسائل وإلا كنا نضرب عن أمثال هذا
مسألة
669 - إذا ذهب معظم العلماء إلى حكم وخال فيه واحد منهم وكان من المعتبر في الخلاف والإجماع فلا ينعقد الإجماع مع خلافه
وقال ابن جرير الطبري لا يعتد بخلافه ويسمى عاقا شاقا حجاب الهيبة وطرد هذا في الاثنين وسلم أن مخالفة الثلاثة معتبرة
وكل ما ذكره مردود عليه فإن الإجماع هو الحجة والذي نحن فيه ليس بإجماع والثلاثة إذا نسبوا إلا ثلاثة الاف كالواحد إذا نسب إلى ألف
مسألة
670 - من فروع القول في اشتراط انقراض العصر من شرط انقراض العصر بالمجمعين فالمذهب الظار لهؤلاء أن علماء العصر لو أجمعوا ثم التحق بهم مجتهدون ناشئة في الزمن وخالفوهم والمجمعون الأولون مصرون وقد
انقرضوا فالمسألة إجماعية فإن التلاحق لو كان يمنع انعقاد الإجماع مع فرض الخلاف من المتلاحقين لما استقرت ثقة بالإجماع فإن العلماء يتلاحقون
وقال قائلون ممن شرط الانقراض خلاف المتلاحقين في بقاء المجمعين
671 - وهذا لعمرى قياس هذه الطريقة وإن كان يفضى ذلك إلى عسر في تصوير الإجماع وإنما قلنا القياس على اشتراط الانقراض هذا لأن اتفاق الأولين ليس إجماعا بعد بل الأمر موقوف فإذا خالف مخالفون كان هذا الخلاف واقعا قبل الحكم بانعقاد الإجماع فأما من لا يشترط الانقراض فلا شك أنه يجعل المخالفين خارقين للإجماع
672 - ومقصود هذه المسألة سؤال وجواب عنه
فإن قال قائل قد أحدث ابن عباس رضي الله عنه أقوالا خالف بها اتفاق جملة الضحابة وما كان ابن عباس في ابتداء العصر من أهل الإجماع فعلى ماذا يحمل ذلك قلنا لا محمل لتسويغ هذا إلا شيئان
أحدهما أن يقدر الصحابة رضي الله عنهم على تردد إلى أن استقل ابن عباس وأظهر مذهبه وكذلك كانوا في معظم مسائل الفرائض فهذا وجه
والوجه الثاني أن يفرض وقوع تلك المسائل في زمن بلوغه مبلغ الاجتهاد وقد كان يجري ابن عباس مذهبه مجرى من يبدى احتمالا ولا يعتقده وحمل على ذلك مذهه في المتعة وتخصيص الربا بالنسيئة
وقال عيسى بن أبان خلاف ابن عباس ومن تابعه من علماء الصابة غير معتبر أصلا وهذا على الإطلاق باطل فإن فصل فالوجه ما قدمناه
مسألة
673 - فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر
وهذا باطل قطعا فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر والقول في التكفير والتبرؤ ليس بالهين ولنا فيه مجموع فليتأمله طالبه نعم من اعترف بالإجماع وأقر بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما أجمعوا عليه كان هذا التكذيب ايلا إلى الشارع عليه السلام ومن كذب الشارع كفر
والقول الضابط فيه أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم أنكره كان منكرا للشرع وإنكار جزئه كإنكار كله والله أعلم
نجز النصف الأول من كتاب البرهان بحمد الله المعين المستعان على يدي حاجبه كاتبه أبي زيد حمد بن جعفر بن بشار رحمه الله في النصف من شوال سنة إحدى وستمائة هجرية النبوية صلوات الله عليه بمحروسة دمشق حماها الله تعالى هذه خاتمة الجزء الأول من النسخه -
البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين ابي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني
-
كتاب القياس مقدمة الكتاب ببيان منزلة القياس وضرورية 676 - القياس مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة وهو المفضى إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع مع انتفاء الغاية والنهاية فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة ومواقع الإجماع معدودة مأثورة فما ينقل منهما تواترا فهو المستند إلى القطع وهو معوز قليل وما ينقله الاحاد عن علماء الأعصار ينزل منزلة أخبار الاحاد وهي على الجملة متناهية ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها
677 - والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى متلقى من قاعدة الشرع والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع القياس وما يتعلق به من وجوه النظر والا ستدلال فهو إذا أحق الأصول باعتناء الطالب ومن عرف ماخذه وتقاسيمه وصحيحه وفاسده وما يصح من الاعتراضات عليها وما يفسد منها وأحاط بمراتبها جلاء وخفاء وعرف مجاريها ومواقعها فقد احتوى على مجامع الفقه
678 - وإن نحن خصصنا هذا الكتاب بفضل بسط فسببه مانبهنا عليه من عظم خطره واشتداد مسيس الحاجة إليه وابتنائه على أفضائه إلى مالا نهاية له مع انضباط مأخذه فليس النظر في الشرع مفوضا إلى استصلاح كل أحد فهي إذا متناهية
الأصول غير متناهية الجدوى والفوائد وهذا قد يحسبه الفطن المبتدىء متناقضا وسيأتي القول فيه مشروطا مشروحا إن شاء الله تعالى
679 - ثم الذي يقتضيه الترتيب أن نبتدىء القول في ماهية القياس ثم نبتني عليه نقل المذاهب في اعتقاد صحته وفساده ونبين المختار عندنا حتى إذا ثبت وجوب القول بالقياس على الجملة رتبنا بعده تراجم الكتاب على نظام وخضنا في الوفاء ببيان الجمل والتفاصيل
الباب الأول -
فصل القول في ماهية القياس 680 - لما كان القول في الصحة والفساد والرد والقبول مبنيا على الإحاطة بماهية الشيء اقتضى الترتيب تقديم هذا الباب
وإذا قيل لنا ما القياس عرفنا أولا أنا لم نسأل عن الصحيح والفاسد وإنما طولبنا بإثبات رسم مشعر بالقياس صحيحه وفاسده قطعيه وظنيه عقليه وشرعية فنذكر أقرب رسم يقرب من الوفاء بالاحتواء على الغرض ثم نذكر ما عداه ونبين وجه تطرق الاعتراض عليه ثم نختتم الفصل بأمرين بهما الختام والتمام
681 - فأقرب العبارات ما ذكره القاضي إذ قال
القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر يجمع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما
فقوله حمل معلوم على معلوم أراد به اعتبار معلوم بمعلوم وذكر المعلوم حتى يشتمل الكلام على الوجود والعدم والنفى والإثبات فإنه لو قال حمل شيء على شيء لكان ذلك حصرا للقياس في الموجودات وسبيل القياس أن يجري في المعدوم والموجود ثم فسر الحمل لما كان فيه ضرب من الإجمال عند تقدير الاقتصار عليه فقال في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما ثم لما علم أن التحكم بالحمل ليس من القياس بسبيل وإنما القايس من يتخيل جامعا
ويبني عليه ما يبغيه مبطلا كان أو محقا ذكر الجامع فقال بجامع ثم صنفه إلى حكم وصفة في نفى أو إثبات
فهذه ترجمة كلامه على الجملة
682 - وذكر غيره عبارات في روم ضبط القياس نائية عن الصواب فمن مقرب مع إخلال ومن مبعد
والمعتبر في العبارات العبارة التي جمعها القاضي وكل من أتى بها فقد طبق غاية الإمكان ومن خرم شيئا منها تطرق إليه على قدر خرمه اعتراض على ما سنبين الان
683 - قال بعض المتأخرين القياس رد فرع إلى أصل بما يجمع بينهما وهذا فيه إيهام من الوجوه التي أخل بها من تقييدات كلام القاضي فإنه لم يتعرض للحكم الذي يطرد القياس له ولم يفصل الجامع
684 - وقال الأستاذ أبو بكر القياس حمل الشيء على الشيء لإثبات حكم بوجه شبه وذكر الشيء يخرج الأقيسة المتعلقة بالنفي وكذلك ذكر إثبات الحكم لم يتعرض لنفيه
وقد يزيد بعض الناس نفيه وهذه الطبقة وإن تطرق إلى كلامهم ضرب من الخلل فهم على المطلوب يحومون وإياه يبغون
685 - ونقل بعض أصحاب المقالات عبارات نائية عن جهة الصواب
بالكلية فنقلوا أنه قال بعضهم القياس إصابة الحق وهذا خرق وخروج عن الحق فإن من وجد نصا لا يسمى قايسا وإن أصاب الحق
وقال بعضهم القياس هو الاجتهاد في طلب الحق وهذا فاسد فإن من كان يجتهد في طلب نص ليس قايسا إلى غير ذلك مما لا نرى التطويل بذكره
686 - وأما ما نرى ختم الفصل به فشيئان
أحدهما أنا إذا أنصفنا لم نر ما قاله القاضي حدا فإن الوفاء بشرائط الحدود شديد وكيف الطمع في حد ما يتركب من النفي والإثبات والحكم والجامع فليست هذه الأشياء مجموعة تحت خاصية نوع ولا تحت حقيقة جنس وإنما المطلب الأقصى رسم يؤنس الناظر بمعنى المطلوب وإلا فالتقاسيم التي ضمنها القاضي كلامه تجانب صناعة الحد فهذا مما لا بد من التنبه له
وحق المسئول عن ذلك أن يبين بالواضحة أن الحد غير ممكن وأن الممكن ما ذكرناه ثم يقول أقرب عبارة في البيان عندي كذا وكذا والفاضل من يذكر في كل مسلك الممكن الأقصى فهذا أحد الأمرين
687 - والثاني أن القياس قد يتجوز في إطلاقه في النظر المحض من غير تقدير فرع وأصل إذ يقول المفكر قست الشيء إذا افتكر فيه ولكن هذا تجوز وأصل القياس اعتبار معلوم بمعلوم وإذا قال القائل قست الأرض فمعناه ذرعتها بمقياس مهيأ لذرعها وبيني وبين فلان قيس رمح أي قدر معتبر بقدر رمح فهذا منتهى القول في ذلك
ونحن نذك بعده المقالات في رد القياس وقبوله وتفصيل القول فيه
فصل القول في ذكر المقالات في قبول القياس ورده 688 - الوجه أن نذكر المذاهب المتعلقة بالأصل ردا وقبولا ثم نذكر مسائل الخلاف على هذا المنهاج ثم نعقد بعد ذلك بابا في المذاهب المقتضية رد بعض الأقيسة الصحيحة عندنا وقبول بعضها
فنبدأ بالكلام على الجملة ونقول في رسم التقسيم القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى عقلى وشرعي ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب
689 - فذهب بعضهم إلى رد القياس وقال الناقلون هذا مذهب منكري النظر والقول في إثباته يتعلق بفن من الكلام وقد أنهينا القول فيه نهايته
690 - وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي وهذا مذهب الأصوليين والقياسين من الفقهاء
691 - وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي وجحدوا القياس الشرعي وهذا مذهب النظام وطوائف من الروافض والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات منهم فإنهم اعترفوا بأطراف من القياس
692 - وصار صائرون إلى النهي عن القياس العقلي والأمر بالقياس الشرعي وهذا مذهب أحمد بن حنبل والمقتصدين من أتباعه فليسوا ينكرون إفضاء نظر العقل إلى العلم ولكنهم ينهون عن ملابسته والاشتغال به
693 - وذهب الغلاة من الحشوية وأصحاب الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي
694 - وأنا أقول أطلق النقلة القياس العقلي فإن عنوا به النظر العقلي فهو في نوعه إذا استجمع شرائط الصحة مفض إلى العلم مأمور به شرعا والقياس الشرعي متقبل شرعا معمول به إذا صح على السبر اللائق به كما سيأتي شرح ذلك في أبواب الكتاب إن شاء الله تعالى
وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى من شاهد فهذا باطل عندي لا أصل له وليس في المعقولات فياس وقد فهم عنا ذلك طالب المعقولات
والأمر المختص بهذا الفن الكلام في الأقيسة الشرعية وذكر الخلاف المتعلق بجملتها
695 - فقد ذهب النظام ومن تابعه من الضلال والحشوية إلى إنكار القياس الشرعي و الذين ردوا القياس اختلفوا في طريق رده فقال بعضهم الخوض فيه قبيح لعينه
696 - وقال اخرون في التعبد به منع الناس من المسلك الأقصد
الأسد وعنوا به أن التنصيص على مواقع الإشكال أقطع للنزاع وأرفع للدفاع وأجلب للطمأنينة وأنفى لرهج الخلاف وأدعى إلى الائتلاف ويجب على الله تعالى وجوب الحكمة أن يستصلح عباده فيما يتعلق بأمر الدين
697 - وقال قائلون الأقيسة متفاوته لا قرار لها في المظنونات وإنما يرجح الظن على حسب القرائح وكل يظن أمرا يليق بمبلغ فكره
698 - وقال قائلون في أصول الشريعة ما لا يصح على السبر كإيجاب العقل على العاقلة وإيجاب ذبح البهائم البريئة بسبب ارتكاب المكلف محظورات الحج واسترقاق أولاد الكفار وإن حكم لهم بالإسلام مع السبي ثم تبقى وصمة الرق في نسلهم ما توالدوا على الإسلام قالوا فلا وجه والحالة هذه إلا اتباع النصوص
699 - وذهب من نفاة القياس طائفة إلى أنه مردود بنصوص الكتاب والسنة
ونحن نذكر مسلك كل فريق ونتتبعه بالنقض ونرسم مسألة في جواز التعبد بالقياس فإذا نجزت عقدنا بعدها المسألة الكبرى في وقوع التعبد بالقياس مسألة في جواز التعبد بالقياس
700 - ذهب علماء الشريعة وأهل الحل والعقد إلى أن التعبد بالقياس في مجال الظنون جائز غير ممتنع وقد ذكرنا مذاهب المخالفين في الجواز فأما من ذهب إلى أن الخوض فيه والأمر به قبيح لعينه فقد تعلق بأن الظنون أضداد العلوم وضد العلم في معنى الجهل والجهل قبيح لعينه وهذا مبنى أولا على التقبيح والتحسين بالعقل وقد صدرنا هذا المجموع بالرد على القائلين
بذلك بما فيه مقنع ثم لو قدرنا تسليم ذلك جدلا فهذا باطل من أوجه
منها أن الغفلة والغشية والبهيمية أضداد منافية للعلوم وهي من خلق الله تعالى ومن رأى هؤلاء أن الله تعالى لا يخلق قبيحا ثم ذكروه جحد للشريعة فإن من أنكر ربط الأقضية والحكومات بالشهادات المستندة إلى بحث قريب وسبر يسير لا يطلع على الباطن من أحوال الشهود فقد أنكر قاعدة من الشرع عظيمة لا يبوء بجحدها من وفر الإسلام في صدره
وكذلك قول المفتين مظنون عند المستفتين والتعويل على قول الثقات في أحكام المعاملات وتصديق الأثبات في أمن السبل والطرقات لا ينكره عاقل فإذا أعضلت الإشكالات وتعارضت الاحتمالات فالرجوع إلى غالب الظن في كل فن دأب ذوي البصائر وهو من ثمرات العقول فكيف يعد من مستقبحاتها ومعظم وجوه الرأي والنظر في العواقب ظنون ومتى لم يتبع صاحبه أرشدها لزم أن يفعل ما يتفق وهو الخرق بعينه نعم الاكتفاء بالظن مع القدرة على ثلج الصدر وطمأنينة النفس قد يعد قصورا أو تقصيرا وخصومنا لم يبدوا في مواقع أقيستنا مسالك في اليقين ينتحونها وإنما يبغون رد جنس الظنون حيث لا يرجعون فيه إلى يقين والنظر يضاد العلم وهو واجب والشك المتقدم على النظر عند أبي هاشم حسن وهو الداعية الجالبة لافتتاح النظر
فهذا وجه الرد على من قبح الخوض فيه لكونه نقيض العلم لعينه
701 - وأما من قال في حمل الخلق على ملتطم الظنون وحجرهم عن درك اليقين ترك استصلاحهم والاستصلاح في الدين محتوم فهذا مبني على التحسين والتقبيح وقد ظهر بطلان مذهبهم فيهما
ثم ما ذكروه باطل بقواعد العقائد فإنها منوطه بدقائق النظر ولا يتوصل إلى أدراكها إلا الأكياس من طبقات الناس ثم انقسام طباق الخلق يوجب ازورار طرقهم في وجوه النظر ومجاري أحوالهم في ذلك أصدق الشواهد والمحن وهو سبب افتراق الفرق ثم معظم الخليقة لا يبغون الحقيقة بل يرجحنون إلى التقليد ولو حمل الله الخلق على الحق المبين باية تظل لها الرقاب خاشعة لأوشك ألا يتفرقوا
ولا يغنى مما ألزمناهم قول القائل مسالك العقول عتيدة والبراهين موجودة والشواهد مشهودة وطرق الصواب معدودة فإن كل ناظر يزعم أن مسلكه الحق وقوله الصدق
ثم إنما كان يستقيم ما ذكروه لو دعونا إلى اليقين وزيفوا بسببه طرق الظنون فأما وهم بعد رد القياس لا يرجعون إلى يقين ومعقل في الدين حصين وغايتهم التعطيل والتبطيل والانسلال عن ربقة التكليف والانحلال عن ربط التصريف وترك الناس سدى يموج بعضهم في بعض على موعد وخبر وقول مزخرف وإمام
منتظر فلا يدعو إلى الخروج من محاسن الشريعة إلى هذه المسالك إلا هازىء بنفسه مستهين بدينه
702 - وأما من قال الأقيسة لا قرار لها وفنون النظر على حسب الفكر فقصاراه ايل إلى تقبيح الظن وإيجاب الاستصلاح وشرع اليقين وقد تكلمنا على المسلكين
ثم الأمر ليس على ما تخيلوه بل للظنون المرعية والأقيسة المعتبرة الشرعية المرضية روابط وضوابط لا يعرفها إلا الغواصون على ما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى
ومن حمل كل ظن على جودة القريحة وحدة الطبع فقد أنكر وجه الرأي وتقريب أرباب الألباب وتطلعهم بالفكر الصائب على حجب الغيوب ولو قيل هو عماد الصلاح في الدين والدنيا ودعامة المراشد لم يكن بعيدا والشارع فيما استن كالعاقل الذي يمهد للطلبة طرق الحكمة ومسالك النفع والدفع ثم يكلهم إلى إتعاب الفكر النقية عن الأقذاء والكدر
ثم إن أضربوا عما رأيناه واجتنبوه فهل معهم يقين إدعوه أم الغرض قطع النظر عن بقية المراشد وانتحاء المقاصد وغمس الناس في غمرات المتاهات
وعلى كل الحالات التشوف بالظن إلى الخير إجتناب الضير أحرى من حل
الرباط وقطع أسباب الاستنباط وتخيير الخلق بين التفريط والإفراط
703 - وأما من أشار إلى أن قواعد في الشرع لا تعقل معانيها كضرب العقل على العاقلة واسترقاق الأطفال
فهذا القائل يتشبث بالوقيعة في الشريعة واتخاذ هذه الجهات إلى المطاعن ذريعة والقياس يعترف بالوقوف عند هذه المواقف وانقسام الشرع إلى ما يجري فيه الأقيسة وإلى ما يجب فيه الانحصار والاقتصار على موارد النصوص فلا يجب من وقوف الرأي في مسلك انحسامه من جميع الوجوه وذلك مستبين بما يعرض للإنسان في ماربه وأوطاره فقد يتغشاه عماية ويستبهم عليه عاقبتها وقد يلوح له وجه الصواب فيما يأتي ويذر ثم العقل لا يحسم طريق الرأي لاستعجامه في بعض الوجوه
فقد بطل جميع ما حاولوه
704 - وأما من إدعى أن القياس مردود بنصوص القران العظيم فقد ادعى أمرا محالا وغايته التلبيس بذكر اية ما سيقت لما دفعنا إليه كقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إلى غير ذلك والمراد أن ينهى عن الحيد عن مدرك اليقين مع إمكانه ومجاوزة مراسم المراشد بالحدس والتخمين
ونحن لا ندعو إلى كل ظن ثم التمسك بالمجملات أو بالظاهر في مواضع القطع باطل ونعارض ما ذكروه بالاى الدالة على الأمر بالنظر والاستحثاث على الاعتبار ويتطرق إلى ما يعارضون به من الأعتراضات ما تطرق إلى ما استدلوا
705 - فإن قالوا وجوب العمل معلوم عندكم مقطوع به وهذا العلم مرتب
على الظن ويستحيل أن ينتج الظن علما
قلنا الأقيسة لا تقتضي العلم بوجوب العمل لأعيانها والعمل لا يقع بها وإنما يقع عندها والعلم بوجوبه مستند إلى أدلة قطعية سنبديها وقد تقرر هذا الفن في مواضع من هذا الكتاب
706 - ومن تمويهاتهم في ذلك قالوا إذا لم يمتنع انتهاض الظن علما بالعمل فينبغي أن تبعدوا أن ينتصب الظن علما في العلم بوقوع الرؤية
قلنا لو قام دليل قاطع على أن وقوع الظن علم ينصبه الله تعالى لوقوع شيء رؤية كانت أو غيرها لم يبعد ذلك ومستند العلم ناصب الظن لا عينه
707 - والذي تمسك به النظام ورهطه وهو معتصم القوم أن العقول لا تدل على وجوب العمل بالظنون وإنما يبغي الناظر ذلك إن كان من ماخذ السمع ثم لا يقع الاكتفاء بالظواهر فإن إثبات القياس عند القائلين به مقطوع به وقواطع السمع نص الكتاب أو نص السنة المتواترة وليس في إثبات القياس نص كتاب ولا نص سنة متواترة
والإجماع قد نفاه النظام أصلا وزعم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوا الناس إلى اتباع الإجماع وراموا أن يتخذوا رءوسا فقرروا الإجماع
وأسندوا إليه ما يرون وأخذوا يحكموا مسترسلين فيما لا نهاية له وأصول الشريعة مضبوطة
ومن قال بالإجماع يقول القول بالقياس مختلف فيه ومعظم الأمة على رده فادعاء الإجماع فيه محال ولا نص ومسالك العقول منحسمة فلم يبق بالقول على القياس دليل
وربما عضدوا ذلك بأن يقولوا الأمارات التي يستنبطها القياسيون لا تقتضي الأحكام لأعيانها فإن الشدة المطربة التي يعتقدها القياسيون علة في تحريم الخمر كانت ثابته قبل الشرع وفي الملل السالفة ولا تحريم وكانت الخمر مباحة في بدء الإسلام مع قيام الشدة والإطراب والقايس لا يتوهمها موجبة لعينها وإنما يتوهم نصب الشارع لها وليس في العقل ولا قواطع السمع ما يدل على ذلك
708 - قلنا مستند وجوب العمل بالقياس الإجماع وما ذكره النظام كفر وزندقة ومحاولة استئصال قاعدة الشرع لأنه إذا نسب حامليها إلى ما هذى به فبمن يوثق وإلى قول من يرجع وقد رد القياس وطرد مساق رده إلى الوقيعة في أعيان الأمة ومصابيح الشريعة فإذا لا نقل ولا استنباط ولا تحصل الثقة على ما قاله باى القران فإنه لا يبعد على المنكر الجاحد إدعاء ما قاله في التحريف والتصريف وكتم البعض وتغيير مقتضى البعض فلم تختص غائلته ومماراته
بالقياس بل عمت قاعدة الشريعة
709 - وأما من اقتصر في قطع ارتباط القياس بالإجماع على قوله القياس مختلف فيه فادعاء الإجماع في محل النزاع محال
فأنا نقول لهؤلاء إنما كان يستقيم ما ذكرتموه لو كنا نحتج عليكم بإجماع أهل الزمان المشتمل عليكم فأما متمسكنا فإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم من أئمة التابعين إلى أن نبغت الأهواء واختلفت الاراء على ما سنقرره الان فخلافكم مسبوق بالإجماع ولا مبالاة به
710 - فهذي قواعد منكري القياس وعيون شبههم وقد تقرر الفراغ من الرد على من ينكر جواز التعبد بالقياس وأوضحنا الرد على من زعم أنه لا طريق إلىإثباته بقاطع عقلي أو سمعي
وقد حان الان أن نبين وقوع التعبد بالقياس وانعقاد الإجماع على العمل به
فصل في وقوع التعبد بالقياس بعد بيان الجواز فنقول والله المستعان
711 - نحن نعلم قطعا أن الوقائع التي جرت فيها فتاوي علماء الصحابة وأقضيتهم تزيد على المنصوصات زيادة لا يحصرها عد ولا يحويها حد فإنهم كانوا قايسين في قريب من مائة سنة والوقائع تترى والنفوس إلى البحث طلعة وما سكتوا عن واقعة صائرين إلى أنه لا نص فيها والايات
والأخبار المشتملة على الأحكام نصا وظاهرا بالإضافة إلى الأقضية والفتاوي كغرفة من بحر لا ينزف
وعلى قطع نعلم أنهم ما كانوا يحكمون بكل ما يعن لهم من غير ضبط وربط وملاحظة قواعد متبعة عندهم وقد تواتر من شيمهم أنهم كانوا يطلبون حكم الواقعة من كتاب الله تعالى فإن لم يصادفوه فتشوا في سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن لم يجدوها اشتوروا ورجعوا إلى الرأي
712 - والذي يوضح ما ذكرناه أنهم مع اختلاف مذاهبهم في مواقع الظنون ومواضع التحري ما كانوا ينكرون أصل الاجتهاد والرأي وإنما كان بعضهم يعترض على بعض ويدعوه إلى ما يراه هو ولو كان الاجتهاد حائدا عن مسالك الشريعة لأنكره منهم منكر وإذا لاح المعنى فترديد العبارات عنه هين
ونحن نوضح المقصد بأسئلة وتخييلات وأجوبة عنها
713 - فإن قيل قد صح من بعضهم التغليظ على بعض في مسائل كقول ابن عباس في رد العول مع من كان يكلمه وقولهم في الرد عليه وقد صح انتهاء القول إلى المباهلة في الأقاصيص المشهورة
قلنا لم ينكر أصل الاجتهاد أحد منهم وإنما كانوا ينتاظرون في الذب عن وجوه الاجتهاد والدعاء إلى غيرها من الاجتهاد وكانوا مجمعين على الأصل مختلفين في التعيين والتفصيل نحو اختلاف علماء الدهر
714 - فإن قيل غايتكم في هذا ادعاء اجتهاد بعضهم وسكون الباقين وقد ذكرتم في مسائل الإجماع أنه لا ينسب إلى ساكت قول
قلنا هذا باطل من أوجه منها أنه لم يخل أحد من علماء الصحابة من الاجتهاد في مسائل وإن لم ينقل عنهم الاجتهاد في مسألة واحدة فقد صح النقل المتواتر في مصير كل واحد منهم إلى أصل الاجتهاد في مسائل قضى فيها أو أفتى بها ثم أحداث قاعدة في الشريعة تستند إليها الأحكام بل يصدر عنها معظم الشريعة مما لا يجوز السكوت عليه لو لم يكن ثابتا وإنما يسوغ السكوت عن المظنونات وليس من تكلم في القياس ردا وقبولا ممن يجترىء بالظن بل كل فريق قاطعون بما يذكرون ويعتقدون وقد ذكرنا مسألة الانتشار وأنه لا يجوز السكوت مع طول الزمان وتذاكر أهله ولو كان الأمر مظنونا فكيف يسوغ في مطرد العرف تصرف علماء الصحابة في مذاهب الاجتهاد على الدوام من غير فتور فيه ثم يسكت عنه من يعتقد بطلانه
715 - فإن قالوا بم تنكرون على من يزعم أنهم كانوا يتلقون الأحكام من استنباطات من الظواهر والعمومات وفحوى الخطاب
قلنا لا أصل لهذه المقالة وهي كمحاولة تسبيع الغزالة فأنى تفى الظواهر ومقتضياتها بالأحكام التي طبقت طبق الأرض والأقضية التي فاتت الحد والعد وقد أوضحنا بالنقل المتواتر عنهم أنهم كانوا يقدمون كل متعلق بنص وظاهر ثم كانوا يشتورون وراء ذلك ويثبتون الأحكام على وجوه الرأي واعتبار المسكوت عنه بالمنصوص عليه
716 - فقد تبين بمجموع ما ذكرناه إجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وم بعدهم على العمل بالرأي والنظر في مواقع الظن ومن أنصف من نفسه لم يشكل عليه إذا نظر في الفتاوى والأقضية أن تسعة أعشارها صادرة عن الرأي المحض والاستنباط ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر
717 - فإن قالوا قد روى عن جمع من أئمة الصحابة رد الرأي والرد على القائلين به قال أبو بكر رضي الله عنه أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيى وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو عملتم بالرأي لحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما أحل الله تعالى إلى غير ذلك من أفراد اثار فقد عورضوا بأضعافها وذكروا أولا إشارة الرسول عليه السلام إلى القياس في الآخبار
منها ما روى أنه عليه السلام سئل عن قبلة الصائم فقال للسائل أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته فكان ذلك منه قياسا للقبلة على المضمضة وقال
عليه السلام لضباعة الأسدية وقد ذكرت له حجا على أبيها وسألته عن إمكان أدائه فقال أرأيت لو كان على أبيك دينا أكنت تقضينه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء وقول ابن مسعود في حديث بروع بنت واشق وقد كانت فوضت بعضها فردد ابن مسعود السائل شهرا ثم قال إني أقول
فيها برأيى فإن أصبت فمن الله تعالى وإن أخطأت فمني ومن الشيطان أرى لها مثل مهر نسائها لا وكس فيه ولا شطط
718 - قال الإمام ومن رام منا أن ننقل اجتهادات الصحابة بطريق الاحاد فقد تكلف أمرا عسرا فإن ما ثبت النقل فيه تواترا عسر النقل فيه من طريق الاحاد ومن أراد أن ينظم إسنادا عن الأثبات بالعنعنة أن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يصلي الفجر ركعتين لم يتمكن منه وهذا يناظر في المعقولات محاولة إثبات الضروريات والمحسوسات بطريق المباحثات فإنه معوز لا سبيل إليه وقد اضطررنا وكل منصف معنا إلى العلم بأن الذين مضوا كانوا يسندون جل الأحكام إلى النظر والرأي وكيف يطمع الطامع في معارضة ذلك بألفاظ محتملة ينقلها الاحاد ولو كانت نصوصا لما عارضت التواتر
719 - ثم ما تمسكوا به من قول الصديق وابن مسعود رضي الله عنهما لا حجة فيه فأما الصديق فإنه قيد كلامه بالرأي في كتاب الله تعالى وأراد به مخالفة المفسرين الذين إلى قولهم الرجوع وهذا ممنوع عندنا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار فلا حجة إذا فيما رووه
عن الصديق رضي الله عنه
وأما قول ابن مسعود فلا متعلق له فإن فيه ما يدل على أن الرأي المجرد لا يطرد إذ قد يلقاه من أصول الشرع ما يمنعه من الجريان فعلى كل ناظر الا يتبع رأيه المحض حتى يربطه بأصول الشريعة ومن أعمل الرأي المجرد أحل وحرم على خلاف الشريعة فلا حجة إذا في قوله
720 - واحتج الشافعي ابتداء بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنهما قال له الرسول عليه السلام لما بعثه إلى اليمن بم تحكم يا معاذ قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيى فقال عليه الصلاة و السلام الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه رسول الله وهو مدون في الصحاح وهو متفق على صحته لا يتطرق إليه
التأويل فإنه رضي الله عنه انتقل من الوحي والتنزيل إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انتقل منهما عند تقديره فقدهما إلى الرأي ولا يجوز أن يقال أراد بالرأي رأي استنباط من كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه السلام فإن ذلك لو كان على هذا الوجه لكان متعلقا بالكتاب والسنة
721 - فإن قيل خبر الواحد لا يقتضي العلم وإثبات القياس يقتضي أمرا مقطوعا قلنا قد ثبت عندنا بالقواطع العمل بخبر الواحد كما قد تقرر في صدر كتاب الأخبار وعرفنا من طريق التواتر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أخبر معاذا أن العمل بالرأي سائغ وأخبر معاذ الذين أرسل إليهم أن النبي عليه السلام أخبرني أن العمل بالرأي إذا لم تكن الواقعة في كتاب ولا سنة واجب كانوا يتبعونه ولو روى الصديق أو غيره من أئمة الصحابة على رؤوس الإشهاد أن الرسول عليه السلام شرع القياس والعمل به لكان الذين لم يبلغهم ذلك يتلقونه بالقبول ويبتدرون إلى
القياس ويسارعون إلى تمهيد قواعده وسبله وإذا كان القياس مغزاه العمل فالدال عليه دال على العمل فلا فرق بين أن يستند القياس إلى قاطع بدرجة وبين أن يستند إليه بدرجات
722 - فهذا منتهى ما أردناه في إثبات القياس وإثبات تجويز التعبد بالقياس والرد على منكريه وإثبات وقوع ما أثبتنا جوازه وتتبع اعتراضات الحاحدين فيه
ونحن نذكر بعد ذلك مسلك النهرواني والقاساني وابن الجبائي في تفصيل ما يقبل ويرد من النظر
مسألة
723 - ذهب النهرواني والقاساني إلى أن المقبول من مسالك النظر في مواقع الظنون شيئان
أحدهما ما دل كلام الشارع على التعليل به ولهذا صيغ منها ربط الحكم بالأسماء المشتقة كقوله تعالى والسارق والسارقة وقوله سبحانه وتعالى الزانية والزاني فما منه اشتقاق الاسم في فحوى الكلام منصوب علما
ومن هذا القبيل ما روى أنه سها فسجد وزنى ما عز فرجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم فالفاء تقتضي ربطا وتسبيبا وذلك مشعر بالتعليل إلى غير ذلك مما يأتي مفصلا في ترتيب الأبواب
فهذا أحد الأمرين
وربما يلحقون بهذا الفحوى نحو قوله تعالى فلا تقل لهما أف ففحوى النهي عن التأفيف يمنع ما يزيد عليه من التعنيف والضرب والإهانة
724 - والأمر الثاني إلحاق ما يكون في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو كقوله عليه السلام لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم قالوا لو جمع جامع بولا في كوز وصبه في الماء الراكد لكان في معنى البول في الماء
وما عدا هذين من سبل النظر فهو مردود عند هؤلاء
725 - وأما أبو هاشم فقد قال بهذين الوجهين وزاد وجها ثالثا وقال إذا ثبت أن المكلف مطالب بشيء واعتاص عليه الوصول إليه يقينا فاعلم أنه مأمور يبذل المجهود في طلبه والتمسك بالأمارات المفضية إلى الظنون فيه ومثل هذا القول بوجوب طلب استقبال القبلة عند إشكال جهاتها فقال يتعين طلبها بالتمكن من جهة الظن ولما أوجب الله تعالى المثل في الجزاء ولم يبينه لنا تبينا أنه كلفنا طلب المثل لما قال تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم
726 - فنقول ما اعترفتم به أنتم مساعدون عليه وهو يلتحق بقبيل النصوص والظواهر والمباحثة وراء هذه الجهات
أفتزعمون أن الفتاوي والأقضية في الأعصار الخالية تنحصر في هذه الجهات فإن قلتم بذلك فقد باهتم وعاندتم مدارك الضرورات فإن ما في النصوص إشعار بتعليله ملتحق بالظواهر وما نراه يبلغ في الكتاب والسنة مائة عدد
وما يذكره أبو هاشم معوز النظير في موارد الشرع والأحكام الجارية في نوادر الوقائع قد عدت العد وجاوزت الحد فأين يقع ما ذكره مما جرت فيه فتاوي المفتين وينجر الكلام إلى المسلك المقدم في المسألة الأولى فإن أبدوا شبهة لم يخل من الوقوع في أحد الشقين إما أن يتعرض لمنع جواز التعبد بالقياس وقد مر
القول فيه مستقصى وإما أن يتعرض لعدم الوقوع مع الاعتراف بالجواز وقد تقدم القول البالغ في ذلك فما استفاد هؤلاء بما أودوه إلا اعترافا بمسائل معدوده والدليل عليهم قائم فيما أنكروه
727 - ثم تتبع المحققون كلامهم فيما وافقوا فيه وأبدوا لهم صفحة الخلاف وطالبوهم بتثبيت ما أقروا به وقالوا لم قلتم إن ما عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم بتعليله في حق البعض فتلك العلة مطردة على الكافة مع القطع بأنها لا تدل لنفسها وإنما تدل بنصب ناصب إياها علما ولا يجب من نصبه علما في حق زيد انتصابه في حق عمرو ولو قال الرجل لمن يخاطبه بع عبدي هذا فإنه سيء الأدب فإنه يبيعه بحكم الإذن فلو أساء عبد اخر أدبه لم يبعه جريا على تعليله بيع الأول بإساءة الأدب
فإن قالوا إذا قال الرجل لولده لا تأكل هذه الحشيشة فإنها سم اقتضى ذلك نهيه عن تعاطي كل سم
قلنا ليس ذلك من حكم اللفظ ولكن ما أظهر من الإشفاق والحث على الحذار من مواقعة الضرر هو الذي اقتضى تعميم الأمر وقد قال المحققون لولا ما تحقق في سياق الخطاب من قوله تعالى ولا تقل لهما أف من نهاية الحث على البر لما أبعدنا النهي عن التأفيف مع الأمر بضرب العنق وقد يأمر السلطان بقتل الرجل المعظم ويتقدم إلى الجلاد بألا يستهين به قولا وفعلا
728 - والغرض مما نذكره يتبين الان بأمر هو الشأن كله فنقول
إن تجرد اللفظ عن القرائن فالقياس بماذا ولا مفزع في إثباته إلا ما اعتصمنا به
في إثبات وجوب النظر فإن تمسكوا به ساقهم إلى القول بوجوب النظر فإن مواقع فتاوي المفتين ليست مختصة بما ذكروه
وإن اقترنت باللفظ قرينة أوجبت التعميم
والذي قبلوه إذا موجب اللفظ وقضية ظاهره وليس من أبواب النظر في ورد ولا صدر فال حاصل الكلام قولهم بتعيين الظواهر
729 - فإن قيل أنتم لا تصححون أيضا كل نظر ومتعلقكم فيما تصححونه الإجماع من الأولين فلا تنقلون فيه لفظا جامعا مانعا حتى يكون مرجعكم فيما تأتون وتذرون وتصححون وتبطلون وإلا فالأقاصيص المتفرقة لا ضبط لها فكيف ينضبط لكم منها ما يصح وما يفسد فقد اعترفتم بأن لا مدرك غير التعلق بما صدر منهم
وهذا سؤال مشكل لا يتأتى الجواب عنه في معرض الأجوبة عن الأسئلة ولكن القدر المتعلق بمقصود المسألة
أنا نعلم ضرورة أن النظر الذي حكموا به زائد على ما اعترف هؤلاء به بأضعاف مضاعفة والاف مؤلفة فقد ثبت نظر أنكروه وليس من شرط توجه الكلام عليهم أن نذكر مأخذنا في التصحيح والإفساد ولو حاولنا ذلك لم
نتوصل إليه إلا بذكر أسباب وتبويب أبواب ورب كلام لا يبينه إلا التفصيل
وتفصيل ما يصح ويفسد واستناد كل دعوى فيها إلى الحق هو لباب القياس ونحن نضمن للناظر الموفق إلا يتنجز الكتاب وفي صدره غلة لم يشفها وعلة لم يداوها والله المستعان
وقد تنجز الكلام الان على الجملة وجاز أن نرسم بعده تقاسيم تشير إلى أغراض الكتاب يتخذها الطالب دستوره والله ولي التوفيق
-
الباب الثاني القول في تقاسيم النظر الشرعي 730 - اعلم أن النظر العقلي لا يفي بتراجم أبوابه وذكر مباديه وأسبابه هذا المجموع فالغرض الان إذا مردود إلى النظر الشرعي
ومجامعه إلحاق الشيء المسكوت عنه بالمنصوص عليه والمختلف فيه بالمتفق عليه لكونه في معناه أو تعليق حكم بمعنى مخيل به مناسب له في وضع الشرع مع رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر وربط حكم كما ذكرناه من غير أن يجد الناظر أصلا متفق الحكم يستشهد عليه وهذا هو المسمى الاستدلال وتشبيه الشيء بالشيء لأشباه خاصة يشتمل عليه من غير التزام كونها مخيلة مناسبة وهو المسمى قياس الشبه
فهذه وجوه النظر في الشرع
731 - فأما إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به لكونه في معناه فمن أمثلته أنه صلى الله عليه و سلم قال لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل به فجمع البول في إناء وصبه في الماء في معنى البول فيه
ومنها قوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم عليه فجرى ذكر العبد والأمة في معناه
ونص الرسول عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت على إجراء الربا في
البر والشعير والتمر والملح وقال القاضي الأرز في معنى البر والزبيب في معنى التمر وهذا القسم يترتب على ما سيلفى مشروحا
732 - والقدر اللائق بغرضنا أن نثبت ما يعلم ثبوته على اضطرار من غير حاجة الى نظر واعتبار وهو كإلحاق صب البول في الماء الراكد بالبول فيه وما أنكر هذا الجنس إلا حشوية لا يبالى بقولهم وهم في الشرع كمنكرى البدائة في المعقولات وهؤلاء داود وطائفة من أصحابه وقد قال القاضي لا يعتد بخلاف هؤلاء ولا ينخرق الإجماع بخروجهم عنه وليسوا معدودين من علماء الشريعة
733 - ومن هذا الفن ما يحتاج فيه إلى فكر قريب وهو ينقسم إلى الجلى البالغ وإلى ما ينحط عنه
فالجلى كإلحاق الأمة بالعبد في الحديث الذي ذكرناه وسبب الوضح أن ما منه اشتقاق العبد يتحقق في الأمة فإذا العبودية تجمعها وقد يقال عبدة للأمة فإذا انضم هذا إلى علم العاقل باستواء أثر العتق في العبد والأمة واعتقاد تماثل السريان فيهما وتشاكل عسر التجزئة ترتب على ذلك القطع بتنزيل الأمة منزلة العبد
734 - وما يتخلف الاشتراك عنه في معنى الاسم فهو دون ما ذكرناه وإن كان معلوما فهو كتنزيل نبيذ الزبيب منزلة نبيذ التمر لو صح حديث ابن مسعود في الحكاية المروية ليلة الجن ولا يأبى هذا الإلحاق ذو حظوة من التحصيل ولسنا نرى إلحاق الأرز بالبر في الربويات من قبيل القطعيات
وإلحاق الزبيب بالتمر أقرب وليس مقطوعا به من قبل أن التمر قوت غالب عام فقد يرى الشارع فيه استصلاحا ولم يبلغنا أن أمة من الأمم كانت تجتزىء بالزبيب
مسألة
735 - ما علم قطعا بهذه الجهات التحاقه بالمنصوص عليه فلا حاجة فيه إلى استنباط معنى من مورد النص وبيان وجود ذلك المعنى في المسكوت عنه بل العقل يسبق إلى القضاء بالإلحاق ويقدره بالمنصوص عليه وإن لم ينظر في كونه معللا بمعنى مناسب مخيل أو غير مخيل ولو قدر معللا فلا يتوقف ما ذكرناه من الإلحاق على تعيين علته المستنبطة
وإذا كان كذلك فقد اختلف ارباب الأصول في تسمية ذلك قياسا فقال قائلون إنه ليس من أبواب القياس وهو متلقى من فحوى الخطاب
وقال اخرون هو من القياس وهذه مسألة لفظية ليس وراءها فائدة معنوية ولكن الأمر إذا رد إلى حكم اللفظ فعد ذلك من القياس أمثل من جهة أن النص غير مشعر به من طريق وضع اللغة وموجب اللسان ولو قال رجل من أعتق نصفا من عبدي فالنصف الأخير منه حر فلو أعتق معتق النصف من أمة لم ينفذ إعتاقه إنشاء ولا سراية لأن لفظه هو المتبع ولم يثبت في حكم اللفظ استرسال أحكام الشرع فتبين أن حكم اللفظ لا يقتضى ذلك وإنما يثبت هذا في لفظ الشارع من حيث تقرر في وضع الشرع أن الأحكام لا تنحصر على الصور بل تسترسل ولو قال الشارع قاطعا لطريق القياس من أعتق شركا له في عبد قوم عليه دون الأمة كان الكلام متناقضا
فوضح أن تلقى ذلك مما تمهد لا من أجل اعتبار المسكوت عنه بالمنطوق به
736 - ثم ينقسم ذلك أقساما ويتنوع أنواعا فمنه الجلى المقطوع به ومنه المظنون الذي لا يثبت فيه العلم فالوجه أن يسمى ذلك قياسا وإن عني من أبي تسمية ذلك قياسا أن لفظ الشارع كاف فيه من غير سبر وفكر فهو صحيح
فهذا القدر كاف في توطئة الكلام في هذا القسم
القسم الثاني قياس العلة
737 - والقسم الثاني من أقسام النظر الشرعي استنباط المعاني المخيلة المناسبة من الأحكام الثابته في مواقع النصوص والإجماع ثم إذا وضح ذلك على الشرائط التي سنشرحها وثبتت تلك المعاني في غير مواقع النص وسلمت عن المبطلات فهذا القسم يسمى قياس العلة وهو على التحقيق بحر الفقه ومجموعه وفيه تنافس النظار وأكثر القول في هذا الكتاب يتعلق ببيان صحيحه وفاسده وذكر الاعتراضات الصحيحة والفاسدة عليه
وأنا أرى أن أصدر القول فيها بالطرد ومعناه وذكر المذاهب في قبوله ورده واختيار المسلك الحق فيه إن شاء الله تعالى
مسألة في الطرد
738 - الطرد هو الذي لا يناسب الحكم ولا يشعر به ولو فرض ربط نقيض الحكم به لم يترجح في مسلك الظن قبل البحث عن القوادح النفى على
الإثبات ولم يكن من فن الشبه على ما نصفه هذا هو الطرد
739 - وقد ذهب المعتبرون من النظائر إلى أن التمسك به باطل وتناهى القاضي في التغليظ على من يعتقد ربط حكم الله تعالى به
740 - وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه حجة من حجج الله تعالى إذا سلم من الانتقاض وجرى على الاطراد
741 - وذهب الكرخي إلى أن التعلق به مقبول جدلا ولا يسوغ التعويل عليه عملا ولا فتوى
742 - وقد أكثر المحققون في وجوه الرد على أصحاب الطرد وحاصل ما ذكروه يئول إلى وجوه منها
أن أقيسة المعاني لم تقتض الأحكام لأنفسها وإنما ظهر لنا من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم التعلق بها إذا عدموا متعلقا من الكتاب والسنة فكان مستند الأقيسة الصحيحة إجماعهم على ما سبق تقريره
والذي تحقق لنا من مسلكهم النظر إلى المصالح والمراشد والاستحثاث على اعتبار محاسن الشريعة فأما الاحتكام بطرد لا يناسب الحكم لا يثير شبها فما كانوا يرونه أصلا فإذا لم يستند الطرد إلى دليل قاطع سمعي بل يتبين أنهم كانوا يأبونه ولا يرونه ولو كان الطرد مناطا لأحكام الله تعالى لما أهملوه وعطلوه فقد استمرت الطريقة قاطعة من وجهين
أحدهما أنا أوضحنا أنه ليس للطرد مستند معلوم ولا مظنون وليس هو في نفسه مقتضيا حكما لعينه
والاخر أنا نعلم إضرابهم عن مثله في النظر في أحكام الوقائع كما نعلم إكبابهم على تطبيق الأحكام على المصالح الشرعية وهذه طريقة واقعة
743 - ومن أوضح ما يعتصم به أن مناط الأعمال في الشريعة ينقسم إلى معلوم ومظنون وما لا يتطرق إليه علم ولا ظن فذاكره ومعلق الحكم به متحكم وقد أجمع حملة الشريعة على بطلان الاحتكام
فإن إدعى الطارد ظنا تبين خلفه وكذبه فإن للظن في مطرد العرف أسبابا كما أن للعلوم النظرية طرقا مفضية إليها ومن ادعى أنه يظن أن وراء الجبل المظل غزالة من غير أن يبين لظنه مرتبطا أو سببا كان صاحب هذه المقالة كاذبا أو مخيلا فإذا بطل التحكم ولم ينقدح ظن ولا علم والذي ربط به ثبوت الحكم لو نسب إلى نفيه لكان كما لو نسب إلى إثباته فلا يبقى للتعلق به وجه
744 - وقد انتهى كلام القاضي والأستاذ في هذا إلى ما نرمز إلى مبادئه فإنهما قالا
من طرد عن غرة فهو جاهل غبي ومن مارس قواعد الشرع واستجاز الطرد فهو هازىء بالشريعة مستهين بضبطها مشير إلى أن الأمر إلى القائل كيف أراد
745 - فإن قيل سلامته عن النقض تغلب على الظن انتصابه علما قلنا هذا الطارد مطالب بتصحيح مطرده فهو الذي طرده والصورة التي فيها النزاع عند المعترض على الطرد نقض للطرد
746 - فإن قال الطارد فقد اطرد في غير محل النزاع
قيل له جريانه في غير محل النزاع لا يوجب القضاء بالطرد في غيره وعلى الطارد أن يثبت كونه علما فيما ادعى جريانه فيه
فإن تمسك بنفس الجريان قيل هذا جريان في مسائل معدودة فلا ينتهض علما ولا يجب منها الحكم على جميع الشريعة فإنما يكون ما ذكره مخيلا لو جرى الطرد في جميع المسائل وساوقه الحكم على حسب طرد الطارد
قال النزاع إلى أن ما جرى على وفاق هل هو علة فإذ ذاك ربما تخيل من لا تحصيل له أن الجاري علة وسنبين أن الأمر ليس كذلك
747 - بعد هذا قلنا إذا كان الطارد منازعا في طرده فكيف يصح أن يستدل بالطرد وحاصل استدلاله أنه يقول الدليل على صحة طردي دعواي اطراده في صور النزاع فلا يبقى بعد هذا الذي عقل تعلق بالطرد المحض في مسائل معدودة
748 - ثم قال القاضي لو كان التمسك بالطرد سائغا لما عجز عنه أحد من طبقات الخلق ولما كان في اشتراط استجماع أوصاف المجتهدين معنى
فإن زعم زاعم أن شرط الطرد أن يسلم من العوارض والمبطلات ولا يتهدى إليها إلا العالم
قيل له ليطرد العامى ثم يراجع العالم فإذا انتهى التصرف في الشرع إلى هذا المنتهى كان ذلك هزءا بقواعد الدين
749 - ثم نقول علماء الشريعة صرفوا مباحثتهم في الوقائع العرية عن النصوص والإجماع إلى ما يرونه مشعرا بالحكم مشيرا إليه مخيلا به وقد ضرب الحليمي لذلك مثلا فقال من رأى دخانا وثار له الظن أن وراءه حريقا كان محوما على الإصباة قريبا من نيلها
فإن قال وقد رأى غبارا إن وراءه حريقا لم يكن ما جاء به علما على ما أنبأ عنه وأقيسة الشريعة أعلام الأحكام وهذا بمنزلة الطارد
فإن تنسم نسيما أرجا فقال إن وراءه حريقا كان ذلك في محل فساد الوضع من حيث إنه استدل بالشيء على نقيضه
وهذا القدر فيه بلاغ ومقنع في الرد على أصحاب الطرد
750 - فأما من جوز الجدل به ومنع تعليق ربط الحكم به عقدا وعملا وفتوى وحكما فقد ناقض فإن المناظرة مباحثة عن ماخذ الشرع والجدل يستاقها على أحسن ترتيب وأقربه إلى المقصود وليس في أبواب الجدل ما يسوغ استعماله في النظر مع الاعتراف بأنه لا يصلح أن يكون مناطا للحكم وغاية المعترض كفى المئونة وعاد الكلام نكدا وعنادا وأضحى لجاجا وخرج عن كونه حجاجا
751 - فأما الطاردون فمما تمسكوا به أن قالوا للشارع أن ينصب الطرد علما وإن لم يكن مناسبا للحكم وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع من المستنبط تقديره
وهذا لا حاصل له فإن للشارع تأسيس الحكم وما يذكره من علم يجري مجرى الحد ولو ذكر الشارع الحكم من غير علة لقوبل بالقبول فإذا حده صدق والمستنبط ممنوع من التحكم بالحكم كما سبق فإن ظن شيئا بمسلك شرعي أبداه وعرضه على القواعد وليس للطارد مسلك ظنى ولا له منزلة الابتداء بوضع الحكم
ولو جاز أن يتحكم بنصب الطرد لجاز أن يتحكم بنصب الحكم وهو في التحقيق كذلك فإن الطارد يتحكم بالحكم في صورة يدعيها وهو منازع فيها
752 - وما عدوه مستروحا لهم أن قالوا المعانى المخيلة المناسبة للحكم لا توجب لعينها كما لا يوجب الطرد الحكم لذاته إذ الشدة التي اعتقدت مخيلة في إثارة التحريم كانت ثابته والخمر حلال فإذا العلل كلها وإن اعتقدت مخيلة إذا كانت لا توجب الأحكام لأعيانها فهي كالطرد
قلنا هذا فاسد لا حاصل له فإنا لا نرتضى المخيل من جهة الإخالة ولكن إذا صادفناه وظنناه موافق لعلل الصحابه ومسالكهم رضي الله عنهم في النظر فهو الدليل على وجوب العمل لا نفس الإخالة ولم يثبت تمسك الصحابة بالطرد فلا يبقى للمستنبط وجه يبنى عليه الظن بأن ما طرده منصوب الشارع فال الأمر إلى التحكم المحض وهو باطل من دين الأمة كما سبق تقريره
مسألة
753 - إذا ذكر المستنبط علة مخيلة مناسبة ولكنها منتقضة فقيدها بلفظ يدرا
النقض فالذين يتمسكون بالطرد المحض لا يمتنعون من التمسك بها والذين ردوا الطرد اختلفوا في ذلك
فذهب المحقون إلى أن ذلك الوصف الزائد الذي لاحظ له في الفقه على حياله ولا على تقدير ضمه محذوف غير محتفل به والدليل على ذلك هو الدليل على إبطال الطرد فإن حاصل القول في الرد على القائلين به نسبتهم إلى التحكم ولا فرق بين التحكم بما هو على صيغة علة وبين التحكم بصيغة تقيدت العلة بها
754 - وهذه المسألة لا تصفو قبل ذكر النقض وحقيقته ورده وقبوله فإن الخصم قد يقول فائدة هذه الزيادة درء النقض فإذا ظهرت فائدته في الكلام خرج عن كونه متحكما به من حيث نتج فائدة وهي اندفاع النقض وليس كما إذا كان الكلام بجملته طردا غير مناسب لأن صاحبه حرى أن ينسب إلى التحكم
فالوجه أن يقال إن كانت المسألة التي ترد نقضا لو حذفت الزيادة تفارق محل العلة بفرق فقهي فالمذكور دونه بعض العلة والاقتصار على بعض العلة لا يجدي فائدة وإن كان لا ينقدح فرق فقهى فالعلة منتقضة لا يعصم فيها لفظ لا يفيد فقها ولا يشعر بفرق معنوي وهو بمثابة تعليل الرجل حكما مع تقييد العلة بنعيق غراب أو ما في معناه مما لا يفيد حتى إذا ألزم شيئا اتخذ ما ذكره مدراه
وهذا من الفن الذي يأنف منه المحقق
وسنعود إلى تحقيق ذلك في باب النقض إن شاء الله تعالى
755 - فإذا ثبت أن التقييد بما لا فقه له لا يفيد فلو فرض التقييد باسم غير مشعر
في وضع اللسان بفقه ولكن مباينة المسمى لما عداه مشهورة عند النظار فهل يكون التقييد بمثل هذا اللفظ محصنا للعلة وهذا كتقييد العلة بالطلاق في قول القائل جزء حله الحل فإضافة الطلاق إليه نافذة كالجزء الشائع
فإذا قال الملزم العلة تنتقض بالنكاح ولفظ الطلاق لا فقه فيه فيكون من جواب المعلل أن الطلاق سلطانه ونفوذه يفارق النكاح إذ تسميته تشير إلى خصائصه فذكره كذكر خاصية تفيد فقها
وهذا مما تردد فيه أرباب الجدل ولعل الأقرب تصحيحه فإن ذلك جار مجرى اصطلاح النظار على عبارات يتواطئون عليها مشعرة بأغراضهم
فهذا مقدار غرضنا الان في الطرد وما يليق به ونحن نذكر بعده تفصيل القول فيما تثبت به علل الأصول
فصل القول في تصحيح علة الأصل في أقيسة المعاني 756 - إذا ثبت حكم في أصل متفق عليه وادعى المستنبط أنه معلل بمعنى أبداه فهو مطالب بتصحيح دعواه في الأصل وادعى بعض الأغبياء أنه لا يسوغ ذلك ولكن على المعترض أن يبطل ذلك برده إن كان عنده مبطل
وهذا قول من لا يحيط بمنازل النظر وحقائق الأقيسة
فإذا ادعى مدعي أن المعنى الذي أبداه علة للحكم فهذه دعوى عرية عن البرهان من جهة أن التحكم ينصب العلل غير سائغ كما سبق في الرد على ----------ج33333333333333333333333333333...........
كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
الطاردين فلا بد من ظهور وجه في ظن المستنبط يوجب تخيل معنى مخصوص في انتصابه علما وهو مطالب بإبدائه فإذا اقتصر على محض الدعوى كان ادعاؤه المجرد في نصب العلل كادعائه الحكم في محل النزاع وكادعائه كون صورة النزاع كمسألة متفق عليها من غير ذكر جامع ومن أنكر أن ادعاء معنى الأصل في حقيقة الدعوى وصورتها فقد جحد الضرورة وإن اعترف الخصم أنها دعوى وألزم قبولها من غير برهان فقد تناهى في الاحتكام وانحط عن رتبة النظار بالكلية
757 - فإن زعم زاعم أني نصبت علما كانت الصحابة تنصبه للأحكام علما قيل له كانوا ينصبون كل عام لكل حكم أو كانوا يرون لذلك مسالك تخصيص بعض الأعلام فإن زعم أنهم كانوا ينصبون كل شيء علما فقد ظهر اجتراؤهم وقصارى كلامهم العود إلى الطرد
وإن سلموا أنهم كانوا يثبتون الأحكام لوجوه هي عللها فيقال لمن ادعى نصب العلم ما الدليل على أن ما نصبته من جنس منصوب الصحابة فيرجع حاصله إلى القول بالمطالبة بالدليل فإن قيل الدليل على ثبوت المدعى علما عجز المعترض عن الاعتراض عليه فهذا كلام سخيف فإن المعترض واقف موقف المسترشد سائل خصمة إثبات دليل فكيف يحسن رد الدليل إلى عجزه وقدرته ولو اعترف بعجزه عن الاعتراض لم ينتهض عجزه علما على انتصاب ما ادعاه المجيب علما
وهذا القدر من التنبيه كاف إذ هو من الكلام الغث ويكفي التنبيه في مثل هذا المقام
758 - فإذا ثبت ذلك اختتمناه بأمر نجعله فاتحة الغرض وقلنا لا بد أن يكون لذلك العلم وجه عند ناصبه ولأجله يفتي به ويلزم العمل بموجبه والمسئول يريد منه أن يبديه وكل ذلك مبني على أبطال الطرد فإذا لا بد من إثبات معنى في الأصل دينا أو جدلا
وقد اضطربت الاراء في السبل التي تتضمن إثبات علة الأصل
مسالك الباحثين في إثبات علة الأصل
ونحن نذكر مسالك النظار في ذلك مسلكا مسلكا ونذكر في كل مكان ما يليق به إن شاء الله تعالى
759 - فمما اعتمده المحققون وارتضاه الأستاذ أبو إسحاق إثبات علة الأصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقته الأصول وعبر الأستاذ عنه في تصانيفه بالاطراد والجريان ولم يعن الطرد المردود فإنه من أشد الناس على الطاردين ولكنه عرض بالإخالة وقرنه باشتراط الجريان وعني بالجريان السلامة عن المبطلات
760 - فإن قيل إذا أبدى المعلل وجها مرتضى في الإخالة قبل وقيل له ليس كل مخيل علما وليس كل استصلاح وجها مرتضى في الأحكام فمن أين زعمت أن ما أبديته من قبيل ما يعتد عليه إذ الإخالات منقسمة ووجوه الاستصلاح منتفية والشرع لا يرى تعلق الحكم بجميعها ولم تضبط الرواة مسالك الظنون للصحابة وأنحائهم
فإذا بطل دعوى التعلق بكل مصلحة ولم يتبين لنا ما اعتمده الأولون فكيف تدل نفس الإخالة
قلنا قد يتبين لنا أنهم رضي الله عنهم في الأزمان المتطاولة والاماد المتمادية ما كانوا ينتهون إلى وجوه مضبوطة بل كانوا يسترسلون في الاعتبار استرسال من لا يرى لوجوه الرأي انتهاء ويرون طرق النظر غير محصورة ثم كان اللاحقون يتبعون السابقين ولا يعتنون بذكر وجوه في الحصر لا تتعدى فعلمنا بضرورة العقل أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي لا نصوص فيها فإذا ظنوها ولم يناقض رأيهم فيها أصل من أصول الشريعة أجروها واستبان أنهم كانوا لا يبغون العلم اليقين وإنما كانوا يكتفون بأن يظنوا شيئا علما
فإذا ظهرا الإخالة وسلم المعنى من المبطلات وغلب الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الأولون قطعا
761 - وأنا أقرب في ذلك قولا فأقول إذا ثبت حكم في أصل وكان يلوح في سبيل الظن استناد ذلك إلى أمر ولم يناقض ذلك الأمر شيء فهذا هو الضبط الأقصى الذي لا يفرض عليه مزيد
فإذا أشعر الحكم في ظن الناظر بمقتضى استنادا إليه فذلك المعنى هو المظنون علما وعلة لاقتضاء الحكم فإذا ظهر هذا وتبين أن الظن كاف وتوقع الخطأ غير قادح ولا مانع من تعليق الحكم كان ذلك كافيا بالغا
762 - ومما يعضد به الغرض أن كل حكم أشعر بعلة ومقتضى ولم يدرأه أصل في الشرع فهو الذي يقضي بكونه معتبر النظر فإن الشارع ما أشار إلى جميع
العلل واستنبط نظار الصحابة رضي الله عنهم وكانوا يتلقون نظرهم مما ذكرته قطعا
فإن قيل فالإخالة مع السلامة هي الدالة إذا
قلنا لا ولكن إذا ثبتت الإخالة ولاحت المناسبة واندفعت المبطلات التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي الله عنهم فالدليل إجماعهم إذا كما تقدم في إثبات القياس على منكريه
763 - فإن قيل قد ثبت من رأيكم أنه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى ما دامت أصول الشريعة محفوظة وثبت أن النظر ليس مسترسلا في وجوه المصالح كلها وماخذ الأحكام مضبوطة والوقائع المتوقعة لا ضبط لها فكيف يستند ما لا نهاية له إلى المتناهى وهذا سؤال عسر جدا
ونحن نقول أولا انضباط الماخذ مسلم والحكم بأن حكم الله يجرى في كل واقعة مسلم مع انتفاء النهاية
والسبيل فيه أن كل فن من فنون الأحكام يتعارض فيه نفى وإثبات ثم لا محالة لا يلفى أصل يعارضه نقيض له إلا والنهاية تنتفى عن أحد المتقابلين لا محالة
وبيان ذلك بالمثال أن الأعيان النجسة مضبوطة محصورة والذي ليس بنجس لا نهاية له فكل ما ثبتت نجاسته اتبع النص فيه وكل ما أشكل أمره فإن كان في وجوه النظر ما يقتضي إلحاقه بالأعيان النجسة إلحق بها وإن لم يظهر وجه يقتضى ذلك التحق بما لا نهاية له من الطاهرات فينتظم من هذه الجملة في النفي والإثبات ما لا نهاية له
وكذلك القول في جميع مسالك الأحكام وهذا من نفائس الكلام
وسنقرره على أحسن الوجوه إن شاء الله تعالى في كتاب الاجتهاد
وهذا منتهى الغرض في إثبات علة الأصل بطريق الإخالة
764 - وأما ما اعتمده الشافعي وارتضاه ولا معدل عنه ما وجد إليه سبيل فهو دلالة كلام الشارع في نصبه الأدلة والأعلام فإذا وجدنا ذلك ابتدرناه ورأيناه أولى من كل مسلك
ثم ذلك يقع على وجوه
منها ما يقع على صيغة التعليل صريحا كقوله تعالى كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم
ومنها ما يتضمن التعليل ويشعر به إشعارا ظاهرا وهو يقع على وجوه نضرب أمثلتها
فمنها قوله عليه السلام لمن سأله عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا يبس فقال السائل نعم فقال عليه السلام فلا إذا فجرى ذلك منه متضمنا تعليلا بنقصان الرطب عن وزن التمر عند الجفاف
وقد تكلم بعض من لا يعد من أهل البصيرة بالعربية على هذا الحديث فقال معنى الحديث أنه إذا نقص فلا يباع الناقص بالتمر الذي لم ينقص وأكد هذا عند نفسه بأن قال إذا يتعلق بالاستقبال والفعل المضارع المتردد بين الحال والاستقبال إذا تقيد بإذا تجرد للاسقبال وانقطع عن احتمال الحال وكذلك جملة نواصب الأفعال المضارعة إذا تعلقت بها فإنها تمحضها للاستقبال فقوله إذا تصرف النهي إلى الاستقبال عند فرض النقصان في الرطب
765 - وهذا قول عرى عن التحصيل من وجوه
منها أن السائل سأله عن بيع الرطب بالتمر في الحال فيبعد أن يضرب عن محل السؤال ويتعرض للاستقبال وكان قد شاع في الصحابة رضي الله عنهم تحريم ربا الفضل فرد الجواب إليه والإضراب عن محل السؤال غير لائق بمنصب الرسول عليه السلام ثم لم يجر لفعل مستقبل ذكر في الحديث فلما جرى السؤال متعلقا بصيغة المصدر فإنه عليه السلام سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال عليه السلام بعد مراجعة السائل وأخذ جوابه فلا إذا و إذا قد تستعمل على أثر جمل ليس فيها لفعل مستقبل ذكر وقد يستعمل متصلا بالفعل غير عامل فيه فإنه يجري عند النحويين مجرى ظننت فإن تقدم واتصل بالفعل عمل كقولك في جواب كلام إذا أكرم زيدا وإن توسط جاز إلغاؤه عن العمل وجاز أعماله كقولك زيدا إذا أكرمه ويجوز أكرمه بالرفع وإن أخرته لم يجز إعماله كقولك زيد أكرمه إذا بالرفع لا غير وإذا لم يعمل كان كالتتمة للكلام والصلة الزائدة التي لا احتفال بها ولا وقع لها في تغير معنى وتخصيصه باستقبال عن حال ولكنه إذا اتصل بكلام مصدر بالفاء اقتضى تسبيبا وتعليلا كما قال عليه السلام فلا إذا ثم السر في ذلك أن الرسول عليه السلام استنطق السائل بالعلة وما كان يخفى عليه عليه السلام أن الرطب ينقص إذا يبس فلما نطق السائل وقع تعليل الرسول عليه السلام مرتبا على نطق السائل على جفاف الرطب معناه إذا علمت ذلك فلا إذا
766 - ومما يجري تعليلا صيغة تتضمن تعليق الحكم باسم مشتق
فالذي أطلقه الأصوليون في ذلك أن ما منه اشتقاق الاسم علة للحكم في موجب هذه الصيغة كما قال تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وكما قال الزانية ولزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة
فتضمن سياق الايتين تعليل القطع والحد بالسرقة والزنا
وهذا الذي أطلقوه مفصل عندنا فإنا نقول إن كان ما منه اشتقاق الاسم مناسبا للحكم المعلق بالاسم فالصيغة تقتضي التعليل كالقطع الذي شرع مقطعة للسرقة والجلد المثبت مردعة عن فاحشة الزنا وفي الايتين قرائن تؤكد هذا منها قوله تعالى جزاء بما كسبا نكالا من الله وقوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله
وإن لم يكن ما منه اشتقاق الاسم مناسبا للحكم فالاسم المشتق عندي كالاسم العلم
وتعلق أئمتنا في تعليل ربا الفضل بالطعم بقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام فوقف على إثبات كون الطعم مشعرا بتحريم التفاضل وإلا فالطعام والبر بمثابة واحدة ولو علق الحكم بهما
767 - وإذا ثبت بلفظ ظاهر قصد الشارع في تعليل حكم بشيء فهذا أقوى متمسك به في مسالك الظنون فإن المستنبط إذا اعتمد إيضاح الإخالة وإثبات المناسبة وتدرج منه إلى تحصيل الظن فإن صحب الرسول عليه السلام كانوا رضي الله عنهم يعلقون الأحكام بأمثال هذه المعاني
فالذي يتضمنه ونظنه أبعد في الإشعار بأن ما استنبطه منصوب الشارع من لفظ منقول عن الرسول عليه السلام مقتض للتعليل
768 - والقول الوجيز أن ما يظهر من قول الرسول عليه السلام في نحو وجهة يتقدم على ما يظهر من طريق الرأي لما تقرر من تقديم الخبر على القياس المظنون فإذا
تطرق إلى كل واحد منهما الظن وانحسم القطع تقدم الخبر لمنصبه واستأخر الرأي وصيغ التعليل ظاهرة في قصد صاحب اللفظ إلى التعليل
وقد ذكرت في كتاب التأويل أنه إذا قصد الشارع تعميم حكم ولاح ذلك وظهر في صيغة كلامه لم يسغ مدافعة مقتضى العموم بقياس مظنون وقد ذكرنا من هذه الجملة في كتاب التأويل ما نحن الان فيه وأوضحنا أن ما يظهر قصد التعليل فيه وإن لم يكن نصا فلا يجوز إزالة ظاهر التعليل بقياس لا يستند إلى تعليل الشارع ظاهرا فإنا لو فعلنا ذلك كنا مقدمين ظن صاحب الرأي على ما ظهر فيه قصد الشارع وهذا محال
وإن استند قياس من يحاول إزالة ظاهر التعليل إلى ظاهر اخر في التعليل يخالف ما فيه الكلام فينظر إذ ذاك في الظاهرين نظرنا في المتعارضين كما سيأتي في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
769 - فإن قيل قد علل رسول الله صلى الله عليه و سلم وجوب الوضوء على المستحاضة بكون الخارج دم عرق فإنه قال عليه السلام توضئي فإنه دم عرق فاقتضى ذلك وجوب الوضوء بخروج الدم من كل عرق
قلنا قال بعض أصحابنا ما ذكره صلى الله عليه و سلم تعليل في محل مخصوص فإنها سألت عن دم يخرج من مخرج الحدث فجرى جوابه عليه السلام حكما وتعليلا منزلا على محل السؤال وكان السؤال عن خروج الدم من محل الحدث ومعظم ما يجري على صيغ التعليل في ألفاظ الشارع لا يكون فيه تعرض للمحل بل يكون طلب المحل محالا على الطالب الباحث وكذلك تلفى تعليلات القرآن كالسرقة والزنا وغيرهما
والجواب المرضى عندنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقصد إيجاب الوضوء والاعتناء بتعليله وإنما غرضه نفى وجوب الغسل ورفع حكم الحيض عند اطراد الاستحاضة ولما اشتبه على السائلة أن الخارج حيض أم لا قصدت السؤال عما أشكل عليها فأبان صلى الله عليه و سلم أن الخارج ليس بالحيض الذي يزجيه الرحم وإنما هو عرق وحكمه الوضوء وهذا بين من فحوى كلامه عليه السلام
770 - فإن قيل لم تركتم تعليل رسول الله صلى الله عليه و سلم تخيير المعتقة بملكها نفسها حتى تقضوا على حسب ذلك بأنها تخير وإن اعتقت تحت حر فإنه عليه السلام قال لبريرة ملكت نفسك فاختاري وهذا تعليل الخيار بانطلاق حجر الرق وهو يجري في العتق تحت الحر جريانه في العتق تحت العبد
قلنا قال المحدثون لا نعرف هذا اللفظ فعلى ناقله التصحيح ثم إن صح فسبيل الكلام عليه أنه لم يرد تعليل الخيار بملكها نفسها فإنه لو أراد أنها ملكت نفسها تحقيقا لما احتاجت إلى الخيار في محل النكاح
قال القاضي إن ملكت محل النكاح فليس للخيار معنى وإن ملكت غير مورد النكاج لم يشعر ذلك بالخيار في محل النكاح فالمراد إذا ترديد العبارة عن ثبوت الخيار لها كما يقال لمن ثبت له حق فسخ عقد ملكت الفسخ فافسخ
فمعنى الحديث إذا ملكت الخيار فاختاري وكانت أعتقت تحت عبد فهذا وجه الكلام
771 - ثم إنا نجري ذكر هذه الأمثلة تهذيبا للأصول وتدريبا فيها وإلا فحق الأصولي ألا يلتفت إلى مذاهب أصحاب الفروع ولا يلتزم مذهبا مخصوصا في المسائل المظنونة الشرعية
فهذا غاية ما أردناه في هذا الفن
السبر والتقسيم
772 - ومما أجراه القاضي وغيره من الأصوليين في محاولة إثبات علل الأصول السبر والتقسيم
ومعناه على الجملة أن الناظر يبحث عن معان مجتمعة في الأصل ويتتبعها واحدا واحدا ويبين خروج احادها عن صلاح التعليل به إلا واحدا يراه ويرضاه
وهذا المسلك يجري في المعقولات على نوعين فإن كان التقسيم العقلي مشتملا على النفي والإثبات حاصرا لهما فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني للثبوت
وإن لم يكن التقسيم بين نفى وإثبات ولكنه كان مسترسلا على أقسام يعددها السابر فلا يكاد يفضي القول فيها إلى علم
وقصارى السابر المقسم أن يقول سبرت فلم أجد معنى سوى ما ذكرت وقد تتبعت ما وجدته
فيقول الطالب ما يؤمنك أنك أغفلت قسما لم تتعرض له فلا يفلح السابر في مطالب العلوم إذا انتهلا الكلام إلى هذا المنتهى
773 - فأما السبر في المسائل الشرعية الظنية فإن دار بين النفى والإثبات ولاح المسلك الممكن في سقوط أحد القسمين كان ذلك سبرا مفيدا كما
سنبين الان معنى السبر وجدواه
وإن كان التقسيم الظني مرسلا بين معان لا يضبطها حصر كما ذكرناه في المعقولات ورددناه فيها فقد قال بعض الأصوليين إنه مردود في المظنونان أيضا فإن منتهاه إحالة السابر الأمر على وجدانه
وهذا غير سديد فإن هذا الفن من التقسيم إنما يبطل في القطعيات من حيث لا يفضي إلى العلم والقطع وإذا استعمل في المظنونات فقد يثير غلبة الظن فإن المسألة المعروفة بين النظار إذا كثر بحثهم فيها عن معانيها ثم تعرض السابر لإبطال ما عدا مختاره فقال السائل لعلك أغفلت معنى عليه التعويل
قيل هذا تعنت فإنه لو فرض معنى لتعرض له طلاب المعاني والباحثون عنها والذي تحصل من بحث السابرين ما نصصت عليه والغالب على الظن أنه لو كان للحكم المتفق عليه علة لأبداها المستنبطون المعتنون بالاستثارة فتحصل من مجموع ذلك ظن غالب في مقصود السابر وهو منتهى غرض الناظر في مسائل الظنون
774 - وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى السبر وتنويعه وما يفيد منه وما لا يفيد فنرجع الان إلى غرضنا في إثبات معنى الأصل فنقول
قد عد القاضي السبر من أقوى الطرق في إثبات علة الأصل وهذا مشكل جدا فإن من أبطل معاني لم يتضمن إبطاله لها إثبات ما ليس يتعرض له بالبطلان فإنه لا يمتنع أن يبطل ما لم يتعرض له أيضا فإنه لا يتعين تعليل كل حكم فعد السبر والتقسيم مما تثبت به العلل بعيد لا اتجاه له
والذي يوضح المقصد في ذلك أنه لو انتصب على معنى ادعاه المستنبط دليل
فلا يضر أن يفرض لذلك الحكم علة أخرى وارتباط الحكم بعلل لا امتناع فيه وإنما تتعارض العلل إذا تناقضت موجباتها فيمتنع الجمع بينها فإذا كانت متوافقة متظاهرة لم تتناقض
فيتبين أن إبطال معان تتبعها السابر لا أثر له في انتصاب ما أبقاه ولو أقام الدليل على كلمة معنى لم يتوقف انتصابه معنى موجبا للحكم على تتبع ما عداه بالإبطال
فلا حاصل على هذا التقدير للسبر والتقسيم في إثبات علل الأصول
775 - والان ينشأ من منتهى هذا الكلام أمو خطيرة في الباب
منها أنه لو ثبت اتفاق القايسين على كون حكم في أصل معللا ثم اتجه للسابر إبطال كل معنى سوى ما راه وارتضاه فلا يمتنع والحال هذه أن يكون السبر مفيدا غلبة الظن في انتهاض ما لم يبطل علما
ومستند ثبوته في التحقيق الاجماع على أصل التعليل ولكن ثبت الإجمع على الأصل مبهما وأفضى السبر إلى التعيين فحصل منه ومن الإجماع ما أراده المعلل
فإن قدر مقدر إبطال ما أبقاه السابر وقد استتب له مسلك الإبطال فيما سواه كان مقدرا محالا مؤديا إلى نسبة أهل الإجماع إلى الخلف والباطل
776 - فإن قيل كيف يكون إجماع القايسين حجة وقد أنكر القياس طوائف من العلماء قلنا الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة فإنهم مباهتون أولا على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه
وأيضا فإن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد والنصوص لا تفى بالعشر من
معشار الشريعة فهؤلاء ملتحقون بالعوام وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ
فهذا منتهى ما اتصل الكلام به
فصل تعليل الحكم بأكثر من علة 777 - ومما يتصل بذلك القول في اجتماع العلل للحكم الواحد
وقد اضطرب الأصوليون في هذا فذهب طوائف إلى أنه لا يعلل حكم بأكثر من علة واحدة
وذهب الجماهير إلى أنه لا يمتنع تعليل حكم بعلل
وذهب المقتصدون إلى أن ذلك لا يمتنع على الجملة لا عقلا ولا شرعا فإن الدم يجوز أن يعزى استحقاقه إلى جهات ومقتضيات كل مقتض لو انفرد بنفسه لاستقل في إثارة الحكم
هذا لا امتناع فيه
وأما إذا ثبت الحكم مطلقا لأصل وكان أصل تعليله وتعيين علته لو ثبت تعليلا موقوفا على استنباط المستنبط فيمتنع أن تفرض علتان يتوصل إليهما بالاستنباط
وللقاضي إلى هذا صغو ظاهر في كتاب التقريب وهو اختيار الأستاذ أبو بكر بن فورك
ونحن نذكر ما يتمسك به كل فريق
778 - فأما من جوز وضعا واستنباطا تعليل حكم بعلل فمسلكه واضح وطريقة لائح وإنما الاعتناء بالتنبيه على مسالك الاخرين
فمما تعلقوا به أن قالوا أجمع أهل القياس على اتحاد علة الربا واتخذ كل فريق إبطال ما يدعيه الاخرون المخالفون ذريعة إلى إثبات ما يدعيه علة ولو كان يسوغ إثبات حكم بعلل لكان هذا المسلك غير متجه ولا مفيد والذي يحقق ذلك أنهم أجمعوا على التعلق بالترجيح وإنما ترجح العلل إذا تعارضت ولو كان لا يمتنع اجتماعها لكان الترجيح لغوا فيها فإن من ضرورة الترجيح الاعتراف باستجماع كل علة شرائط الصحة لو قدرت منفردة فإذا تناقضت يرجح بعضها على بعض وإذا لم يمتنع اجتماعهما لم يكن للترجيح معنى
779 - ومن جوز تعليل حكم بعلتين لم يبعد أن تكون إحداهما أولهى من الأخرى والترجيح لا يفيد إلا تلويحا في ظهور بعض العلل
والكلام على هذا من أوجه
أحدها أن تعليل ربا الفضل ليس مقطوعا به عند المحققين وليس منكر تعليله منتسبا إلى جحد القياس ومن عرف مسالك كلامنا في الأساليب تبين ظهور ميلنا إلى اتباع النص وإلى إثباتنا الربا في كل مطعوم بقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام وربا الفضل في النقدين لا يتعداهما ولا ضرورة تحوج إلى ادعاء علة قاصرة وقد أجريت مسألة الربا على التزام اتباع مذهب الشافعي ومحاذرة مخالفته في تعليله تحريم ربا الفضل في الأشياء الأربعة بالطعم المتعدى في محل النص
780 - وأنا الان أبدى اختياري في منع تعليل ربا الفضل وأبدأ القول في النقدين
فأقول قد وضح إبطال الوزن في النقدين ولم يبق إلا النقدية والعلة القاصرة لا تثمر مزيدا في الحكم ولا تفيد جدوى في التكليف فإن الحكم ثابت بالنص
ومن قال بالعلة القاصرة أبداها وانتحاها حكمة في حكم الشرع ولسنا نبعد ذلك ولكن يتعين في ادعاء العلة القاصرة أن يكون المدعى مشعرا بالحكم مناسبا له مفضيا بالطالب إلى التنبيه على محاسن الشريعة والتدرب في مسالك المناسبات وشرط ذلك الإخالة لا محالة وليست النقدية مشعرة بتحريم ربا الفضل على ما قررت في الأساليب فقد خرجت النقدية عن كونها حكمة مستثارة ومسلكا من محاسن الشريعة ولم يتعلق بها حكم زائد على مورد النص وبطل ما ادعى متعديا ولاح سقوط التعليل في النقدين
وأما الأشياء الأربعة فقد أوضحنا أن الطعم ليس مخيلا بالتحريم وبينا أن قول النبي عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام الحديث لا يتضمن تعليلا بالطعم ما لم يقرر المستدل بالخبر كون الطعم مخيلا مناسبا وحققنا أن المشتق إذا لم يشعر بإخالة حل محل اللقب والسبر قصاراه إبطال ما يدعيه الخصم علة وليس في إبطال مدعى الخصم إثبات لغيره ولم يثبت بالإجماع كون تحريم ربا الفضل معللا وكيف يستقيم دعوى الإجماع في تعليله وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنه تحريم ربا الفضل
782 - وذهب طوائف من القايسين إلى منع التعليل مع الاعتراف بالحكم والترجيح باطل مع تجويز ارتباط الحكم بعلل
فلم يبق إلا طريقة تكلفتها في الأساليب وهي أن الرسول عليه السلام أباح ربا الفضل في الجنسين وحرمه في الجنس الواحد فدل ذلك على ارتباط
حكم التحريم بالمقصود من هذه الأجناس والمقصود منها الطعم لا الكيل والوزن فإن هذه الأجناس لا تقتني لتكال أو توزن وإنما تتخذ لينتفع بها
ثم عد رسول الله من كل جنس فذكر البر لأنه يطعم قوتا والشعير يقتات ويدخر وينتفع به من وجوه والتمر قد يقتني والملح يراد لتطييب الأطعمة واصلاحها فكأنه صلى الله عليه و سلم ذكر الأجناس الغالبة من الأطعمة ونبة بذكرها على ما يجمعها وهو الطعم ثم أبان برفع الحرج عند اختلاف الجنس التعلق بالمقاصد وطردت هذا في مسألة النقدين على هذا الوجه
فهذا وإن صح فهو من فن قياس الدلالة وهو عندي من أبواب الشبه على ما استقصى القول فيه إن شاء الله تعالى
783 - ولكن إنما يستقيم التشوف إلى مثل ذلك لو جرى في الباب سليما وقد رأينا ربا النساء محرما في الجنسين فلو كان التعلق بالمقصود صحيحا للزم طرده في ربا النساء إذ وقوع البر في الذمة ليس ممتنعا إذا لم يكن رأس مال السلم مطعوما فلم امتنع إسلام الشعير في البر مع تفاوت المقاصد وباب ربا النساء فرع ربا الفضل فإذا جرى تعليل في ربا الفضل وجب أن يناسب ربا النساء فيما يليق به
فإذا لا إخالة ولا تنبيه من الشارع ولا شبه بين العقاقير والفواكه وبين الأشياء الأربعة
فقد بطل قياس الدلالة وفسد التعلق بالترجيح وأغنى ذكر النقدين فيما يتعلق بالحكم وأغنى ذكر الطعام عن تكلف استنباط علة فالوجه التعلق بالنهي عن بيع الطعام بالطعام
وإذا حاول الخصم تخصيصا لم يجد دليلا يعضد به تأويلا فثبت الظاهر وقد امتنع تخصيصه أيضا على الخصم وإذا رووا في حديث عبادة بن الصامت وكذلك
ما يكال ويوزن فهو موضوع مختلق باتفاق المحدثين
784 - وإذا قال من لم يزد على الأشياء الستة لو كان تحريم التفاضل في كل مطعوم لكان ذكر الطعام أوجز واوقع وأعم وأجمع فذكره أصنافا مخصوصة يشعر بقصر الحكم عليها
فيقال لهؤلاء لا ينفع ما ذكرتموه مع صحة النهي عن بيع الطعام بالطعام وليس في ذكر بعض الأطعمة ما يتضمن تخصيص اللفظ العام في الطعام إذ الألقاب لا مفهوم لها وقد ذكرنا في أثناء الكلام وجها وأوضحنا أنه لا يمتنع حمل ذكر الشارع لها على إبانة اطراد تحريم الربا في جميع ما يطعم مع انقسامه إلى القوت وغيره
فتبين قطعا أن الربا يجري في كل مطعوم للخبر الوارد فيه وهو وارد في النقدين للنص فيهما
وسبيل المسئول في المسألتين أن يذكر الحكم ويتمسك بالخبر ويحوج الخصم إذا حاول إزالة الظاهر إلى دليل فإذا ابتدر إلى ذكر طريقة في القياس نتبعها بالنقض
وهذا جرى معترضا في الكلام
785 - وقد عاد بنا الكلام إلى أن ما استشهد به من منع ربط حكم بعلتين من تخاوض العلماء في علة الربا باطل في مسلك الأصول فإنا أوضحنا أن ما استشهدوا به مما لا يعلل عندنا
والكلام في التفصيل مع منع أصل التعليل فاسد حايد عن المقصد
ثم لا يمتنع لو قيل بتعليل الربا أن يجمع القايسون في أصل معين على اتحاد العلة
فيه ثم يتنافسوا في طلبها وهذا الإجماع لو فرض في صورة مخصوصة لا يتضمن القضاء بمنع ارتباط حكم في صورة أخرى بعلتين أو بعلل فلا تعلق إذا فيما استشهدوا به من علة الربا
وبما يتمسك هؤلاء بأن يقولوا المتبع في اثبات القياس والعمل به سيرة الصحابة رضي الله عنهم وقد صح عنهم تعليق الحكم بالمعنى الفرد المستثار من الأصل الواحد فاتبعوا فيه
وأما ربط الحكم بعلتين مستنبطتين من أصل واحد بحيث يجري كل واحد منهما في مجاري اطرادهما وينفرد بمجاري أحكامهما فلم يثبت في مثل هذا نقل ولو كان مثل هذا سائغا ممكن الوقوع لا تفق في الزمان المتمادى ولنقله المعتنون بأمر الشريعة ونقل السبر فإذا لم ينقل ذلك دل على أنه لم يقع وإذا لم يقع في الأمد الطويل تبين أن الحكم الواحد لا يعلل إلا بعلة واحدة متلقاة من أصل واحد
فهذا لا حاصل له فإن أصحاب الرسول عليه السلام ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين من نظار الزمان في تعيين أصل والاعتناء بالاستنباط منه وتكلف تحرير على الرسم المعروف المألوف في قبيله وإنما كانوا يرسلون الأحكام ويعقلونها في مجالس الاشتوار بالمصالح الكلية فلو كانوا لا يبدون علة في قضية إلا معتزية إلى أصل معين ثم صح في البحث عن نقل الرواة ما ذكره هذا المعترض لكان كلاما
786 - ومما ارتبك في الخائضون في هذه المسألة أن الذين سوغوا تعليق الأحكام بعلل تعلقوا بتحريم المرأة الواحدة بعلة الحيض والإحرام للصلاة والصيام وقالوا قد يجب قتل الرجل بأسباب كل واحد منها لو انفرد لثبت علة على الاستقلال
وقال من يخالف هؤلاء إنما يناط بالمحل تحريمات ولكن لا يظهر أثر تعددها وقد يتكلف المتكلف فيجد بين كل تحريمين تفاوتا وهذا بين في القتل فإن من استحق القتل قصاصا وحدا فالمستحق قتلان ولكن المحل يضيق على اجتماعهما ولو فرض سقوط أحدهما لبقى الثاني
ولا يكاد يصفو تعليق تحقيق حكم واحد بعلتين تصورا فهذا منتهى المطالب في النفى والإثبات
787 - والذي يتحصل عندنا في ذلك أن الحكم إذا ثبت في أصل ولاح للمستنبط فيه معنى مناسب للحكم فيحكم في مثل ذلك مع سلامة المعنى المظنون منتهضا عن المبطلات بكون الحكم معللا ويتبين له أن ربط الحكم بهذا المعنى الفرد لائح منحصر في مطالب الشريعة ويجوز تعليق الحكم بمثل هذا المعنى فإنه لم يصح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ضبط المصالح التي تنتهض عللا للأحكام ولا إطلاق تعليق الحكم بكل مصلحة تظهر للناظر وذي رأى
فمسلك الضبط النظر في مواقع الأحكام مع البحث عن معانيها فإذا لاحت وسلمت تبين أنه معنى متلقى من أصول الشريعة وليس حايدا عن الماخذ المضبوطة
فهذا هو المسلك الحق في درك وقوع المعنى في ضبط الشرع ولهذا رد الحذاق الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل فإن صاحبه لا يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشرع بمثلها ولو فرض في أصل معنيان فصاعدا لم يترتب عليهما استفادة الضبط ولم يأمن المستنبط وقوع أحدهما خارجا عن حصر الشرع وضبطه وليس واحد من المعنين بهذا التقدير أولى من الثاني فمن هذه الجهة يتعارضان
فلا يمتنع ترجيح أحدهما على الثاني
788 - فإن قال قائلون بم تنفصلون عن الحائض المحرمة الصائمة
قلنا قد قدمنا جوابا عن هذا سديدا عندنا فإنا نقدر اجتماع تحريمات واية ذلك أنا ألفينا التحريم قد استقل به الحيض المحض والمفروض إذا في حكم أصول تجتمع تعليلها وتزدحم أحكامها
789 - ولباب هذا الفصل سيأتي في الاستدلال فلا يعتقدن المرء بأن هذا اختيارنا في هذه المسألة حتى يقف على ما نراه في الاستدلال رأيا
وإن أبى الطالب استعجال الصواب في هذه المسألة فليثق بامتناع علتين لحكم واحد
والدليل القاطع فيه قبل الانتهاء إلى المباحثه عن أسرار الاستدلال أن ذلك لو كان ممكنا وقد طال نظر النظار واختلاف مسالك الاعتبار في المسائل وما اتفقت مسألة إلا والمختلفون فيها يتنازعون في علة الحكم تنازعهم في الحكم ومن تدبر موارد الشريعة ومصادرها اتضح له ما نقول على قرب
790 - فمن أمثلة ذلك مسألة الربا ومن ادعى أنها مختصة من بين سائر المسائل باتفاق الإجماع على اتحاد العلة فيها فقد احال الأمر على إبهام والمنصف لا يستريب في أن خوض النظار في مسألة الربا كخوضهم في غيرها من المسائل
ولما ثبت الخيار للمعتقة تحت الرقيق وكان ذلك مجمعا عليه والإجماع مستند إلى الحديث ثم اختلف العلماء في إثبات الخيار للمعتقة تحت الحر ومنشأ اختلافهم في ذلك من اختلافهم في تعليل الخيار في حق المعتقة تحت الرقيق فاعتل أبو حنيفة
رحمه الله بأنها ملكت نفسها وزعم أن ذلك يجري في حق المعتقة تحت الحر وأبطل الشافعي رحمه الله هذا التعليل واعتل بالضرار على ما يحرره أصحابه
وكذلك الإفتاء في كل مسألة يبحث الناظر عنها
791 - ونحن نقول بعد هذا التنبيه
تعليل الحكم الواحد بعلتين ليس ممتنعا عقلا وتسويغا ونظرا إلى المصالح الكلية ولكنه ممتنع شرعا واية ذلك أن إمكانه من طريق العقل في نهاية الظهور فلو كان هذا ثابتا شرعا لما كان يمتنع وقوعه على حكم النادر والنادر لا بد أن يقع على مرور الدهور فإذا لم يتفق وقوع هذه المسألة وإن لم يتشوف إلى طلبه طالب لاح كفلق الإصباح أن ذلك ممتنع شرعا وليس ممتنعا عقلا ولا بعيدا عن المصالح
وهذه نهاية لا تتعدى في هذا الفن
وإنما نشأ هذا الكلام كله من قولنا في السبر والتقسيم
792 - والان كما عاد بنا الكلام إليه
فإذا أبطل السابر أشياء نص عليها فأخرجها عن كونها عللا ولم يبق إلا واحد اتجه عند ذلك وجهان من الكلام
أحدهما تعين ما بقي للتعليل به
والثاني بطلانه أيضا والتحاق الحكم بما لا يعلل كما سنفصل ذلك إن شاء الله تعالى
وهذا التردد فيما بقي يدل على أن السبر المجرد إذا انتهى إلى معنى واحد ووقف
عنده لم يدل على تعينه للتعليل وإن كان ذلك المعنى غير مخيل فهو يبطل أيضا بكونه طردا فلينجر السبر عليه وليتخذ السابر هذا مسلكا في إبطال ما أبقاه وليحكم بأن الحكم غير معلل ولو استمكن الناظر من إبداء الإخالة في معنى من المعانى مع التزام السلامة لبطل التعليل بغيره من المعانى من غير أن يتجشم سبرا
793 - فإن قيل لو أبدى الخصم معنى اخر مخيلا قلنا هذا لا يكون أبدا وإن صح فيما أبداه أشعرنا بالاختلال للإخالة الأولى اذ لو فرض جريان الإخالة فيهما أدى إلى تعليل حكم بعلتين ولو كان ذلك سائغا لاتفق وقوعه
794 - ويبقى وراء هذا موقف اخر وهو تجويز تقابل مخيلين مع ترجيح أحدهما على الثاني وهذا من أدق مواقف النظر في الترجيح ولا ينبغي للإنسان أن يتعب نفسه في هذا التقدير فإن أرباب النظر وإن ذكروا في مسألة الربا طرق الترجيح فذلك شعبة من الكلام في المسألة ومعظم الاعتناء بإبطال كل فريق علة من يخالفهم ولكن إجراؤهم الترجيح يدل على اعتقادهم امتناع اجتماع العلل
795 - فقد نجز مرادنا من هذا الفصل وقد ابتدأناه ابتداء من يجوز اجتماع العلتين وأردنا أن نفيد الناظر بهذا المسلك كيفية النظر ووجوه ازورار الطرق حتى يقر الحق في نصابه ويتبين تقرير المختار عندنا والتنصيص على لبابه
فصل الطرد والعكس 796 - ومما ذكره الجدليون وتردد فيه القاضي الطرد والعكس فذهب كل من يعزي إليه الجدل إلى أنه أقوى ما يثبت به العلل
وذكر القاضي أبو الطيب الطيري أن هذا المسلك من أعلى المسالك المظنونة وكاد يدعى إفضاءه إلى القطع وإنما سميت هذا الشيخ لغشيانه مجلس القاضي مدة واعتلاقه أطرافا من كلامه ومن عداه حثالة وغثاء
797 - واستدل هؤلاء بأن الغرض الأقصى من النظر والمباحثة عن العلل غلبة الظن وهذا المقصود يظهر جدا فيما يطرد من غير انتقاض وينعكس وكأن الحكم يساوقه إذا وجد وينتفى إذا انتفى وإذا غلب على الظن تعليق الحكم المتفق عليه في الأصل المعتبر بمعنى فلم يبطل كونه علة بمسلك من المسالك فقد حصل الغرض من غلبة الظن وعدم الانقاض وينزل ذلك منزلة الإخالة السليمة لدى العرض على الأصول
وللقاضي صغو ظاهر إلى ذلك
ثم ظهور الدليل يرتبط بالطرد والعكس وهو في العكس أبين من جهة أن الطارد في محل النزاع مدع اطراده وهو منازع فيه لا محالة والدليل يستند ظهوره إلى الاتفاق على الانعكاس
798 - وهذا من غوامض الفصل فإن الانعكاس ليس شرطا في العلل السمعة عند جماهير الأصوليين والطرد شرط ثم الذي هو شرط الصحة وركنها ليس دليلا على الصحة والذي لا يشترط وهو الانعكاس ينتهض دليلا
799 - وذهب بعض الخائضين في هذا الشأن إلى أن الأمر بهما جميعا يتم فإن محل التمسك مساوقة الأمر الذي يقال إنه علة وذلك تقرر بثبوته إذا ثبت
وانتفائه اذا انتفى
800 - وقال القاضي في معظم أجوبته لا يجوز التعلق بالطرد والعكس في محاولة إثبات العلة فإن الطرد لا يعم في صور الخلاف على وفاق إذ لو كان يعم لما ثبت الخلاف في المحل الذي يدعى الطارد الطرد فيه والعكس ليس شرطا في العلة التي تجري دليلا وعلامة فقد صار الطرد واقعا في محل النزاع وبعد اعتبار العكس من جهة أنه غير معتبر كما سنذكره على أثر هذا الفصل ومن التزم نصب شيء علما لم يلتزم نصب نفيه علما في نفي مقصوده كما سيأتي الشرح عليه في مسلك العكس إن شاء الله تعالى
فالطرد إذا متنازع فيه والعكس ليس من مقتضيات نصب الإعلام والعلامات
وقال أيضا معتمدنا في قاعدة القياس تأصيلا وفيما يرد ويقبل تفصيلا ما يصح عندنا من أمر الصحابة رضي الله عنهم فما تحققنا ردهم إياه رددناه وما تحققنا به عملهم قبلناه وما لم يثبت لدينا فيه ثبت تعديناه فإنا على قطع نعلم أن جميع وجوه النظر ليست مقبولة ولا مردودة والعقول لا تحتكم فيها مصححة ولا مفسدة فإنها إنما تحكم على الأنفس وصفاتها وما هي عليه من حقائقها والعلل السمعية لا تدل لذواتها
فإذا ثبت هذا فقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم ينوطون الأحكام بالمصالح على تفصيل لها
فأما الطرد والعكس فلم يؤثر عنهم التعلق به وليس هو من معنى طلب المصالح في شيء حتى يقال استرسالهم في طريق الحكم بالمصالح من غير تخصيص شيء منها يقتضي التعلق بالطرد والعكس
801 - وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر عندي فإن الغاية القصوى في
مجال الظنون غلبتها متعلقة بقصد الشارع والمصالح التي تعلق بها صحب الرسول صلى الله عليه و سلم لم يصادفوا في أعيانهم تنصيصا من رسول الله صلى الله عليه و سلم وتخصيصا لها بالذكر ولو صادفوا ذلك لما كانوا متمسكين بالنظر والرأي فإن معاذا جر الأمة لم يذكر الرأي في القصة المشهورة إلا بعد فقدان كل ما يتعلق به من الكتاب والسنة ولا نراهم كانوا يرون التعلق بكل مصلحة فالوجه في تحسين الظن بهم أنهم كانوا يعلقون الأحكام بما يظنونه موافقا لقول الرسول عليه السلام في منهاج شرعه وكانوا يبغون ذلك في مسالكهم
ولا يكاد يخفى على ذي بصيرة أن الطرد والعكس يغلب على الظن انتصاب الجاري فيهما علما في وضع الشرع
فمن أنكر ذلك في طرق الظنون فقد عاند ومن ادعى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأبون التعلق بطريق يغلب على الظن مراد الشارع وكانوا يخصصون نظرهم بمغلب دون مغلب فقد ادعى بدعا
802 - فإن قال قائل لم ينقل ذلك في عينه فالسبب فيه أنهم كانوا ما أجروا ذكر أصل واستنباطا منه وإن كان ذلك هو الطريقة المثلى عند القايسين وما لا يستند إلى أصل فهو استدلال مختلف فيه ولكنهم ما اعتنوا إلا بذكر المعاني فاكتفوا بإطلاقها عن ذكر أصولها وما تكلفوا جمعا وإن كان الجمع معتبرا باتفاق النظار والمسائل لا تشهد بصورها ما لم تربط الفروع بها والذي تحصل منهم التوصل إلى ابتغاء غلبة الظن في بغية الشارع على اقصى أقصى الجهد
803 - وأنا أقول لو ثبت عندهم أو عرض عليهم انتفاء حكم عند انتفاء
علم وثبوته عند ثبوته لابتدروه ابتدارهم الأخبار لا طرق النظر فإن ما ثبت من ذلك يعزى إلى الشارع في النفي والإثبات وكانوا يحومون على إشارته وتنبيهاته كما يتعلقون يظاهر ألفاظه وصريح عباراته فليقطع المحصل قوله بما انتهى إليه الكلام من الاستمساك بالطرد والعكس
804 - وما ذكره القاضي من كون الطرد متنازعا فيه وكون العكس مستغنى عنه فمن التشدق والتفيهق الذي يستزل به من لا يعد من الراسخين
وسبيل الكلام عليه أن نقول
مجموعهما هل يغلب على الظن انتصاب ما اطرد وانعكس علما أم لا
فإن زعم أنه لا يغلب انتسب إلى العناد وإن سلم إفادته غلبة الظن وقد تقرر أن القايسين غايتهم أن يظنوا ظهور علم على حكم وهم يعترفون بأن الجهات التي تفضي إلى غلبة الظن ليست منحصرة ومن تأمل مجارى كلامهم لم يسترب في أمرين
أحدهما أن الأولين رضي الله عنهم ما كانوا يشيرون إلى أمور محصورة مضبوطة يتبعونها اتباع من يقتفي اثار نصوص وتوقيفات ولو كانوا على ضوابط وحدود يتخذونها مرجعهم لما كانوا ينظرون فيه رأيا وإنما كان رجوعا إلى ضبط الشارع وتوقيفه فهذا أحد الأمرين
والأمر الثاني أنهم كانوا لا يرون حمل الخلق على الاستصلاح بكل رأى وإنما كانوا يحومون على قواعد الشريعة ويستثيرون منها ما يظنونه
فيخرج من هذين الأمرين أن مبتغاهم كان أن يغلب على ظنهم مراد الشارع في علم يرتبط الحكم به
805 - فإن قيل إذا جعلتم الطرد والعكس مسلكا في إثبات علة الأصل فهل تشترطون العكس وما رأيكم فيه
قلنا نعقد في ذلك مسألة وبها حصول الغرض على التمام فيما سبق وفيما سئلنا عنه
مسألة في حكم اشتراط العكس في علة القياس
806 - ذهب بعض المنتمين إلى الأصول إلى أن الانعكاس لا بد منه في العلل وإن كانت مظنونة
وذهب الجماهير إلى أن الانعكاس ليس شرطا في العلل السمعية المظنونة
ونحن نورد ما لكل فريق ثم نوضح الحق والمقام الذي تشعبت منه الاراء
فأما من شرط العكس فقد يأتي بأمر لفظي لا حاصل له ويقول العلل وإن كانت مظنونة فينبعي أن تكون على مضاهاة العلل العقلية القطعية حتى لا يفترقا إلا في كون أحداهما مظنونة والأخرى مقطوعا بها ثم العلل العقلية يجب انعكاسها فلتكن السمعية كذلك
وهذا ساقط لا أصل له ولولا الوفاء بإيفاء ما ذكر في هذا المجموع وإلا كنا لا نذكر أمثال ذلك
فنقول لهؤلاء العلل العقلية لا حقيقة لها ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلة والمعلول ثم يقال لهم ما يسمى علة سمعية فهي أمارة في مسلك الظن وحقها أن تقابل بالأدلة العقلية ثم الأدلة العقلية إذا اقتضت في ثوبتها مدلولاتها لم يقتض انتفاؤها انتفاء مدلولاتها كالفعل إذا دل على الفاعل لم يدل عدمه على عدم الفاعل والإحكام إذا دل على علم المحكم له يدل التثبج على
الجهل وكذلك الأمارات في سبيل الظنون إذا دلت على ثبوت أمر لم يدل انتقاؤها على انتفائه
وهذا مما يستدل به من لم يشترط العكس
807 - وقد تعلق الجمهور بأن العكس لو كان شرطا لوجب ألا يقتل إلا قاتل من حيث كان القتل علة قتل القاتل ولا يقتل المرتد فإذا كان الحكم الثابت لعلة يطرد مع ارتفاعها لثبوت علة أخرى تخلفها عند ارتفاعها دل ذلك على أن الانعكاس ليس شرطا
فإن قيل امتنع الانعكاس لعلة فليقل الطارد وقد نقض عليه طرده إنما تركت حكم الطرد فيما التزمت لعلة فلما كان الطرد شرطا لم يكن بد من الاطراد فلو كان العكس شرطها لتعين ذلك أيضا وكذلك كل حكم يفرض تعلقه بعلل
ولمن يشترط العكس أن يقول القتل الواجب بالقتل يعدم بعدم القتل وإنما الواجب عند عدم القتل قتل اخر ولكن المحل يضيق عن القتلات ويفوت بإيقاع واحد منها به
والدليل على ذلك أنها مختلفة الأحكام على وجه لا يخفى مدرك اختلافه على الفقيه ويستحيل أن تختلف الأحكام في الشيء الواحد فإن ما يطرده هذا القائل في التحريم بالحيض والإحرام والعدة والردة ويزعم أنها أحكام فإذا زالت علة منها زال حكمها بزوالها وإنما الثابت حكم اخر وإن اتسم بسمة التحريم فدخول المختلفات تحت صفة واحدة عامة لا يوجب اتحادها
وإذا ألزم هؤلاء الأدلة العقلية قالوا مجيبين الفعل يدل على الفاعل وعدمه يشعر بانتفاء الفاعلية فإن الفاعلية هي وقوع الفعل على الحقيقة
وأما الإحكام فلا حقيقة له والمثبج في حال تثبيجه محكم على معنى وقوعه على حسب مراد الموقع وبسط القول في هذا لا يحتمله هذا الفن
وإذا خضنا في بيان المختار في ذلك عدنا إلى الأدلة العقلية عودة أخرى ان شاء الله تعالى
808 - ومما يتعلق به من لا يشترط العكس أن يقول انتفاء التحريم ورفع الحرج من الأحكام فإذا تعلق التحريم بعلم لم يجب أن ينتصب عدمه علما لحكم اخر ومن التزم نصب شيء علما لم يلزمه أن ينصب علما في نقيضه
وهذا وإن كان مخيلا فلا تحصيل له فإن الانعكاس معناه انتفاء الحكم وانتفاء الحكم ليس حكما وقد ذكرنا فيما قدمنا أن الحل في التحقيق إن كان بمعنى رفع الحرج فليس بحكم وإن كان المعنى به أنه مخبر عنه في معنى حكم الحل فهو في هذا الحكم ملحق بالشرع على معنى أنه لم يتصل بالعقلاء قبل ورود الشرع خبر من له الأمر وإلا فالحرج منتف قبل ورود الشرع وقياس التحريم أن يثبت التحريم ثم أصل انعكاسه انتفاء التحريم لا ثبوت حكم اخر مناقض للتحريم فقد وهت هذه الطريقة
809 - ومما تمسك بن بعض من نفى اشتراط الانعكاس ما قدمناه في أدراج الكلام من الأدلة العقلية فإنها إذا دلت بوجودها على مدلول لم يدل
عدمها على عدمه ولا يخطر لم يعد نفسه حبرا في الأصول تفص عن هذا فإن الدليل العقلي مشعر بالمدلول قطعا والأمارة الظنية مشعرة بالمظنون ظنا ولو لم يشعر الدليل القاطع بمدلوله لم يكن دليلا عليه ولا شك أن إشهار القاطع بمتعلقه فوق إشعار الأمارة بالمظنون فإذا قوى الإشعار في الطرد كان اقتضاؤه الانعكاس أظهر ومع ذلك لم ينعكس الدليل فالمظنون بذلك أولى
وهذا على وضوحه ساقط فلن يحيط بالانفصال عنه من لم يتلقف من حقائق النظر
810 - والقدر الذي يحتمله هذا الكتاب أن تعليق الدليل العقلي بمدلوله لا حقيقة له والعلوم كلها ضرورية والنظر تردد في أنحاء العلوم الضرورية والعلم المسمى ضروريا هو الذي يهجم العقل عليه من غير فكر والنظر الأول الذي يلي البديهي الهجمي هو الذي يحوج إلى أدنى فكر وتجريد تفكر العقل نحو المطلوب ثم ينبني على الدرجة الأولى ثانية وعلى الثانية ثالثة فالسوابق تلتحق بالضروريات الهجميات
811 - ولا بد من ضرب مثال يستعين به الناظر في هذه المسألة وفي نظائرها إذا انجر الكلام إلى الأدلة القطعية فنقول إذا تغير الجوهر فتغيره مدرك معلوم من غير مسيس الحاجة إلى فكر ثم يربط هذا الناظر فكره بأن هذا التغير جائز هو أم واجب فنعلم على القرب جوازه ولا ينتصب عليه شيء يتعلق بالجواز ولكن الطالب بفكره يدرك وهو ممثل بما يتأتى بناظر البصر بعض التأتي فإنه قد يحدق
نحو بصره قليلا ثم إذا أدركه التحق بالمدركات التي تقرب منه ثم إذا علم جوازه فكر في أنه يقع بنفسه أم يستند إلى مقتض فيترتب عليه غير بعيد ويعلم على اضطرار أن الجائز لا يقع من غير مقتض ويلتحق هذا بالمراتب الضرورية ثم يفكر في تعيين المقتضى إلى حيث ينتهي نظره
812 - ومثال ذلك في الهندسيات أن الأوليات المذكورة في المصادرات أمور تسليمية كقول القائل الكل أكثر من الجزء وكل شيئين يساوي كل واحد منهما ثالثا فهما متساويان ثم يبني الأشكال على أمثال هذه المقدمات وإذا أدركه كان العلم بها على نحو العلم بالمقدمات ولا معنى للدليل إلا بناء مطلوب على مقدم ضروري
وقد يحتاج الناظر الى قليل فكر وذلك يختلف باختلاف القرائح فقد يجرى الجواد جريانا لا نحس في أثنائه وقفاته إن كانت وقد يطول تردد البليد
ومما يطرق الخلل إلى النظر الحيد عن السنن المفضي إلى مقصده وبيانه بالمثال أن الذي يبغي مقتضيا إذا حاد عن طلب الجواز وأخذ يفكر في الطول والعرض وللون فهذا حائد لا ينتهي إلى مقصده
وقد يؤتى الناظر من نسيان المقدمات وإلا فالمشكل انقطاع مدركه كمدرك المقدمات في المقالة الأولى من كتاب الاستقصات
813 - فخرج من هذا التنبيه العظيم أن دليل العقل ليس شيئا متعلقا بمتعلق حتى يفرض فيه إشعار في الطرد ونقيض له في العكس
والأمارات الشرعية مصالح تقتضى أحكامها وهي على التحقيق متعلقة بها
فقد بان افتراق البابين
والمطلوب بعد من حقيقة المسألة بين أيدينا
وقد قالوا إذا كانت العلامات الشرعية لا تقتضي أحكامها لأعيانها وإنا وجه اقتضائها لها نصب الشارع إياها وإن صح في ذلك نقل فهي علل منقولة وإن لم يثبت نقل وظنها المستنبط كان نصب الشارع إياها مظنونا فهي إذا كيف فرضت منصوبة تحقيقا أو ظنا
ومن قال لمن يخاطبه إذا أومأت إليك فاعلم أني أريد منك أن تقوم فعدم الإيماء لا يدل على عدم إرادة القيام فقد يريد منه القيام بعلامة أخرى وقد ينصب على الشيء الواحد أعلاما
وهذا على التحقيق حكم العلل الشرعية وهذا هو التدليس الأخير
وإذا نحن أوضحنا مسلك الحق فيه استفتحنا بعده تمام الكشف عن غاية البيان واختتمنا المسألة على وضوح لا مراء بعده
814 - فنقول هذا القبيل الذي ذكره السائل من فن مالا يخيل ولا يناسب المستدعي فإن الإشارة لا تختص باقتضاء القيام لا عن علم ولا عن غلبة ظن وهي بالإضافةإلى القيام كهى بالإضافة إلى القعود فليفهم الناظر ذلك أولا وليتفطن له
815 - ثم نقول بعد هذه الصفات إذا نصبت أعلاما فإنها في غالب الأمر تذكر في مساق شرط أو على قضية تعليل فإن ذكرت على مساق لشرط فقد قررت في مسألة المفهوم أن انتفاء الشرط يتضمن انتفاء المشروط ومن خالف في القول بالمفهوم لم يخالف في الشرط واقتضائه نفى المشروط عند انتفاء الشرط
فإذا لا نسلم أن ما يجري من هذه الصفات في مساق الشرط لا يقتضي انتفاء عند فرض الانتفاء وإن لم يجر صيغة الشرط في عينها وجرى في معناها فالأمر يجري هذا المجرى فهو بمثابة أن تقول إذا أومأت إليك فقم فإذا وإن لم تكن من أدوات الشرط فمعناه الشرط مع اقتضاء التأقيت على ما سبق الرمز إليه في معانى الحروف
وإن جرت على صيغة التعليل فالتعليل أبلغ في اقتضاء النفى عند فرض انتفاء العلة وهذا مما سبق القول فيه أيضا في المفهوم فما ادعاه السائل من أن نصب الأعلام لا يقتضى انتفاء الأحكام عند انتفائها ساقط لا أصل له وهو إذا تأمله المتأمل مردود إلى القول بالمفهوم في الشرط والعلة
فهذا صدر الكلام في ذلك
816 - ولكنا مع ذلك لا نبعد أن تعلق المتعلق مشروط بأفراد شرائط بحيث يستقل ذلك المشروط بكل واحد منها مثل أن يقول أن أتيتني أو كاتبتني أو ذكرتني بخير على ظهر الغيب أكرمتك فالإكرام متعلق بكل شرط من هذه الشراط من غير أن يشترط اجتماعها وإذا كان التعلق على هذا الوجه لم يبعد أن ينتفي الإتيان ويثبت الإكرام لمكان المكاتبة أو لشرط اخر يفرض
817 - فإذا لاح هذا انعطفنا على الغرض وبحنا بالمقصود وقلنا سيأتي في تفصيل الاعتراضات الصحيحة أن النقض مفسد للعلة في بعض الصور قطعا وفي بعضها
بضرب من الاجتهاد وطرق القطع منحسمة ولكن النقض على حال ممثل بالخلف في الوفاء بالمشروط عند ثبوت الشرط
فإذا قال قائل إن جئتني أكرمتك فإذا جاءه ولم يكرمه كان ذلك في حكم الخلف ولو جرى إكرامه من غير مجيء كان هذا مخالفا لحكم الشرط من طريق التضمن ولم يكن معدودا خلفا صريحا فيفارق الطرد العكس مثل ما يفارق الخلف الوفاء بالمشروط عند وجود الشرط في إثبات مجىء المشروط دون الشرط
وإذا قال القائل إن جئتني أكرمتك وإن لم تجئني أكرمتك فالذي جاء به وإن كان على صيغة الشرط فهو خارج عن باب الشرط باتفاق أهل اللسان والتقدير أكرمك إن جئتني أو لم تجئني
818 - ونحن الآن نقول من حكم كل ما يثبت علة أن ينعكس وأن يكون لوجوده على عدمه مزية ولو لم يكن كذلك لما كان لكون الشىء علة معنى ثم إذا كان الشىء مخيلا وثبت كونه علة شرعا فجهة اقتضاءه النفى عند انتفائه من جهة تأثير الإخالة وإن لم يكن مخيلا وثبت كونه علة شرطا فجهة اقتضائه النفى عن انتفائه كونه شرطا كما تقرر في قاعدة المفهوم
ومع هذا كله لا يمتنع أن تنتفى العلة ويثبت الحكم بعلة أخرى
وكذلك القول في الشرط من حيث أنه يجوز ربط مشروط بآحاد شرائط فإن لم يصح تعليل الحكم الواحد بعلل فيتعين العكس في كل علة
ولكنه لو امتنع العكس لخبر أو إجماع فهذا الان يستدعي
مقدمة في النقض مقدمة في النقض
819 - فلو اطردت العلة على صور المعاني وتلقتها صورة تخالف حكمها في مقتضى الطرد وكان حكمها غير معلل ففي بطلان العلة بذلك كلام سيأتي مشروحا
820 - فعدم الانعكاس لخبر أو إجماع موضع الخلاف فمن رأى ما قدمته نقضا اضطربوا في مثل هذه الصورة في العكس
فذهب الأكثرون إلى أنه غير ضائر فإن الانعكاس ضمن العلة كالمفهوم والنقض في حكم الوارد على نص الكلام
وصار صائرون إلى أنا نتبين بتقاعد العلة عن مقتضاها بطلانها في طردها فهذا موضع الخلاف في المسألة
821 - والمختار إذا انتهى الكلام إلى هذا المجر أن هذا غير مبطل للعلة ولكن ينشأ من هذا الموضع فصل جدلي ممتزج بأمر ديني فنقول
أولا دينا حق على كل مجتهد ان يفتى بعكس العلة إذا لم يمنع من ذلك مانع ولم يحجز حاجز فإن اقتضى الانعكاس جهة في الاجتهاد فلا يجوز تعطيله ولكن إذا طولب في النظر فالوجه ألا يلتزم ما لأجله ترك العكس فإنه إذا ثبت جوازه ترك العكس بسب
والكلام في محل العكس خارج عن محل الخلاف فمطالبة المعلل بإبداء العذر في
ترك الانعكاس خروج عن المسألة إذ محل الطرد هو المعنى
وسر المسألة قصر الكلام على المقصود وحصره في أوجز الطرق حتى تجدى وتثمر على قرب وكثب
وكمال البيان فيه إن من طرد علة فانتقضت علته ولاح الفرق بين صورة النقض ومحل التعليل فالعلة باطلة قطعا فإن ما انتهض فرقا صيغة في التعليل أخل المعلل بذكره فكأنه ذكر بعض العلة ولو تقاعدت العلة عن العكس وظهرت علة تقتضي امتناع العكس لم ينقدح ذلك في العلة بل كان ذلك عذرا عاما في عدم الانعكاس
وقد نجز غرضنا من الكلام في الانعكاس الان
822 - وإنما أجرينا ذكر هذا الطرف وإن كان لائقا بباب الاعتراضات لاتصاله بالقول بالعلتين وبه تم إيضاح الغرض من هذا الفن
وتقرر أنا لم نلف حكما متفقا عليه مرتبطا بعلتين مع تحقيق الاتحاد في الحكم
وإذا كان كذلك فالحكم الثابت مع انتفاء العلة إن لم يستند إلى نص أو إجماع فهو مساو للحكم الأول في الاسم ومخالف له في المأخذ والحقيقة وهو كتعليلنا تحريم المحرمة بإحرامها ثم إذا حلت وكانت حائضا فهي محرمة وإن زال الإحرام ولكن تحريم الحيض مخالف لتحريم الإحرام في وصفه وكيفيته وكذلك إذا علل المعلل إباحة الدم بالقتل الموجب للقصاص ثم لم تنعكس العلة لمكان الردة أو غيرها من مقتضيات القتل فليس هذا من عدم الانعكاس فإن القتل الواجب بالقتل ينتفى بانتفاء القتل
823 - فإن قيل قد أنكرتم وجدان حكم معلل بعلتين فما قولكم في الولاية المطردة على الطفل والمجنون وهي قضية واحدة معللة بالجنون والصبا
قلنا الولاية الثابته على المجنون ضرورية إذ لا يتوقع من المجنون تصرف وفهم ونظم عبارة والولاية على الصبي المميز لمكان الغبطة وطلب الأصلح فإن الصبي يعقل ما يقول ويفعل ومن كان انسا بتفاصيل الولايات لم يعدم فرقا بين الولاية على المجنون والولاية على الصبي المميز فإن فرض صبي غير مميز فهو المجنون بعينه ولا أثر للصبا ولا يقع به تعليل فإن الولاية الحقيقية بالصبا هي ولاية الاستصلاح
824 - وقد تناهى الشافعي في الغوص على ما ذكرناه حتى لا يرى توريث ذي قرابتين بالقرابتين جميعا إذا كانت إحداهما أقرب من الأخرى وقال القرب الأقرب يعدم أثر القرب الأبعد حتى كأنه ليس قريبا وكذلك الصبا مع سقوط التمييز ليس معتدا به
وهذا اخر القول في تأصيل قياس المعنى وما تثبت به علل الأصول
وقد حان الان أن نحوم على قياس الشبه
فصل القول في قياس الشبه
825 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به تصوير قياس الشبه وتمييزه عن قياس المعنى والطرد و لا يتحرر في ذلك عبارة خدبة مستمرة في صناعة الحدود ولكنا لا نألوا جهدا في الكشف
فقياس المعنى مستندة معنى مناسب للحكم مخيل مشعر به كما تقدم
والشبه لا يناسب الحكم مناسبة الإخالة
وهو متميز عن الطرد فإن الطرد تحكم محض لا يعضده معنى ولا شبه
826 - وإنما يتضح القول في ذلك بالأمثلة ثم بالحجاج
فإذا قلنا طهارة عن حدث أو طهارة حكمية فافتقرت إلى النية كالتيمم لم يكن قولنا طهارة عن حدث مقتضية من طريق الإخالة للنية ولكن فيه شبه مقرب لإحدى الطهارتين من الأخرى وقد عبر الشافعي عن تقريب إحداهما من الأخرى فقال طهارتان فكيف تفترقان
وكذلك إذا قلنا غسل حكمى فلا يتعدى الظاهر إلى داخل الفم كغسل الميت فهو تشبيه مقرب وليس بمثابة الطرد الذي لا يخيل ولا يثير شبها مغلبا على الظن
827 - ثم الشبه ينقسم إلى تشبيه حكمى وإلى تشبيه حسى
فالحكمى ما ذكرناه والحسى كقول أحمد أحد الجلوسين في الصلاة فكان واجبا كالجلوس الأخير
وكقول أبي حنيفة تشهد فلا يجب كالتشهد الأول
وفي الشرع تعبد بالنظر إلى الأشباه الحسية الخلقية كالقول في جزاء الصيد
والقيافة مبناها على النظر إلى الأشباه الجلية والشمائل الخفية
828 - ولا ينتهي هذا المقدار إلى تمام البيان في تصوير قياس الشبه ونحن نزيد فنقول
إلحاق الشيء بالمنصوص عليه لكونه في معناه متقبل مقطوع به وإن لم يكن الحكم
المنصوص عليه معللا أو كان معللا ولم يطلع الناظر بعد على ذلك من حاله وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا
فما قرب من المنصوص عليه جدا بحيث يحصل العلم بالتحاقه فهو في الرتبة العليا وما بعد قليلا وعارض العلم نقيضه من ظن أو شك فهذا مما يغلب على الظن الالتحاق به من غير معنى وهو الشبه
ثم تعليلات الظنون في درجات المظنون على مراتب فإذا تناهى البعد وثار بحيث لا يلوح مقتضى ظن ولا موجب علم فهو الطرد المردود
829 - والشبه ذو طرفين
أدناه قياس في معنى الأصل مقطوع به
وأبعده لا يستند إلى علم ولا ظن
وكل طارد ذاكر شبها حسيا أو حكميا لا يخيل ولا يغلب على الظن
ومن أصدق ما تميز به الطرد عن الشبه أن تعليق الحكم بما يعد طردا يضاهى في مسلك الظن تعليق نقيضه به فلا يترجح أحدهما على الثاني إلا من جهة اطراد أحدهما فيما يبغيه الطارد ويدعيه والشبه يتميز عن هذا
ونحن نبين ذلك بمثال يحوي المقطوع به في الرتبة العليا والشبه الذي نحن في محاولة تصويره والطرد الذي نرده
قلو ثبت مثلا كون النية شرطا في التيمم لكان الوضوء في معناه قطعا وإلحاق الوضوء بالتيمم تشبيه ولا يليق بقول القائل طهارة حكمية نفى النية فانماز الشبه المقبول به عن نقيضه
وإذا قال الحنفى طهارة بالماء فأشبهت إزالة النجاسة كان ذلك طردا
ولو قيل طهارة بالماء فافتقرت إلى النية لم يكن في هذا بعد يناقض نفى النية حتى يقال نفي النية أليق اللفظ من إثباتها
وإن انتصروا لذلك فغايتهم أن يقولوا ما ذكرناه شبه خلقي وقد هذى بعض المتأخرين فقال الماء طهور بجوهره
وغرضنا التنبيه على المنازل فإن استقام للخصم وجه من الشبه فالأصولي لا يعرج على مذاهب أصحاب الفروع ثم نزيد الكلام إن ناضل الخصم بشبيه إلى الترجيح وسننبه على مسلكه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى
830 - ومما ذكره القاضي في تمثيل تعارض الأشباه القول في أن العبد المملوك هل يملك
فمن زعم أنه يملك شبهه في إمكان صدور التصرف منه بالحر واعتضد بأنه عاقل في جنسه يتأتى منه السياسة والإيالة والضبط والقيام على المملوكات وإنما يملك من يملك لذلك وللعبد فيه شبه بالحر وهذا يعتضد بتصوير ملك النكاح له
ومن أبى تصوير الملك له تعلق بأنه على شبه المملوكات في استحالة الاستقلال وفي نفوذ تصرف المالك فيه على حسب تقدير النفوذ في المملوكات جمع فشابه المملوك الذي يقام عليه ولا يقوم بنفسه
831 - وهذا الذي ذكره ليس من قياس الشبه عندي فإن كل متعلق في المسألة في شقى النفى والإثبات منخرط في سلك المعنى المخيل المناسب ثم الإخالات على رتب ودرجات فمنها الخفى ومنها الجلى ومنها المتوسط بين الخفاء والجلاء
ولعلنا أن نأتي في ضبك مداركها بأقصى الإمكان إن شاء الله تعالى
832 - ومما أجراه القاضي في ضبط تصوير الشبه أن قال قياس المعنى هو الذي يستند إلى معنى يناسب الحكم المطلوب بنفسه من غير واسطة وقياس الشبه هو الذي يستند إلى معنى و ذلك المعنى لا يناسب الحكم المطلوب بنفسه ولكن ذلك المعنى يغلب على الظن أن الأصل والفرع لما اشتركا فيه فهما مشتركان في المعنى المناسب وإن لم يطلع عليه القايس
833 - وهذا الذي ذكرناه على حسنه لا يضبط قياس الشبه فإنا نجري قياس الشبه حيث لا يعقل معناه فيه تقريبا له من الذي يقال فيه إنه في معنى الأصل فإذا كان القياس الشبهي يجري حيث لا معنى فلا توجه لضبطه بالإشعار بالمعنى المناسب
وقد ينقدح في محل إمكان المعنى فيما ذكره القاضي فضل نظر فإن دركه إذا كان ممكنا للمجتهد لم يجز له الاجتزاء بالشبه بل عليه أن يبحث عما لا يشعر به الشبه من المعنى فإذا لاح للناظر الشبه المشعر بالاجتماع في المعنى كان ذلك في حكم السابقة المقتضية تتمة النظر
وسنعود إلى تفصيل ذلك بكلام يشفى الغليل ونأتي على كل تفصيل إن شاء الله تعالى وإنما نحن الان في تصوير الشبه ثم الكلام يقع وراء ذلك في الرد والقبول وإثبات الحق
فصل
834 - ومما أرى تقديم رسمه ربط الأحكام بالأحكام وهو كثير الجريان والجولان في أساليب الظنون كقول القائل من نفذ طلاقه نفذ ظهاره إلى ما ضاهى ذلك
وهذا ينقسم إلى ما يشعر بالمعنى المخيل المناسب إشعارا بينا وإلى ما يستعمل شبها محضا
فالمشعر بالمعنى كما ضربناه من المثال استدلالا على نفوذ الظهار بنفوذ الطلاق فإنه يجمعهما اقتضاء كل واحد منهما تحريم البضع مع كون الزوج مالكا للبضع متمكنا من التصرف فيه والتحريم على وجه ينفرد باستدراكه أو على وجه مبين يستدعي رفعه عقدا مجددا والظهار محرم كالطلاق فربط أحدهما بالاخر يلوح منه المعنى الجامع بينهما
835 - وهذا القسم سماه بعض المتأخرين قياس الدلالة من حيث إنه يتضمن شبها دالا على المعنى
وهؤلاء قسموا الأقيسة
إلى قياس المعنى وهو الذي يرتبط الحكم فيه بمعنى مناسب للحكم مخيل مشعر به
وإلى قياس الدلالة وهو الذي يشتمل على ما لا يناسب بنفسه ولكنه يدل على معنى جامع
وإلى قياس الشبه المحض وهو الذي لا يشعر بمعنى مناسب أصلا ولا يكون في نفسه مناسبا
ثم اختيار النظار قياس الدلالة لإعرابه عن المقصود على القرب فإن المعنى لو أبداه المعلل ونوزع فيه وفي مناسبته وطريق اعتباره وإشعاره لقال التحريم إلى الزوج والله المحرم كتحريم الطلاق بالإضافة إلى الطلاق فإذا كان عقبى الكلام يستدعي الاستشهاد بالطلاق فذكر الطلاق أول مرة على الابتداء يتضمن المعنى ويصرح بالاستدلال عليه
836 - فأما الحكم الذي هو شبه محض فهو كقول القائل قربة ينقضها الحدث فيشترط فيها الموالاة قياسا للطهارة على الصلاة فانتقاض القربة بالحدث حكم وربط الموالاة بالحدث من طريق الشبه فليس في بطلانها بهذا الحكم ما يشعر باشتراط المتابعة على التحقيق
837 - وقد يقرب من هذا القسم تشبيه الوضوء بالتيمم وتشبيه غسل الجنابة بغسل الميت
ومما يلتحق بهذا القسم تصوير الشبه اعتبارنا التكبير في حكم التعيين وامتناع قيام غيره مقامه بالركوع الذي لا تقوم هيئة من الهيئات مقامه وإن تضمن خشوعا واستكانة تامة
838 - والقاضي أحيانا يقول ليس هذا بقياس فإن تعيين التكبير متناه على انحسام مسلك القياس وتحرير القياس في منع القياس مناقضة والتباس
ولكن صاحب هذا المذهب يقرر ابتناء الصلاة على الاتباع ويوضح بعدها
عن المعاني
ونضرب في ذلك الأمثال للإيضاح لا للقياس
وهذا يضاهي من سبل المعقولات المخاوضة في الضروريات فإن الاستدلال فيها محال ولكن المتمسك بدعوى الضرورة قد يبسط المقال ويضرب فيه الأمثال ويبغي بإيرادها اجتزاء مخالفة خصمه وارعواءه عن جحده وعناده
وأحيانا يقول هذا قياس الشبه فيما لا يعقل معناه والجوابان متقاربان لا يظهر بينهما اختلاف المعنى
839 - ومن تمام القول في تصوير ما نحن فيه أن المعنى الذي ادعاه المعلل علة وعلما لم يظهر كونه مخيلا وإنما أثبت المتمسك به انتصابه علما من جهة الطرد والعكس ورأيت ذلك مسلكا في انتصاب المعنى علة فهذا في أصح أجوبة القاضي يلتحق بالشبه فإن المعنى هو المناسب وما يغلب على الظن انتصابه من غير إخالة فمسلكه الشبه
فهذا بيان صورة قياس الشبه وما يلتحق به وهذا منتهى غرضنا من هذا التصدير في محاولة التصوير
وقد حان أن ننقل المذاهب في رد قياس الشبه وقبوله ونوضح الحق عندنا
مسألة
840 - قال القاضي في كثير من مصنفاته قياس الشبه باطل وإلى هذا صغوه الأظهر وتابعه طوائف من الأصوليين
وذهب معظم الفقهاء إلى قبول قياس الشبه والقول به
فأما من رده فمتعلقه أن الشبه ليس مناسبا للحكم ولا مشعرا به فشابه الطرد فإن الطرد إنما رد من جهة أنه لا يناسب الحكم
وإن زعم القائل بالشبه أنه مناسب فليس من شرط الأصولي أن يتكلم في تفاصيل الفقه ولكنه يقول إن كان مناسبا على شرط الفقهاء فهو قياس المعنى ونحن لا ننكره وإنما ننكر قسما سميتموه الشبه وزعمتم أنه زائد على المعنى المخيل المناسب
فهذا لباب كلام القاضي حيث يرد قياس الشبه وسنرد عليه في خاتمة الكلام
841 - وإنما أخرنا ذلك لأن الغرض لا يلوح دون ذكر معتصم القائلين بقياس الشبه وقد أكثر الفقهاء وما أتوا بكلام يفلح المتمسك به
والذي نرتضيه متعلقا في الشبه أمران
أحدهما أن نقول قد أوضحنا في مواضع أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وعن قضية تكليفية وسنكشف الغطاء فيه في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
وإذا تمهد ذلك قلنا من مارس مسائل الفقه وترقى عن رتبة الشادين فيها ونظر في مسالك الاعتبار تبين أن المعنى المخيل لا يعم وجوده المسائل بل لو قيل لا يطرد على الإخالة المشعرة عشر المسائل لم يكن مجازفا وهذه الطريقة إنما يدريها من توغل في مسائل الفقه فأمعن النظر فيها وهذا واضح جدا بالغ الموقع
وعضد القاضي في التقريب هذه الطريقة بمناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفرائض سيما مسائل الجد
وفي هذا نظر فإنها معان بيد أنها تكاد تتعارض وإنما تعب المجتهدون فيها بالترجيح فهذا مسلك مقنع جدا
842 - والمسلك الثاني أن الغرض من قياس المعنى غلبات الظنون وكل مسلك في قبيله وجنسه ما ستعقب العلم عند قرب النظر فإذا بعد وأثار ظنا كان متقبلا في المظنونات وقد ذكرنا أن إلحاق الشيء على قرب بالمنصوص عليه وهذا الذي يسمى القياس في معنى الأصل معلوم مقطوع به والشبه على فنه ومنهاجه غير أنه لا يتضمن علما ويتقضي ظنا وهذا كأقيسة المعاني فإن الشارع لو نص على تعليل الحكم بعلة على وجه لا يتطرق إلى تنصيصه تأويل فهذا في فنه مقطوع به
وإن لم يفرض نص ولا إجماع ولاح في الحكم المنصوص عليه معنى مناسب فهذا مظنون الالتحاق بما فرضناه معلوما في هذا الطريق فيترتب مسلك الظن في قياس المعنى على النص على المعنى ترتب الشبه على الذي يقال إنه في معنى الأصل
ومستند كل فريق في البابين أصل لو ثبت كان مقتضيا علما وليس هذا الذي ذكرناه قياسا في إثبات نوع من القياس فإن هذا ليس بالمرضى عند من يحيط بمأخذ الأصول ولكنا رسمنا القسمين معلوما ومظنونا
843 - ونحن نقول وراء ذلك إنا لا يمكننا أن ننص على مسلك معين أو مسالك وندعى أن نظر الصحابة ومن بعدهم كان منحصرا فيه والذي يسمى المعنى ليس يقتضي الحكم لعينه وليس كل مخيل عله في الحكم
والقدر الذي ثبت أنهم كانوا يلحقون ما لا ذكر له في المنصوصات
بالمنصوصات إذا غلب على ظنهم أنه يضاحيها بشبه أو بمعنى
وليس من يدعى حصر النظر في المعاني بأسعد حالا ممن يدعى حصر المعاني في الأشباه
واستتمام الكلام فيه بما ذكرناه مقدما حيث قلنا النظر في الشبه يوقع في مستقر العادة غلبة الظن كما أن النظر في المعنى يوجب ذلك
ومن أنكر وقوع الظن كان جاحدا للعلم على قطع فإن العلم بوقوع الظن مقطوع به وإذا انتظم ظن في إلحاق الشيء بأصل الشرع ولم يدرأه دارىء وألفى قبيله إذا ظهر مقتضيا علما فليس بعد هذا التقرير كلام مع ما تقدم من أن الرجوع إلى المجمعين حتم ولم يثبت في ماخذهم ضبط
844 - فإن قيل لسنا نسلم إفضاء الشبه إلى غلبة الظنون
قلنا هذا الان عناد منكم ونكد فإن من أنكر وقوع الظن بكون الوضوء كالتيمم وكل واحد منهما معنى يراد معين للصلاة والحدث استباحة أو رفعا فقد راغم
وإذا قيل له قياس المعنى لا يفيد ظنا لم يرجع في تحقيق ذلك إلا إلى مثل ما ذكرناه والسر فيه أن جحد الظن في هذه المسالك مراغمة للعلم بالظن
845 - وما ذكره القاضي في تقسيم القول بأن الشبه مناسب للحكم أو غير مناسب فهذا أوان الجواب عنه
فنقول الشبه مع ما ادعيت من انقطاع المناسبة أيغلب على الظن أم لا فإن أبى
حصول غلبة الظن فقدره أجل وأعلى من هذا وإن اعترف به راجعناه في المعنى الذي تحصل غلبة الظن لأجله ولا مناسبة
وعندي أن الأشباه المغلبة على الظن وإن كانت لا تناسب الأحكام فهي تناسب اقتضاء تشابه الفرع والأصل في الحكم فهذا هو السر الأعظم في الباب فكأن المعنى مناسب للحكم من غير فرض ذكر أصل نظرا إلى المصالح الكلية والأصل يعني لانحصار المصلحة في أصول الشريعة فإن كل مصلحة لا تنتهض علة والشبه لو جرد لا يقتضي الحكم كما لو لم يفرض إلا الوضوء لم يكن في قول القائل طهارة حكمية أو عن حدث اقتضاء النية لا علما ولا ظنا وإذا ثبت التيمم فذكر الحدث يناسب مشابهة الوضوء للتيمم والشبه من ضرروته مشبه ومشبه به والمعنى مستقل إذا ناسب اقتضاء الحكم لو ثبت الاستدلال والقول به
846 - وهذا منتهى القول في الشبه تصويرا واحتجاجا واختيارا
وقد اشتمل ما ذكرناه على تقسيم الأقيسة المظنونة
ونحن نذكر بعد ذلك فصلا مما جمعه الأصحاب في تقاسيم الأقيسة ونطرد ما قالوه ونسوقه على وجهه ثم نذكر ترتيبا حسنا ينبه الناظر على جميع قواعد القياس ثم نذكر ما يعلل وما لا يعلل ثم نذكر طريق الاعتراضات الصحيحة منها والفاسدة ثم نذكر قولا بالغا في الاستدلال ثم نختتم الكتاب بالمركب وما فيه وينتجز به القياس إن شاء الله تعالى
فصل في مراتب الأقيسة 847 - يحوي ما يعد منها وفاقا وما يختلف في عده منها ويتضمن بيان ترتيبها في الجلاء والخفاء
ونحن نذكر أجمع طريقة الأصحاب وأحواها ثم نذكر ما عندنا في معناها ومغزاها
قالوا أولها إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من طريق الفحوى والتنبيه المعلوم كإلحاق الضرب وأنواع التعنيف بالنهي عن التأفيف فهذا في الدرجة العليا من الوضوح
وقد صار معظم الأصوليين إلى أن هذا ليس معدودا من أقسام الأقيسة بل هو متلقى من مضمون اللفظ والمستفاد من تنبيه اللفظ وفحواه كالمستفاد من صيغته ومبناه ومن سمى ذلك قياسا فمتعلقة أنه ليس مصرحا به والأمر في ذلك قريب
848 - والقسم الثاني ما نص الشارع على تعليله على وجه لا يتطرق التفصيل والتأويل إليه أصلا وقد ثبت لفظ الشارع قطعا فإذا ثبت الحكم واستند إلى النص القاطع في تعليله فمن ألحق بالعلة المنصوصة المسكوت عنه بالمنطوق به كان قياسا
قال الأستاذ أبو بكر هذا ليس بقياس وإنما هو استمساك بنص لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن لفظ التعليل إذا لم يقبل طرق التأويل عم في كل ما تجرى العلة فيه وكان المتعلق به مستدلا بلفظ ناص في العموم
849 - القسم الثالث إلحاقك الشيء المنصوص عليه لكونه في معناه وإن لم تستنبط علة لمورد النص وهو كإلحاقك الأمة بالعبد في قوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم عليه
وهذا القسم مما اختلف في تسميته قياسا أيضا كما تقدم ذكره
850 - والقسم الرابع قياس المعنى وهو أن يثبت حكم في أصل فيستنبط له المستنبط معنى ويثبته بمسلك من المسالك التي قدمناها و لم يصادفه غير مناقض للأصول فيلحق كل مسكوت عنه وجد فيه ذلك المعنى بالمنصوص عليه وقد تقدم استقصاء القول فيما يثبت به علل الأصول
وشرط هذا القسم أن يكون المعنى مناسبا للحكم مخيلا مشعرا به على ما تقدم
وهذا القسم هو الباب الأعظم في أقيسة الشرع وفيه نزاع القايسين وتعارض أقوالهم
851 - والقسم الخامس قياس الشبه ونحن على قرب عهد بوصفه
852 - وألحق ملحقون قياس الدلالة بهذه الأقسام واعتقدوه قسما سادسا
ولا معنى لعده قسما على حياله وجزءا على استقلاله فإنه يقع تارة منبئا عن معنى وتارة شبها وهو في طوريه لا يخرج عن قياس المعنى أو الشبه
فهذه تقاسيم كلية ذكرها من حاول ترتيب الأقيسة
853 - والرأي عندنا أن نجري الترتيب على خلاف ذلك فنقول
مطلوب الناظر ينقسم إلى معلوم ومظنون
فأما المعلوم فلا معنى لذكر الترتيب فيه فإن العلوم لا تتفاوت عند وقوعها
فإن فرض تفاوت في القرب وبعد المأخذ وطول النظر فهو من مقدمات العلوم وإلا فلا يتصور علم أبين من علم
854 - والأقسام الثلاثة المقدمة من المعلومات ومن أنكرها كان جاحدا وقد استجرأ على جحد بعضها أقوام يعرفون بأصحاب الظاهر ثم إنهم تحزبوا أحزابا وتفرقوا فرقا فغلا بعضهم وتناهى في الانحصار على الألفاظ وانتهى به الكلام إلى أن قال من بال في إناء وصبه في ماء لم يدخل تحت نهى الرسول عليه السلام إذ قال لا يبولن أحدكم في الماء الدائم
وهذا عند ذوي التحقيق جحد الضرورات ولا يستحق منتحله المناظرة كالعناد في بدائه العقول
ومما يحكى في هذا الباب ما جرى لابن سريج مع أبي بكر بن داود قال له ابن سريج أنت تلتزم الظاهر وقد قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين
فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة
فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وظهر خزيه
وبالجملة لا ينكر هذا إلا أخرق ومعاند
855 - وأما المظنون فينقسم إلى قياس المعنى والشبه ثم قد يتردد بين القسمين ما يلتحق تارة بالمعنى وتارة بالشبه على ما نفصله
856 - وأما قياس المعنى فهو الذي يناسب كما سبق وصفه ثم هذا القسم في نفسه يترتب رتبا لا تقبل الضبط فمنها الجلي ومنها الخفى ثم الجلاء والخفاء
فيها من ألفاظ النسبة فكل محتوش بطرفين جلي بالإضافة إلى ما دونه خفى بالإضافة إلى ما فوقه
والسر في ذلك يتبين بفرض تعارض معنيين لو قدر انفراد كل واحد منهما بالإضافة مستقلا لاقتضى حكما لاستجماعه عند استقلاله شرائط الصحة فإذا عارضه معنى مقتضاه نقيض مقتضاه كمعنيين يتعارضان في التحليل والتحريم فسيأتي سبيل النظر فيهما
ويئول الكلام إلى حالتين إحداهما أن يرجح أحد المعيين على الثاني بوجه من وجوه الترجيح على ما سنشرح الترجيحات في كتابها
857 - وتقاسيمها يضبطها في غرضنا شيئان
أحدهما أن يكون أصل المعنى في وصفه أوضح وأبين والاخر أبعد فهذا ترجيح من نفس المعنى
والثاني أن يعضد أحد المعنيين بما يؤيده ويعضده على ما سيأتي
فإن اختص أحد المعنيين بالظهور في أسلوب النظر واحتاج مبدى المعنى الاخر إلى تكلف في إبدائه فيقال فيهما إن أحدهما أجلى من الثاني
وهذا ممثل بالعقليات المفضيات إلى القطع فالذي يقرب من العلم البديهي إذا قيس بما يبعد عنه بعض البعد كان أجلى فهذان يضربان مثلين للجلى من المظنونان والخفي منها
فما قرب من الأصول القطعية فهو الجلي بالإضافة إلى ما بعد من العلم فلتكن العلوم السمعية مستند الخفاء والجلاء
والإنسان يعلم ثم يتجاوز محل العلم قليلا فيظن ظنا غالبا ثم يزداد بعدا فيزداد الظن ضعفا
فهذا وجه التفاوت في الظنون
وهو فيه إذا كان ظهور الترجيح من ظهور المعنى في نفسه ولو كان الترجيح في الاعتضاد فالمعنيان في أنفسهما متقاربان فأسباب العضد في أحدهما إذا رجحته على معارضه أثبت له رتبة الجلاء بالإضافة إليه ورجع حاصل القول إلى أن الجلاء والخفاء راجعان إلى الترجيحات والترجيحات يحصرها القرب من المعلوم والاعتضاد بالمؤيدات ثم لا يتأتى في ذلك ترتيب وحصر حتى يحصره بعد أو حد وإن كانت في الحقيقة مضبوطة معدودة
فهذا قولنا في مراتب المظنونات المعنوية
858 - ثم جمله أقيسة المعاني مقدمة على أعلى رتبة تفرض في الشبه والسبب فيه أن المقيس على أصل بمعنى مشابه له فيه وزائد عليه بالإخالة على الشبه على وجه لو صح الاستدلال لا ستقل دليلا دون أصله
ثم بعد اخر مرتبة من مراتب المعاني لاستفتاح الأشباه وهي على مراتب ودرجات كما ذكرناه في ترتيب المعنويات
859 - وقد اتخذنا المعاني المعلومة أصولا ورتبنا عليه المعاني المخيلة قربا وبعدا فنتخذ ها هنا كون الشيء في معنى أصله أصلا ونفرض النزول عنه إلى الأشباه فما قرب منه فهو مقدم على ما بعد عنه
ثم كما يعتمد قياس المعنى الجلاء والخفاء في الإخالة فالشبه يعتمد أمرين
أحدهما وقوعه خصيصا بالحكم المطلوب وهو نظير الجلى الظاهر من نفس المعنى
والاخر اعتضاده بكثرة الأشباه وهذا يناظر اعتضاد أحد المعنيين بما يؤازره ويظافره
وبيان ذلك بالمثال أن كون الوضوء حكما غير متعلق بغرض يختص باشتراط قصد يصرفه إلى جهة امتثال الأمر إذ لا غرض ومهما لاح اختصاص الشبه فيكاد أن يكون مناسبا و الجافي قسم المعنى ولكن الشبه لو التزمه معنى فقد يعسر عليه كرده على شرائط المعانى فيصير الإيماء إلى المعنى مقدما للشبه ومقربا وإن كان مسلك المعنى لا يستقل فيه
وأما كثرة الأشباه فلا حاجة إلى ضرب مثال فيها وستأتي أبواب الترجيح حاوية لها منطوية عليها إن شاء الله تعالى
860 - وقدم الأصوليون أشباه الأحكام على الأشباه الحسية وليس الأمر على هذا الإطلاق فأن الأمر يختلف بالمطلوب فإن كان المطلوب أمرا محسوسا فالشبه الحسي أخص به وأمس له كطلب المثل في الجزاء وإن كان المطلوب حكما فالشبه الحكمى حينئذ أقرب
861 - وأقصى الامكام في هذا المجال الضيق التنبيه ودرك الحقائق موكول إلى جودة القرائح فإذا قارنها التوفيق بان المعنى والشبه فقياس الدلالة مقدم على الشبه المحض من جهة إشعاره بالمعنى
وما يثبت الطرد والعكس مقدم على الشبه الذي لا يتصف بذلك فإن الطرد والعكس يجريان في مجال الظنون والحسيات مجرى ظهور لفظ الشارع والشبه يبعد من هذا
فليتخذ الناظر هذه المراسم قدوته وإمامه
ولو قيس المخيل السديد بالمطرد المنعكس فهو مقدم على المطرد المنعكس لتحققنا كون مثله معتمد الصحابة رضي الله عنهم ولتكلفنا إلحاق المطرد المنعكس به ومنه ثار الخلاف المتقدم في أن الطرد والعكس مما يسوغ الاحتجاج بهما أم لا
862 - وليعلم المنتهى إلى هذا الموضع أن المعنى قد يتناهى في الخفاء ويظهر للمجتهد جريان الطرد والعكس وإن عن للمجتهد في مثل هذا المجال تقديم العكس فلا بأس فإن المعنى إذا تناهى خفاؤه فإنه يكاد يخرج عن حكمنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكمون به والظاهر في الانعكاس ملتحق بظواهر ألفاظ الشارع
863 - ثم لا ينبغي أن يظن ظان أن القول في هذا ينتهي إلى القطع بل هو
موكول إلى نظر النظار واجتهاد أصحاب الاعتبار
وكيف لا يكون كذلك والتقديم والتأخير مستنده الترجيح ومنشأ الترجيح الظن
وعلى هذا قد يعرض تقديم الشبه الجلي على المعنى الخفي والعلة فيه أنه إذا انتهى الخفى إلى مبلغ يحول الكلام في إخراجه على جنس الإخالة والشبه الذي فيه الكلام لا ينقدح في إخراجه عن قبيل الشبه قول فإذ ذاك ينظر الناظر ويردد رأيه في تقديم ما يقدم وتأخير ما يؤخر
مسألة
864 - قال القاضي ليس في الأقيسة المظنونة تقديم ولا تأخير وإنما الظنون على حسب الاتفاقات
وهذا بناه على أصله في أنه ليس في مجال الظن مطلوب هو تشوف الطالبين ومطمع نظر المجتهدين قال بانيا على هذا إذا لم يكن مطلوب فلا طريق إلى التعيين وإنما المظنون على حسب الوفاق
وهذه هفوة عظيمة هائلة لو صدرت من غيره لفوقت سهام التقريع نحو قائله وحاصله يئول إلى أنه لا أصل للاجتهاد وكيف يستجيز مثله أن يثبت الطلب والأمر به ولا مطلوب وهل يستقل طلب دون مطلوب مقدر ومحقق فليت شعري من أين يظن المجتهد فإن الظنون لها أسباب
فمن أقدم إقدام من لا يعتقد تشوفا ولا تطلبا كيف يظن ثم فيما ذكره خروج عظيم عن ربقة الوفاق فإنا على اضطرار نعلم من عقولنا أن الأولين كانوا يقدمون مسلكا على مسلك ويرجحون طريقا على طريق وكيف يسنح للمجتهد مسالك فيرى بعضها أقرب من بعض ولو تمكنت بمبلغ جهدي من إخفاء هذا المذهب والسعي في انمحاقه لبذلن فيه كنه جهدي فإنه وصمة في طريق هذا الحبر وهو على الجملة هفوة عظيمة وميل عن الحق واضح ... فصل فيما يعلل وفيما لا يعلل
اختلف أهل الأصول فيما يعلل وفيما لا يعلل
865 - من أحاط بما قدمناه من الطرق التي تتضمن إثبات العلل هان عليه مدرك هذا الفصل واطرد له النفى والإثبات على أقرب وجه وتمام الغرض يحصل بهذا النوع من النظر مع الالتفات إلى تقاسيم الأقيسة
والذي تمس الحاجة إليه الان النظر في قياس المعنى وقياس الشبه فمهما أراد الناظر وقد ثبت حكم في الشرع أن يتبين أنه معلل بمعنى بحث على المعاني المناسبة فإن وجد في محل الحكم معنى مناسبا للحكم فطرده ولم يبطل ولم يتناقض أصلا عرف كون الحكم معللا
ومن لطيف الكلام في ذلك أن يتوصل إلى الكلى والجزئي بهذا النوع من
النظر ليتبين بما ذكرناه كون الحكم معللا ويتحقق عنده مع ذلك تعيين العلة وإن اعتضد ذلك بإيماء الشارع كان ذلك بالغا أقصى المراد فيه
866 - فإن نظر الناظر ولم يلح له معنى مناسب للحكم مخيل به فيعلم أن الحكم ليس معللا بمعنى ويرتد نظره إلى قياس الشبه وهذا أوسع الأبواب فإنه يجري عند إمكان المعنى وسيثمر أيضا عند عدم المعنى ولا ينحسم قياس الشبه إلا عند إشارات النصوص إلى قطع الأشباه
وبيان ذلك بالمثال أن قياس الشبه على منهاج ما يسمى في معنى الأصل غير أنه معلوم والشبه يبعد عنه بعض البعد وإن كان على شبه
وقد ضرب بعض المحققين لهما مثلين فقال
الملتحق بالمنصوص لكونه في معناه يضاهي ارتباط العلم بقرائن الأحوال وإذا ظهرت مخايل خجل أو وجل وأحاط بهما الناظر تبين من المنظور إليه أمرا وإن كانت تلك الأحوال لا تتحرر عبارة عن اقتضائها العلوم فهذا مثال ما يعلم
ومثال الشبه المظنون الذي لا يبلغ مبلغ العلم أحوال تدانى ما ذكرناه ويتطرق إليه الاحتمال كمثل الذي يرى رجلا قد احمر وجهه وقد أسمعه مسمع شيئا فقد يغلب على الظن غضبه وقد يجوز الناظر أنه فزع بما سمع وإن رأى في نفسه تغيظا وتكرها فهذا مثال الأشباه
867 - وقد ينحسم الشبه وما يقال إنه في معنى الأصل بقضية لفظية أو أمر متعلق بحكاية حال
وبيان ذلك بالمثال أن سهل بن أبي حثمة روى القصة المشهورة في حديث حويصة ومحيصة وعبد الله بن سهل وأن عبد الله قتل بخيبر القصة وقد عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم اليمين ابتداء على المدعين ثم اتخذ الشافعي رضي الله عنه هذا الحديث معتمده ورأى البداية بالمدعين في الدماء عند ظهور اللوث ولم يجر في لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا في ألفاظ الذين رفعوا القصة إلى مجلسة تعرض للوث ولا مطمع في استناد اشتراط البداية بالمدعين باللوث إلى معنى صحيح على السبر مستجمع للشرائط المرعية ولكن الشافعي نظر إلى القصة فراها في اللوث وأن الإحن والذحول كانت عتيدة بين اليهود والمسلمين فلم ير البداية بالمدعى منقاسة في الخصومات وعلم أن هذا المقدار من التلويح في الإشعار بظهور صدق المدعين كاف في منع إلحاق القتل العرى عن اللوث بالواقع منه على مظنة اللوث
ومبنى المسألة على الشبه فقطع بتخييل اللوث إلحاق غيره وأوضح
بانحسام مسالك الأشباه في محاولة إلحاق غير اللوث باللوث
فمهما ثبت حكم بنص ولم يكن فيه معنى مناسب وظهر للناظر اختصاصه بحالة تمنع تخيل الإلحاق بالمنصوص علما أو تشبيها ظنيا فلا يتحقق الإلحاق في الشبه ويتعين الاقتصار على مورد النص فليتأمل الناظر ذلك فيما يأتي ويذر
868 - وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه أن الذي لا يعلل أصلا هو الذي لا ينقدح فيه معنى مناسب ولا شبه وقد ذكرنا ما يقطع الشبه والمعلل هو الذي ينقدح فيه معنى مخيل أو شبه على شرط السلامة
مسألة
869 - نقل أصحاب المقالات عن أصحاب أبي حنيفة أنهم لا يرون إجراء القياس في الحدود والكفارات والتقديرات والرخص وكل معدول به عن القياس
وتتبع الشافعي مذاهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشيء من ذلك
فنسرد كلام الشافعي على وجهه ثم نعود إلى مراسم الحجاج والخلاف واختيار الحق
870 - قال الشافعي أما الحدود فقد كثرت أقيستكم فيها حتى عديتموها إلى الاستحسان وقد زعمتم في مسألة شهود الزنا أن المشهود عليه مرجوم وما يجري الاستحسان فيه فهذا أعوص على مذاهب القائلين به من الأقيسة فلا يمتنع جريان القياس فيه
871 - وأما الكفارات فقد قاسوا فيها الافطار بالأكل على الإفطار بالوقاع وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عامدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا
وأما المقدرات فقد قاسوا فيها ومما أفحشوا فيه تقديراتهم بالدلو والبئر من غير ثبت ولا استناد إلى خبر أو أثر
872 - وأما الرخصة فقد قاسوا فيها وتناهوا في العبد فإن الاقتصار على الأحجار في الاستجمار ومن أظهر الرخص ثم اعتقدوا أن كل نجاسة نادرة كانت أو معتادة مقيسة على الأثر اللاصق بمحل النحو وانتهوا في ذلك إلى نفى استعمال الأحجار مع قطع كل منصف بأن الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فهموا هذا التخفيف منه في نجاسة ما يعم به البلوى عملا وعلما وكانوا على تحرزهم في سائر النجاسات على الثياب والأبدان
ثم قال الشافعي من شنيع ما ذكروه في الرخص إثباتهم لها على خلاف وضع الشارع فيها فإنها مبنية تخفيفا وإعانة على ما يعانيه المرء في سفره من كثرة أشغاله فأثبتوها في سفر المعصية مع القطع بأن الشرع لا يرد بإعانة العاصي على المعصية
فهذا الذي ذكروه يزيدونه على القياس إذ القياس تقرير المقيس عليه قراره وإلحاق غيره به وهذا قلب لموضع النص في الرخص بالكلية
873 - وأما المعدول عن القياس فقد ضرب الشافعي في الاستجمار فيه
مثلا وهو بين من جهة أن النجاسة إنما يعفى عنها عند فرض تعذر الاحتراز وليس الأمر كذلك في غير نجاسة البلوى فإن استعمال الماء يسير لا عسر فيه
وقال زعمتم أن القهقهة تبطل الصلاة واعتقد تم ذلك معدولا عن القياس ثم زعمتم أنها تبطل صلاة ذات ركوع وسجود ولا تبطل صلاة الجنازة ولم ينقدح لكم فرق معنوي ولكنكم اعتقدتم قضية جرت لو صحت في صلاة من الصلوات الخمس ورأيتم أن تقتصروا على مورد النص ثم قلتم القهقهة تبطل صلاة النفل وإن لم تكن القضية في النفل
فليت شعري ما الذي عن لكم في التخصيص من وجه والإلحاق من وجه
874 - وقال في مساق هذا الكلام اعتمدتم في الوضوء بنبيذ التمر الخبر وقد جرى في الوضوء واعتبرتم الغسل به ولم تعتبروا نبيذ الزبيب بنبيذ التمر مع اشتمال كلام الرسول عليه السلام لو صح الحديث على التنبيه لذلك فإنه قال عليه السلام ثمرة طيبة وماء طهور
فهذه جمل جمعها الشافعي في مساق هذه المسألة عليهم
وبالجملة ليس معهم من علم الأصول قليل ولا كثير وإن أقام واحد منهم لقب مسألة فسننقضها في تفصيل الفروع فإن صاحبهم ما بنى مسائله على أصول وإنما أرسلها على ما تأتي له فمن أراد من أصحابه ضبط مسائله بأصل تناقض عليه القول في تفصيل الفروع
875 - ونحن نرد الكلام إلى الحجاج فنقول لهم لم منعتم إجراء القياس في هذه الأصول
فإن قالوا الحدود تدرأ بالشبهات والأقيسة مظنونة فلا ينبغي أن نهجم على إثباتها بمظنون والظان معترف ببقاء إمكان وراء ظنه فيحصل بذلك الإمكان الدرء
876 - وهذا الذي ذكروه يعارضه القصاص لأنهم لم يمتنعوا من إجراء القياس فيه وإن كان يندرىء بالشبهات ويبطل ما ذكروه بالعمل بخبر الواحد في الحدود فإنه ليس مقطوعا به ولا خلاف في قبوله والذي ذكروه إنما كان يستمر أن لو كانوا لا يثبتون الحد في مظنون وهذا باطل قطعا
ثم الجواب فيه أن وجوب العمل بالقياس ليس مظنونا وقد تمهد ذلك في مواضع من الكتاب فسقط ما ذكروه
ثم إن كانت الحدود تسقط بالشبهات والكفارات تجب معها فلم يمتنع إجراء القياس فيها وهي بمثابة سائر المغارم
877 - وأما المقدرات فقد قالوا فيها لا تتعدى العقول إلى معان تقتضيها
فلا يجري القياس فيها
قلنا إن كان ينحسم فيها المعاني المخيلة المناسبة فلم ينسد مسلك الأشباه
878 - وأما الرخص فقد قالوا فيها إنها منح من الله تعالى وعطابا فلا نتعدى بها مواضعها فإن في قياس غير المنصوص على المنصوص في الأحكام الاحتكام على المعطى في غير محل إرادته
وهذا هذيان فإن كل ما يتقلب فيه العباد من المنافع فهي منح من الله تعالى ولا يختص بها الرخص
فإن قيل فما الذي ترون
قلنا قد وضح بما قدمناه ما يعلل وما لا يعلل ونحن نتخذ تلك الأصول معتبرنا في النفي والإثبات فإن جرت مسالك التعليل في النفي والإثبات أجريناها وإن انسدت حكمنا بنفي التعليل ولا يختص ذلك بهذه الأبواب
879 - ومما نختتم القول به أن التعليل قد يمتنع بنص الشارع على وجوب الاقتصار وإن كان لولا النص أمكن التعليل وهو كقوله تعالى إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين وقال عليه السلام وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كيوم خلق الله السموات والأرض وقال لأبي بردة بن نيار وقد جاء بعناق وكان لا يملك غيرها فأراد التضحية بها رغبة في مساهمة المسلمين تجزىء عنك ولن تجزىء عن أحد بعدك فمهما منعنا نص من القياس امتنعنا وكذلك لو فرض إجماع على هذا النحو
وهو كالاتفاق على أن المريض لا يقصر وإن ساوى المسافر في الفطر
فإذا لم يكن منع من هذه الجهات فالمتبع في جواز القياس إمكانه عند الشرائط المضبوطة فيه والمتبع في منعه امتناعه وعدم تأتيه على ما يشترط فيه
880 - فهذه جملة كافية فيما يعلل وما لا يعلل
ونحن نختتمها بكلام نفيس قائلين
رب شيء يمنع فيه جريان القياس وامتناعه في أمرين وأمور ولن يصفو هذا الفصل على ما نحب ونؤثر إلا باستقصاء القول في ذلك
ومثاله أن الكتابة فيها أمور لا تنقاس وأمور يتطرق إليها القياس وكذلك القول في النكاح والإجارة والمعاملة المسماة قراضا مع النظر في المساقاة
وحق الناظر أن يتدبر هذه المواقف ويتبين المواقع التي يجري فيها القياس والمواقف التي يقف عندها ولا يطرد فيها القياس نظرا إلى محل الوقف وكذلك لا يطلق إثباتا نظرا إلى المحل المنقاس
وكل كلام مفصل في موضع فإطلاق النفي والإثبات فيه خلف إن كان نصا أو ظاهرا مؤولا
فالكتابة مع اعتقاد ثبوتها عقد من العقود مستند إلى الإيجاب والقبول والتراضي منطو على عوض من شرطه أن يكون معلوم الوصف والمقدار
فهذه الأصول جارية على قياس سائر المعارضات فمن قاس عليها في هذه الأحكام معاوضة أو قاسها على معاوضة فهو قايس في محل القياس
والذي لا ينقاس من الكتابة أصلها فإنها على الحقيقة معاملة الملك بالملك فمن سوغ معاملة متضمنها ذلك ورام قياسا على الكتابة كان قايسا في محل لا يجري القياس فيه
881 - ثم القول في ذلك ينقسم إلى ما ينقدح فيه مصلحة كلية تصلح لتمهيد الأصول والقواعد وإلى مالا يتجه فيه ذلك على ظهور
فأما ما يظهر فيه أمر كلي فهو كخواص النكاح فإنها مربوطة بأمر ظاهر في استصلاح العباد فتلك الأمور لا يلفى لها نظير في غير النكاح فإنا إنما نتكلم في خواص النكاح ولو قدرنا وجدان نظير لها لما كان ما فيه الكلام خاصا ولما تحقق تميز الأصول بخواصها وتحيزها بمقاصدها ولصارت القواعد كلها في التكليف تحت ربقة واحدة ضابطة في طريق الاستثناء وهذا محال
فمن اعترف بأصل وأراد أن يعتبر خاصيته بأمر اخر فهو خارج عن الاعتبار المرضي والقياس الكلي والجزئي ومن أراد إثبات أصل منازع ذي خاصية فإنه لا يلقى لما بينته نظيرا إن حاوله
فإن حاول إثبات ذلك ولم يكن في ثبوته بد من أحد أمرين فإما أن يسنده إلى ثبت من قول الشارع وإما أن يتمسك بالاستدلال إن صح القول به ولو ثبت أصل ذو خاصية فأراد الناظر أن يثبت أصلا مشتملا على قريب من تلك الخاصية فهذا متقبل عند الشافعي في طريق القياس
882 - وبيان ذلك بالمثال أن القراض مقتطع عن سائر المعاملات بخاصية
فيه مقصودة وهو أنه لا يتأتي استنماء المال وتثميره من كل واحد منهما وإنما يعرفه من يعرف التجارات ووجهها ولو أثبت للمنصوب للتجارة أجرا معلوما وهو مستحق ربح أو خسر فقد لا يجد جده إذا كان لا يرقب لنفسه حظا من الربح فيثبت القراض مشتملا على الربح على حسب التشارط والتراضي
فرأى الشافعي المساقاة في معنى القراض في خاصية القراض فاعتبرها به واحترز عن الإجارات في المزارع وغيرها ثم اعتبر ذلك بعد الاستظهار بالحديث الذي راه نصا في المساقاة
883 - ثم أجرى في المسألة كلاما بدعا فقال لم يعهد القراض في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأول ما جرى هذا الضرب من المعاملة في زمن عمر رضي الله عنه في قضية مشهورة لابنيه رضي الله عنهما فقال الشافعي لا ينقدح الإجماع من غير ثبت ولو كان في القراض خبر لذكر وعنى بنقله فلا معنى لجواز اعتقاده حقا بسبب أصل واحد من الأصول ولا سيما إذا كانت المعاملة عامة والحاجة فيها مطردة والناس كانوا يعتنون بنقل الأصول العامة على قضية واحدة
ثم بعد مساق كلامه قال لا أدري للقراض أصلا إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في المساقاة
884 - فإن قيل هذا منه قلب لمجاري القياس فإن المختلف فيه يعتبر بالمتفق عليه
والذي ذكره اعتبار اعتبار المتفق عليه بالمختلف فيه
قلنا الشافعي يرسل تصرفه على قواعد الشريعة غير معرج على موضع الوفاق والخلاف ثم ما ذكره ليس بقياس وإنما هو يتعلق على حصول الغرض بمسلك أصولي لا يهتدي إليه غيره فإنه أثبت أن الإجماع لا يعقد هزلا ثم مزجه بماخذ العادات وهي من أعظم القواعد في أصول الشريعة وما يتعلق بالنقل وعدم النقل
885 - ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له قبل الكلام في تحرير المسائل وضرب الأمثال أن خواص الأصول لو اعتبر بعضها ببعض لكانت كل خاصية بدعا بالإضافة إلى الأخرى ولكن لو استد نظر الموفق ورأى كل شيء على ما هو عليه تبين له أن النظر السديد يقتضي تقرير كل خاصية وعدم اعتبارها بغيرها
وبيان ذلك أن الإجارة موضوعها يقتضي أعلام المنافع بالمدة أو بالعمل الموصوف فإنها من عقود المعاوضات والمكايسات ولو أثبت المنافع فيها مجهولة لكان إثباتها كذلك خارجا عن مقصود العقد والنكاح أثبت مؤبدا والتأبيد يجر جهالة ولكن هذه الجهالة منطبقة على مقصود النكاح إذ الغرض منه الوصلة والاستمتاع على الائتلاف وهذا ينتقض بالتأقيب وليست منافع البضع متمولة له حتى يدعى لمكان أعواضها تقديرها وليست المناكحات من عقود المغابنات فإذا خاصية كل عقد وإن خالفت خاصية اخر فمعناها في موضوعها كمعنى الأعلام في موضع الأحكام فليس الإعلام موضوعا لعينه وإنما عين لعوض يقتضيه
فكل كلام يجريه القايس ويسوقه يخالف موضوع المعاملة وإن كان يجد لما
ذكره شواهد وأمثلة في غير الموضع الذي ينظر فيه فذلك الكلام حائد
886 - وإذا تعارض معنيان وترجح أحدهما بالأمثال واعتضد الاخر بما يشعر به خاصية الأصل فهو ارجح عند الشافعي على ما سيأتي مشروحا في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
وهذا كله فيه إذا كان الأصل لا ينقدح فيه توجيه معناه كليا
وقد ثبت أصل لا يتجه فيه استصلاح عام ظاهر كالكتابة فإنها مائلة جدا عن الأصول وأقصى ما يذكر فيها استحثاث السادة على الإعتاق والعبيد على الكسب في تلك الجهة وهذا في حكم أمر خفى يرد على أمر جلي على حكم المناقشة فإن المالكية لها قضية جلية في منع معاملة العبيد والأمر الخافي في توقع العتق ليس مضاهيا في مراتب المعاني لقضية المالكية فإن مقتضى الملك أجلى
وليست الكتابة فيما ذكرناه كالنكاح المختص بخاصية عن البيع فإنهما أصلان كل واحد منهما منقطع عن الثاني وليس واحد منهما واردا على الثاني على حكم المعارضة والمناقضة ورود الكتابة على المالكية فما كان كذلك فهو المنتزع عن القياس من حيث أنا تخلينا لأحكام الملك جريانا ثم الكتابة صرفتها عن جريانها بخلاف الأصول الواقعة أفرادا
فالان لو أراد مريد أن يلحق معاملة بالكتابة إلحاق الشافعي المساقاة بالقراض وسنح له في المعاملة التي نذكرها المعنى الخفي الذي يتخيله الناظر من الكتابة فهذا إن كان معنى فهو على أخفى المراتب وإن كان شبها فهو أبعد الأشباه
ونحن نرسم في ذلك مسائل ونذكر ما فيها من دقائق الكلام إن شاء الله تعالى
مسألة
87 - ما صار إليه جماهير العلماء مع التزام القياس والعمل به أن طهارة الحدث ليست معقولة المعنى
وذهب أبو حنيفة ومتبعوه إلى أن إزالة النجاسة معقولة المعنى وبنوا على هذا الفرق بين طهارة الحدث إذ تعين الماء لها وبين إزالة النجاسة فإن الغرض منها رفع عينها واستئصال أثرها ومهما حصل ذلك بمائع رافع قالع فقد حصل المعنى المعقول
888 - واضطرب متبعو الشافعي فذهب بعض المتأخرين إلى أن طهارة الحدث معقولة المعنى والغرض منها التنقى عن الأدران والنظافة من الأوساخ وأوضحوا ذلك بتخيل يبتدره من يكتفي بظواهر الأمور
فقالو الأعضاء الظاهره في المهن والتصرفات فضلا الوجه واليدان إلى المرفقين والقدمان وأطراف من الساق والإنسان في تصرفاته وتلفتاته يصادم الغبرات وغيرها فورد الشرع بغسل هذه الأعضاء في مظان مخصوصة ومواقيت معلومة ومحاسن الشريعة تئول في نهايتها الى أمثال ذلك
والرأس مستور بالعمامة غالبا وإنما تبدو الناصية والمقادم من المستروح إلى تنحية عمامته إلى هامته فلما كان ذلك أبعد اكتفى فيه بالمسح
889 - وعضد هؤلاء ما ذكروه بقوله تعالى في سياق اية الوضوء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ولا مسلك في الظنونات إلى إثبات العلل أوقع وأنجع من إيماء الشارع إلى التعليل وقوله تعالى ليطهركم ظاهر في التعليل بالتعبد بالتنقي والتوقي عن القاذورات والغبرات
890 - ثم وجه هؤلاء على أنفسهم أسئلة وتكلفوا أجوبة عنها ونحن نستاقها على وجهها فإنها وإن لم تفض إلى حق نرضاه ففي التنبيه على أمثالها معرفة التدرب في أساليب الظنون ومسالك الفكر
891 - منها أن قائلا لو قال إن استقام ما ذكرتموه في الوضوء فما وجهه في التيمم وهو تغبير الوجه وذلك يناقض ما استروحتم إليه
فيقال له إن خرج التيمم عن كونه معقول المعنى لم يلزم من خروجه خروج الوضوء ومن يبدي في الوضوء معنى لا يلزم طرده في التيمم فهذا وجه
والوجه الاخر أن التيمم أقيم بدلا غير مقصود في نفسه ومن أمعن النظر ووفاه حقه تبين أن الغرض من التيمم إدامة الدربة في إقامة وظيفة الطهارة فإن الأسفار كثيرة الوقوع في أطوار الناس وإعواز الماء فيها ليس نادرا فلو أقام الرجل الصلاة غير طهارة ولا بدل عنها لتمرنت نفسه على إقامة الصلاة من غير طهارة والنفس ما عودتها تتعود وقد يفضى ذلك إلى ركون النفس إلى هواها وانصرافها عن مراسم التكليف ومغزاها فهذا سؤال والجواب عنه
892 - فإن قال قائل لو توضأ المرء وأسبغ وضوءه ثم عمد إلى تراب فتعفربه أو تطلى بالطين وصلى صحت صلاته فلو كان الوضوء متعينا للتنقي لوجب أن ينتقض بما وصفناه لأنه إذا وجب الوضوء بتوقع الغبار فبتحققه أولى وهذا واقع على هذه الطائفة
وقد تكلفوا جوابا عنه
فقالوا الأصول إذا تمهدت على قواعدها واسترسلت على حكم العرف
المطرد فيها فلا التفات إلى ما يشذ ويندر وضربوا لذلك أمثلة مبنية على مغمضات من قضايا الأصول منها
إن النكاح شرع لتحصين الزوجين من فاحشة الزنا وغيره من المقاصد والحرة محتاجة إلى التحصين بالمستمتع الحلال كالرجل ثم حق عليها أن تجيب زوجها مهما رام منها استمتاعا ولا يجب على الرجل إجابتها وغرض الشارع في تحصينها على قضية واحدة ولكن لما خص الرجل بالتزام المؤن والمهر والقيام عليها اختص بالاستحقاق ومنه الاستيلاء والملك فاكتفى الشارع في جانبها باقتضاء جبلة الرجل والإقدام على الاستمتاع
والأمر مبني على أحوال الملتزمين الشريعة والمعظمين لها ومن انحصر مطلبه في الحلال واستمكن منه واستحثته الطبيعة عليه وتغلب عليه المغارم فإنه سيعتاض عنها قضاء أربه ومستمتعه
وكذلك يقل في الناس من يطلى ويتضمخ بالقاذورات فكان ذلك موكولا إلى ما عليه الجبلات
وإنما الذي قد يتسامح فيه أهل المروءات إقامة الطهارات من غير مصادفة الغبرات تخفيفا فخصص الشارع الأمر بالتنقي بالأحوال التي لا يظهر استحثاث الطبع فيها
893 - ومن الأصول الشاهدة في ذلك أن البيع إنما جوزه الشرع لمسيس الحاجة إلى التبادل في الأعواض ثم لم ينظر الشارع إلى التفاصيل بعد تمهيد
الأصول فلو باع الرجل ما يحتاج إليه واستبدل عنه مالا يحتاج إليه فالبيع مجرى على صحته فإن هذا لا يعم وقوعه وما في النفوس من الدوافع والصوارف في ذلك وازع كامل وتكثر نظائر ذلك في قواعد الشرع
894 - فإن قال قائل ما بال الوضوء يختص وجوبه بوقوع الحدث وأجمع علماء الشرع على أن الأحداث موجبة للوضوء وليست ملطخة أعضاء الوضوء والذي ثبت موجبا وفاقا غير ملطخ ولم يحوج إلى غسل الأعضاء والذي يلطخ الأعضاء لا يوجب الوضوء
فقالوا مجيبين غاية هذا السؤال خروج وقت الوضوء عن كونه معقول المعنى وهذا لا ينافى كون أصله معقولا
وأما ما أدرجوه في أثناء الكلام من أن تلطيخ الأعضاء لا يوجب تنقيتها وغسلها فهذا هو السؤال الذي انتجز الجواب عنه الان
895 - وقد تكلف بعض النظار في ذلك كلاما وقال لا تدخل الأحداث تحت الحجر واعتمادها من غير أرب يناقض دأب أهل المروءة فجمع الشارع بين الأمر بالوضوء للغرض الكلي في التنقي وبين تأقيته بالأحداث حتى ينتهض مطهرا طاهرا ومردعة عن الأحداث من غير إرهاق مسيس حاجة
ثم هذا النظر يتضمن منعا من غير تحريم وإذا استمر المكلف على هذه المراسم انتظم له منها محاسن الشيم في كل معنى
فهذا الباب ما جاء به الفريقان اعتراضا وجوابا في هذا الطرف
896 - فأما ما ذكره أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في أن إزالة النجاسة معقولة
المعنى فيتوجه عليهم في هذا الشق سؤال لا ينقدح لهم عنه جواب فإنه يقال لهم إزالة النجاسة لا تجب لغير الصلاة فما علة وجوبها للصلاة وهلا صحت الصلاة معها
فإن تكلفوا في تعليل وجوب الإزالة كلاما فغايتهم أن المصلى مأمور أن يأخذ للصلاة أنقى زي وأحسن هيئة والأمر بالتطهر مندرج تحت هذه الجملة
فهذا غير مستقيم دليلا وهذاعلى الحقيقة أعادة للمذهب والسؤال قائم فلم يجب التنقى وهلا احتمل ذلك كما احتمل في غير الصلاة وهذا ينعكس بستر العورة ثم ما بالها لم تؤثر في سائر العبادات فلا يكادون يرجعون إلى حاصل وهو أجلى مما ادعاه الذين عللوا وجوب الوضوء بما ذكرناه
فإذا لم ينتظم في وجوب رفع العين معنى ولم يظهر في وجوب إمساس أعضاء الوضوء بمائع معنى فهلا قام في الوضوء كل مائع مقام الماء كما قام مقامه في الإزالة
فإن قالوا الإزالة متحققة حسا بالخل
قلنا فاستيعاب الوجه وغيره من أعضاء الوضوء على حكم الوضاءة حاصل بماء الورد حسا وهذا سيئول إلى تدقيق وهو أنه إن فرض الماء أرق المائعات وأدفعها فقد يعتقد مع ذلك أنه لا يقوم غيره مقامه في حقيقة الرفع فأما حيث لا مرفوع وإنما الغرض إمساس أعضاء وهذا المعنى يحصل بكل مائع إلى غير ذلك من فصول تطول
ولم نذكر هذه الطريقة لنعتقدها ولكنا أصيبنا أن نصير هذه المسألة ومسائل
يعدها أمثالا لفائدة سنربطها إن شاء الله تعالى بغرضنا في التحقيق
فلينظر الناظر في هذه المسألة واللواتي بعدها نظر من يعدها أمثالا ويستعدها لما يستعقب المسائل به إن شاء الله تعالى مسألة
897 - قال الخائضون في هذا الفن رب أصل يتطرق إليه التعليل من وجه ويتقاعد عنه التعليل من وجه وضربوا لذلك أمثلة ونحن نذكر منها مثالا أو مثالين ثم يقيس الناظر بما نذكره ما لم نذكره
فمن أمثلة ذلك اختصاص القطع بالنفيس وهذا على الجملة معلل بأمر ظاهر وهو أن أربا العقول لا يهجمون على التغرير بالأرواح والمخاطرة بالمهج بسبب التافه الوتح وإن غرر مغرر فإنه يربط قصده بمال نفيس
قالوا هذا معلوم على الجملة ويشهد له القواعد الزجرية التي تستحث الطبائع على الهجوم على الفواحش فيها فانتصبت الحدود مزحزحة عنها والمحرمات التي لا صغو ولا ميل للطبائع إليها لم يرد الشرع في المنع عنها بحدود بل وقع الاكتفاء بما في جبلات النفوس من الارعواء عنها مع الوعيد بالعذاب الشديد والتعرض للآئمة والخروج عن سمة العدالة في الحالة الراهنة
ثم قال هؤلاء القياس وإن اقتضى الفصل على الجملة بين التافه والنفيس فليس فيه التنصيص على النفيس ومبلغه فكان ذلك موكولا إلى الشرع ونصاب السرقة منصوص عليه
898 - ومن أمثلة ذلك النصب في أموال الزكاة والأقيسة قد ترشد إلى اختصاص وجوب الإرفاق بالأموال المحتملة له المتهيئة لارتفاق مالكها فيكون الإرفاق في مقابلة الاستمكان من الارتفاق ثم القدر المرفق لا ينص عليه الرأي فاتبع القايسون فيه مراسم الشريعة وإن عللوا الأصل تعليلا كليا
899 - ثم لما ذكر القاضي ما ذكرناه من مسالك الفقهاء انعطف عليه فقال كيف يطمع الطامع في الميز بين الخسيس والنفيس وذلك يختلف بهمم النفوس والخسة والنفاسة لا يتصف بها مبلغ بعينه بل هما من أحكام النسب والإضافات فقد يستعظم الفقير الفلس ولا تكثر القناطير في حق الملك وهذا ينسحب على النصب فإن القانع بالبلاغ قد يجتزىء بالارتفاق عما ينقص عن النصاب وذو البسطة والعيلة والذرية الضعاف لا ترففه العشرون والمائتان من التبرين
فإن قال قائل بنى الشارع الأمر على الوسط وهو شوف الاعتدال في كل شيء فإن طرفي الاعتدال لا ينضبطان بل هما مردودان إلى حكم الوسط فيقال له أوسط الناس لا يكثر في أعينهم الربع ولا الدينار في مقابلة ما يلقون من الإغرار وإن وقع الفرض في ذوي الغرامة الذين انتهى بهم الاستجراء إلى اقتحام العظائم فهؤلاء قد يصادمون الأغرار مستقبلين من غير مارب ظاهرة ولا يكاد ينضبط في ذلك معنى
900 - ثم وجه القاضي على نفسه السؤال المعروف في الخمر فإنها لا
تغنى عن مرارتها لعينها وإنما تعني لما لا يحصل إلا عند الاستكثار منها وهي النشوة والطرب والسكر ثم يتعلق بتعاطي القليل منها من الحد ما يتعلق بتعاطي الكثير
وقد تكلف الفقهاء وجوها من الكلام لا نراها ونقتصر على أقربها متناولا وذلك أنهم قالوا قليل الخمر داع إلى الكثير وليس في الإكثار منها عند الاستمكال من جنسها ركوب خطر واقتحام غرر فلو لم يوضع الحد في القليل لدعا إلى الكثير منه والغرر في المهج مع قلة المال كاف في الورع
فهذا منتهى المطلوب في ذلك
وإذا لاح مسلك الكلام في النفي والإثبات في هذه المسائل فنحن نذكر بعدها كلاما وجيزا يتخذه الناظر معتبره ويرقى به عن تعارض وجوه الكلام في فن يقصد منه بغية القطع فنقول
الباب الثالث في تقاسيم العلل والأصول
901 - هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة ونحن نقسمها خمسة أقسام
أحدها ما يعقل معناه وهو أصل ويئول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري لا بد منه مع تقرير غاية الإيالة الكلية والسياسية العامية وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص في أوانه فهو معلل بتحقق العصمة في الدماء المحقونة والزجر عن التهجم عليها فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في أصل القصاص تصرف فيه وعداه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى فيه وهو الذي يسهل تعليل أصله ويلتحق به تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا ايل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيق معناها في احاد النوع وهذا ضرب من الضروب الخمسة
902 - والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة وهذا مثل تصحيح الإجارة فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ ضرورة الشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس لنال احاد الجنس ضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس ما ينال الاحاد بالنسبة إلى الجنس وهذا يتعلق
بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الان
903 - والضرب الثالث ما لا يتعلق بضرورة حاقة ولا حاجة عامة ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وأزالة الخبث
وإن أحببنا عبرنا عن هذا الضرب وقلنا ما لاح ووضح الندب إليه تصريحا كالتنظيف فإذا ربط الرابط أصلا كليا به تلويحا كان ذلك في الدرجة الأخيرة والمرتبة الثانية البعيدة في المقايس وجرى وضع التلويح فيه مع الامتناع عن التصريح وضع حمل المكلفين على مضمونه مع الاعتضاد بالدواعي الجبلية كما سبق تقرير هذا في المسالك السابقة والصور الممثلة
904 - والضرب الرابع ما لا يستند إلى حاجة وضرورة وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء وفي المسلك الثالث في تحصيله خروج عن قياس كلي وبهذه المرتبة يتميز هذا الضرب من الضرب الثالث
وبيان ذلك بالمثال أن الغرض من الكتابة تحصيل العتق وهو مندوب إليه والكتابة المنتهضة سببا في تحصيل العتق تتضمن أمورا خارجة عن الأقيسة الكلية كمعاملة السيد عبده و كمقابلته ملكه بملكه والطهارات قصاراها إثبات السبب وجوبا إلى إيجاب ما لا تصريح بإيجابه وليس فيها اعتراض على أصل اخر سوى ما ذكرناه من التصريح والتلويح وقد مثلناها بوضع الشرع النكاح على تحصين الزوجين
905 - والضرب الخامس من الأصول ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا
ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة وهذا يندر تصويره جدا فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيله كليا ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية ولكن لا يبعد أن يقال تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم الانقياد وتجديد العهد بذكر الله تعالى ينهى عن الفحشاء والمنكر وهذا يقع على الجملة ثم إذا انتهى الكلام في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد الركعات وما في معناها لم يطمع القايس في استنباط معنى يقتضي التقدير فيما لا ينقاس أصله
فهذا بيان ضروب الأصول على الجملة
906 - ونحن الان تعطف عليها ونذكر في كل أصل ما يليق بمذهب القياسين إن شاء الله تعالى
فأما الضرب الأول فهو ما يستند إلى الضرورة فنظر القايس فيه ينقسم إلى اعتبار أجزاء الأصل بعضها ببعض وإلى اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل إذا اتسق له الجامع فأما اعتبار الجزء بالجزء مع استجماع القياس لشرائط الصحة فهو يقع في الطبقة العليا من أقيسة المعاني
ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه وإن كان جليا إذا صادم القاعدة الكلية ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية
وبيان ذلك بالمثال إن القصاص معدود من حقوق الادميين وقياسها رعاية التماثل عند التقابل على حسب ما يليق بمقصود الباب وهذا القياس يقتضي ألا تقتل الجماعة بالواحد ولكن في طرده والمصير إليه هدم القاعدة الكلية ومناقضة الضرورة فإن استعانة الظلمة في القتل ليس عسيرا وفي درء القصاص عند
فرض الاجتماع خرم أصل الباب
وحاصل القول في ذلك يئول إلى أن مقابلة الشيء بأكثر منه ليس يخرم أمرا ضروريا فهذا معنى تسميتنا لهذا جزئيا وإلا فالتماثل في الحقوق المغربة إلى الادميين من الأمور الكلية في الشريعة غير أن القاعدة التي سميناها كلية في هذا الضرب مستندها أمر ضروري والتماثل في التقابل أمر مصلحي والمصلحة إذا لم تكن ضرورة جزء بالإضافة إلى الضرورة وهذا يعضد فيما أجريناه مثلا في القصاص بأمر اخر وهو أن مبنى القصاص على مخالفة الأعواض جمع وأن أعواض المتلفات مبناها على جبران الفائتان كالمثلى إذا تلف وضمن بالمثل وكالقيمة إذا جبرت متقوما متلفا فالقصاص لا يجبر الفائت ولا يسد مسده والغالب فيه أمر الزجر وحظ مستحقه منه شفاء الغليل وهذا ميل قليل بالقياس إلى مارب الناس في الأعواض فلما خرج أصله عن مضاهاة الأعواض هذا الخروج احتمل فيه الخروج عن قياس التماثل لدى التقابل
907 - وإذا قسنا الأطراف عند فرض الاشتراك في قطعها بالنفوس كان ذلك واقعا جليا معتضدا بالمعنى الأصلي وهو الضرورة في الصون مع اجتماع الأطراف والنفوس في كونها مصونة بالقصاص
وهذا في نهاية الوضوح لا يغض شيء منه إلا فرض صدور القطع من شخصين مع تمييز أحد الفعلين عن الثاني فإنه إذا جرى ذلك لم يقطع يد واحد منهما
فإن منع مانع ذلك وقال يقطع من يد كل واحد من الجانبين مثل ما قطعه من يد المجني عليه فهذا انفصال على وجه ولكن يبقى مع ذلك أن يد المجني عليه مبانة باشتراكهما ولا يبان يد واحد من الجانبين والإبانة معصومة بالقصاص وإذا كان القطع مما يقبل القسمة فقد يتناوش المتناظران عند ذلك الكلام ( و ) يتجاذبان أطراف النظر
فهذا هو اعتبار الجزء بالجزء في الضرب الأعلى من القياس 908 ولو أراد القايس أن يعتبر قاعدة أخرى بقاعدة والضرورة الكلية تجمعهما فهذا متقبل معمول به أيضا فإذا اعتبر القايس حدا واجبا بقصاص أو قصاصا بحد فذلك حسن بالغ وكذلك إذا اعتبر معتبر عقدا تمس الضرورة إليه بالبيع كان حسنا على شرط السلامة فخرج من مجموع ذلك جريان القياس من الوجهين في هذا الضرب أحدهما الجزء بالجزء والضرورة شاملة لهما والثاني اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل والجامع الضرورية الكلية 909 وأما الضرب الثاني وهو ما يبنى على الحاجة كالإجارة فلا خلاف في جريان قياس الجزءمنه على الجزء فأما اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل مع جامع الحاجة فهذا امتنع منه معظم القياسين 910 ونحن نرى أن ننبه قبل تبيين القول فيه على أمر وهو أن الإجارة ( جازت ) خارجة عن الأقيسة التي سميناها جزيئة في القسم الأول فإن مقابلة العوض الموجود ( بالعوض ) المعدوم خارج عن القياس المرعي في المعاوضات فإن قياسها ألا يتقابل إلا موجودان ولكن احتمل ذلك في الإجارة لمكان الحاجة وقد ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في ( حق ) آحاد الإشخاص
والبيع يلتحق بقاعدة الضرورة من جهة مسيس الحاجة إلى تبادل العروض والعروض لا تعني لأعيانها وإنما تراد لمنافعها ومتعلق تصرفات الخلق في الأعيان محال منافعهم منها وإذا أطلق الفقيه ملك العين أراد به الاستمكان من التصرف الشرعي على حسب الإرادة ما بقيت العين ثم المنافع إذا قدرت نوعا من العروض وظهر مسيس الحاجة ( إليها ) في المساكن والمراكب ( وغيرها ) التحق هذا بالأصول الكلية واشتراط مقابلة الموجود بالموجود من باب الاستصلاح والحمل على الأرشد والأصلح ولا يظن تعلق هذا الفن بالحاجة ولهذا يسمى ( القياس ) الجزئي وليس المراد بكونه جزئيا جريانه في شخص أو جزء ولكن الأصل الذي لا بد من رعايته الضرورة ثم الحاجة والاستصلاح في حكم الوجوه الخاصة في حكم الجزء عند النظر في حكم الضوابط الكلية فإذا القياس على الإجارة إذا استجمع الشرائط لا يدرؤه إلا الاستصلاح الجزئي في مقابلة الموجود بالموجود وهذا كقياسك النكاح مثلا في وجه الحاجة إلية على الإجارة
911 - ومن قال الإجارة ( خارجة ) عن القياس فليس على بصيرة في قوله فإنها إن خرجت بخروجها عن الاستصلاح فهي جارية على مقتضى الحاجة والحاجة هي الأصل والاستصلاح بالإضافة إليها فرع
912 - وأنا أضرب لذلك مثلا تقديرا فاقول من سبق عقده قبل ورود الشرائع إلى تقدير ورودها بالمصالح فإنه يسبق مع هذا العقد إلى درء الحاجات والضرورات ويختبط في وجوه الاستصلاحات فإنه يتعارض فيها الظنون بالإضافة إلى الحالات والدرجات فيتوقف لا جرم فيها الضبط على ورود الشرائع ثم إذا تمهد باب من الاستصلاح بالشرع جرى القياس فيه ومستنده يكاد أن يكون غيبا لا يطلع
العقل على حقيقته فيكله إلى فاطر البرية سبحانه وتعالى ثم قد يظهر الاستصلاح وهو مع ذلك جزئي فإن متضمنة حجرة على مطلق من غير حاجة ولا ضرورة في أمر تطرق المطلق فيه إلى البدل الكلي من غير منع ولا حجر ولكن ضنة النفوس وازعة مع وفور عقلها عن السرف والبذل العرى عن العوض وقد يحملها السرف وفرط الشره على أغرار وأخطار في المعاملات مغباتها وخيمة وغوائلها عظيمة والله تعالى عليم بها فسيصلح الله عباده بما علمه من غيبهم ولو تطرق إلى العقل الوازع عن البدل العرى عن العوض خلل طرد الشارع حجرا ولهذا يطرد الحجر على الصبيان والسفهاء فإذا باب الاستصلاح غايته تقليد وتفويض الأمر إلى مالك الأمر وهو باب محاسن الشريعة وقد يعيب ( كلى ) الاستصلاح ( وجزؤه ) عن الناظر ومن هذا القبيل عندي تحريم ربا الفضل والحجر المتمهد في ربا ( النسيئة )
913 - ومن دقيق ما يجري في هذا الفن وهو العلق النفيس في هذا القبيل أن الشافعي ألحق إثبات الخيار والأجل ( بأبواب ) الرخص من جهة أن ( قياس ) التقابل في المعاوضات أن يخرج العوض عن ملك أحد المتعاقدين حسب دخول مقابله في ملكه وإذا حل أحد العوضين وتأجل الثاني كان ذلك خارجا عن هذا القانون وكذلك الخيار الطارىء على العقد المبني على اللزوم في حكم الرخص والتأجيل أثبت فسحة ( لمن لا يملك الثمن ) ( في الحال ورجاء أن يتمحله ) إلى منقرض الآجال والخيار أثبت لتروي من لا بصيرة له وعدم
الدراية في السلع أعم وأغلب من المعرفة بها
914 - والقول في ذلك عندنا أن ( أصل ) البيع مستندة الضرورة أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة واللزوم ( فيه ) بمطلق البيع قد لا يستند إلى الضرورة نعم لو قيل لا يفضى البيع قط ( إلى لزوم ) جر ذلك ضرارا بينا من حيث لا يثق المتعاوضان بما يتقابضان وكان من الممكن أن يقال إذا تراضى المتعاقدان على الإلزام لزم وإن أطلقاه فالحكم ( بلزومه ) من غير تراضيهما ( فيه ) مصلحى وليس ضروريا ( وكذلك ) المصير إلى اقتضاء مقتضى العقد حلول العوضين مصلحى فإذا تمهد ذلك فشرط الخيار والأجل لا يخرم أمرا ضروريا فليفهم الفاهم ذلك وليتئد إذا انتهى إلى هذا المقام
915 - ولكن الشافعي نظر إلى تعبدات الشارع فقد مهد في العقود تمهيدا عاما وإن لم يكن مستنده إلى ضرورة مدركة بالعقول أو حاجة ثم رأى ما يطرأ عليها بمثابة ما يطرأ على وظائف العبادات ( من ) الرخص والتخفيفات وإن كانت العبادات في أصولها غير مستندة إلى أغراض وإلا فالقاعدة الكلية اتباع الحاجة ( والضرورة ) أو أتباع رضا المطلقين فإن ( ألحق ملحق الخيار ) والأجل بالرخص من جهة ( ندورهما ) بالأضافة إلى ( ما ) تمهد في التعبد والاستصلاح في العقود وإلا فاتباع الرضا من غير اقتحام أمر كلي أمس للقياس الكلي من الاستصلاحات
وأنا أذكر ( الأن ) مسألة كلية يقضى الفطن العجب منها فأقول ( مسألة )
916 - لو درست تفاصيل الشريعة وتعافى نقلتها وبقيت أصولها على ( بال ) من حملة الدين فالذي يقتضيه التحقيق تصحيح كل بيع استند إلى رضا ولو لم يقل به وتفاصيل الاستصلاحات لا تطلع عليها العقول ولا يحسم باب البيع ففى انحسامه ضرورة عظيمة وقد ذكرت طرفا من هذا ( في ) الكتاب ( الغيائي ) والغرض منه الآن أن الكلى ما يتطرق إليه العقل مع نسيان التفاصيل وهذا كاف في هذا الضرب
917 - وأما الضرب الثالث وهو ما لا ينتسب إلى ضرورة ولا إلى حاجة وغايته الاستحثاث على مكارم الأخلاق ووضع الاستصلاح ( ينافي ) إيجاب ذلك على كافة في عموم الأوقات ( لعسر ) الوفاء به والقدر الذي على يقتضيه الاستصلاح لا ينضبط بقدر أفهام المكلفين ( ودرك المتعبدين ) فإذا عسر الضبط وتعذر الإيجاب العام فيثبت الشارع وظائف ( تدعو ) إلى مبلغ المقصود الواقع في ( علم ) الغيب وإن كان لا ينضبط
هو في عينه لنا ويعضد هذا ( القسم ) في غالب الأمر وبأمور جلية حتى كان الشريعة تتأيد بموجب الجبلة والطبيعة فيكل إليها قدرا ويثبت للوظائف قدرا وهذا كالوضوء فليس ( ينكر ) العاقل ما فيه من إفادة النظافة ( والأمر بالنظافة ) على استغراق الأوقات ( يعسر ) الوفاء به فوظف الشارع ( الوضوء ) في أوقات وبنى الأمر على ( أفادته ) المقصود وعلم الشارع أن أرباب العقول لا يعتمدون نقل الأوساخ والأدران إلى أعضائهم البادية منهم فضلا فكان ذلك نهاية في الاستصلاح ومحاولة الجمع بين ( تحصيل ) أقصى الإمكان في هذه المكرمة ورفع ( التضييق في التدنس والتوسخ ) إذا حاول المرء ذلك فهذا وضع هذا الفن
918 - ولكن إزالة النجاسة أظهر في هذا الفن من النظافة الكلية المرتبة على الوضوء فإن النجاسات تتقذر في الجبلات واجتنابها أهم في المكارم والمروءات من اجتناب ( الشعث ) والغبرات ولهذا ذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه يحرم على الإنسان التضمخ بالنجاسات من غير حاجة ماسة والشافعي نص هذا في الكثير وقد ردد ( في ) مواضع من ( كتبه ) تحريم لبس جلد الميتة قبل الديباغ وحرام على المرء لأن يلبس جلود الكلاب والخنازير فتميز ظهور الغرض في إزالة النجاسة عن النظافة الكلية المعينة في الوضوء ولهذا خصص الشافعي الوضوء بالنية من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض وضاهى العبادات ( البدنية )
919 - ثم هذا الضرب الذي يفضى الكلام إليه يضيق نطاق القياس فيه فليس للناظر أن يؤسس في هذا الضرب أصلا يتخيل فيه مثل هذا المعنى الذي تكلفنا نظم العبارة ( منه ) لمعتبره بالقاعدة الثانية والسبب فيه ان هذا يدق مدرك النظر فلا يستقل بالتطرق إليه القوى البشرية ولا ينبغي أن يؤتى الإنسان عن خداع فإن مجال الظنون متسع لما يظهر ويدق فإنا لم نؤمر بربط الحكم لكل مظنون
920 - فالقول الوجيز فيه ان المعنى الذي ذكرناه في هذه القاعدة الثانية محال على غيب ينفرد بعلمه الشارع وعليه ابتني الإيهام الكلى بين التصريح والتلويح المذكورين في الطهارة ( فإنا قلنا ) تعميم الأمر بالنظافة عسر ورفعه مناقض للمكارم والمحاسن والقدر المعين لا تدركه أوهام البشر ولا عسر في أمتثال أمر الشارع في طهارات متعلقة بأوقات ( ثم الفطن ) يظن أنها في علم الشارع منطبقة على القدر المقصود الواقع في الغيب وليس من الممكن ربط الظن به فضلا عن دركه يقينا
921 - فإذا كان هذا مبنى الأصل الثابت فكيف يطمع الطامع في تأسيس أصل ( وتقعيده قاعدة ) تضاهى الطهارة في ( وفائها ) بالغرض الغيبي ولهذا نقول في هذا الضرب لا يجوز قياس غيره عليه وليس كالضرب الأول والثانى المتعلقين بالضرورة ( والحاجة ) فإن أمرهما بين ودركهما سهل ثم للشرع تصرف في الضروريات به يتم الغرض في القسمين الأولين وذلك أن
الذي لا يستباح إلا بالضرورة لفحشه أو بعده عن الحل فقد يرعى الشرع فيه تحقق وقوع الضرورة ولا يكتفى بتصورها في الجنس وهذا كحل الميتة ورب شئ يتناهى قبحه في مورد الشرع فلا تبيحه الضرورة أيضا بل يوجب الشرع الانقياد للتهلكة والانكفاف عنه كالقتل والزنا في حق المجبر عليهما
922 - فإذا الضرورات على ثلاث أقسام فقد لا تبيح الضرورة نوعا يتناهى قبحه كما ذكرناه وقد تبيح الضرورة الشيء ولكن لا يثبت حكمها كليا في الجنس بل يعتبر تحققها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير والقسم الثالث ما يرتبط في أصله ( بالضرورة ) ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص وهذا كالبيع وما في معناه وإنما كان كذلك لأنه لا أثر للفكر العقلي في تقبيح البيع والتبادل في الأعواض فكفى تخيل الضرورة في القاعدة ولا التفات إلى الآحاد فإن الأمر في ذلك مبنى على قاعدة كلية وليس البيع قبيحا في نفسه عرفا أو شرعا
923 - فأما الطهارات وما يضاهيها فقصاراه تحصيل أمر بوظائف واجبة من غير تصريح بوجوب المقصود فلا جريان للقياس في هذا الباب على معنى أن يعتبر غير الباب بالباب
وعلى هذا ينبنى سد باب القياس في الأحداث فإنها مواقيت الطهارات وثبتها الشرع في أمر مغيب عن دركنا ولم يثبت الطهارة عامة بل خصصها تخصيصا نقدر نحن بظنوننا أنها تأتى على تحصيل النظافة
فكيف نستجيز إثبات وقت فيما لا نطلع على إثبات أصله
924 - ثم ( قال ) القاضي رحمه الله كما لا تثبت الأحداث بالقياس فلا مجال للقياس أيضا في نفي الأحداث وهذا ( علق مضنه ) فليقف الناظر عنده ليقف عليه فإن احتكم محتكم باثبات حدث من غير ثبت فلا حاجة إلى قياس في درء مذهب الخصم ( وإن ) عزاه فيما زعم إلى قياس فالوجه أبطال قياسه وقد ذكرنا بطلان القياس في إثبات الحدث
925 - وإن تمسك بظاهر يتعرض مثله للتأويل في غير هذا الباب وأراد المعترض إزالة الظاهر بقياس فقياسه مردود فإن القياس كما لا يهتدي إلى تأقيت الطهارة لا يهتدي إلى نفي تأقيتها ولو ظن الظان أن القياس ألا ينتقض الطهر بشئ فهذا قول يصدر عن قلة البصيرة كما ذكرناه في استبهام الأمر في أوقات الطهر فإذا استبهم ثبوت الشئ استبهم نفيه وإذا صودف ظاهر لزم اتباعه ولم يثبت في معارضته قياس ومن ينفي الحدث فليكن ( متمسك المطالبة ) بثبت فيه والظاهر معتصم معمول به ( والعبادات ) وإن استرسلت في جريانها فتجري في هذه المضايق مجرى التنبيهات للقرائح الذكية والفطن فإذا حاصل كلام الراد إلى المطالبة بالإثبات فإذا وجد شيء يعمل بمثله سقط ما كان يتمسك به وليس معه ثبت في النفي
926 - ومما يتعلق بتمام الكلام في هذا الفصل أن القياس الجزئي في الأصل الذي فيه نتكلم لا يتصور أن يجري معنويا
نعم لا ينحسم فيه قياس الشبه فإن كل ما يتطرق إليه العلم يتطرق إليه الظن فإذا ينبني على هذا أن إثبات كون الملامسة حدثا بالقياس على خروج الخارج من السبيلين لا مطمع فيه فإنه لا يجمعهما معنى ولا شبه
927 - فأما اعتبار أصحاب أبي حنيفة خروج النجاسات من غير السبيلين بما يخرج من السبيلين ففيه فقه وغايتهم في ذلك تشبيه نجاسة تنفصل من محل الخلاف بالنجاسة التي تنفصل عن أحد السبيلين فإذا أحسنوا الإيراد قربوا الشبه واعتبروا الخارج بالخارج والمخرج بالمخرج
928 - ولأصحاب الشافعي أن يقولوا لا نسلم فإن خروج النجاسة من أحد السبيلين لا يقتضي الوضوء لأمر يتعلق بالنجاسة فإن الذي يبتدر إلى الفهم من أمر النجاسة رفعها عن محلها وإزالتها عن موردها فأما ربط إيصال الماء إلى غير مورد النجاسة عند اتصال النجاسة بمحل آخر فلا محمل لذلك إلا التأقيت ثم الذي يليق ( بالتأقيت ) على ما تمهده القول فيه أن يربط ( سبب نظافة ) الأعضاء البارزة فضلا بما يتكرر في الجبلة على اعتياد لائق به حتى تنتهض الطهارة وظيفة مكررة متعلقة بأوقات يغلب تكررها فأما الرعاف وما في معناه فليس في حكم ما يتكرر
929 - وليعلم الناظر أنهم وإن شبهوا على الظاهر فقطع شبههم بما ذكرناه أقيس للغرض وأقرب إلى الدرك وخاصيه النجاسة ساقطة الاعتبار في الأصل والفرع ( المعتبر به ) المتفق عليه
930 - نعم ( بحق ) ردد الإمام ( المطلبي ) قوله فيه إذا انسد المسلك المعتاد وانفتح سبيل آخر للنجاسة المعتادة الخارجة من المحل على ما يفصله الفقيه والسبب فيه أن هذا الان يشبه النجاسة المعتادة الخارجه من المحل المعتاد من جهة أن الطبيعة تقتضى تكرر دفع الفضلات من السبيل المنفتح فهذا منتهى الغرض في ذلك
931 - وأما الضرب الرابع فقد مثلناه بالكتابة فهو في الأصل كالضرب الثالث الذي انتجز لبفراغ الفراغ منه في ان الغرض المخيل الاسحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها بل ورد الأمر بالندب إليها فان العتق في الابتداء محثوث عليه مندوب إليه فهذا الضرب يتميز عن الضرب الثالث المقدم عليه فإن الشرع احتمل فيه خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة المالك عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعاوضات ولم يجر مثل ذلك في الضرب الثالث وإن اختص الضرب الثالث بإيجاب الطهارة ولا تجب الكتابة على رأي معظم العلماء
932 - وذهب مالك رحمه الله في طوائف من السلف إلى وجوبها وإسعاف العبد إذا طلبها ووجد فيها خيرا ومأخذ مذهبه في ذلك يقرب من إيجاب الطهارات مع العلم بأن النظافة في نفسها لا تجب بأمر مقصود وتعلق أيضا بظاهر الأمر في قوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا
933 - والشافعي رحمه الله رأي الإيتاء واجبا كما أنبا ( عنه ) قوله تعالى ( وآتوهم من مال الله فكان هذا مما اعترض به عليه إذ أجرى إحدى الصيغتين
على أقتضاء الإيجاب وحمل الأخرى على الاستحباب
934 - فأما ما أشرنا إليه من تشبيه هذا الضرب على رأي مالك ( بالطهارات فهو ) يصلح لعقد المذهب وإلا فقد مهدنا أن القياس لا يجرى في محاولة تأصيل الأصول على هذا الوجه وإنما يجري ( طرف ) من التشبيه في ( جزيئات ) النوع من غير خروج عنه وأما التعلق بالظاهر فأوجه ولكن الشافعي لم يعتمد في ايجاب الإيتاء مجرد الظاهر لكن عول على سير الصحابة رضي الله عنهم وما كان منهم ونقل آثارا مطابقة لمعتقده وضم إليه أن الكتابة يتضمنها إرفاق من كل وجه والإيتاء منه وقد رآه الأولون على الاطراد يتضمنها والتبرعات لا تطرد سيما في الأموال والكتابة تلزم في حق السيد ومن متضمنها الرفق المنقول وما تقرر يلزم شيئا إذا صح لم يلزم الإقدام عليه على أن لا أرى مذهب الشافعي مسألة أضيق ( مسلكا ) من الإيتاء
935 - ونحن نقول وراء ذلك أما مالك فسوى بين الكتابة وبين باب الطهارات في إثبات إيجاب الأصل ولاح على أصله ( إجراء ) قسم الكتابة في وضع الشرع على باب الطهارات ( باحتمال ) أمور خارجة عن أقيسة المعاوضات فيها والشافعي لم يوجب الكتابة وقال للشرع تعبد في الإيجاب متبع وإن لم يكن منقاسا كإيجاب الطهارة وإن لم تجب النظافة وللشارع أحكام في رفع حجره وإطلاق حجر القياس اطراده كما جرى في الكتابة فكان احتمال الشرع لهذا في الكتابة على خلاف القياس ( مضاهيا لإيجاب الشرع الطهارة على خلاف القياس )
ويخرج من ذلك تعادل الضربين في خروج الطرفين عن القياس فانتهض إيجاب الطهارة ( محصلا ) لمكرمة النظافة كما انتهض رفع الحجر في الكتابة مرعيا في تحصيل العتاقة ثم قال الشافعي في رفع الحرج في الكتابة ترغيب مالي يتعلق بغرض بين في تحصيل الكسب فإن العبد يحرص إذا ( طمع ) في العتاقة ( والسيد ) يتحصل على كسب كان لا يتحصل له بغير الكتابة بظاهر الظن فخرجت الكتابةعن قبيل القرب لظهور الغرض منها ولم يكن في الطهارات غرض ناجز ( فلاق ) بها ترغيب في الثواب وهذا يقتضي إلحاقها بالقرب المفتقرة إلى النيات فهذا تأسيس القول في البابين ونحن الآن نرسم مسألة في قسم الكتابة تمس إليها حاجة الفقيه مسألة
936 - قد ثبت أن الكتابة الفاسدة تثبت فيها أحكام مشابهة لأحكام الكتابة الصحيحة فرأى أصحاب أبي حنيفة أن يعتبروا البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة وقضوا بأن البيع الفاسد يفيد الملك إذا اتصل به القبض على تفصيلهم المعروف وقد امتنع طوائف من أئمتنا من قبول هذا القياس ونحن نكشف الغطاء فيه مستعينين بالله تعالى بعد ذكر مسلك الفريقين اعتراضا وجوابا
937 - قال الشافعي رحمه الله لا يقبل القياس في الفرعين فان الكتابة
الصحيحة خارجة عن قياس المعاملات ( والفاسدة ) متفرعة عليها فإذا انحسم مسلك القياس في الأصلين ترتب عليه امتناع القياس في الفرعين فقال أصحاب أبي حنيفة إذا ثبتت الكتابة والتحقت بالمعاوضات الصحيحة فلا ننظر بعد ثبوتها إلى خروجها عن القياس ولكنها يقضي فيها وعليها بقضاء المعاوضات حتى نقول يشترط في المعاوضات ولا تنحسم الأقيسة في التفاصيل مع إمكانها بخروج أصل الكتابة عن قياس المعاوضات واعتبار البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة من النظر في التفاصيل بعد تسليم الأصل وتنزله على حكم التوقف والفاسد في كل باب حائد عن موجب التعبد لذلك فسد فإذا لم يمتنع التحاق الفاسد بالصحيح في الكتابة مع حيد الكتابة الفاسدة عن الصحيحة فينبغي ألا يمتنع مثل ذلك في البيع وكل أصل مقر على قانونه منقاسا كان أو غير منقاسى والفاسد في كل باب حائد عن مراسم الشرع فذا منتهى كلام الفريقين مع فضل بيان شاف في الإيراد لا يستقبل به فقيه ليس له حظوة وافرة من الأصول
938 - ونحن الآن نقول هذا الجمع لا ينتظم في مناظم المعاني ولا يستبد في ذلك قياس معنوي من جهة أن شرط المعنى اتجاهه أو انقداحه في الأصل ثم إذا تقرر في الأصل معنى واطرد في الفرع فإذا ذاك يجمع الجامع بالمعنى وليس ( معنا ) معنى فقيه يتضمن تنزيل الكتابة الفاسدة منزلة الكتابة الصحيحة فإن الذي ( لا ) يتمارى فيه الناظر في الدرجات الأول من نظره أن الفاسد ليس مطلقا للشرع والاحكام تثبت إذا جرت أسبابها موافقة الشرع ويهون على الرشيد االفطن تقرير خروج الكتابة الفاسدة في نزولها منزلة الكتابة الصحيحة عن القياس المعنوي والاعتبار الكلي وإذا فعل ذلك ألخسم مطمع الخصم في قياس المعنى وآل النظر إلى التشبيه
939 - فإن تفطن الخصم وسلم انحسام المعنى واجتزأ بالتشبيه وقال البيع الفاسد بالإضافة إلى الصحيح في تشبيه الكتابة الفاسدة بالإضافة إلى الصحيحة ولا يلتزم إبداء معنى في الأصل وإظهاره في الفرع فعلى الناظر في ذلك وقفة وإمعان نظر فيما يدرأ هذا المسلك وهو النقض الصريح فإن لم ننزل كل فاسد منزلة الصحيح إذ النكاح الفاسد ليس كالصحيح في إثبات حق لا على جواز ولا على لزوم وأقرب من ذلك البيع نفسه فإن فاسده من غير قبض لم ينزل منزلة صحيحة والتشبيه شرطه الطرد وأحق قياس بالبطلان والنقض قياس الشبه فإن المتمسك بالمعنى قد يعن له طرد المعنى ما لم يمنعه مانع وأما الشبه فقصاراه ظن على بعد فإذا عارضه نقض وهى وانحل فهذا فن من الكلام واقع يضطرهم إلى النزول عن الشبه والترقي إلى معنى وعن هذا قالوا ما اتسع طرقه فالفاسد أحد طرقه وزعموا أن الاتساع يشعر بإحلال الفاسد محل الصحيح ومهما اضطروا إلى المعنى وحاولوه افتضحوا واجترءوا ولا يكاد يخفى إبطال هذا المسلك وما في معناه فإذا بطل الجمع المعنوي وانتقض الشبه لم يبق لمتمسكهم بالكتابة الفاسدة وجه
940 - ومما نذكره في ذلك أن الكتابة الفاسدة في وضعها مخالفة للبيع الفاسد على رأى المخالف فإن المكاتب كتابة فاسدة يتسلط على أكسابه ( بنفس العقد ) تسلطا صحيحا وتنفذ تصرفاته فيها على الصحة نفوذها في الكتابة الصحيحة وليس البيع الفاسد كذلك وإن اتصل بالقبض وهذا يستعمل أيضا في ( معرض النقض ) المعنوي
941 - ومن دقيق القول في ذلك أن تحصيل العتاقة بوجود الصفة مما يجب القضاء بصحته فإن تعليق العتاقة على أداء العوض الفاسد صحيح وإن فسد العوض ثم التعليق إذا صح فقياسه ألا يرفع وأثر فساد الكتابة في رفع وجوب التعليق وهذا خارج ظاهر الخروج عن قياس بابين أحدهما حكم المعاوضة والثاني حكم تعليق العتق والعتق أنفذ التصرفات وأغلبها فالوجه استيلاء حكمه فإن مؤقته يتأبد ومبعضه يتمم فكيف اكتسب ما ليس يفسد وإن ذكر على صيغة الفساد ( قضية ) الفساد ( من ) معاملته واهية بالفساد والجواز فهذا يمنع من ( التشبيه ) ويعارض ما يأتي به ( المشبه ) وينزل في المظنونات منزلة بعد الشيء وإن عن التحاق بالمنصوص عليه لكونه في معناه وقياس الشبه مستند إلى القياس الذى يقال فيه إنه في معنى الأصل فهذا منتهى كلام الفقهاء
942 - وأنا أذكر مسلكا أصوليا يغنى عن جميع ذلك فأقول وقد مهدت أن القوانين المبنية على المكارم الكلية لا يجرى فيها تمهيد أصل قياسا على أصل وإنما الأقيسة في الأصول إذا لاحت المعانى وإنما تظهر المعانى في الضرورات والحاجات وأقرب قطاع الشبه تعدد الأصول فيما لا ينقدح فيه جامع ضروري أو حاجى
والذى نختتم به الكلام أن أصلين مستندهما المحاسن والمكارم لا تشبه فروع أحدهما فروع الثاني من جهة تعلق كل واحد بأمر ( غيبي لا يضبطه الفكر إذ لا يجري كل مقصود في الغيب على قضية واحدة
943 - فإذا لاح ذلك وتجدد العهد به فالبيع من الضروريات فكيف ينقدح تشبيه فاسده بفاسد قسم لا ضرورة فيه ولا حاجة وهذا قاطع للشبه بالكلية فإذا انقطع ( الشبه ) ولم يلح معنى لم يرتبط الأصل بالفرع
944 - نعم إذا كفى الشافعي احتجاج الخصم ( بالكتابة ) بقيت عليه غائلة في انتقاض ما يطرده ( من ) معناه بالكتابة فان قال المعنى حيد الفاسد عن وضع الشرع والمصير إلى أن الفاسد غير معتد به ولا تنتقل الأملاك إلا بمسلك شرعي وإذا نحن اعتمدنا ذلك صدمتنا الكتابة الفاسدة نقضا فلا وجه إلا مسلكان في دفعه أحدهما أن يدعى أن الكتابة صحيحة في جهة مقصودها وقد تناهينا في تقريب ذلك في ( الأساليب ) والمسلك الثاني وهو الأصولي ألا يلتزم في أقيسة المعاني النقض بالمنتزع عنها كما سنمهده في باب النقض إن شاء الله تعالى
945 - والضرب الخامس متضمنه العبادات ( البدنية ) التي لا يلوح فيها معنى مخصوص لا من مآخذ الضرورات ولا من مسالك الحاجات ولا من مدارك المحاسن كالتنظيف في الطهارة والتسبب إلى العتاقة في الكتابة ولكن يتخيل فيها أمور كلية تحمل عليها المثابرة على وظائف الخيرات ومجاذبة القلوب بذكر الله تعالى والغض من العلو في مطالب الدنيا والاستئناس بالاستعداد للعقبى فهذه أمور كلية لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولا يمتنع أيضا أن يتخيل فيها أمر آخر وهو أن الإنسان يبعد منه الركوب إلى السكون فالقوى المحركة تحركه لا محالة فإن تركت تحركت في جهات الشهوات وإذا استحثت بالرغبة والرهبة على العبادات انصرفت حركاتها إلى هذه الجهات وهذا فن لا يضبطه القياس ولا يحيط به نظر المستنبط والأمر فيه محال على أسرار الغيوب والله تعالى المستأثر به فلا يسوغ اعتبار ضرب إحداها في جهة اختصاصها ولا يسوغ اعتبارها في إثبات قضيتها الخاصة بغيرها من الضرورب فإنا منعنا اعتبار ضرب بضرب فيما لا يستند إلى ضرورة وحاجة وإن كان يغلب على الظن ( تعين ) مقصود منه على منهاج الأمر بالمحاسن فلأن يمتنع ذلك من العبادات التي لا يتعين منها مقصد ( أولى وأحرى )
946 - فأما اعتبار ( البعض من هذا الضرب بالبعض ) فقد ينقدح فيه معان فقهية نحو اعتبار القضاء بالأداء في أشتراط تبييت النية والجامع أن النية قصد ومرتبطه الحال أو ( عزم ) ومتعلقه الاستقبال وقد أمرنا بإيقاع الصوم أداء وقضاء وعبادة والعبادات إنما تقع على قضية التقرب بالقصد وما مضى لا على حكم القرب يستحل انعطاف القصد والعزم عليه فهذا من ( أجلى ) المعانى المعتمدة وكذلك ما ضاهاها
947 - فأما ما يثبت برسم الشارع ولم يكن معقول المعنى فلا يسوغ
القياس فيه وهذا كورود الشرع بالتكبير عند التحريم والتسليم عند التحليل ومن هذا القبيل اتحاد الركوع وتعدد السجود فمن اراد أن يعتبر غير التكبير بالتكبير مصيرا إلى أنه تمجيد وتعظيم فقد بعد بعدا عظيما وزال من القاعدة الكلية فإن إيجاب الذكر عند التحليل ليس معقول المعنى
948 - وإذا قال الحنفي معنى التكبير معقول قيل ( له ) اشتراط ما يتضمن تمجيدا عند التحريم غير معقول ولا ينفع الاكتفاء يكون التكبير معقول المعنى فإن هذا يرجع إلى وضع اللسان ومعنى الصيغ وليس هذا من معاني الشرع في ورد ولا صدر
949 - قال الشافعي رضي الله عنه في مجاري كلامه في رتب النظر من قال لا غرض للشارع في تخصيص التكبير وفي الاستمرار عليه ولا غرض لصحبة ومن بعدهم من نقله الشرائع والقائلين بها في التكبير على التخصيص وقد استتب الناس عليه مع تناسخ العصور واعتقاب الدهور قولا وعملا وتناوله الخلف عن السلف حتى لو فرض عقد الصلاة بغيره لعد نكرا وحسب هجرا ( فمن ) قال والحالة هذه لا اثر لهذا الاختصاص وإنما هو أمر ( وفاقي ) فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة وقضايا مقاصد المخاطبين فيما يؤمرون به وينهون عنه ولو كان غير التكبير كالتكبير لكان ذكر الشارع التكبير كلاما عريا عن التحصيل نازلا منزلة قول القائل ابتداء أيحرم على الجنب سورة آل عمران مع القطع بان
غيرها من السور بمثابتها ولا ينطق المبتدئ بها إلا ويبين لغوة على عمد إن لم يكن ساهيا
950 - فإذا ثبت قطعا أن تخصيص التكبير ثابت فإن اعترفوا بتعيينه ( بدءا ) ثم طعموا في اعتبار غير التكبير بالتكبير بجامع التمجيد وهو بعينه جار في الاستحباب فقد طعموا في غير مطمع فالخصم بين أمرين أحدهما أن ينكر قصد التخصيص من الشارع فيكون مباهتا قريبا ممن يجحد الضرورات في المعقولات وإن اعترفوا بالتخصيص في وجه وأرادوا الجمع في وجه آخر ينقضه ما سلموه من التخصيص فقد تناقض كلامهم ويخرج مما ذكرناه أن التكبير مخصوص غير معقول الاختصاص فرفع الاختصاص مع ثبوته محال
951 - ومن نظر نظر ذي غرة فقاس غير التكبير على التكبير أوطأه إذ ذاك تطرق فاحشة لا يبوء بها من وقر الدين في صدره وهو إقامة عمد الحدث مقام التسليم من جهةان التسليم يناقض الصلاة مناقضة الحدث إياها ومن استجاز في محاسن الشريعة أن يلحق عمد الحدث بما يجيزه الشارع من التسليم في أختتام الصلاة فهو بين معاند يظهر خلاف ما يضمر وبين من أعمى الله تعالى بصيرته نسأل الله تعالى التوفيق ونعوذ به من الانهماك في أوضار التقليد
952 - ثم أن أجرى مجر ( في ) هذا القسم كلاما ( ظاهره ) التشبيه مثل أن يقول تعين الركوع كتعين التكبير وامتناع إقامة السجود مقامه يضاهي امتناع إقامة غير التكبير مقامه فقد تردد كلام الشافعي في ذلك
فتارة يسميه استشهادا والمعنى به أن ذلك يذكر تقريبا وتحقيقا لمنع القياس ويضرب أمثالا وهو مشبه بتقرير الضرورات على من يجحدها فإنه لا ( يجدي ) مع جاحدها مسلك نظري والوجه في مكالمته إن ريم ذلك تقريب الأمر بضرب الأمثال فهذا مسلك وقد ويقول الشافعي هذا من مآخذ قياس الشبه فإن الاختصاص بالتكبير مأخذه مأخذ الاختصاص في الركوع واذا شبه احدهما بالثاني كان ذلك من قياس الشبه وإن كان ( نتيجته ) منع القياس فإن الاختصاص حكم مطلوب والقياس الشبهي جار فيه نعم القياس المعنوي لا يجري إذ الاختصاص معناه ( نفي ) المعنى المتعدي من محل التخصيص والتنصيص ( فطلب ) المعنى حيث لا معنى بعيد هذا وقد نجز غرضنا من تقاسيم هذه ( الضروب ) فان عدنا إلى تقاسيم المعنى بعد ذلك كان ذلك لغرض آخر ونحن نرى أن نقف حيث انتهينا ونستفتح القول في الاعتراضات
( الباب الرابع ) ( الاعتراضات وأقسامها ) 953 - ونقسمها قسمين أحدهما يشتمل على ما يصح عند المحققين ولا احتفال بما يشذ من خلاف منقول عمن لا اكتراث به والقسم الثاني يحتوي على ما يفسد من الاعتراضات عند المحققين
فصل القول في الاعتراضات الصحيحة 954 - الأول منها المنع وهو يتوجه على الأصل ويقدر متوجها على الفرع فأما المنع في الأصل فإنه يجري من وجوه أحدها منع كون الأصل معللا فإن الأحكام تنقسم باتفاق النظار إلى ما يعلل وإلى مالا يعلل فمن استمسك بأصل فهم مطالب بتثبيت كونه معللا وهو عندي إنما يتوجه على من لم يذكر تحريرا بعد فأما إذا حرر فإنه قد ادعى أن ما أبداه من الوصف علة في حكم الأصل فان الفرع في العلة ( المحررة ) يرتبط بالأصل بمعنى الأصل وهو الجامع وسبيل افتتاح النظر من طريق القياس أن يبين الرجل حكما في الأصل ويطلب علته فاذا صحت عنده علة الحكم والفاها متعدية أصلها موجودة في غيره فإنه يحكم فيما توجد العلة فيه بحكم الأصل الذي ثبت عنده
تعليله فاما إذا لم تظهر علة ( فلم يات بديل ) فلا وجه ( لعد ) المنع في هذا المقام اعتراضا فإن المسئول إذا ذكر الأصل واقتصر عليه فلا ينتهض السائل للاعتراض بل يرتقب استتمام الكلام وما ذلك إلا لانه لم يدخل وقت الاعتراض بعد وان اقتصر على ذكر الأصل وضم إليه ادعاء كون الفرع بمثابه عد عريا عن التحصيل من جهة أنه لم يذكر ربطا ولم يأت بصيغة قياس بعد فسبيل مكالمته إذا تردد وتبلد أن ينبه على اقتصاره على بعض صيغة القياس فإن ذكر معنى ادعاه علة فإن استمكن منه ففى ضمنه إثبات القول كونه معللا
955 - ومن لطيف القول في ذلك أن تعيين العلة وإثبات أصل التعليل مسلك واحد فإن الإنسان يستبين كون الشيء معللا بأن يتجه فيه معنى يصلح لكونه علة وليس من الممكن أن يعرف بطريق الاستنباط كون الشيء معللا على الجملة نعم إن انعقد عليه إجماع أو ورد فيه نص فيستند ( الأعتقاد ) إليهما وإن كان التلقي من الاستنباط فتعيين العلة وتثبت الأصل في التعليل يثبت بمسلك واحد فهذا تحقيق القول في المطالبة بكون الأصل معللا وبيان محله ومنصبه في الجدل
956 - والنوع الثاني من المنع إنكار وجود ما ادعاه المستنبط علة وهذا كثير التداور في المركبات فإن من قاس على انبه خمس عشرة سنة فقد يدعى بلوغها فينكره الخصم فهذا وما يضاهيه إنكار وجود العلة وعلى المطالب فيه ان
( يثبت ) بطريقة على ما سيأتى ذلك في تقاسيم المركبات إن شاء الله تعالى
957 - والنوع الثالث منع الحكم في الأصل فإذا توجه ذلك على المسئول تعين عليه إثباته فإن ( أثبته ) بطريق إثباته استد قياسه وكان بانيا والبناء مقبول ( من المسئول ) ولو رددنا إلى حكم الدين فليس فيه ما يمنع سائلا من نصب دليل ولكن مواقف النظار وأهل الجدال على مسلك رأوه اقرب المسالك ( إلى الدرك ) وأقصدها فأثبتوا الدليل والبناء والابتداء للمسئول وأقاموا السائل مقام المعترض حتى ينتظم على القرب غرض ويلوح في المطلوب مدركه فلو تصدى كل واحد للدليل والاعتراض لانتشر الكلام وطال المرام ولا ينقضى مجلس ( عن ) فائدة ثم المسئول لا يدل في كل موضع بل يدل حيث ( يبنى ) ولو اعترض على علة ابداها السائل معارضا معترضا أو مسندا إليها تأويل ظاهر فإذا أورد المسئول عليها نقضا فمنعه السائل لم يكن للمسئول إثباته بالدليل فإنه بإثباته النقض لا يستفيد إثبات مذهبه الذي سئل عن إثباته وإنما يستفيد إبطال علة السائل وهو في هذا المقام معترض والاعتراض والبناء إذا اجتمعا انتشر الكلام ووقع المعنى المحذور الذي لأجله أقام الجدليون بانيا ومعترضا ثم قد يأتى السائل بما يصلح للبناء وهو يبغي به الأعتراض بطريق المعارضة كما سيأتي ذلك فأما المسئول فيضطر إلى الاعتراض ( بطريق المعارضة ) إذا عارض السائل
958 - والنوع الرابع من المنع المنع من كون ما أبداه المسئول علة فيقال ما الدليل على أن ما أظهرته علة فيتمسك المسئول بما يثبت به العلل وقد مضى القول فيه مفصلا
959 - فوجوه المنع إذا على ما نظمه هؤلاء أربعة المنع من أصل التعليل والمطالبة بتعيين 0 التعليل ) والمطالبة بتحقيق ( وجود ) ما ادعاه المعلل علة ومنع الحكم والمطالبة بإثبات ما عينه
960 - وزاد بعض المتكلفين منع القياس والمطالبه بإثبات أصل القياس وهذا ليس بشيء ( فإنا ) في الاعتراضات على القياس وقد ثبت اصله على منكريه فهذه وجوه المنع في الأصل
961 - فأما المنع في الوصف فلا يتجه فيه إلا منع واحد وهو منع وجود علة الأصل في الفرع وباقي الوجوه توجه على الأصل فإن من وجوه المنع في الأصل المطالبة بأن ما أظهره والمستنبط يصلح لكونه علة وهذا حقه أن يخصص بالأصل إذ منه الاستنباط وإليه الرد به والاعتبار إذا ثبت صلاح ذلك المعنى لكونه علة لم يحتج إلىذلك في الفرع وقد انتجز الفراغ منه فلا يبقى مع الفراغ من مطالبات الأصل إلا ممانعة في أن المعنى الذي ثبت علة في الأصل غير موجود في الفرع وهذا يسمى منع الوصف وقد انتهى غرضنا من القول في المنع
والثاني من الأعتراضات الصحيحة طلب الإخالة
962 - ذا وهذا من أهم الأسئلة وأوقعها في الأقيسة المعنوية فعلى المتمسك بما يدعيه معنى أن يوضح ( مناسبته ) للحكم وإقتضاءه له وإشعاره به فإذا عجز عن ذلك مع ادعائه المعنى كان ذلك انقطاعا منه بينا
963 - قد وقد قال القاضي رحمه الله في بعض مجاري كلام ليس هذا من الأسئلة والاعتراضات بل حق على كل مسئول أن يبدأ بإظهار الإخالة قبل أن يطالب بها فإنه لا يكون آتيا بصورة القياس المعنوي إلا على هذا الوجه ولو سكت عن إظهاره كان مقتصرا على بعض العلة نعم لو ضمن تعليله لفظا ظاهرا أشعر بالإخالة كفى ذلك فإن وجه السائل طلبا كان منسوبا إلى القصور عن درك لفظ التعليل هذا إذا كان تمسكه بقياس المعنى
964 - فأما إذا تمسك بقياس الشبه فلا مناسبة ولا إخالة على الوجه المذكور في المعاني ولكن قد يحتاج المشبه إلى إظهار الشبه الخصيص المغلب على الظن فيكون الطلب بذلك والجواب عنه على حسب ذلك كما إذا شبهنا الوضوء بالتيمم فقد التزمنا أن نذكر شبها أو أشباها تقرب الفرع من الأصل وإن كان لا يقتضي الحكم اقتضاء الإشعار والإخالة ولا يقع الاكتفاء بأمور عامة لا تغلب على الظن ولا يتعرض المشبه لأمر عام إلا وينتقض عليه تشبيهه وإذا تصون عن النقض بارتياد خصوص الأشباه فقد خصص شبها مغلبا على الظن و ( الثالث ) من الاعتراضات الصحيحة القول بالموجب
ولا شك أنه إذا استد على شرطه أسقط الاستدلال وقطع المستدل ثم الأصوليون تارة يقولون القول بالموجب ليس اعتراضا وهو لعمرى كذلك لأنه لا يبطل العلة لأنه إذا جرت العلة وحكمها متنازع فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى ولكن المتمسك بها في محل النزاع منقطع فإنه أبداها محتجا بها وهو يروم إثبات المتنازع ( فيه ) وقد تبين أن الأمر على خلاف ما قدر وهو بمنزلة ما لو رام إثبات المختلف فيه ونصب علة في غير محل النزاع
966 - ثم القول بالموجب ينشأ من اعتناء المعلل بموجب الحكم ولا يتصور قول ( بالموجب ) ومضمون العلة نفي حكم وإثبات حكم فإن المعلل يثبت ما ينفيه الخصم من الحكم أو ينفي ما يثبته فكيف يتصور المطابقة والأمر كذلك نعم إذا قال الحنفي في مسألة ماء الزعفران ماء طاهر خالطه طاهر فالمخالطة لا تمنع صحة الوضوء قال السائل ( الشافعي ) المخالطة لا تمنع ثم ينقسم في هذا مقام السائل فقد ينقدح له ( إبداء مقتضى ) آخر سوى ما ذكره المعلل مع الاستمرار على الخلاف في الحكم فهذا إن اتفق فهو الغاية في هذا الفن من الاعتراض والغالب في ذلك أن يكون المعلل ذاكرا لبعض ما هو ( علة ) عند السائل فيبين المعترض أنه ليس موجبا على حياله وهو كما ضربناه مثالا الآن فإن المخالطة لها أثر عند الشافعي ولكنها بمجردها لا توجب منع الاستعمال فإن زادالمسئول فقال المخالطة المغيرة لا توجب منع الاستعمال ألزم السائل القول بالموجب أيضا فإن المخالطة المغيرة لا تمنع التوضؤ فإن زاد وقيد الاعتلال بتفاحش
التغيير وإمكان الاحتراز لم يجد أصلا يقيس عليه فإن حذف التعرض للموجب فقال ماء طاهر خالطه طاهر فيجوز التوضؤ به انتقضت العلة كماء الباقلاء إذا كان مغليا بالنار وهذا مضيق يدفع فلا يجد المعلل محيصا عن التعرض للنقض أو القول بالموجب
967 - ومما يطرأ في هذا الفن شيء ليس للرد والقبول فيه مجال وقد ينتهي الأمر بين المعترض والمجيب إلى قريب من الإلباس ونحن نبين الوجه فيه ( فإذا ) قال الشافعي في مسألة تمكين العاقلة مجنونا جنون أحد المتواطئين لا يوجب درء الحد عن الموصوف بالعقل كجنون الموطوءة فقد يقول الحنفي الجنون ليس دارئا وإنما الدارئ خروج وطء المجنون عن كونه زنا فليست المرأة ممكنة زانيا فيقول المجيب إن صح ما قلت فالجنون هو الذي أخرج فعله عن هذه التسمية وغرضي اسقاط أثر الجنون فيقول المعترض نصبت الجنون علة وهو عندي علة العلة وإطلاق التعليل ( بالجنون ) يشعر بكونه مماسا للحكم من واسطة فيجر التفاوض لبسا والذي يختاره المعلل ان ( يقي ) ( علته ) مواقع اللبس حتى لا يكون متمسكا بما يلتحق بمجملات الألفاظ على ما سنعقد في ذلك فصلا إن شاء الله تعالى
968 - فالوجه إذا أن نقول لا ينتهض الجنون سببا فإن قيل بموجب علته أمكن الدفع فإنما يؤثر وإن كان لا يستقل يسمى سببا وإن كان لا يحسن تسميته موجبا ما لم يستقل وحفر البئر سبب الهلاك في الشرع وتسمية سببا لا يجحده أحد من حملة الشريعة وإن كان لا يستقل ما لم ينضم إليه أسباب وإذا قال القائل ثبت هذا الحكم بأسباب كان كلاما منتظما ومعناه أنه أثبت باجتماع أسباب ولا يحسن أن يقال ثبت هذا الحكم بعلل إذا كانت كل واحدة لا تستقل بالاقتضاء فإن العلة المركبة من أوصاف يجوز أن يسمي كل وصف منها سببا في الحكم من حيث إنه لا بد منه وليس كل وصف علة وإنما العلة مجموع الأوصاف وإذا قال القائل لا ينتهض كذا سببا وكان لما ذكره أثر عند الخصم ولا يستقل الحكم دونه فلا يمكنه والحالة هذه أن يقول بموجب العلة و ( الرابع ) من الاعتراضات والنقض
969 - وهو تخلف الحكم في بعض الصور مع وجود ما أدعاه المعلل ( علة ) ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة وحكى أصحاب المقالات عن طوائف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله أنهم قالوا ليس النقض من مبطلات العلل ولكن متى عورضت علة المعلل بنقض فعليه تعليل تلك المسألة التي ألزمها نقضا والفصل بينهما وبين ( المسائل ) التي ادعىاطراد العلة فيها
ونحن نذكر مسالك الفريقين ولا نتعدى مسلكا حتى نتبعه بما عندنا فيه ثم نذكر عند نجاز المسألة ما هو الحق المبين عندنا
970 - فأما الصائرون إلى أن النقض يبطل العلة فقد تمسكوا بطرق منها أنهم قالوا النقض يلحق العلة بعد أن نقضت بالقول المتكافئ والأقوال المتكافئة ساقطة وبيان ذلك بالمثال أن من قال في محاولة إثبات تحليل النبيذ مائع فيحل ( كالماء ) والمعلل غير مبالي بدخول الخمر وغيرها نقضا والمعترض يقول مائع فيحرم كالخمر وهو أيضا لا يحتفل بما يرد عليه من النقض وليس أحد المسلكين بأولى من الثاني وهذا فيه نظر عندنا من جهة أن بطلان المسلكين كان لوقوعهما طردين خارجين عن مسالك المعاني والأشباء المعتبرة فلا يكاد يقوى التعلق بهذا والمعترض متمكن من إبداء وجه من الإبطال سوى ما ادعاه المتمسك بالطريقة
971 - ومما تمسك به هؤلاء أن قالوا من يدعى علة لا يخلو إما أن يدعيها عامة أو يدعيها خاصة ( فإن ادعاها خاصة ) فلتنحصر على محل النص وإن ادعاها عامة ولم تعم فليست وافية بحكم العموم فإنها إذا تعدت لم يكن محل في تعديها أولى من محل وهذا على رشاقته لا يستقل دليلا فإن للمعترض أن يقول أطردها ما لم يمنعي مانع فإن ظهر مانع عللته واستمرت على الطرد في غيره
972 - ومما تتعلق به هذه الطائفة أن من يطرد العلة مدع جريانها متحديا
باطرادها مشبه بمدعى النبوة المؤيدة بالمعجزة فإنه يتحدى بها قائلا لا يأتي أحد بمثلها فلو أتي آت بها بطل تحديه وهذا تخيل لا حاصل له من جهة أن من يعلل النقض لا يتحدى بعموم العلة والمعجزة لا تدل على الصدق قطعا مع فرض صدورها من كذاب
973 - وربما يستدل القاضي رحمه الله لهؤلاء بكلام منشؤه الأصل والقاعدة المعتبرة في الباب وهو أنه قال قد عرفنا تمسك الأولين بالمعاني الجارية فاتبعناهم ولم يثبت عندنا أن معانيهم كانت تنقض ولا ينفكون عنها فهذا مما لا يقطع بثبوته عن الأولين ولا معتصم في إثبات العمل بالقياس إلا الإجماع والاتباع وهذا الكلام وإن كان آثر مما تقدم فقد ينقدح فيه أن يقول قائل ما صح عندنا أنهم كانوا يحذرون ويحترزون ويتصونون تصون المتأخرين ولكنهم يطلقون المعاني ثم إن عن مخالف عللوه وميزوه عما فيه الكلام ( إذ ) كان كلامهم تأسيسا وابتداء ولم يكن كلامهم محررا يدور في النفوس ( منضجا ) بنار الفكر متقدا بذكاء السبر فلا وجه لما ذكره القاضي إذا
974 - وأما من لم يرد النقض مفسدا للعلة فإنه يتمسك بوجوه منها أن الصيغ العامة الواردة لا يمتنع تخصيصها إذا قامت دلالات تقضي التخصيص فإن لم تقم جرت الصيغة على عمومها ولفظ المعلل لا يزيد منصبه على لفظ الشارع ثم المتمسك بالصيغة العامة من لفظ ( الشارع ) يتعلق بها وهي على تجويز أن يخصص بدلالة
975 - وقد قال القاضي هذا إنما يلزم من يثبت للعموم صيغة ولست منهم وقال أيضا في إلزام المعتزلة البيان عندكم لا يتأخر عن مورد الخطاب ويقتضي ذلك أن تقترن القرائن المخصصة باللفظ فهو مع قرائنه محمول على الخصوص وهذا يناظر في علة المعلل ما يتقيد بقرينة مخصصة حذرا مما يفرض نقضا واردا على اللفظ العام وقال أيضا متحكما على من أثبت للعموم صيغة التخصيص على رأي هؤلاء هو الاطلاع على قرينة ولو فرضت صيغة عامة في وضعها متجردة عن القرائن اللفظية والحالية لكانت نصا في اقتضاء العموم فإذا ليس للتخصيص معنى إلا ذهاب المخصص عن قرينة مخصصة ثم اطلاعه عليها
976 - والذي ذكره القاضي في إلزام من منع تأخير البيان عن وقت مورد الخطاب لازم كما ذكره وأما الاحتكام على المعممين بأن الصيغة لو قدر ورودها مجردة لكانت نصا ففي كلام الشافعي رحمه الله رمز إلى التزام ذلك والذي نراه رأيا على مذهب المعممين أن اللفظة إن كانت مجردة عن قرائن الحال والمقال فليست نصا في اقتضاء العموم ولكنها ظاهرة والصيغ منقسمة إلى ما يقع نصا في الوضع وإلى ما يقع ظاهرا والصيغة المجردة في العموم من الظواهر فإن من أطلقها في محاوراته ثم زعم أنه لم يرد بها الاستغراق المحقق لم يكن آتيا منكرا ولكن يقدر مؤولا نعم إن اقترنت بالصيغة قرينة لفظية أو حالية
تحسم مواد التأويل والتخصيص فالصيغة إذ ذاك نص لاقترانها بما يلحقها بالمنصوص عليه وقد مضى في ذلك قول شاف في كتاب العموم والخصوص
977 - والجواب إذا عن استمساك هؤلاء بتخصيص العام أن تخصيصه ليس انحرافا عن موجب اللسان واقتضاؤه العموم ليس نصا قاطعا ولو رددنا ( القياس ) لما علمنا بموجب ظاهر مع تعرضه للتأويل فإن العمل المبتوت لا يرتبط بمشكوك فيه أو مظنون والعمل بموجب الظاهر معلوم ولا يترتب العلم على الظن والعمل بالظاهر مستنده إجماع الماضين وهو مقطوع به ثم تبين منهم التأويل والتخصيص عند قيام الأدلة المعارضة لوجه الظن في الظاهر كما تقرر في كتاب التأويل قوانين الكلام فيما يقبل ويرد
978 - وأما المعلل فإنه مستنبط علة مظنونة ومعتمدة في استنباطها ظنه لصلاحها فإذا طرأت مسألة ( قاطعة لها ) مانعة من طردها انبتر ظنه وبطل مستند استنباطه إذ ليست العلة التي استنبطها معولة في نفسها على ظاهر أو تنصيص فلا معنى للتعلق بالعموم على أن ما نحاوله في النفي والإثبات محاولة القطع وتأسيس الأصول والأقيسة لا تجول في مواضع القطع وإنما تجولها في المظنونات
979 - ومما تعلق به من يجوز تخصيص العلة أن قال إذا لم يبعد تخصيص العلة بزمان لم يبعد اختصاصها بمسائل وأراد بذلك أن الشدة المطربة علة في تحريم الخمر ولم تكن علة قبل نزول تحريمها وهذا كلام
ساقط فإن المعاني الظنية في الأقيسة العملية لا تقتضي الأحكام لأعيانها ولكن تتبع في موارد الشرع بها أو بأمثالها وكان الشرع متبعا فيها ويجوز تقدير النسخ عليها والذي نحن فيه من ( فن ) الاستنباط المظنون بعد قرار الشريعة والانتقاض يوهي ظن المستنبط على تحقيق فأين يقع هذا من جواز تبديل الأحكام
980 - ومما تعلق به هؤلاء جواز تخصيص علة الشارع قالوا فإذا لم يمتنع ذلك في علة الشارع والصدق ألزم له فلا يلزم المستنبط ما لم يلزم الشارع وهذا أيضا كلام غث فإن الشارع إذا علق الحكم بعلة لا تناسب صح وإن كان ذلك طردا لو صدر من المستنبط وسيكون لنا كلام في تخصيص علة الشارع في مسألة معقودة إن شاء الله تعالى فهذه عيون كلام الفريقين
981 - والمسلك الذي نختاره أن المستنبط إذا نصب علة فورد على مناقضة طردها نقض فإن كان ينقدح من جهة المعنى فرق بين ما يرد نقضا وبين ما نصبه المعلل علة له فإن علته تبطل بورود النقض والسبب فيه أنه إذا نظم فرقا بين ما ألزم وبين محل العلة فيصير ما عكسه في محل العلة قيدا لما أطلقه علة ويتبين بهذا أنه ذكر في الأبتداء بعض العلة وأظهر أنه علة مستقلة فإذا أراد التقييد وانتظمت له علة ( مقيدة ) فالعلة الآن سليمة ولكنه منقطع من جهة ادعائه في أول الأمر وابتدائه أن ما جاء به دليل مستقل ( و ) لو لم يصرح بكونه دليلا تاما فالحالة المعهودة بين النظار قرينة مصرحة ( بذلك ) فإنه يسأل أولا عن الحكم فإذا أبان مذهبه ( فيه ) طولب بالدليل عليه فإذا ذكر كلاما في أسعاف السائل المطالب
بالدليل وقطعه وسكت على منقطعه كان ذلك مشعرا بادعائه أن ما جاء به كلام تام ولو جلس الناس يشتورون باحثين فذكر ذاكرا معنى وسبره وخبره فلم يطرد فقيده تقيدا فقهيا كان كذلك له إذ هو في مهلة النظر ومحاولة استتمام الاجتهاد فهذا حقيقة القول في ذلك
982 - ولو اعترضت مسألة على العلة نقضا وكان لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة فإن لم يكن الحكم فيها معللا مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمى غير أن المعلل استثناها بمذهبه فعلته تبطل فإنه مناقض لها وتارك للوفاء بحق العلة فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع قصده
983 - وإن طرأت مسألة إجتماعية وكان لا ينقدح بينها وبين العلة فرق فهذا موضع الأناة والاتئاد فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علة المعلل معللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلةالجريان وعارضها بفقه وهي آكد في اقتضاء بطلان علة المعلل من المعارضة كما سيأتى فإن المعارضة لا تهجم على الطرد بالقطع بل يستقى حكمها من أصل آخر لا ينقض طرد العلة بل يصطدم موجب العلة على التناقض في محل البحث فإذا كانت المعارضة وهي على هذه الصفة ناقضة فالتي ترد مناقضة وقاطعة للطرد أولى بالإبطال
984 - وإن طرأت المسألة قاطعة للطرد ولم ينقدح فرق وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقهية ( فهذا ) موضع التوقف
985 - وقد ذكر القاضي على الجملة ترددا في أن القول ببطلان العلة بما يقطع طردها من القطعيات أو من المجتهدات حتى يقال كل مجتهد فيه مصيب أو مؤاخذ بحكم اجتهاده والذي أراه في ذلك أن الصور التي قدمناها قواطع ومبطلات قطعا وإنما النظر والتوقف في المسألة المانعة من الطرد التي لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة ولا يتأتى في تعليل حكمها على المناقضة معنى وكانت تلك المسألة مما يقال فيها إنها لا يعقل معناها فإذا تصورت ( المسألة بهذه الصورة انقسم القول فيها عندي أيضا فإن كان حل العلة من المسألة اللازمة واقعة ( موقع ) ما يكون في معناه علما وقطعا فالعلة تبطل أيضا من جهة أن التحاق ما في معناها ( بها معلوم ) وأصل وضع العلة مظنون ولا يعارض ظن ( علما ) وإن لم يكن محل العلة منها بهذه المثابة وإنما جرت تلك المسألة شاذة فعند ذلك قد يظن الظان أنها تقطع العلة وتنقضها من جهة أن المستنبط إذا عثر عليها وهى ظنه في نصب ما ظنه علة إذا وجد في الأصل الشرع ما يخالف ذلك ويجوز أن ينقدح له ما عينه علة مناط الحكم إلا أن يمنعه استثناء شرعي لا يعقل معناه
986 - والقاضي إنما تردد في هذه الصورة وهي لعمري موضع التردد والذي نراه فيها أن ورودها لا يقطع العلة إذا كانت العلة ( فقهية ) مناسبة وإنما يلزم المعلل إجراء المعنى ما استمكن منه
والدليل عليه أنا نجد في الشريعة عللا فقهية متفقا عليها في الصحة وقد طرأ عليها استثناء الشرع في مواقع لا تعلل وهذا كجريان العلة في اختصاص كل متلف أو متعد أو ملتزم بالضمان ولا أحد ينكر جريان هذا المعنى في الشرع مع العلم بأن العاقلة تحمل العقل وحملها له خارج ( عن القاعدة ) فإذا وجد أمثال ذلك ( في ) قاعدة الشريعة بنينا عليه طرد المعنى الفقهي المناسب ولم نكع عن التمسك به لورود شيء لم يعلل وأنا فيما ذكرته على قطع فإن معتمدنا فيما نأتي ( ونذر ) ونقبل ونرد من طريق العلل الاتباع للإجماع وقد علمنا قطعا جريان هذه العلل ( في الكليات ) وإن استثنى الشارع منها ما استثنى فمنكر هذه المعاني وقد تأيدت باللإجماع كمنكر أصل القياس والسر في ذلك أن مالا يعقل معناه في مستثنى الشارع والمستثنى لا يقاس عليه وكأنه منقطع عن كثر الشريعة ولا يعتبر شئ منه ولا يعترض به على شئ فهذا سبيل إجرائها فإن كان ينقدح فيها معنى على حال فهو ملتحق بالإقسام المبطلة التي تقدم ذكرها فهذا بيان الأصل ونحن نضرب أمثالا وننزل عليها تحقيق ما نبغيه نفيا وإثباتا
987 - فنقول إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة لمختص بسببها و ( مقتضيها ) طردناها غير ملتزمين بتحميل العاقلة على قطع وتحملهم لا
يعترض على ما تمهد من المعنى فلو ظن ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى يصلح على السبر مأخوذ في المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا 0 من ) القتل الواقع خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة في الشريعة إنما تجب إذا كان المعان معسرا وعلى هذا نظمت أبواب النفقات ( والكفارات ) فالقاتل خطا يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس لمثل هذه التخييلات اعتبار
988 - وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات التي تتشابه أجزاؤها فألزمنا عليها إيجاب رسول الله صلى الله عليه و سلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتفل بهذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا أن اللبن ( المحتلب ) في أيام ابتلاء الغزارة والبكاءة يقع مجهول القدر فرأى الشافعي رضي الله عنه فيما ورد الشارع فيما يقل ويكثر إثبات مقدر من جنس درءا للنزاع فإن هذا لا جريان له أصلا ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم فيه وإن أمثال هذه المعاني البعيدة إنما تثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنها لو كانت كذلك أيضا لكانت من المعاني الكلية التي لا تتخلص في مسالك العرض على السبر ثم تعيين جنس التمر كيف يهتدى إلى تعليله وإنما المطلوب فيما فرضنا الكلام في الجنس المعدول إليه لا في المقدار فإن
ما ذكر من دوام النزاع يقدر انقطاعه بتقدير مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الأمثال فاطرد إذا ما ذكرناه واستبان أن أمثال هذه المستثنيات لا تعترض على القياس المعنوي
989 - ومما يضرب مثلا الكتابة الفاسدة فإذا قال الشافعي الملك لا ينتقل إلا بمسلك شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة غير واقع الموقع المطلوب في الشريعة فلا وقوع له في مقصود العقد الصحيح كان ذلك كلاما بالغا حسنا فإن ألزم ( الخصم ) عليه الكتابة الفاسدة فإنها في تحصيل مقصود الكتابة نازلة منزلة الكتابة الصحيحة والوجه أن يقال للملزم أتعترف بخروج الكتابة الفاسدة عن قاعدة المعاني أو تدعي جريان المعنى فيها فان ادعى جريان المعنى ( فيها ) فلا يفي بإظهاره إذ ليس في يدي من يتمسك بالكتابة الفاسدة إلا تشبيه محض ولا يستقل معنى بصحيحه السبر في إحلال الكتابة الفاسدة محل الكتابة الصحيحة فإن قال الملزم ليس على المناقض أن يبدي جامعا معنويا بين صورة النقض وبين محل علة الخصم فتكليفكم إيانا إبداء معنى التكليف شطط فإن النقض يلزم من جهة قطعة طرد العلة لا من جهة انتظام رابط بينه وبين محل النزاع وهذه مزلة يجب التثبت عندها فإنا نقول للخصم ما رأيك في علة يطردها الطارد ومضمونها ألا تزر وازرة وزر
أخرى فهل تبطل عندك بتحمل العاقلة العقل فإن سبق إلى مذهب ( من ) يبطل العلة بورود مثل ذلك عليه بطل عليها مذهبه بما تقدم ونسب إلى رد باب عظيم من العلل المتفق على صحتها فإن الأمة قاطبة مجمعون على طرد هذه العلة ( مع أعترافهم بما شذ منها ولا يحكمون على هذه العلة في هذه القاعدة الكلية بالفساد لشذوذ مسألة عن القاعدة ورأى ذوى الأبصار ألا يحكموا بالشاذ على الكل ولكنهم لا يتركون الشاذ على شذوذه ويعدونها كالخارج عن المنهاج
990 - وإن قال الملزم أسلم أن ما ذكرتموه لا يبطل بتحمل العاقلة قلنا لهم والكتابة الفاسدة عندنا بهذه المثابة وآية ذلك أن معناها الجلي يجري في الكتابة الفاسدة وإن فسد عوضها فليس يفسد معنى تعليق العتق فيها وهذا يشير إلى فرق قلنا ما ذكرته خارج عن الطريقة فإنه إيماء إلى وجه من الصحة لو استمر القول فيه والذي نحاوله ألا يثبت للفاسد حكم أثبت للصحيح لجلب مسألة
991 - وإن قال الخصم خذوا الكتابة في منزلة المناقضة شبها فإن الشبة في الأقيسة صحيح مع افتقارها إلى الجوامع فلأن يلزم مسلك الشبه نقضا أولى وليس على الناقض جمع قلنا هذا أوان كشف الغطاء في هذه المحال فنقول لا مشابهة بين صحيح الكتابة وصحيح البيع فإذا لم يتشابها في منزلة الصحة فكيف يتشابهان في الفساد وإن ( قنع ) الملزم بلفظ يجمع البابين ألزم على مقصوده إيراد تحمل العاقلة على أبواب الغرامات
فلاح بما تمهد أنه لا متمسك للخصم بالكتابة الفاسدة على وجه لا على سبيل التعليل ولا على سبيل المناقضة
992 - ومن أمثلة هذا الفصل الاكتفاء بالخرص على من يدعونا إلى التقدير بالكيل أو الوزن الضابطين فالأصل الضبط بالممكن في كل جنس ولكن الخرص أثبته الشرع لحاجة في قضية مخصوصة فهو من المستثنيات ولكن قد ينقدح في هذا المحال أن الوزن أضبط من الكيل ثم الكيل متعين في بعض الأشياء مع أمكان الوزن فالخرص في محل الحاجة كالكيل في المكيل ( بالأضافة إلى الوزن ) فلا يتضح خروج الخرص بالكلية عن القانون حسب أتضاح خروج تحمل العاقلة والكتابة الفاسدة والسبب في ذلك ما جاء ( به ) من المعنى من شوائب التعبد في تعين الكيل مع إمكان الوزن ولكن وإن كان الأمر كذلك فالأصل الرجوع إلى العرف فيما يعد تقديرا فالخرص معدود من الحدس والتخمين المجانب لمدارك اليقين وعلى الجملة بين الداعى إلى التقدير وبين ملزم الخرص تجاذب وتداور من مثل ما ذكرناه والوجه درء الخرص بالمسلك الذي ذكرناه كما تقدم
993 - فإن علل معلل في قطع الخيار عند ظن ( صفة في العبد المبيع ) من غير تصريح والكلام مفروض في ظهور مخايل وأمارات مشعرة بالصفة المطلوبة فثبوت الخيار عند التصرية إذا قال به المعلل ( ينقض تعليله ) فإن إشعار التصرية بإبداء
غزارة اللبن واضح وليس ببعيد عن مسلك المعنى تعليل الخيار فيه وإذا لم ينقض تعليله ببعد التعليل ( على ) حال لزم ما يجري التعليل فيه نقضا فآل مآل الكلام إلى أن ما يورد نقضا إن كان لا ينقدح فيه وجه سديد على جلاء أو خفاء في المعنى فقد استمسك المعلل بالمعنى ولا مبالاة بما وقع مستثنى عن المسلك الذي ارتضيناه فإن كان يثبت فيه معنى وإن خفي وبلغ خفاؤه مبلغا لو عورضت علته بعلة في رتبة علة المعلل لكانت رتبة علة المعلل مرجحة فالالتباس بين الرتبتين لا ينتهض دارئا للنقض ولا احتفال بتخيل معنى ( كلي ) يظنه الظان على بعد كالمعاونة في تحمل العقل وسبيل تداينه من الكتابة الفاسدة فهذه مجامع الكلام في ذلك
994 - وقد رسم القاضي رحمه الله مسألة في أن الحكم ببطلان العلة عند ورود النقص وصحتها قطعي أو ظني وقد ظهر ميله إلى إلحاق ذلك بالظنيات وقد ذكرنا فيما تقدم أن القاضي إنما وقف إذ كان النقض لا يعلل وقد بينا في التفصيل الذي انتجز الآن مدرك الحق وهو مقطوع به عندنا فليتبع الناظر تأمله وليستعن بالله تعالى مسألة
995 - اختلفت مذاهب الأصوليين في أن علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف طردها
فذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع في علة الشارع من جهة أن قوله متبع في تخصيصه وتعميمه و لا معترض عليه إذا خصص علة بمحل ولم يعملها في غير ما نص عليه والمستنبط معتمدة ظنه وإذا تقاعد المستنبط عن الجريان ضعف مسلك ظنه وليس له أن يحتكم بتخصيص العلة
996 - وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن علة الشارع يجب طردها كما يجب في العلة المستنبطة
997 - وهذه المسألة عندنا قريبة المأخذ نزرة الفائدة ليس فيها جدوى من طريق المعنى والوجه فيها أن ما نصبه الشارع على صيغة العلة إن لم يكن نصا في كونه علة بل كان ظاهرا في هذا الغرض فإذا ورد عليه ما يمنع جريان العلة فيظهر منه أن الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك منه في مقتضى لفظه وتخصيص الظواهر ليس بدعا
وأن نص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل تصدى في ذلك نوع آخر من النظر وهو أن ما نصبه علة إن عم نصبه على صفة لا يتطرق إليها تخصيص ببعص الصور التي تطرد العلة فيها فلا مطمع في اعتراض ما يخالف طرد العلة وقد ثبت والأمر على ما صورناه على القطع أمران
أحدهما انتصاب المعنى المذكور علة والآخر جريانه على اطراد من غير اعتراض مخالف ونص الشارع لا يصادم
وإن نص الشارع على نصب شيء على الجملة ونص على تخصيصه في كونه علة بمسائل معدودة ومواقع محدودة فليس يمتنع ذلك على هذا الوجه فإن علل الأحكام لا تقتضيها لذواتها وأعيانها وإنما تصير أعلاما عليها إذا نصبت ثم إذا نصبها الشارع في محال على الخصوص دون غيرها فلا معترض عليه في تنصيصه وتخصيصه ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم يجر في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يؤول ولا تنصيص على التخصيص بمواقع مخصوصة فحكم هذا اللفظ الإجراء على العموم ولكن لا يمنع قيام دليل على تخصيص العلة ببعض الصور
998 - فأما ما ذكرنا أن للشارع أن يصرح بالتخصيص ولا يكون في تصريحه بالتخصيص تناقض مع التنصيص على التعليل في موقع الخصوص فإذا كان لا يمتنع التصريح ( بهذا وليس في اللفظ ما يأباه إباء النصوص وليس يمتنع إزالة الظواهر ) فيخرج من مجموع ذلك أنه لا يمتنع تخصيص العلة ببعض المسائل
999 - والأستاذ أبو إسحاق يمنع النص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل مع تجويز التخصيص ويقول إن تعرض اللفظ لقبول الخصوص في جريانه لزم أن يكون في وضعه متعرضا للحمل على غير قصد التعليل ولو كان نصا في قصد التعليل فهو نص في قصد التعميم إذ لو لم يكن كذلك لكان خروجه عن حكم العلة في بعض المسائل متضمنا خروجه عن حقيقة العلة في أصل الوضع وذلك يخالف موجب التنصيص على كونه علة وهذا الذي ذكره يعترض عليه التنصيص على النصب مع التنصيص على
التخصيص ببعض المسائل فإن ذلك سائغ في الوضع ولو كان التخصيص ببعض المحال مخرجا للمنصوب عن كونه علما لكان الجمع بين التنصيص على النصب والتخصيص متناقضا وفي كلام الأستاذ تشبيب بمنع هذا وهو في مجاري كلامه جسور هجوم على منع ما لا سبيل إلى منعه فإن قدر منه القول بهذا رد الكلام معه إلى ما تقدم ذكره من كون هذا غير ممتنع من جهة أن أعلام الأحكام لا تقتضيها لأعيانها وإنما معنى كونها عللا أنها أعلام تنتصب بنصب الشارع وإذا كان كذلك ( فلا معترض ) على من ينصب علما في تعميمه وتخصيصه ولذلك لا يمتنع أن ينصب الشارع علما مثله متى طرده ولم يتضمن إشعارا ولا شبها مقبولا
1000 - فهذا منتهى القول في هذا الفصل وعلى الجملة تخصيص المستنبط علة ينفصل عن تخصيص الشارع فإنه ليس للمستنبط وضع العلل على اختياره وإنما له النظر إلى درك ما يتخيله موضوعا بمسلك الظنون وإذا لم تجر العلة عامة فقد وهى ظنه على ما فصلنا القول في ذلك كما نفصل القول فيه قبل أن بينا المختار فيما يجوز ويمتنع
فصل ( في ) توابع القول في النقض جدلى يعين على مدرك المقصود المعنوي
1001 - فإذا نصب الناصب علما مستنبطا وذكر لفظا مقتضاه العموم فطرا نقص فقال أخصص لفظي بغير المسألة الواردة نقضا فإن ( تقييد ) اللفظ إلى فكيف السبيل إلى ذلك والقول في هذا يتصل الآن بتفسير العلم وما يقبل منه وما لا يقبل وأما التخصيص فيترتب الأمر فيه على ما يسوغ ويمتنع من طريق المعنى أولا فإن خصص تخصيصا يمنعه فهو غير مقبول منه وقد ( ذكرنا ) في تفصيل المعنى المقصود من هذا الفصل ما يبطل العلة من ( النقوض ) وإن كان ذكر تخصيصا لو صرح به لم يمتنع مثل أن تكون المسألة الواردة غير معللة وقد تقرر أن ما لا يعلل في حكم المستثنى فإذا أطلق المعلل ( لفظه ) عاما ثم لما ورد عليه مثل ما وصفناه الآن حاول تخصيص ( عموم لفظه فهذا الآن تعلق بالجدل فإن المسألة الواردة ليست مبطلة من طريق ) المعنى فقال قائلون من الجدليين إطلاقه لفظه إشارة في بناء الكلام منه فإنه معمم للكلام ملتزم طردا فإذا وردت المسألة بإزائه لم يف بما التزمه
1002 - ونحن نقول الأحسن أن يشير إلى ما يرد تصريحا وتلويحا مثل أن يقول هذه علة ما لم يستثن الشارع فإن لم يتعرض لهذا فلا معاب فإن
العلل إنما يلتزم المستنبط طردها إذا لم يحتكم الشارع في استخراج بعض المسائل فليس على من يطرد علة في الغرم على المتلف أو علة في نفي الغرم على من لم يتلف التعرض للعاقلة وحملها وهذا يظهر في الذي طرأ استثناؤه والقول في ذلك كله قريب من المعنى واعتقاد كون الوارد غير خارج
1003 - ومما يتعلق بالتفسير أن المعلل إذا ذكر لفظة مجملة ثم استفسر السائل ففسرها فقد اختلف الجدليون في ذلك فجوزه بعضهم وامتنع منه المحققون فإن الغرض من المناظرة التفاوض بما يعلم ويفهم ومن ذكر لفظا مجملا وسكت عنه فحاله مشعر بإسعافه على قطع السائل الطالب بالدليل ومن حكم إسعافه إياه أن ( يفهمه ) ما طلبه وإذا لم يفهمه فقد أظهر أنه مسعف والأمر على خلاف ما أظهر فإن ذكر لفظا مفهوما في وضعه واستراب السائل فيه واستفسر فالذي يأتي به المجيب من إرشاد وهداية ليس تفسيرا وإنما هو تنبيه للسائل على قصوره عن درك ما هو مفهوم في وضعه ويخرج من جملة ذلك أنه ليس على المعلل تفسير فيما ذكرناه فإن أتى بمجمل فقد قصر وعد ذلك من سوء الإيراد وإن لم يكن منقطعا في المعنى فإن أتى بلفظ مستقل مفهوم في وضع اللسان فلا حاجة إلى التفسير والذي نذكره عند ( الاستبهام ) على السائل سبر تقصير لا سبر تفسير وقد ( نجز القول ) في النقض وهو في التحقيق تخلف الحكم مع وجود العلة المدعاة
ونحن نبتدىء الآن القول في تخلف العلة مع جريان الحكم ( الخامس من الاعتراضات )
1004 - وهو الاعتراض المترجم بعدم التأثير ونحن نجري في رسم هذا الفن على مسالك الأولين وتقسيمهم ثم نذكر بعد نقل مراسمهم وجه التحقيق إن شاء الله تعالى
1005 - قال أصحاب الجدل عدم التأثير ينقسم إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها ( فأما ) الواقع في ( الوصف ) فهو عدم الانعكاس وقد سبق في ذلك قول بين بالغ يطلع على الأسرار والنهايات ونحن نذكر الآن ما يليق بهذا المقام ولا نغادر مضطربا معنويا ولا جدليا فنقول العلة ( المعنوية ) إذا اطردت فإنها كما تشعر بالحكم في إطرادها فقد يشعر عدمها بعدم الحكم ( على حال ) ولكن لا يبلغ ( إشعار ) العدم بانتفاء الحكم ( مبلغ ) إشعار الوجود بالوجود وسبب ذلك أنه لا يمتنع في وضع المعاني ارتباط حكم بعلل تجويزا وإن كنا ادعينا فيما تقدم أن ذلك غير واقع وأن ما ظنه الخائضون في هذا الفن حكما معللا بعلل في التحقيق أحكام
وهو كقولهم تحريم المحرمة الصائمة المعتدة الحائض معلل بهذه العلل المزدحمة وقد ذكرنا أن كل قضية من هذه القضايا توجب حكما مغايرا لحكم القضية فلا يعدم الأنيس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف وقد يظن الظان ( في هذا المقام ) أن المسئول إذا فرض الكلام في طرف من أطراف المسألة لغرض وإيضاح كلام فصورة الغرض تختص بعلة وتشبهها مع سائر الأطراف علة عامة وإذا كان كذلك فقد علل الحكم في هذا الطرف بعلة خاصة هي مقصود الفارض وعلة عامة وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر
1006 - وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الغرض فأقول إذا قدم الغاصب الطعام ( المغصوب ) إلى إنسان مضيفا فأكله المضاف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المقدم ومعتمد هذا القول تقدير التغرير وكون ( الغرور ) مناطا للضمان وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا ( موجرا ) كما إذا كان مختارا في التناول فإذا فرض الفارض الكلام في صورة ( الإكراه ) فهذه الصورة لا يجرى فيها
عموم التعليل بالتغرير إذ الإجبار ينافى الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض الاختيار في المغرور مع استناد اختياره إلى اغتراره فأما المجبر المكره فلا يتصور تصوره مغترا وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى فهذا النوع من الفرض غير معنى من جهة أنه يجانب محل السؤال أولا ( والفرض ) المستحسن هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل وذلك محمول على استشعاره انتشار الكلام في جميع الأطراف وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها فإذا فرض المجيب فيستفيد بالفرض فيه التعريف على قرب ومهما تعرض المجيب للكلام فيما لم يشتمل عليه سؤال السائل لم يكن للكلام وجه إلا البناء إذ له أن يثبت كلاما في غير محل السؤال ثم يبنى عليه محل السؤال وليس ( ذلك ) من الفرض وإنما هو بناء ولست أرى في البناء في المسألة التي فرضناها وجها فإنه إذا ثبت ( أن ) الضمان لا يستقر على المكره فكيف ينبنى عليه عدم القرار على المختار الطاعم ولا معتمد في التقدير على المختار إلا الاغترار وهو مفقود في ( الإجبار ) وشرط البناء جمع فقيه بين ما عليه البناء وبين محل السؤال نعم أساء أبو حنيفة رحمه الله إذ قرر الضمان على من لا اختيار له إساءة لا ارتباط لها بمأخذ الكلام في صورة الغرور
1007 - ونحن نفرض صورة من الفرض المستحسن يتبين بها قصارى المقصود فنقول إذا سأل السائل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعم المعتق المعسر والموسر ( و ) إذا رأى المسئول ( فرض الكلام ) في المعسر فمحمل كلامه يندرج تحت سؤال السائل والفارض يستفيد بالفرض في المعسر أمرين أحدهما دفع أسئلة قد يعتاص الجواب عنها على ( البكى ) الذي لا تطاوعه العبارة فإن من أسئلة الخصم سريان العتق إلى ملك الشريك فإذا كان يسرى سلطانه إلى غير ملك المعتق فقد يبعد عن محل ملكه مع صحة عبارته فإذا وقع الفرض في المعسر فلا يلزم في أطراف الكلام سريان العتق فإن عتق المعسر غير سار على أصل الشافعي فهذه فائدة وأعلى منها أن الخصم قد يتمسك في أطراف الكلام في أن قيمة العبد في فرض المالية نازلة منزلة العبد فليس الراهن المعتق ( مفوتا على المرتهن ) غرضه من الاستيثاق بالمالية فإذا أقام قيمة العبد رهنا مقامه فهو غير معترض على محل حق المرتهن وهذا الفن من الكلام لا حقيقة له إذ ليس هو معنى من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إقامة القيمة مقامه بل سبب نفوذه صحة عبارته
وثبوت ملكه فيستفيد الفارض بفرضه دفع هذا الكلام الواقع فضلة لا أثر لها ( فليكن ) قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك
1008 - والآن نذكر في هذا الفن الغرض الذي استفتحنا القول في الفرض لأجله فنقول يتجه للفارض في المعسر أن يقول استأصل المعتق المعسر لو نفذ عتقه حق المرتهن بكماله مشيرا إلى أنه لا يجد ما يبذله غارما فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية وهنا وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول من منع نفوذ العتق يكتفى بما يقرره بأن نفوذ العتق لو قبل منه أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في عين الرهن فإذا كفى هذا فأي حاجة إلى التعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة يوشك لو تفطن الفارض أنه يقع في المحذور الذي نبهنا عليه الآن وهو النطق بما لا اعتناء به ولا وقع له فإن قال قائل ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة إحداهما قطع المالية بالكلية والثانية قطع حق المرتهن عن العين المخصوصة فيكون امتناع النفوذ معللا بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق عن عين العبد ( فإن ) هذا مما يعم الموسر والمعسر وإنما تتبعنا هذا الكلام مع فوائد جمة لهذا الغرض
1009 - ونحن نقول هذا ليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في حق المرتهن وإنما المعتبر حق استيثاقه بعين يتمسك به إذا اعترض له توقعات العسر
في الذي يقع في الذمم وهو ( يأنس ) مستوثقا بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الرهن وإذا لم يكن الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الرهن ولهذا السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الراهن إتلاف الرهن فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع إثبات الضمان جبرانا لكل فائت فلا ينبغي أن تعد قضايا الشرع في مظان الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول وهذا يناظر عندي مسلكين في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقى العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف أحد العوضين
1010 - وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة في ( الأساليب ) وهذا زلل في سوء مدرك فإن العقد ما انبنى على التوزيع وإنما هو أمر ضروري أحوج إثبات الشفعة إليه وهو إذ ذاك أقرب معتبر
1011 - وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صار إلى أن الراهن إذا كان موسرا نفذ عتقه ويلزمه إحلال القيمة محل العبد وإن كان معسرا لا ينفذ عتقه لتعذر تغريمه وإفضاء الإعتاق فيه لو قدر نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه ( ذلك ) بتفصيل مذهبه في تسرية عتق الشريك إذا كان موسرا ومنع تسريته إذا كان معسرا فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوف إلى اعتبار انقطاع علقة المرتهن من غرض الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من غير الراهن عنده وقع أصلا ولذلك يبعد عتق الموسر الراهن فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة
الفرض
1012 - ومما نجريه مثالا في ذلك أن الشافعي رحمه الله إذا فرض ( من هو على مذهبه ) الكلام في مسألة ضمان المنافع في طرف الإتلاف وطرد ما يرتضيه فيه فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع في هذا الفرض معنيان أحدهما الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك ( اختار ) الفارض ( تعيين هذا ) الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت اليد العادية وهذا أقرب مسلك في تخيل اجتماع معنيين لحكم واحد
1013 - ونحن نقول فيه العلة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإن التلف ( الحاصل ) تحت اليد العادية إنما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد ومنعه الحق مستحقه فصار الضياع الذي وقع مساويا في أطراد منع المعتدى مشبها بالإتلاف فإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال
1014 - وأنا أشبه هذا المساق من الكلام بمسألة أصولية ذكرناها في أوائل هذا المجموع وهي قوله صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فقد ذهب ذاهبون إلى أن الصيغة عامة في نفي الكمال والجواز وهذا زلل فإن العموم إنما يتحقق إذا أمكن اعتقاد اجتماع المسميات تحت قضية اللفظ المقدر
عاما حتى يكون اللفظ شاملا لها وهذا لا يتحقق فيما فيه الكلام فإن الجواز إذا انتفى لم يتحقق مع انتفائه تخيل نفى الكمال إذ من ضرورة نفى الكمال ( إجزاء ) الشيء وجوازه على حكم النقصان وقد قررنا ذلك بما فيه أكمل مقنع
1015 - وقد تبين بمجموع ما ذكرناه في تقاسيم الفرض أنه لا يكاد يجتمع معنيان وقوعا يصلح كل واحد منهما لتعليل الحكم الواحد ولكن إن لم يقع هذا ولم يتفق فليس في العقل عند النظر في قواعد الشرع بالتعبد ما يحيل ذلك ولو قدرنا وقوع هذا المجوز لما اقتضى انتفاؤه معنى عدم الحكم إذ الحكم في هذا التقدير مستقل بما بقى من المعاني فليس إشعار عدم المعنى بانتفاء الحكم على نحو إشعار ثبوت المعنى بثبوت الحكم
1016 - وأقرب مثال فيما نحاوله من الفصل بين الإشعارين أن نقول العلة المفردة المعنوية تناسب الحكم مناسبة الاستقلال بالاقتضاء ولو فرضت علة مركبة من صفات فقهية فلا يناسب وصف واحد من الأوصاف الحكم واقتضاءه مناسبة العلة المفردة المستقلة ولكنه لا يعرى عن مناسبة لائقة بالحكم مستمدة من قضية فقهية الأوصاف فلو قدرنا عللا وقدرنا انتفاء جميعها ولم يرد شرع باطراد الحكم مع انتفاء جميع العلل فإن الحكم ينتفى عند ارتفاض العلل جميعا إذ يستحيل
( تقدير ) بقاء الحكم غير مرتبط بوصف أو علة وإذا زال بعضها كان لزوال البعض أثر في ( النفس ) يضاهي زوال ترجيح وتأكد ونحن لا ننكر اجتماع الترجيحات وزوال وصف واحد من العلة ( المركبة من الأوصاف تتضمن انتفاء الحكم لاختلال العلة ) إذ هي مركبة وشرطها تكامل أوصافها فكان انتفاء الحكم محالا على ( اختلال ) العلة أصلا ولم ( نورد ) الوصف الواحد مثلا ونحن ( نريد أن نشبهه ) في كل الوجوه بآحاد العلل عند ( تقدير ) اجتماعها وإنما أوردناه لانحطاط حظه من الإشعار عن حظ العلة المستقلة عند تكامل الصفات فكل وصف من أوصاف العلة عند توافيها على حظ وكل علة من العلل التي قدرنا اجتماعها إذا انتفت على حظ من اقتضاء الانتفاء فشابه خفاء إشعار انتفاء علة من علل بانتفاء الحكم خفاء إشعار آحاد الصفات عند توافيها بالحكم
1017 - وإذا تقرر ما ذكرناه فنقول بعده إذا طرد المعلل علة فاطردت له وهو يعتقد اتحاد العلة ولو يقم عنده توقيف في ثبوت الحكم عند انتفاء العلة فإنه يعتقد لا محالة انتفاء الحكم عند انتفاء العلة ويلتزم ذلك غير أنه لا يلزمه في مراسم الجدل أن يبدي توقيفا مقتضيا منع الانعكاس إن كانت العلة لا تنعكس
1018 - وهذا يستدعي مزيد كشف الآن فنقول والله المستعان قد ذكرنا ترددا في أن العلة إذا امتنع اطرادها بمسألة غير معللة مستندها توقيف فهل يتضمن ( ذلك ) بطلان العلة وهل يوهى مسلك ظن المستنبط في روم الطرد فمن سبق إلى اعتقاد كون هذا قاطعا للطرد لا يقول إذا قام توقيف مانع من
الانعكاس تضمن ذلك بطلان روم الطرد وذلك الإشعار لا يحط الإشعار بالعكس عن الإشعار بالطرد على أنا ذكرنا أن الطرد لا ينقطع بمواقع الاستثناء أصلا ومن اعتقد انقطاعه فقوله أقرب من قول من يصير إلى عدم الانعكاس متضمن بطلان الطرد فليفهم الناظر ما يلقى إليه من تفاوت المراتب في مآخذ النظر إن كانت مستوية في عقده ولهذا المعنى نقول إذا اعترضت مسألة على مناقضة الطرد غير معللة فعلى المتمسك بالعلة أن يبين خروج المسألة المعترضة عن المعللات والتحاقها بالمستثنيات في أدب الجدل وليس على من ألزم عدم الانعكاس أن يبين السبب التوقيفي المانع من الانعكاس فإن ذلك لو فرض الخوض فيه كان داعية إلى انتشار الكلام والخروج عن الضبط الجدلي وإن كنا نرى أن العلل غير مجتمعة وقوعا وعلى المجتهد فيها أن يبحث عن طرق المناظر في الطرد والعكس وليس كل ما يلتزمه المجتهد في ترددات اجتهاده يذكره في مفاوضة من يناظره
1019 - فإن قيل هل يسوغ أن يضع المستدل كلامه مبنيا على الدعاء إلى العكس قلنا لا يستقل في هذا كلامه المطلق بل يحتاج إلى أن يقرر معناه ويبين فساد ما عداه مما انتحله الخصم وادعاه ثم يشير إلى ( انتفاء ) التوقيف المانع من الوفاء بالعكس فينتظم من مجموع ذلك الدعاء إلى العكس لما ذكرناه من الإشعار ( الخفى ) به وعليه يخرج التعلق بالعلة القاصرة حيث يصح ويظهر بطلان ما يقدر متعديا فيدعو المتمسك بالعلة القاصرة خصمه إلى الوفاء بمقتضى
العكس وسيكون لنا إلى ذلك عودة إن شاء الله تعالى عند الكلام في العلة القاصرة فهذا هو الذي أردنا إيراده في حقائق العكس في هذا المقام وقد يخرج ذلك في الاستدلال أيضا وكل ما ذكرناه معدود عند أصحاب الجدل من عدم التأثير في الوصف ( الكلام عن عدم التأثير في الأصل )
1020 - فأما ما عد من عدم التأثير في الأصل فنحن نمثله ونتكلم عليه فنقول إذا علل الشافعي منع نكاح الأمة الكتابية وقال أمة كافرة فلا يحل لمسلم ( نكاحها ) كالأمة المجوسية ولا أثر للفرق في الأصل ( فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس يستقل بإثارة منع النكاح والرق مستغنى عنه وذكر الرق عديم التأثير في الأصل ) والذي صار إليه المحققون فساد العلة بما ذكرناه وذهب ذاهبون إلى أن التمسك بذلك صحيح من جهة أن للرق أثرا على الجملة في المنع فذكره مع التمجس ليس عريا عن إشعار وإن كان لا يحتاج إليه وزعم هؤلاء أن هذه الزيادة مع ما فيها من الإشعار بالمنع على خفاء مشبهة بشهادة شاهد ثالث وقد استقلت الحكومة بشهادة عدلين وهذا غير سديد فإن الرق في الأصل ليس علة ولا وصفا لعلة فوقع التعرض له لغوا ولا حكم له لما فيه من الإشعار على بعد إذ كان لا ينتهض علة ولا ركنا
لعلة وليس هذا كما استشهد به من يصحح ذلك في شهادة الشاهد الثالث فإن ذلك استظهار في الحكومة والشاهد الثالث متهيء لأن يقدر أحد الشاهدين الواقعين ركنا ولا يتصور أن يقع الرق المجرد ركنا في محاولة التحريم على التعميم فقد نأى ما نحن فيه عما استشهد به من تقدم وتعين القول قطعا من سقوط العلة
1021 - وما ذكرناه فيه إذا كان للوصف أثر على بعد في أصل الحكم المطلوب وإن كان لا يؤثر في تفصيله فأما إذا كان الوصف الزائد غير محتاج إليه ولم يكن معه إشعار نظر فإن لم يكن في ذكره غرض فهذا لغو لا وقع له ولا يقضى بأنه يبطل العلة إذا كانت مستقلة مع حذف الزيادة ولكن ينسب ذاكرها إلى الهذر وذكر ما لا يحتاج إليه وهذا في مراسم الجدل كترك السنن والهيئات في العبادات ولو كانت العلة تنتقض لو قدر حذف الزيادة والزيادة لا إشعار لها فهي عند المحققين منحذفة غير عاصمة من النقض وذهب القائلون بالطرد إلى قبول هذا ورأوا ذلك أولى من الطرد المجرد من حيث انطوت العلة على فقه على حال ووجه ولصاحب هذه الزيادة درء النقض
1022 - ونحن نقول إن كان النقض ينفصل عن محل العلة فذاكر العلة غير آت بتمام العلة ولا يقع الانفصال بالزيادة التي أثبتها والعلة باطلة وإن كانت المسألة المعترضة ( غير معللة فلا ضير في ذكر الزيادة فإنها منبهة على كون المسألة المعترضة ) ملتحقة باستثناء الشارع وقد جرى التنبيه على ذلك
وتقدم فهذا تمام القول فيما أردناه
1023 - وعلينا الآن فضل كلام في فصل الأصحاب بين عدم التأثير في الوصف ( وعدم ) التأثير في الأصل فنقول عد الجدليون عدم التأثير في الوصف قولا في العكس كما تفصل وفسروا عدم التأثير في الأصل بذكر صفة لا تستقل علة وعلة الأصل تستقل دونها والذي نراه أن القسمين ينشآن من الأصل فإن فرض الأصل معللا بعلل ( فالعلة ) الواحدة لا يتضمن انتفاؤها انتفاء الحكم وهذا منشؤه من تعدد العلة في الأصل وإن اتحدت العلة جر ذلك الانعكاس والقول في ذلك كما مضى فوضح أن تقسيم الكلام إلى الأصل والوصف لا حاصل له
1024 - ونحن الآن نسرد في بسط المقالات كلاما مجموعا في الخلاف والوفاق حتى يجدها الناظر مجموعة فقد أطلنا ( التقرير ) بعض الإطالة فنقول ذهب شرذمة إلى اشتراط الانعكاس جملة وهذا مذهب مهجور وعلى قلة البصيرة محمول ولست أعدها مقالة معتدا بها فأما التزام الانعكاس مع اتحاد العلة وانتفاء توقيف مانع منه فلا بد
منه عندنا وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يلزم لأن إشعار النفي كالمنفى والمقصود طرد خفي لا استقلال له والإنصاف في ذلك أن يقال إنه لا يلزم في الاجتهاد والمطالبة به لا تحسن في الجدل والمعلل إذا ألزم فله الاكتفاء برد الأمر إلى إبهام في المانع من العكس فهذا بيان المقالات في العكس
1025 - فأما ما به قوة عدم التأثير في الأصل فينقسم إلى مخيل وإلى ما لا يخيل فأما الصفة المشعرة إذا كانت علة الأصل يستقل دونها الحكم وهي لا تستقل علة فالوجه القطع ببطلانها ومن الجدليين من لم يبطلها وإن لم تكن مناسبة ( ولا ) حاجة فهي من اللغو كما مضى وإن رام المعلل بها دفع نقض فهذا على ما تقدم شرحه فمن الناس من قبله والمختار عندنا أن النقض إن كان فقهيا لم تغن هذه الصفة والوجه ذكر الفقه الفاصل بين ما اعترض به وبين محل العلة وإن كان الغرض من ذكرها التنبيه على مسألة غير معللة فهذا مستحسن ولكنه لا يلزم الذكر في الرأي الواضح فهذه مجامع المذاهب وقد نجز بنجازها القول في عدم التأثير و ( الخامس ) من الاعتراضات فساد الوضع
1026 - وهو على أنحاء وأقسام ( وحاصل ) القول فيه يحصره نوعان أحدهما أن يبين المعترض أن القياس موضوع على خلاف ما يقتضيه ترتيب الأدلة وهذا يشمل فنونا وقد تقدم القول فيها أحدها أن يكون على مخالفة الكتاب والآخر أن يكون على مخالفة السنة والكتاب والسنة مقدمان على قياس المستنبط وكذلك القول في الخبر الذي ينقله الآحاد على الصحة المألوفة في أمثالها فخبر الواحد مقدم كما تقدم ذكره ومن هذا الفن محاولة الجمع بالقياس بين شيئين فرق بينهما الخبر أو محاولة الفرق بين شيئين اقتضى الخبر الجمع بينهما ولا معنى لتعديد وجوه المخالفات فإنها ترتبط بالتزام عد مقتضيات الشرع ولا معنى للإسهاب بعدها ويكفى فيما نرومه أن القياس إذا خالف وضعه موجب متمسك في الشرع هو مقدم على القياس والقياس مردود فاسد الوضع ( فهذا أحد النوعين )
1027 - والنوع الثاني أن يقع المعنى الذي ربط القايس الحكم به مشعرا بنقيض قصد القايس وهذا بالغ في إفساد القياس وهو زائد على إفساد القياس على الطرد وقد قدمنا أن الطرد إنما يرد من جهة أنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به ( فالذي لا يشعر به ) بل يشعر بخلافه ( أولى ) أن يرد وهذا كذكر سبب يشعر بالتغليظ في روم تخفيف أو على العكس من ذلك
مسألة
1028 - إذا اعتبر القايس القصاص بالدية في الثبوت على الشركاء حيث يبغى ذلك أو اعتبر الدية بالقصاص في السقوط حين يلتمسه أو قاس الحد على المهر ( في طلب الثبوت أو المهر على الحد ) في محاولة السقوط فقد أطلق طوائف من الجدليين أقوالهم بفساد القياس صائرين إلى أن العقوبات تدرأ بالشبهات وأروش الجنايات تثبت الشبهات فاعتبار أحد البابين بالآخر فاسد الوضع
1029 - وسنبين القياس الصحيح باعتبار ما يسقط بالشبهة ( بما ) لا يسقط بها أو على العكس وهذا أطلقه حذاق في كتبهم وليس الأمر عندي كذلك على الإطلاق فإن المهر وإن كان قد يجب مع الشبهة فلا يقضى الشرع بثبوته أبدا ولكنه قد يسقط في بعض الأحوال ( وكذلك القصاص ) فإن كان يتعرض للسقوط بالشبهة فلا شك أنه ( يجب ) في بعض الأحوال فإذا تعرض القايس لحالة يقتضى حكم الإخالة فيها اجتماع القصاص والدية في السقوط واجتماعهما في الثبوت فقد تعرض جاريا لتبيين الرشاد والسداد وليس يلتزم القايس في التفصيل قياس باب القصاص على باب الدية فلو حاول ذلك لكان مبطلا فتحصل من مجموع ذلك أن المتبع في هذا أن اعتبار الباب بالباب مع افراقهما في أصل الوضع محال متناقض لما عليه وضع الشرع
وذلك إذا التزم الجامع أن يجب القصاص حيث تجب الدية أو تسقط الدية حيث يسقط القصاص
1030 - فأما إذا كان القياس جزئيا ناصا على بعض الصور فينظر في الجامع فإن أخال وصح على الطرد حكم بصحته وإن لم يخل أو صادف صورة يقتضى وضع الباب مفارقة أحدهما الثاني في صورة الجمع فالقياس فاسد في وضعه وعلى هذا النسق لا يطلق القول ببطلان قياس الرخص على الوظائف الثابتة ولا ننكر أيضا عكس ذلك
1031 - والغرض من مضمون هذه المسألة أن افتراق البابين على الجملة فيما نحن فيه ليس يوجب افتراقهما أبدا بل إن أطلق ذلك فالمراد به الافتراق في خصوص أحكام في صورة معينة فليجتنب الجامع في جمعه محل افتراق البابين وليلزم مع هذا الاجتناب شرائط الأقيسة فهذا الرشد والمسلك القصد و ( السادس ) من الاعتراضات القلب
1032 - وهو ينقسم إلى قلب فيه التصريح بالحكم وإلى قلب وضعه إبهام الغرض فأما القلب الصريح فقد مثله أهل هذا الشأن ( بأن ) الشافعي إذا قال عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر الفرض فيه بالربع قياسا على سائر الأعضاء فيقول الحنفي عضو من أعضاء الطهارة فلا يكتفي فيه بما ينطلق عليه الاسم قياسا على سائر الأعضاء وهو مما ظهر فيه الاختلاف
1033 - فذهب ذاهبون إلى رده وتمسكوا بأن ما جاء به القالب ليس مناقضا لمقصود المعلل ومقصود المعلل نفى التقدير بالربع وضده أن يتقدر بالربع فلا يستمكن القالب من ذلك أبدا فإن أصل المعلل والقالب واحد ولا يتصور أن يشهد أصل واحد على التصريح بنقيضين وإن فرض إجزاء ذلك فالأصل يشهد لأحد الوجهين دون الثاني فالقلب إذا حائد عن مقصد المعلل ومحل العلة وهو في حكم معارضة في غير محل التعليل والمعارضة إذا لم تجر على المناقضة المحققة بموجب العلة فهي غير قادحة لوقوعها مجانبة لمقصود العلة
1034 - ومن قال إن القلب قادح استدل بأن العلة وقلبها في الصورة التي ذكرناها مشتملان على حكمين لا سبيل إلى الجمع بينهما فإن من يكتفي بالاسم لا يقدر ومن يقدر لا يكتفي بالاسم فإذا كان كذلك فقد تحقق اشتمال العلة والقلب على أمرين لا يتأتى التزام جمعهما على الموافقة فكان ذلك كالتصريح بالمناقضة
1035 - ثم للقلب عند القائل به مرتبة على المعارضة من جهة أن العلتين المتعارضتين تعتزى كل واحدة منهما إلى أصل لا يشهد للعلة الأخرى والأصل متحد في العلة وقلبها ( فكان ذلك أبين ) في التناقض ومن أسرار هذا أن القالب لا يأتي بالقلب وهو يجوز كونه متعلقا بما يريده ولو كان رام ذلك لكانت العلة قلبا لما يبغيه فإن كان القلب قادحا من جهة كونه قلبا فعلة الخصم قلب القلب فإذا وضع القالب على الإبطال وهو في حكم معارضة الفاسد بالفاسد وإبانة عدم شهادة الأصل على المراد فالعلة إذا عورضت بأخرى فلا يمتنع ارتباط الحكم بإحداهما للترجيح كما سيأتي مفصلا إن شاء الله تعالى
فهذا مغزى قول الفريقين
1036 - ونحن نقول ما وقع الاستشهاد به في حكم مسح الرأس باطل ( لا ) من جهة القلب ولكن من جهة جريان الكلام من الجانبين طردا فإن إطلاق اسم العضو لا يشعر بمقصود المعلل ولا مقصود القالب فخرج الكلامان عن رتبة الإشعار ووقعا طردين فإن قيل إن لم ( يستد ) القياس المعنوي فهلا قدر أحد الكلامين شبها وهلا قدرا شبهين متعارضين قلنا ما نرى الأمر كذلك فإن أعضاء الوضوء غير متشابهة لا في أقدار محل الفرض ولا في كيفية تأدية الفرض إذ بعضها مستوعب وبعضها غير مستوعب وبعضها مغسول وبعضها ممسوح فإذا قال القائل عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر فرضه بالربع فليس الذي جاء به من الشبه في شيء إذ ليس في عضو من الأعضاء ما ينافى تقديرا وإنما لها أوضاع في الشرع وفاقية وهي في وضع الشرع على التقارب فمن يبغى شبها في التسوية في نفي أو إثبات فليس كلامه واقعا في مظنة التشبيه فإن عاود معاود بأن الأعضاء الثلاثة التي هي أصل القياس متساوية في عدم التقدير بالربع والمطلوب التشبيه في هذه الخصلة قيل له هي وإن لم تتقدر ففرضها
مختلف الأقدار في وضعها فلم يتأصل فيها شبه في ثبوت ولا نفى وما ( يتخيله ) القائل على بعد يصادمه ما تقرر من وقوع فرائضها على التفاوت في الشرع والمتمسك بما لم يقع في جميعها لا حاصل له إذ لم يقع في الوجه واليدين ما وقع في الرجلين ولم يقع في الرجلين ما وقع في الوجه واليدين لما ذكرناه من ابتناء الأصل على التفاوت فلم ( يمنع أن ) يتفق الربع في الرأس ولا يقع في سائر الأعضاء
1037 - نعم لو قال القائل ورد ذكر الرأس محلا للمسح وثبت بالسنة المأثورة أن الاستيعاب غير واجب ولم يثبت توقيف في مقدار والتقدير استنباط واعتبار ( والتحكم ) به محال فيبقى اسم المسح مطلقا مع بطلان المصير إلى طرفي الاستيعاب والتقدير فيتعين والحال هذه حمله على أقل مقتضيات الاسم فهذا مسلك حسن بالغ في المسألة ولكنه ليس من القياس بسبيل وإنما هو متلقى من الكتاب والسنة وإبطال ( الاحتكام ) بالتقدير فليس قياسا ولا يستقل في هذا الطريق ظاهر الكتاب ولا يقتضى ما نقل أن النبي عليه السلام مسح بناصيته وظاهر عمامته ولا يختص إبطال مذهب الخصم في التقدير بل لا بد من التعرض لإبطال اشتراط الاستيعاب بالسنة وإبطال التقدير وإذا بطلا وانحسم جواز فهم كل واحد منهما من ظاهر الخطاب لم يبق للمسح مصرف إلا التنزيل على أقل مقتضى التسمية وأين يقع هذا من القياس وإنما هو مسلك بدع جدا لا يعهد له نظير
1038 - فإن قيل لو قدر التعليل الذي ذكرتموه مثلا مخيلا مناسبا وقدر القلب مناسبا في غرضه فماذا كنتم تقولون قلنا هذا أولا لا يتصور فليثق الفاهم بهذا فإن الأصل الواحد لا يجوز أن يدل على حكمين نقيضين ويشعر بكل واحد منهما وإذا كان لا يتفق وقوع الشيء فلا معنى لتقدير بفرض الكلام عليه فإن كانت إخالة فإنها تختص بالعلة ويقع القلب طردا ويختص بالقلب وتقع العلة طردا ثم يبطل ما وقع طردا ولا معنى والحالة هذه لابتغاء مسلك في البطلان وراء ما ذكرناه فإن الطرد ليس على صيغ الأدلة حتى يتوقع فيه اعتراض وإنما هو دعوى عرية بمثابة دعوى المذاهب
1039 - ولو تكلف متكلف في محال الأشباه استمساك المعلل والقالب بوجهين من الشبه يطابق في طريق الظن كل وجه من الشبه مراد صاحبه في الوجه الذي أبداه معللا أو قالبا فهذا إن تشبثوا به موضع الكلام وتلتبس به الحظوظ المعينة بالمراسم الجدلية فلا يشك ذو نظر أن القلب لا يعارض العلة معارضة المضادة ومناقضة النفي للإثبات بل يقع القلب للعلة في طرفين فيتجه من طريق الجدل إذا كان المسئول هو المقلوب عليه أن يقول للسائل لم تتعرض لمقصود علتي وأنت محمول على حصر كلامك في الاعتراض على مساق كلامي ممنوع عما يكون فرضا وتخصيصا للكلام بجانب من جوانب المسألة فهذا وجه لائح من وجوه الجدل
1040 - وإن قال السائل اتباع المقاصد أولى من التمسك بالصيغ والألفاظ فالعلة وقلبها يعسر الجمع بينهما مذهبا ومعنى والمعارضة المناقضة على التصريح إنما
كانت اعترافا من جهة استحالة الجمع بينها وبين العلة وإذا تحقق عسر الجمع بين مقتضى العلة وموجب القلب كان القلب في وجه قدح المعارضة كالمعارضة وقد تحقق هذا النوع من الكلام بأن المجتهد إذا استنبط علة لعمل أو فتوى وعن له وجه من القلب فلا يحل له إمضاء الاجتهاد بموجب العلة ( ما لم ) يدفع القلب وإذا كان كذلك فشرط سلامة العلة السلامة من القلب والمسئول قد التزم الإتيان بعلة سليمة من الاعتراضات فعليه الوفاء بالملتزم ويقع القلب على هذا التقدير مطالبة بتسليم العلة عما يقدح فيها وإذا اتجه هذا المسلك المعنوي لم تقف له تلفيقات الجدليين
1041 - ومما يحقق الغرض والمقصد منه أن منصب السائل في وضع الجدل يمنعه من الدليل ويحصر كلامه في التعرض للاعتراضات ثم إذا عارض علة المسئول بعلة فهو في مقام المستدلين ولكن قبل ذلك لوقوع ما أتى به اعتراضا
1042 - فهذا منتهى كلام الجدليين وأصحاب المعاني من الأصوليين ولى بعد المسلكين نظر آخر وهو مختارى فأقول إن كان مضمون القلب تعرضا لطرد لا يناسب مضمون العلة من طريق المعنى ولكن اتفق مذهب الخصم في الطرفين على مقتضى في نفي أو إثبات ولا يمتنع أن يفرق بينهما فارق فيثبت أحدهما وينفى الثاني ولكن القائل قائلان أحدهما يثبت أمرا والثاني ينفيه ولو قدر مصير صائر إلى إثبات أحدهما ونفى الثاني لم
يكن ذلك متناقضا فإذا وقع القلب والعلة على هذا النسق فالقالب فارض وقلبه غير قادح ( لا ) جدلا ولا معنى إذ لا تعلق لواحد من الطرفين بالثاني وكأن المسئول فرض الكلام في طرف وفرض السائل الكلام في طرف آخر وهذا ممنوع لا شك فيه ويمكن أن نمثل ( هذا ) بما قدمناه في العلة والقلب في مسح الرأس لو أخذنا بكونهما شبهين فإن المعلل قال في حكم علته لا يتقدر الفرض بالربع وقال القالب لا يكتفى بالاسم ( ولا يمتنع من طريق المعنى ألا يتقدر بالربع ولا يكتفى بالاسم ) وهذا يقوى جدا إذا صح مذهب معتبر غيرهما والأمر كذلك في المسح فإن مالكا رضي الله عنه أوجب الاستيعاب فلا ينتهض اتفاق مذهبي ( الخصمين ) في الطرفين على نفي وإثبات سببا في توجه الاعتراض إذا لم يكن الكلام في وضعه قادحا فأما إذا كان في القلب تعرض من طريق المعنى لمناقضة مقتضى العلة أصلا وسياقا وتفريعا فهذا إذ ذاك قدح من جهة تلاقي العلة والقلب على قضية التناقض ضمنا وإن لم يتلاقيا صريحا وهذا بمثابة قول القائل مكث في محل مخصوص فلا يكون قربة لعينه كالوقوف بعرفة وغرض المعلل اشتراط الصوم في الاعتكاف ولكنه لم يستمكن من اشتراط ذلك صريحا لأنه لو صرح به لم يجد أصلا فإذا قال الشافعي مكث فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفة
فهذا القلب لم يتعرض للعلة تعرضا بينا فكان قادحا
1043 - والقول الضابط في ذلك أن قول القائل لا يستقل بإثبات مذهبة من جهة أنه لا يكتفى بانضمام كل عبادة إلى الاعتكاف ولكن لم يتأت له التصريح فأبهم وأثبت طرفا من المذهب فإذا استمكن القادح تصريحا في مصادمته فيما ( شبب ) به تلويحا كان ذلك قدحا معينا
1044 - وفي القلب شيء يجب التنبه له وهو أن الصوم عبادة مستقلة فوقوعها شرطا بعيد وهي عبادة معينة في ذاتها والخصم لا يكتفي بانكفاف المعتكف عن المفطرات حسب أكتفاء المصلي الصائم بالإمساك والذي وقع القياس عليه لا يشترط فيه قربة مستقلة بل هو ركن من عبادة فكان لزوم القلب متجها
1045 - ولو علل الشافعي بما ذكرناه على صيغة القلب فقال مكث في مكان مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفه فقال الحنفي فلا يقع بمجرده قربة كالوقوف بعرفة فهذا معترض لعله الشافعي من جهة أن متضمن القلب ( إنكار ) وقوع المكث المحض قربة فعلى الشافعي أن يدرا هذا القلب ودرؤه ممكن بأن يقول الوقوف جزء في عبادة وليس الاعتكاف من الصوم ولا الصوم من الأعتكاف إذ ليسا عبادة واحدة واشتراط عبادة في عبادة بعيد خلا الإيمان فإنه أصل ولا يعقل ملابسة فرع دونه وليس القلب في صورته ( مبطلا إبطالا ) لايستدرك كالنقض فإنه لا ينفع بعد اتجاهه فرق ولا تعليل فإن القلب وإن اتجه فهو في معرض المعارضة وإذا
عورضت علة المجيب وتمكن من إبطال ما عورض به وترجيح علته سلمت العلة واندفعت المعارضة فهذا منتهى الكلام في القلب المصرح به
1046 - فأما القلب المبهم فينقسم قسمين أحدهما إبهام في غير تسوية والآخر إبهام بالتسوية فالإبهام من غير تسوية مثل أن يقول الحنفي صلاة شرع فيها الجماعه فلا يثنى فيها الركوع في ركعة واحدة قياسا لصلاة الخسوف على صلاة العيدين فيقول القالب فجاز أن تختص بزيادة كصلاة العيدين إذ فيها تكبيرات زائدة فهذا قلب مبهم
1047 - والقاضي رحمه الله قضى بإبطال هذا القلب وذكر وجوها ( نسردها ) ونتتبعها ) منها أنه قال هذا الذي ذكره القالب ينقلب عليه فإن المعلل يقول لا تختص بزيادة وهي ركوع وإذا كان كذلك فالقلب لو كان فادحا لوجب أن يفسد من حيث يقدح إذا أمكن قلب القالب وإذا فسد لم ينقدح وهذا الذي ذكره غير سديد فإن هذا الذي فرضه قلبا للقلب هو إعادة العلة
وليس أمرا زائدا عليها ولا قلب في عالم الله تعالى إلا وهو بهذه الصفة وغرض القالب أن يورد ما يقتضي تعارضا وإذا ذكر المعلل علته في معرض القلب فهو ( مقرر ) لوجه التعارض وهو القادح وهو بمثابة ما لو عورضت علته بعلة أخرى فأعاد المجيب علته على صيغة المعارضة لما عورض به فثمرة هذا اعترافه بتعارض العلتين
1048 - ومما تمسك به القاضي أن قال المصرح مرجح على المبهم فلو قدر القلب معارضة لوجب سقوطه من جهة ( ظهور ترجح الصريح ) عليه وهذا غير سديد أيضا فإن ما ذكره إن كان وجها في الترجيح فقد يعارضه ترجيح أقوى منه فرب مبهم أفقه من صريح فلا ينبغي أن يحتكم بتقديم كل صريح على كل مبهم ويرد الأمر في هذا إلى منازل الترجيح وفي المصير إلى هذا قبول القلب والنظر إلى الترجيح
1049 - ومما تمسك به القاضي أيضا أن قال المبهم قاصر النظر والمصرح تام النظر ولا يعارض نظر قاصر نظر تاما فإن النظر القاصر لا يناط به حكم وهذا تلبيس من جهة أن القالب ناط بقلبه ما يجوز أن يكون معتقدا مستقلا ومذهبا تاما في النفي والإثبات وإنما يقصر الاجتهاد ( مالا ) يشعر بمذهب تام مستقل ثم غرضه ( مما ) أتى به القدح فإذا ظهر ما أتى به القادح تلاقي القلب والعلة علي قضية المناقضة فقد ظهر غرض القادح
10550 - فإن قيل فما المرضي عندكم
قلنا قدمنا أنه لا يجري في مواقع الظنون علة وقلبها إلا وهما طرديان أو أحدهما طردي وإن كانا معنويين فلا تلاقي بينهما بل يقعان في طرفين لا يمنع إثبات أحدهما ونفي الثاني فإن تلاقيا على قضية متناقضة فلا بد أن يكونا طردين أو يكون أحدهما فقهيا والثاني خليا عن الفقه نعم قد يفرض الفطن في مجال الأشباه اشتمال كل واحد منهما على شبه فإن اتفق ذلك فالقلب وإن كان مبهما إذا ناقض فقد عارض فتعين الاعتناء بدفعة بما يندفع به معارضة العلة فهذا قسم من الإبهام في القلب
1051 - فأما القسم الثاني وهو قسم التسوية فمثاله أن يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف قاصد إلى لفظ الطلاق فأشبه المختار فإذا قال الشافعي فيستوى إقراره وإنشاؤه كالمختار فهذا الفن مختلف فيه وكل ما ذكرناه في القلب المبهم الذي لا تسويه فيه يعود في ذلك فإن التسوية لا بد فيها من الإبهام وقد أخذ فصل الإبهام ( بحظه ) ولقالب التسويه مزية مزيد يتعرض لها فإن الشيئين اللذين سوى القالب بينهما لو فصل غرضه فيهما لكان مطلوبه مناقضا لحكم الأصل فإن الشافعي ( يبغي ) بالتسوية بين اقراره وإنشائه ألا يقع الإنشاء ولا ينفذ في الفرع كما لا ينفذ الإقرار وهما جميعا نافذان في الأصل فصار صائرون ممن يقبل القلب المبهم إلى رد التسوية لهذا المعنى
1052 - والأستاذ أبو إسحاق رحمه الله يختار قبول قلب التسوية ويقول
غرض القالب التسوية المبهمة وهي على قضية معقولة معتقدة وإذا ثبتت جرت على المسائل ردا وقبولا وبيانه فيما ضربناه مثلا أن الإقرار والإنشاء يظهر تساويهما على تعين المثارات ويستفيد بإثباتهما أمرا واقعا في الاقرار فاتجه مراده ( ولا احتفال ) بما ذكره الرادون من مناقضة الأصل إذ لا مناقضة في مقصود التسوية والأمر على ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق وهو الحق المبين عندنا ولكن القالب في الصورة التي ذكرناها أراه طاردا فإن التقييد بالتكليف لا أثر له إذ يستوى من غير المكلف إقراره وإنشاؤه طاردا ووجه قبول التسوية استرسالها على عموم الأحوال فلينظر الناظر في منازل القلب نظرا أوليا في الطرد والإخالة ثم لينظر ثانيا في التلاقي على التناقض وعدم التلاقي وليحصر إمكان القلب إن كان في ملتطم ( الأشباه ) ثم ليعقده مبهما كان أو مصرحا به وليتكلم عليه كلامه على المعارضات وتندرج التسوية تحت المبهمات وقد نجز القول في القلب و ( السابع ) من الاعتراضات المعارضة
1053 - فإذا نصب المجيب علة التحريم فأتى السائل المعترض بعلة في التحليل كان ما جاء به اعتراضا صحيحا في نوعه ثم هو مقبول منه في رسم الجدل وذهب بعض الجدليين إلى أن المعارضة غير مقبولة من السائل لأنه ينتهض مستدلا والذي تقتضيه مراسم الجدل أن يحصر السائل كلامه في الاعتراضات المحضه والعلة التي عارض بها على صيغة الأدلة والسائل يحتاج في الوفاء بإثباتها إلى تقرير
علتها بالأدلة فان القياس لا يستقل إذ ثبتت علة أصله ( بمسلك ) من المسالك المتقدمة في إثبات علل الأصول وإن لم يات السائل بذلك كان ما جاء به أمرا غير مثمر وإن أثبت علة الأصل ( مصورة ) بصورة ( البانين ) وخرج عن رتبة السائلين الهادمين
1054 - وهذا مسلك ضري به طوائف من المنتمين إلى الجدل وهو عرى عن التحصيل عند ذوي التحقيق من وجوه منها أن المعارضة اعتراض من جهة أن العلة التي تمسك بها المجيب لا تستقل ما لم يسلم عنها وقد حصل الوفاق على تسليم الاعتراض للسائل وهو لم يبد العلة ثانيا مثبتا لمذهبه وإنما أبداها معترضا بها والذي حاول منها في الاعتراض محقق ( كائن ) فليسغ منه المعارضه اعتراضا والذي يكشف الحق في ذلك أن المجيب لما كان بانيا فلو عارضت علته علة عسر عليه إفسادها وترجيح علته على ما عورض به كان ذلك مبطلا لغرضه والسائل إذا عارضه لايلتزم وراء المعارضة إفسادا ولا ترجيحا لأنه جرد قصده إلى الاعتراض فتبين أن ما أتى به اعتراضا فهو اعتراض واقع وإنما ( الممتع ) من السائل أن يعارض ويضم إلى المعارضة الترجيح أو أفسادا وراء المعارضة كدأب من يبني ويثبت هذا إن فعله كان مجاوزة لمراسم الجدل
1055 - ومن الدليل على قبول ( العلة و ) المعارضة أن المجيب التزم إذ نطق بالعلة ( تصحيحها ) والوفاء بإتمام هذا هذا الغرض منها ( في مسلك الظن ) ولن يتم
هذا الغرض ما لم تسلم العلة عن المعارضة ولو قيل أظهر الاعتراضات وأكثرها وقوعا المعارضات في تقابل الظنون لكان ذلك ترجيحا فالمقصود أنه لا يتطرق الكلام ما لم يغلب على الظن ثبوت علة المجيب ومن ضرورة ذلك درء المعارضات عنها والسائل مرتب في مراسم النظر لإيراد ما يقدح لو ثبت فإذا فعل ما رتب له شيئا تصدى المجيب لدفعه والجواب عنه فيكونان متعاونين على البحث اعتراضا وجوابا والذي ذكره هؤلاء ( من ) أن السائل ممنوع من الإتيان بصورة الدليل لا طائل وراءه فإن صورة الأدلة ما امتنعت من حيث إنها تسمى أدلة وإنما امتنعت إذا كان السائل مضربا عن قصد الاعتراض آتيا بكلام على الابتداء ليس اعتراضا فهذا يخرم شرط الجدل من جهة أن السائل إذا كان كذلك مع المسئول لا يتلاقيان على مباحثة والغرض من المناظرة التعاون على البحث والفحص
1056 - وبالجملة إذا كان يقبل من السائل اعتراض لا يستقل في نوعه كلاما فلأن يقبل منه كلام ينقدح ويستقل اعتراضا أولى ولم يختلف أرباب النظر قاطبة في أن المجيب إذا تمسك بظاهرة فللسائل أن يؤوله فإذا كان التأويل مقبولا منه فمن ضرورته اعتضاده بدليل وإذا جاء بما يعضد التأويل فهو دليل فإن قبل من جهة كونه عضد التأويل الواقع اعتراضا فليقبل معارضة القياس بالقياس على قصد الاعتراض وإن تشبث متسبث بمنع قبول التأويل من صاحب التأويل فقد تصدى لأمرين عظيمين
أحدهما أن يقبل التأويل منه من غير دليل وهذا خرق فإن المستدل معترف بتوجه التاويل ( وإمكانه ) مقر بأن متمسكه ظاهر وليس بنص فهذا أحد أحد الأمرين والثاني أن يفسد باب التأويل على السائل ويتوخى المناظرة بذكر المسئول ظاهرا وهذا اقتحام عظيم وأن التزم السائل أن يعارض الظاهر بالظاهر فقد يقدمه ( في هذا المقام ) ثم في هذا اعتراف بقبول المعارضة فليجر مثله في الأقيسة
1057 - فإذا تبين أن المعارضة من أقوى الاعتراضات الصحيحة المفسدة فالجواب عنها ينحصر في مسلكين أحدهما أن يتصدى المجيب لإفساد ما عورض به تمسلك من المسالك المذكورة في الاعتراضات الصحيحة والثاني أن يرجح علته على ما عورض به على ما سيأتى شرح قواعد الترجيح وتفاصيلها في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى فإذا لم يتأت أحد المسلكين كان منقطعا
1058 - ومن أسرار المعارضات أنه إذا غلب على الظن استواء العلتين فسدتا فلو قال قائل ترجيح السائل غير مقبول ابتداء وانحسام الترجيح يفسد ما جاء به وليس بين هذين المسلكين مسلك قيل هذا منتهى غرض السائل ومنه قال المحققون معارضة الفاسد بالفاسد اعتراض صحيح وعند ذلك يتبين تحقيق المعارضة الصادرة من السائل إذ غرضه الإفساد المحض لا البناء
1059 - ثم مما يتصل بأحكام المعارضة أن المجيب إذا رجح علته لم ينحسم على السائل مسلك معارضه الترجيح بالترجيح فليفعل ذلك وليجرد قصده إلى طلب المساواة فإنها إذا ثبتت فسد بها كلام المسئول ومن خرق السائل أن يتشوف إلى الزيادة على قصد المساواه فإنه إذا فعل ذلك كان ذاهبا إلى مضاهاة قول البانين ولا يبعد أن ينسب فيه إلى الجهل بمراسم الجدل فلو ذكر المسئول ترجيحا فعارضه السائل بترجيحين وفي أحدهما كفاية في طلب المساواة فهو مجاوز لسواء القصد وإن عارض بترجيح واحد ( ولكنه أوقع ) من كلام المسئول فهذا يقبل منه فإنه قد لا ( يجد ) غيره ومنعه من الإتيان به يمنعه من معارضة العلة بعلة أجلى منها وأظهر في بوادي الظنون والسبب في قبول هذا الفن أن ما في الترجيح من مزية القوة والظهورلا يمكن قطعه من الكلام وهو إذ جيء به اعتراض فليقبل اعتراضا إذ لم يقبل بناء وابتداء فهذا منتهى الكلام في ذلك
1060 - ومما يتعلق بالمعارضة وهو مفتتح القول في الفرق أن السائل إذا اقتصر على معارضة علة الأصل بعلة أخرى ( بحكم الأصل ولم ) يأت بعلة مستقلة ذات فرع وأصل على ما نعهده من صيغ التعليل فهذا يستند أولا إلى ماسبق تمهيده من أن الحكم الواحد هل يعلل بعلتين وقد مضى في ذلك قول بالغ فمن لم يمنع تعليل حكم بعلتين لم يعتد بما جاء به السائل اعتراضا من جهة أن ثبوت ما أورده السائل ( علة ) منتهى مراده ولو سلم له ما يحاوله لم يندفع دليل المسئول وقد ذكرنا ما نختاره في ذلك وأنهينا الكلام غاية انفصل القول عنها مع
القطع بأن الحكم الواحد لا يعلل بعلتين فليقع التعويل على المختار ووراءه عرض الفصل فإنا رأينا امتناع ذلك وقوعا وإن كان لا يمتنع من ناحية التجويز العقلي فينشأ من ذلك قضية جدلية لطيفة مشوبة بحقائق الأصول مسألة
1061 - إذا قبلنا من السائل معارضة العلة بالعلة المستقلة فلو عارض علة الأصل التي جعلها المسئول رابطة القياس بعلة أخرى وزعم أن العلة ما أبداها معترضا لا ما أتى به المعلل جامعا رابطا فمن الجدليين من يرى ذلك اعترضا واقعا وأوجب على المجيب الجواب عنه ومنهم من لم يره اعتراضا فالمذهبان جميعا في المسألة المعقود مبنيان على منع تعليل الحكم بأكثر من علة واحدة
1062 - فأما من { رأى ذلك اعتراضا فوجهه أن من شرط سلامة علة الخصم عروها عن المعارضة من جهة امتناع ( تعدد ) العلة فإذا أبدى المعترض علة أخرى فقد عارض معارضه يمتنع معها لو صحت تقديرا ثبوت علة المجيب كما يمتنع ذلك في العلتين المستقلتين الجاريتين على التناقض في التعارض وحقيقة هذا المذهب آيل إلى أن المعلل لا يستقل كلامه ما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به فإذا علل ولم يبسر فعورض في معنى الأصل بعلة فكأنه طولب بالوفاء بالسبر وتتبع كل ما سوى علته بالنقض
1063 - ومن لم ير ذلك اعتراضا استدل بأن إبداء معنى آخر من المعارض
على صورة دعوى عرية عن الدليل وقد سبق المسئول في إثبات معنى أصله بالدليل إما معتنيا به بعد طرد العلة ومضمنا ذلك علته من جهة إشعارها ووفقها وإخالتها والسائل إذا ابدى معنى غير مقرون بدليل على تهيئة وصلاحه لكونه علة للحكم فصيغة كلامه معارضة كلام مدلول عليه بدعوى فهذا القائل لو أبدى المعنى وقرنه بما يعد دليلا على إثبات المعنى كانت معارضة مقبولة ويتعين إذ ذاك على المسئول الجواب عنه
1064 - فيرجع مطلب المسألة المبينة على امتناع تعليل الحكم بعلتين فصاعدا إلى أنا هل نوجب على المعلل بعد إثباته ( علته ) التتبع والسبر أم لا وذلك يجري وكلام السائل دعوى محضه ولو أتى السائل بدليل على ما أبداه من معناه فيتعين الجواب عنه على هذا الأصل وهذه المسألة التي ذكرناها متصلة بالمعارضة وتحقيقها ( يعود ) في الفرق وحقائق القول فيه الثامن من الاعتراضات فصل في الفرق
1065 - فأما الفرق فقد ظهر خلاف أرباب الجدل ( فيه ) قديما وحديثا فذهب ذاهبون إلى أنه ليس باعتراض وسبق إليه طوائف من الأصوليين وذهب جماهير الفقهاء إلى أنه من أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به فأما من لم يعده اعتراضا مقبولا فإن متعلقه وجوه منها أن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع للأصل في كل القضايا وإنما مغزاه
ومنتهاه إثبات اجتماع الأصل والفرع في الوجه الذي يبغيه فإذا استتب له ما يريده من ذلك وينتحيه وكان وجها يعترف به الفقيه في قصد الجمع ويرتضيه فالفرق يقع وراءه وهو قار على حاله وصاحب الجمع معترف بأنه غير ملتزم اجتماع الفرع والأصل في كل ورد وصدر وكل سؤال استمكن المعلل من الاعتراف بمقتضاه مع الاستمرار على مقصده من العلة فليس قادحا وإنما الاعتراض القادح ما يرد مناقضا لمقصود المسألة نعم إن تمكن من ( وقف موقف الفارقين ) من إبطال الجمع فذاك السؤال اعتراض مقبول وليس فرقا وإنما يتحقق هذا بان يخرم ما جاء به المعلل زاعما أنه مناسب مخيل فيتبين أن الذي تعلق به غير مشعر بالحكم ويلتحق كلامه بالطرد المقضى ببطلانه فإذا تمكن السائل من ذلك فلا حاجة به إلى الفرق وإنما الفرق هو الواقع بعد سلامة فقه الجمع فينبغي ألا يلتزم لما سبق من أنه غير مناقض لمقصود المعلل
1066 - وذهب معظم المحققين إلى قبول الفرق وعده من الأسئلة الواقعة واحتج القاضي رحمه الله بأن متبوعنا في الأقيسة والعمل بها وما درج عليه الأولون قبل ظهور الأهواء واختلاف الآراء ولقد كانوا يجمعون ويفرقون وثبت اعتناؤهم بالفرق حسب ثبوت تعلقهم بالجمع وقد ثبت ذلك في وقائع جرت في مجامع من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم منها القصة الجارية في إرسال عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسوله وتحميله إياه تهديد مومسة واجهاضها بالجنين لما بلغها الرسالة ثم أنه رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم في الجنين فقال عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه إنه مؤدب ولا أرى عليك بأسا فقال علي رضي الله عنه إن لم يجتهد فقد
غشك وإن اجتهد فقدأخطأ أرى عليك الغرة قال القاضي رحمه الله كانوا رضى اللة عنهم لا يقيمون مراسم الجمع والتحرير ويقتصرون على المرامز الدالة على المقاصد فكأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب ضمانا وجعل الجامع أنه فعل ما له أنه يفعله فاعترض عليه علي رضي الله عنه وشبب الفرق وأبان أن المباحات المضبوطة النهايات ليست ( كالتعزيرات ) التي يجب الوقوف فيها دون ما يؤدى إلى إتلافات ولو تتبع المتتبع مناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسائل الجد وغيرها من قواعد الفرائض لألفى معظم كلامهم في المباحثات جمعا وفرقا ويهون على الموفق تقدير جريان الجمع والفرق من الأولين مجرى واحدا في طريق النقل المستفيض
1067 - فهذا كلام القاضي ولا يتبين مدرك الحق إلا بتفصيل نبديه وفيه تبين مدرك الحق في الفرق فنقول رب فرق يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع فقهيا فما كان كذلك فهو مقبول لا محالة غير معدود من الفروق التي يختلف فيها ومن آية هذا القسم أن الفارق ( يعيد ) جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره ومثال ذلك أن الحنفى إذا قال في مسألة البيع الفاسد معاوضة جرت على تراض فتفيد ملكا كالصحيح فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع ( فنقلت ) الملك بالشرع بخلاف المعاوضة الفاسدة فينتهض هذا الكلام إذا وفي صاحبه بتحقيقه مبطلا إخاله كلام المعلل وما أدعاه من إشعاره بالحكم فهذا النوع مقبول ومن خصائصه إمكان البوح منه بالغرض لا على سبيل الفرق بأن
يقول السائل لا تعويل على التراضي بل المتبع الشرعي في الطرق الناقلة إلى حد ما يعرفه الفقيه
1068 - ومما يقع مدانيا لهذا أن الحنفي إذا قال طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فالفارق يعيد كلامه ويزيد قائل المعنى في الأصل أنها طهارة بالماء عينيه والوضوء طهارة حكمية ومقصودة أن ( يخرم ) فقه الجامع ويلحقه بالطرد وهذا محطوط عما استشهدنا به أولا من جهة أنا نرى مدار الكلام في هذه المسألة على الأشباه وقد يظن الحنفي أن الطهارة بالماء أشبه بالطهارة بالماء والفارق يدعى مسلكا فقهيا وإنما يبغي تشبيها ومدار الكلام في المسألة الأولى على اتباع التراضي أو اتباع الشرع فليفهم الفاهم ما يلقى إليه من حقائق الكلام
1069 - ومما نجريه مثلا أن المالكي إذا قال الهبة عقد تمليك فيترتب على صحة الإيجاب والقبول فيها الملك ( كالمعاوضة ) فإذا قال الفارق المعاوضة متضمنها النزول عن المعوض والرضا بالعوض وذلك يحصل بنفس العقد والتبرع عقد لا يقابله عوض فيشترط فيه ( الإقباض ) المشعر بنهاية الرضا لم يكن هذا الفرق مبطلا بالكلية فقه الجمع ولكن سره أن الجامع أبدا يجمع بوصف عاموالفارق يفرق بوجه خاص فإن لم يبطل ما أبداه من خصوص الفرق في عموم الجمع فهذا مما تنازع فيه الأصوليون وإن أبطل فقه الجمع فلا شك في كونه اعتراضا
1070 - ثم الفرق والجمع إذا ازدحما على فرق فاصل في محل النزاع
فالمختار فيه اتباع الإخالة فإن كان الفرق ( أخيل ) أبطل الجمع وإن كان الجمع ( أخيل ) سقط الفرق وإن استوى أمكن أن يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتا على صيغة التساوي وأمكن أن يقال الجمع مقدم من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له والجامع يقول لم ألتزم انسداد مسالك الفرق كما ذكره الذين ردوا الفرق فالأوجه اتجاهه ووجوب الجواب عنه
1071 - فإن قيل هلا قلتم الفرق يشتمل على معارضة معنى الأصل ثم معارضة العلة بعلة مستقلة في جانب الفرع فهو على التحقيق سؤالان قلنا قد قال بقبول المعارضة كل معتبر عليه معول ومضى في معارضة معنى الأصل ما فيه مقنع والكلام في الفرق وراء ذلك فإنه ينتظم من مجموع كلام الفارق فقه يناقض قصد الجامع وهو خاصية الفرق وسره ومن رد الفرق لا يرد المعارضة بل يرد خاصية الفرق
1072 - وحاصل القول في مذاهب الجدليين يئول إلى ثلاثه مذهب أحدها رد الفرق جملة وإنما يستمر هذا المذهب مع المصير إلى رد المعارضة في جانبي الأصل والفرع جميعا وخاصيه الفرق مردودة هذا عند القائل بما سبق تقريره من أن الجامع إذااستمر جمعه لم يحتفل بالافتراق في وجه لم يقع له التعرض ورد الفرق على الإطلاق يستند إلى إبطال المعارضة في الأصل والفرع وعدم المبالاة بوقوع الفرق من وجه بعد استمرار الجمع من الجهة التي أرادها الجامع فهذا مذهب وهو عند المحصلين ساقط مردود
1073 - والمذهب الثاني وهو معزو إلى إبن سريج وهو مختار الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله أن الفرق ليس سؤالا على حياله واستقلاله وإنما هو معارضة ( معنى ) الأصل بمعنى ومعارضة العلة التي نصبها المسئول في الفرع بعلة
مستقلة ومعارضة العلة بعلة مقبولة فإن تردد المترددون في معارضة معنى الأصل فالفرق عند هذا القائل آيل إلى ما ذكره والمقبول منه المعارضة وقد مضى القول بالغا في قبول المعارضة
1074 - والمذهب الثالث وهو المختار عندنا وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن الفرق صحيح مقبول وهو وإن اشتمل على معارضة معنى الأصل ومعارضته علة ( الفرع ) بعلة فليس المقصود منه المعارضة وإنما الغرض منه مناقضة الجمع ثم الصحيح المقبول منه ينقسم على الوجه المقدم إلى ما يبطل فقه الجمع رأسا ويلحقه بالطرد وهذا على التحقيق ليس هو الفرق المطلوب فإنه أبدى سقوط فقه علة الخصم على صيغة مخصوصة ومنه مالا يحيط فقه الجمع بالكلية ولكنه يشتمل على فقه آخر مناقض لقصد الجامع ثم ذلك ينقسم إلى زائد في الإخالة على العلة وإلى مساويها كما سبق
1075 - والقول الوجيز فيه أن قصد الجمع ينتظم بأصل وفرع ومعنى رابط بينهما على شرائط بينة والفرق معنى يشتمل على ذكر أصل ( وفرع ) وهما يفترقان فيه وهذا يقع على نقيض غرض الجمع ومن ضرورته معارضة معنى الأصل والفرع ولكن الغرض منه مضادة الجمع بوجه فقه أو بوجه شبه إن كان القياس من فن الشبه فعلى هذا إذا لو سمى ( مسم ) الفرق معارضة لم يكن مبعدا ولكن ليس الغرض منه الإتيان بمعارضة على الطرد والعكس لاتصال أحدهما بالآخر بل القصد منه فقه ينتظم من معارضتين يشعر بمفارقة الأصل للفرع على مناقضة
الجمع فهذا سر الفرق وسنبين أثر ذلك في التفاصيل
1076 - ومن وفر حظه من الفقه وذاق حقيقته استبيان أن المعارضة الكبرى التي عليها تناجز الفقهاء وتنافس الكلام على الفرق والجمع أبدا يأتي بما يخيل اقتضاء الجمع ويكون ما يأتي به في محل يأتي الفرق صفة عامة بالإضافة إلى الفرق ويأتي الفارق بأخص منه مع الاعتراف به ويبين أن الفرع والأصل إذا افترقا في الوجه الخاص كان الحكم بافتراقهما أوقع من الحكم باجتماعهما للوصف العام ثم يتجاذبان أطراف الكلام فهذا قول بالغ في تحقيق المذهب وسر كل رأي وبيان المختار الذي ينتحيه المحققون وما مهدناه يتهذب بمسائل نذكرها تترى إن شاء الله تعالى ( مسائل في الفرق ) مسألة
1077 - إذا ذكر الفارق معنى في الأصل مغايرا المعنى المعلل وعكسه في الفرع وربط ( به ) الحكم مناقضا لحكم علة الجامع فهل يشترط رد معنى الفرع إلى الأصل على القول بقبول الفرق ذهب طوائف من الجدليين إلى أن ذلك لا بد منه وهذا ينبني على أصلين أحدهما المصير إلى إبطال الاستدلال على ما سيأتي القول فيه مشروحا بعد نجاز القول في القياس إن شاء االله تعالى ومن ينفي الاستدلال لا يجوز الاستمساك قط بمعنى غير مستند إلى أصل وإن كان مناسبا مخيلا فهذا أحد
الأصليين و ( الأصل ) الثاني أن الغرض من الفرق المعارضة ( والمعارضة ) ينبغي أن تشتمل على علة مستقلة فهذا مأخذ هذا المذهب
1078 - قال القاضي رحمه الله رأينا تصحيح الاستدلال على ما سيأتي ولو كنت من القائلين بإبطال الاستدلال لقبلته على صيغة الفرق فإن الغرض ( من الفرق ) إبداء فقه يناقض غرض الجامع وهذا يحصل من غير رد إلى أصل ثم قد يقع الكلام وراء ذلك في ترجيح العلة على ما أبداه الفارق من حيث إن العلة مستندة إلى أصل وما أظهره الفارق لا أصل له وفيه كلام يطول استقصاؤه في الترجيح فآل حاصل القول في هذه المسألة إلى أن من يري الفرق معارضة ينزل منزلة المعارضات ومن يرى خاصية الفرق ( في ) مضادة جمع الجامع فلا يشترط فيه ما يشترط في العلة المستقلة مسألة قريبة المأخذ من التي تقدمت
1079 - ذهب ذاهبون من الذين صاروا إلى أن شرط الفرق استناده في جانب الفرع إلى أصل ( إلى ) أن الفارق إذا أبدى في الأصل معنى مغايرا لمعنى المعلل فينبغي أن يرد ذلك أيضا إلى أصل فيأتي في كلامه في شقي الفرع والأصل بأصلين ولا شك أن صدر هذا الكلام عن رأي من ينكر الاستدلال ولا يراه حجة وذهب آخرون ممن يشترط استناد الفرع إلى الأصل إلى أن ذلك غير مشروط في الأصل
واحتج كل فريق على مخالفة بما عن له
1080 - فأما من لم يشترط ذلك فتمسك بأن الغرض الأظهر من الفرق معارضة معنى الأصل والتحاقه في محل النزاع فإذا ( أيد ) ذلك بأصل فقد وفى بالمعارضة في محل الخلاف فكفاه ذلك وأيضا فإنا لو ( كلفناه ) إلحاق معناه الذي أبداه في جانب الأصل بأصل فقد لا يمتنع في ذلك الأصل الذي نقدره معارضه معنى آخر ثم قد ينقدح رد ذلك المعنى إلى أصل ثابت ويلزم من مساق ذلك أن يقال إذا عورض معنى الأصل فعلى المسئول وقد عورض معناه بمعنى غيره أن يأتي بمعناه الذي ادعاه بأصل ( آخر ) فإنه والمعترض تساويا في ادعاء معنيين فليس أحدهما ( بالاحتياج ) إلى إبداء أصل آخر أولى من الثاني إذ المسألة فيه ( إذا ) لم يبطل أحدهما معنى صاحبه بل اقتصر على معارضته ثم لا يزالان كذلك في كل مستند وتتعطل المسألة عن غرضها وتحوج المعلل والمعترض إلى أصول لا ينتهي القول فيها إلى ضبط وهذا ظاهر البطلان
1081 - وقد نقل بعض النقلة أن من صار إلى التزام ذلك يذهب إلى أن الكلام لا يقف أو ينتهي الكلام إلى أصل يتحد معناه ولا يتأتي معارضة فيه وهذا تكلف عظيم وأمر معوص ومن شرط ذلك يقول كل كلام لا أصل له فهو استدلال مردود وإذا تأتي معارضة معنى الأصل بمعنى آخر فقد صار معنى الأصل متنازعا فيه فلا بد من تأييد الكلام بأصل غيره
1082 - والكل عندنا ضبط وتخليط ومن احاط بسر الفرق واستبان أن الغرض منه هذا لم يتخيل كل هذا الانحلال ولم يشترط في الفرق إلا ما يليق ويطلب منه وهو مضادة قصد الجامع كما سبق تقريره مسألة
1083 - وإذا تمكن الفارق من إبداء معنى في الأصل مغاير لمعنى الجامع وعكسه في الفرع من غير مزيد فهو الفرق الذي فيه الكلام وإن احتاج إلى إبداء مزيد في جانب الفرع فقد ظهر اختلاف الجدليين فيه ولا معنى للتطويل فمن اعتقد الفرق معارضة فمقتضى مذهبه أن الزيادة ممتنعة فإن الفارق معارض والمعارضة تنقسم إلى ما يذكر على صيغة الفرق وإلى ما يذكر ابتداء ولا أثر لاختلاف الصيغ عند هذا القائل والغرض المعارضة المحضة
1084 - ومن طلب من الفرق الخاصية التي ذكرناها وهي مضادة الجمع فيخرم هذه القضية عند مسيس الحاجة الى ذكر زيادة ومزية في جانب الفرع فإنا قد أوضحنا أن الفارق مستمسك بجهة خاصة مرتبة على الجهة العامة التي جمع بها الجامع مشعرة باقتضاء الافتراق فإذا كان عكس معنى الأصل على قضية الخصوص غير مشعر بنقيض ما أشعر به الوصف العام لم يكن الفرق مستقلا بذاته جاريا على حقيقته وخاصيته فإن كان يتأتى مع مزية في إشعار بالافتراق فهو على تكلف وبعد فإن صفوة الفرق مأخوذة من متلقي النفي والإثبات والطرد والعكس من غير احتياج إلى مزيد ولا شك ( أن ) المزيد المذكور في جانب الفرع يقع خارجا عن قضية الفرق إذ ليس لها في جانب الأصل ذكر على الثبوت إذ لو كان لها ذكر لكان الفرق جاريا على سداده
وقد يذكر الفارق مزيد الدرء قاعدة ولو لم يذكرها لو ردت تلك القاعدة نقضا فيقع عند ذلك الكلام في أن القواعد هل تنقض الأقيسة إذا كانت مستقلة وقد قدمنا في ذلك أبلغ قول في فصل النقض فلا حاجة إلى إعادته مسألة
1085 - مما ذكره الذاكرون على صيغة الفرق وليس هو على التحقيق فرقا وإن كان مبطلا للعلة ما ننص عليه الآن فنقول إذا جمع الجامع ( بين ) مختلف فيه ومتفق عليه في تفصيل حكم ( وأصل ) ذلك الحكم منفي في الأصل مثل أن يقول الحنفي في منع اشتراط ( تعيين ) النية ما تعين أصله لم يشترط فيه تعين النية كرد الغصوب والودائع فنقول أصل النية ليس مرعيا في الأصل وهو معتبر في محل النزاع وهذا قد نورده على صيغة الفرق وليس بفرق ولكن الجمع باطل باتفاق الأصوليين فإن الكلام في تفصيل النية يقع فرعا لتسليم أصل النية وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراعي التعيين مع اشتراط أصل النية صائرا إلى أن أصل النية كاف مغن عن التفصيل والتعيين فكيف يتأتى الاستمساك بما لا يشترط أصل النية فيه ولا يعد من قبيل القربات فهذا إذا باطل من قصد الجامع وصيغة الفرق تقرر الجمع ويقع وراءه أفتراق في أمر ( أخص ) منه كما تمهد ذكره فيما سبق
فصل في الاعتراض على الفرع مع قبوله في الأصل 1086 - والقول الوجيز في ذلك أن كل ما يعترض به على العلل المستقلة فقد يذكر فرضه موجها على القول الفارق في جانب الفرع ونحن وإن كنا لا نرى الفرق معارضة فمستنده إلى صورة معارضة ثم تلك الصورة في النفي والإثبات تثبت خاصة كما سبق تقريرها فإذا بطل مستند الفرق بطل الفرق فأما الكلام المظهر في جانب الأصل فحاصله ادعاه معنى آخر وينتظم عليه الخلاف القائم في أن الحكم هل يعلل بعلتين فمن لم يمتنع من تعليل الحكم بعلتين فقد يقول أنا قائل بهما وإنما يتأتى ذلك إذا استمكن من طرد المعنى الذي أبداه الفارق في جانب الأصل على وجه يطابق مذهبه وأما نحن فلا نرى تعليل حكم بعلتين أمرا واقعا وإن لم نستبعده في مساق الأقيسة أن لو قدر وقوعه والأولون يرون الفرق سؤالين ( وقول ) المعلل في الأصل بالمعنيين إذا جرى له ذلك غير كاف فإن الكلام في جانب الفرع قائم بعد والسؤالان على هذا الرأي لا ارتباط لأحدهما بالثاني فكأن الفارق وجه سؤالين فتعرض المعلل للجواب على أحدهما
1078 - ونحن نقدر الآن لانفسنا مذهبا لا نعتقده ونبني عليه سرا هو خاتمة الكلام في الفرق فنقول لو كنا من القائلين بتعليل حكم واحد بعلتين لما رأينا مصير المعلل إلى القول بهما جوابا عن سؤال من جهة أن الفرق وإن اشتمل على كلامين فهو في
حكم سؤال واحد وقد استقل كلام الفارق وجرى مرامه في الإشعار بالفرق فإذا قال المعلل بالعلتين في الأصل لم يخرم ذلك غرض الفارق والجواب الخاص عن الفرق الواقع السالم عما يعترض على المعاني والمعلل عدم إشعاره بإثارة الفرق أو يتبين ترجيح مسلك الجامع عن طريق الفقه في اقتضاء الجمع على مسلك الفارق مسألة
1088 - إذا لم يذكر الفارق معنى ( في ) الأصل معكوسا من الفرع ولكنه أطلق في جانب الأصل حكما ونفاه في الفرع فهذا مما طول فيه القاضي نفسه والكلام عندنا فيه قريب وقد ذكرنا وقع ذلك في العلل ابتداء وسميناه فيما يظن قياس الدلالة أو قريبا من الأشباه فإذا قال القائل من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فليس ما جاء به من فن المعاني المختصة المشعرة بالحكم وإن كان مقبولا فإذا وقع الفرق على هذه الصفة نظر فإن كانت العلة على نحوها قبل ذلك في الأصل ووقع الكلام في التلويح والترجيح وتقريب الأشباه فإن كان القياس معنويا فقهيا وجرى الفرق على صيغة إلحاق حكم بحكم فهذا من الفارق محاولة معارضة المعنى المناسب بالأشباه أو ما هو في معناها ولا يقع ذلك موقع القبول فإن أدنى المعاني المناسبة يتقدم على أعلى الاشباه المظنونة وهذا يهذبه الترجيح إن شاء الله تعالى وقد انتهى غرضنا في القول في الفرق وانتهى بانتهائه الكلام على الاعتراضات الصحيحة في قواعدها
فصل القول في الاعتراضات الفاسدة 1089 - ما يفسد من الاعتراضات لا ينحصر وفي ضبط ما يصح منها كما تقدم حكم بفساد ما عداه وإنما نعقد هذا الباب للكلام على اعتراضات استعملها بعض من لابس الجدل وهي باطلة عند المحققين فلا نذكر صيغا منها إلا وفيها خلاف ونحن نرتبها ونرسمها مسائل أن شاء الله تعالى مسألة
1090 - إذا استنبط القايس علة في محل النص وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه فالعلة صحيحة عند الشافعي رضي الله عنه ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقديه وهي مختصة بالنقدين لا تعدوهما وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه إذا لم تتعد العلة محل النص كانت باطلة والمعتمد في صحة العلة أنها مستجمعة شرائط الصحة إخالة ومناسبة وسلامة عن الاعتراضات ومعارضات النصوص وهي على مساق العلل الصحيحة ليس فيها إلا ( اقتصارها ) وانحصارها على محل النص وحقيقة هذا يئول إلى أن النص يوافق مضمون العلة ويطابقها وهذا بأن يؤكد العلة ويشهد بصحتها أولى من أن يشهد على فسادها وليس يمتنع في حكم الله تعالى ووضع شرعه أن تكون العلة المستثارة هي العلة المرعية ( الشرعية ) في القضية التي ثبت حكمها بالنص فإذا لم يمتنع ذلك وقوعا ولم يوجد إلا موافقة النص ومطابقته لموجب العلة فلا وجه
( للحكم ) بفسادها
1091 - ويتوجه وراء ذلك سؤالان والانفصال عنهما يبين حقيقة المسألة أحدهما أن قائلا لو قال العلة تستنبط وتستثار لفوائدها ولا فائدة في العلة القاصرة فإن النص يغني عنها ولسنا نمنع الظان أن يظن حكمه في مورد النص ومن اكتفى بهذا التقدير سوعد وليس ذلك محل الخلاف المعنى بالصحة والفساد فإن الغرض إبانة كون العلة القاصرة مأمورا بها ومعنى صحتها موافقتها الأمر ومعنى فسادها عدم تعلق الأمر بها ولا حرج على المفكرين في استنباط حكم إذا لم يكن استنباطهم مناطا لأمر فيخرج من ذلك أن القائل بالعلة ( القاصرة ) إن لم يظهر لها فائدة لزمه الاعتراف بكونها ساقطة الاعتبار خارجة عن تعلق الأمر الشرعي ولقد أضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى
1092 - ونحن نذكر المختار من طرقهم ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه ثم ننص على ما نراه قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس ( إذا جرت نقودا وهذا خرق من قائله وضبط على الفرع والأصل فإن المذهب أن الربا لا يجري في الفلوس ) إن استعملت نقودا فإن النقدية الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها ثم أن صح هذا المذهب قيل لصاحبه إن كانت الفلوس داخلة تحت أسم الدراهم فالنص متناول لها والطلبة بالفائدة قائمة وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذا والمسألة مفروضة في العلة القاصرة
1093 - وقال قائلون العلة القاصرة تفيد بعكسها فإذا ثبتت النقدية علة في النقدين فالنص مغن عن محل طرد العلة ولكن عدم النقدية يشعر بانتفاء تحريم الربا والنص على ( اللقب ) لا مفهوم له فهذا وجه إفادة العلة ويتوجه على هذا وجوه من الكلام واقعة لا استقلال بالجواب عنها منها أن الانعكاس لا يتحتم في علل الأحكام ولا يمتنع ثبوت علة يناط الحكم بها مع انتفاء العلة المعينة وإذا كان ذلك لا يمتنع فالعكس يضطر إلى إبطال ما يدعيه الخصم من العلة في معارضة العكس فإن لم يقدر على ذلك لم يستقل كلامه وإن تمكن من افساد ما يبديه الخصم من العلل المتعدية فلا حاجة أيضا إلى تكلف العكس فإن الأحكام تثبت غير متعلقة بدلالة وأمارة فليكتف الناظر بالنص في محل إثبات الحكم ( ثم يكفيه في محل العكس عدم الدلالات على ثبوت نقيض الحكم ) الذي يشهد عليه النص في محله ورجع حاصل القول إلى تكلفة طردا وعكسا من غير فائدة ومما يوضح الغرض في ذلك أن العلة إنما تنعكس ويتعين التعلق بها في إثبات نقيض حكم الطرد وبعكسها بشرطين أحدهما أن تكون مخيلة في الطرد والعكس يشعر العدم فيها بالعدم كما يشعر الوجود فيها بالوجود والآخر ألا تخلف العلة الزائلة في الثبوت علة فإن لم تخلف علة وأحال النفي في الانتفاء إحالة الثبوت في الإثبات فإذ ذاك يتصور محل الطرد
والعكس بصورة مسألتين مشتملتين على علتين وكل واحدة منهما سليمة عما يشترط سلامة العلل عنها وإذا كان الأمر كذلك فلتكن النقدية مخيلة حتى يتخيل فيها الانعكاس وليست النقدية مخيلة فقهية فقد سقط طلب إفادتها من جهة الانعكاس
1094 - فإن قال قائل إذا سلمتم أن العلة اذا لم تفد فلا يحكم عليها بصحة ولا فساد ولا تقدر متعلقا لأمر ولا نهي وعدت خطرة في مجاري الوسواس وخرجت عن الرتب المعول بها في الأقيسة فإين تستعمل هذه العلة القاصرة قلنا إن كان كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل فلا نرى للعلة القاصرة وقعا ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها لما ذكرناه في صدر المسألة وإنما ( يفيد ) إذا كان قول الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن تقدير حمله على الكثير مثلا دون القليل فإذا سنحت علة توافق الظاهر فهي تعصمه عن التخصيص بعلة أخرى لا تترقى ( في ) مرتبتها على المستنبطة القاصرة
1095 - ثم في ذلك سر وهو أن الظاهر إذا كان يتعرض للتأويل ولو أول لخرج بعض المسميات ولارتد الظاهر إلى ما هو نص فيه فالعلة في محل الظاهر كأنها ثابتة في مقتضى النص متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه حيث عصمته عن التخصيص والتأويل فكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا فلا يتجه غير ذلك في العلة القاصرة فليفهم الفاهم ما يرد ( عليه من ) ذلك
1096 - فإن قيل قول الرسول علسه السلام لا تبيعوا الورق بالورق الحديث نص أو ظاهر فإن زعمتم أنه نص فالتعليل ( بالنقدية ) باطل وإن كان
ظاهر فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فقد صار بقرينة الاجماع نصا فأي حاجة إلى التعليل فهذا منتهى القول فيه فنقول أما الحظ الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على الفروع فإن تخلفت مسألة فلتمتحن بحقيقة الأصول فإن لم تصح فلتطرح
1097 - فإن قيل ما ذكرتموه تصريح بإبطال التعليل بالنقدية قلنا لم نر أحدا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده ونصدره والصحيح عندنا أن مسائل الربا شبهية ومن طلب فيها إخالة اجترا على العرب كما قررناه في مجموعاتنا ثم الشبه على وجوه فمنها التعلق بالمقصود وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة الطعم والمقصود من النقدين النقدية وهي مقتصرة لا محالة وليست علة إذ لاشبه لها ولا إخالة فيها ولكن لما انتظم فيها اتباع المقصود عد من مسالك الاشياء الأربعة وليس بعد هذا نهاية
1098 - السؤال الثاني فإن قال قائل النص مقطوع به والعلة مستنبطة مظنونة ومجال الاجتهاد عند انعدام القواطع فلتبطل العلة القاصرة من حيث إنها مظنونة وهذا قريب المأخذ من السؤال الأول فإن غايته ترجع إلى أن لا فائدة فيها ولا أثر لها وما اخترناه يدرأ هذا فإنا بينا أن العلة إنما تستنبط ولفظ الشارع ظاهر ثم نبهنا على التحقيق
1099 - وقد ذكر بعض المنتمين إلى الأصول وهو الحليمي طريقة
( وأخذ ( يتبجج بها وقال من ينشئ نظره لا يدري أيقع على قاصرة أم متعدية فإن العلم بصفة العلة غير ممكن حالة إنشاء النظر فيجب النظر من هذه ( 5 ) الجهة وقائل هذا قليل ( النزل ) فإن الخصم لا ينكر هذا وإنما الخلاف فيما تحقق قصوره فما قول هذا الشيخ إذا انكشف النظر والعلة قاصرة ولا مزيد إذا على ما تقدم
1100 - ثم تكلم القائلون بالعلة القاصرة إذا عارضتها علة متعدية وثبت بمسلك قاطع من إجماع أو غيره اتحاد العلة في مورد النص فأي العلتين أقوى فذهبت طوائف من الفقهاء إلى أن المتعدية أقوى من حيث إنها المفيدة والقاصرة يغنى النص عنها وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن القاصرة أولى فإن النص شاهد لحكمها وامتنع آخرون من الترجيح من جهة التعدي والقصور وكل ذلك عندنا خارج عن حقيقة المسألة ومن أطلع على ما قدمناه هانت
عليه هذه المدارك وآل القول إلى أن القاصرة والمتعدية إذا سنحتا في مورد ظاهر والظاهر شاهد للقاصرة وهو أيضا شاهد في مضمونه للمتعدية فإن المتعدية تستوعب محل الظاهر وتزيد فقد استويا في الشهادة واختصت المتعدية بالإفادة وهي المعتبرة في تقدير توجه الأمر بالقياس فإذا جرت المتعدية سليمة لم يقدح فيها غير معارضة القاصرة
1101 - والذي يظهر عندي أن المتعدية أولى وهذا إذا استوتا في المرتبة جلاء وخفاء وسيعود هذا الفصل بعينه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى وما قدرناه لا يجري في ( النقدين ) فإن العلة التي عداها الخصم فيها باطلة من وجوه سوى المعارضة وإنما الذي ذكرناه كلام مرسل حيث يتصور سلامة القاصرة والمتعدية ولو فرضت كل واحدة منهما مفردة مسألة
1102 - ومن الاعتراضات الفاسدة أنه إذا تعلق المتعلق بما يدل على فساد في الفرع واستشهد به على فساد الأصل كان ذلك مقبولا عند المحققين وقد يناكد في مدافعه ذلك بعض الجدليين ويقول التفريع تسليم الأصل وخوض في تسليم الفرع والتصرف في الفرع اعتراف بصحة الاصل وثبوته فإذا قلنا نكاح لا يفيد الحل مع إمكان الاستمتاع وجهوا هذا السؤال وهذا الاعتراض فاسد لا خفاء بسقوطه فإن ( صحة ) الأصول إذا كانت
تقتضي صحة الفروع ( ففساد الفروع ) يدل على فساد الأصول وإنما يستمر هذا الاعتبار إذا قدر المعتبر أن الأصل إذا صح مقتضاه نقيض ما ثبت في الفرع في محل الاعتلال وإذا ثبت ذلك كان ذلك باعتبار حكم الفرع في نهاية الظهور وغاية القايسين الوصول إلى غلبات الظنون ولا مزيد على ما فيه الكلام فإذا ثبت اقتضاء أصل حكما وتبين أن ذلك الحكم غير ثابت ظهر أن الأصل لم يثبت على الصحة ولا يبقى مع هذا الإلحاح الجدلي ولجاجة في عبارة الأصل والفرع معنى
1103 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن من لا يقول بالاستدلال ويزعم أن كل معنى يستدعي الاستناد إلى أصل وإن كان مخيلا فالذي يقتضيه قياسه أن يستثني هذا الفن ويقول به وإن لم يجد ( أصلا ) فإنه اذا سلم اقتضاء العقد حكما ثم لم يثبت مقتضاه فلا يستريب في اختلال العقد إذا تخلف عن اقتضائه ثم من صحح هذا النوع اضطربوا في أنه ( هل هو ) من قياس المعنى أو من قياس الشبه فقال قائلون هو من أجلى الأشباه وقال آخرون هو من أقيسة المعاني والصحيح عندنا أنه من أقيسة الدلالة كقول القائل من صح طلاقه صح ظهاره بل هذا الذي نحن فيه أعلى ( منه ) فإنه تعلق بغير مقتضى الشيء ولا يجوز المحصل مباينة المقتضى مقتضاه والطلاق والظهار حكمان متغايران
مسألة
1104 - ومن الاعتراضات الفاسدة أنه إذا طرد طارد علة في حكم واستمر له فقال المعترض هلا طردتها في حكم آخر بعينه فهذا الاعتراض فاسد مثاله أنا إذا اعتبرنا كون الشيء مقتاتا مستنبتا في تعلق العشر فإنا نسلم هذا الاعتبار عن وجوه الاعتراضات الواقعة فقال المعترض بعد هلا اعتبرتم ( ذلك ) في تحريم ربا الفضل فإذا أبطلتموه في الربا فأبطلوه في الزكاة فنقول هذا لا وجه له فإن من طرد علة في حكم فلا يلتزم إلا كونها مشعرة به إن كانت معنوية مع السلامة عن الوجوه المبطلة ولا سبيل إلى تكليف المعلل طرد علته في جميع الأحكام فإن زعم المعترض أن تحريم الربا في معنى الزكاة كان مدعيا مطالبا بإثبات ما يدعيه هذا حكم الجدل في المسلك الحق وليس من المدافعات ولكن الناظر البالغ مبلغ الاجتهاد إذا كان يبغي مدرك مأخذ الكلام فحق عليه أن يعرف انفصال كل باب عما عداه في سبيله وليس كل ما يلتزمه المجتهد في نفسه يلزمه البوح به في النظر مسألة
1105 - ومن الاعتراضات الفاسدة التعرض للفرق بين الأصل والفراغ بما هو نتيجة ( افتراقهما ) في
الاجتماع والخلاف ومثاله إذا قاس القايس النبيذ المشتد على الخمر فقال المعترض مستحل الخمر كافر ومستحل النبيذ لا يفسق وهذا يرجع حاصله إلى أن تحريم الخمر متفق عليه ثابت من جهة الشرع قطعا ومنكر ذلك جاحد للشرع وتحريم النبيذ مختلف فيه ومن هذا الجنس قول أصحابنا في طلب الفرق بين المدبرة والمستولدة إن القضاء ببيع المستولدة منقوض بخلاف المدبرة وهذا باطل لصدره عن افتراق الأصل والفرع في ظهور الحكم في الأصل وكونه مجتهدا فيه في الفرع مسألة
1106 - ومن الاعتراضات الفاسدة قول القائل الحكم يثبت في الأصل متأخرا والمعلول لا يسبق العلة فإذا قسنا الوضوء في الافتقار إلى النية على التيمم قالوا ثبوت التيمم متأخر عن الوضوء والجواب عن ذلك لائح ولا يليق بهذا المجموع ذكر أمثال ذلك إلا رمزا فنقول إذا ثبت اشتراط النية في التيمم فاعتبار الوضوء به في الحال متجه وسؤال المعترض مباحثة عن أمر منقض وحقه ألا يتعرض لما مضى فإن الناظر في تأخر النزاع قد لا يشك في أن النية في الوضوء كانت عند مثبتيها مدلولة بدلالة أخرى قبل ثبوت التيمم فإذا ثبت التيمم دل عليها والعلامات قد تترتب تقدما وتأخرا وذلك غير مستنكر في دلالات العقول فما الظن بالأمارات ثم لا يمتنع أن يقال إذا ثبت كون الوضوء في معنى التيمم ثم ثبتت النية في
التيمم أرشد ذلك من طريق السبر والاستناد إلى أن النية كانت مرعية في الوضوء فيما سبق وهذا تكلف مستغنى عنه فإن المناظرات لا تدار على الأحكام الماضية ومنتهى هذا السؤال آيل إلى المطالبة بما دل على ( النية قبل ) ثبوت التيمم وهذا لا يلزم الجواب عنه مسألة
1107 - ومن الاعتراضات الفاسدة جعل المعلول علة والعلة معلولا مثاله إنا إذا قلنا في ظهار الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فإذا قال المعترض جعلتم الظهارة معلولا والطلاق علة وأنا أقول في الأصل المقيس عليه ( المسلم 9 إنما صح طلاقه لأنه صح ظهاره فأجعل ما جعلتموه علة معلولا وما جعلتموه معلولا علة فإذا كان لا ينفصل ما ادعيتموه عما ادعيناه ولا يتأتى تميز العلة عن المعلول لم يصح فإن باب العلة ينبغي أن يتميز بحقيقته وخاصيته عن باب المعلول وقد يستشهد هذا السائل بلقب قرع مسامعه من المعقولات ويقول العلة والمعلول في الشرعيات على مضاهاة العلل في العقليات ثم العلة العقلية متميزة عن المعلول فليكن الأمر كذلك في السمعيات وهذا عند ذوي التحقيق ركيك من الكلام وإنما يتوجه هذا الفن من الاعتراض على قياس الدلالة كالطلاق والظهار وما أشبهها فإن الغرض أن يدل باب على باب بوجه يغلب على الظن ومن يروم ذلك يتمسك بالمتفق عليه من البابين ويجعله علما ودلالة على المختلف فيه فإن كان هذا المعترض يتشبث برد قياس الدلالة ويجعل
ما ذكره عبارة عن هذا المقصود فالوجه إثبات هذا الباب من القياس وقد تقدم ذكر ذلك وإن كان يعترف بقياس الدلالة فالذي ذكره جار فيه ثم لا ننكر أن يكون الظهار علما دالا على الطلاق حيث تمس الحاجه إلى ذلك والغرض ألا يختلف البابان إذا غلب على الظن اجتماعهما فقد تبين سقوط الاعتراض وأما مل ذكره من الاستشهاد بالعله والمعلول في المعقول فما أبعدهم عن ذلك وهو عمدة صناعة الكلام والذي انتهى إليه اختيارنا بعد استيعاب معظم العمر في المباحثة أن ليس في العقل علة ولا معلول فكون العالم عالما هو العلم فيه بعينه وإنما صار إلى القول بالعلة والمعلوم من أثبت الأحوال وزعم أن كون العالم عالما معلول والعلم علة له وهذا مما لا نرضاه ولا نراه ثم العلل الشرعية لا تجري مجرى المعقولات فإن الأحكام العقلية تستند إلى صفات الأنفس والذوات والعلل الشرعية مستندها النصب وليست هي مقتضية معلولاتها لأنفسها وإذا كان انتصابها عللا راجعة إلى نصب ناصب إياها أعلاما فلا يمتنع تقدير ( حكمين ) كل واحد منهما علم على الثاني مشعر بوقوعه عند وقوعه مسألة
1109 - ومن الاعتراضات الفاسدة أن يقول القائل هذا الذي نصبته علما هو صورة المسألة فالعلة حقها أن
تكون زائدة على الحكم وهذا لا حاصل له فإن الذي نصبه ( الناصب علما ) إن أخال وجرى سليما عن المبطلات غير معترض على الأصول فلا معنى لقول القائل أنها صورة المسألة إذ لا علة في عالم الله تعالى إلا وهي كذلك فالوجه إقامة شرائط العلة واطرح هذا الفن من السؤال وحظ هذا الفن من التحقيق أن من نص على صورة المسألة وميزها بخاص وصفها فلا يتصور أن يجد أصلا متفقا عليه وإن ذكر عبارة تعم صورة المسألة وأصلا متفق عليه فالوجه الذي به العموم هو الجمع ولا تتصور العلل إلا كذلك فهذا منتهى المراد في هذا وقد نجز بنجازه ( الكلام في ) الاعتراضات الصحيحة والفاسده
فصل القول في المركبات فصل ( التركيب في الأصل )
1110 - وهذا يستدعي تجديد العهد بالطرق التي تثبت بها علل الأصول وقد سبقت فليجدد الناظر عهده بها مما تقدم في هذا المجموع ولا مطمع والمسألة مختلف فيها في علة تكون في الأصل متفقا عليها فإنها لو كانت مجمعا عليها وهي م موجودة في محل النزاع فلا يتصور والحالة هذه الخلاف في الفرع ومما تمس الحاجة إلى ذكره أن من ذكر في علة الأصل صفة مضمونة إلى أخرى وكانت ( إحدهما ) تستقل بإثبات الحكم المطلوب في الأصل وهذا النوع من التعليل باطل مثل أن نقول في النكاح بلا ولي أنثى فلا تزوج نفسها كالصغيرة فكأنه ذكر الأنوثة والصغير في الأصل فهذه مقدمات لا بد من التنبه لها
1111 - ثم التركيب يقع في الأصل والوصف فأما التركيب في الأصل فمنه البين والفاحش ومنه ما لا يتفاحش ونحن ( نرسم الصور ) ونذكر في كل صورة ما يليق بها ثم نذكر قولا جامعا بعد نجاز الصور والأقوال فيها فمن الصور أن يقول المعلل أنثى فلا تزوج نفسها كابنة خمس عشرة سنة والخصم يعتقد أنها صغيرة ولو كانت كذلك لكان ما جاء به المعلل قياسا على
الصغيرة وقد ذكرنا بطلانه وإن ثبت أنها كبيرة فسيمنع الحكم ويقضي بأنها تزوج نفسها
1112 - والذي ذهب إليه طوائف من الجدليين القول بصحة التركيب وحاصل كلامهم يئول إلى ألى أن الحكم متفق عليه والمعلل يلتزم إثبات الأنوثة علة فإن أثبتها ثبتت العلة وتشعب المذاهب بعد ذلك لا اصل له وإن لم يتمكن المعلل من إثبات ما ذكره في الفرع علة في الأصل فالذي جاء به باطل وإن لم يكن مركبا فإذا لا أثر للتركيب كان أو لم يكن وإنما المتبع إثبات علل الأصول وهذا باطل عند المحققين فإن المخالف يقول ظننت ابنة الخمس عشرة صغيرة ولو كانت كذلك لكان القياس على الصغيرة باطلا كما تقدم إلحاقا بالقياس على ما لو مس وبال وإن ثبت بما يغلب على الظن أن ابنة الخمس عشرة بالغة فلها أن تزوج نفسها ولا يخلو التقدير من هذين فالعلة مرددة بين منع الحكم في الأصل على تقدير وبين سقوط العلة على تقدير
1113 - فإن قيل أرأيتم لو أثبت المعلل الأنوثة علة قلنا ما نراه يقدر على ذلك فإن فرض إمكان ذلك فالعلة لا أصل ( لها ) ويرجع الكلام إلى الاستدلال المحض كما سنذكره بعد نجاز القول في المركبات فإن قيل يثبت المعلل أن الأنوثة علة في ابنة الخمس عشرة قلنا مع اعتقاد صغرها أو مع ثبوت بلوغها فإن ثبت بلوغها فالحكم ممنوع وإن ثبت وإن ثبت صغرها فالصغر مستقل بالمنع
1114 - صورة أخرى إذا قلنا في تزويج الأب البكر بكر فيزوجها أبوها مجبرا كبنت الخمس عشرة
فهذه الصورة دون الأولى فإنه وإن ثبت صغرها فالقياس على البكر الصغيرة غير ممتنع عند الشافعية إذ مجرد الصغر لا يثبت ولاية الأب فإن الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها عندهم فتصدى في الأصل تقدير منع بأن يقول الخصم ابنة الخمس عشرة صغيرة فإذا أنكر عليه قال هذا مظنون فإن ثبت أنها بالغة فلا يجبرها الأب ولا شك أن من يقول بالتركيب يقبل هذا وهذه الصورة تنفصل عن الأولى فإن الأولى تبطل على تقدير الصغر والبلوغ جميعا ( والصورة ) الثانية لا تبطل على تقدير الصغر ولكن يتوجه على تقدير الكبر منع من الخصم ( ويضطر المعلل ) إلى رد القياس إلى الصغيرة بالبكر فيلغو تعيين خمس عشرة
فصل ( التركيب في الوصف ) 1115 - وأما التركيب في الوصف فمنه المتفاحش وهو أن يقول الشافعي في قتل المسلم بالذمي من لا يستوجب القصاص بقتل شخص بالمثقل لا يستوجب بقتله بالسيف كالأب في ابنه فهذا يصححه بعض الجدليين بناء على ما تقدم وهو على نهاية الفساد عندنا فإن المثقل على رأي الخصم ليس آلة القصاص فإن ثبت أنه ليس آلة القصاص كان القصاص باطلا ( آيلا ) إلى أن من لا يستوجب القصاص بقتل شخص خطأ لا يستوجب بقتله عمدا وإن ثبت أنه آلة القصاص منع الخصم الحكم فالعلة بين
منع بطلان
1116 - وقد يجري في الوصف تركيب قريب يضاهي عند المحققين التمسك بمناقضة الخصم وشرط ذلك أن يكون مشعرا بفقه ومثاله قولنا في الثمرة التي لم تؤبر أنها تتبع الشجرة في مطلق التسمية ما يستحقه الشفيع من الشجرة يدخل تحت مطلق تسميتها كالأغصان ووجه الفقه أن الشفعة في وضعها لا تختص بالمنقولات فأشعر أخذ الشفيع الثمرة بكون الثمرة معدودة من إجزاء الشجرة ملتحقة بها فأما إذا قال الخصم سبب أخذها قطع ضرار مداخلة المشترى ولذلك أثبت أخذ الثمار المؤبرة ( للشفيع ) فالوجه أن يقول الحكم المطلوب ثابت والمناسبة كما تريدها ظاهرة ومعناكم ظاهر على السبر فقد جرى هذا فقها وسببه مناقضتكم فليسند التعلق به وما يتعلق تعلقا ظاهرا فإنه يتضمن إلحاق الثمرة بأجزاء الشجرة وهو المقصود الأقصى والتركيب البعيد لا يناسب غرض المسألة والتعويل فيه على ( زلل ) الخصم
1117 - مسألة أخرى ليست من محل النزاع بسبيل كغلط يتفق في سن البلوغ فلا تعلق له بتزويج المرأة أو امتناع
ذلك عليها فإذا توصل ذو الجدل إلى صورة فيها غلط للخصم عنده في حد البلوغ فإنا نستجيز طالب المعنى ( استثارة ) غرض النكاح من غلطه ( في ) سن البلوغ
1118 - وإذا اعتبرنا القصاص ( في النفس بالقصاص في الطرف ) في صورة تغرضها في قتل المسلم بالذمي وذلك إذا فرضنا في المسلم والذمية ثم اعتبرنا النفس بالطرف كان الاعتبار واقعا مناسبا لغرض ( المسألة ) إما من جهة ( تشبيه ) أو من جهة إشارة إلى معنى فقه فإذا ذهبوا يخبطون في الأطراف كان ذلك من مناقضاتهم وسوء نظرهم وعلى هذا يجري تدرب النظار في مناقضات الخصوم فهذا منتهى القول فيما يصح ويبطل من التركيب في الأصل والوصف مسألة ( في التعدية )
1119 - ثم ضرى أهل الزمان بفن من الكلام يسمونه التعدية وهو عرى عن التحصيل ولكن لا سبيل إلى تعرية هذا المجموع عن ذكره والتنبه على فساده فنفرض ( من صوره ) صورة في التركيب ونرتب عليها صورة التعدية فإذا قلنا أنثى لا تزوج نفسها كبنت الخمس عشرة فيقول المعترض المعنى فيها انها صغيرة وأعدى ذلك إلى منع استقلالها بالتصرفات واطراد ولاية الولى
عليها فإذا قال المعلل دعواك الصغر ممنوعة وكذلك فروعها قال المعدي كذلك الأنوثة ليست علة وقد ادعيتها علة ودعديتها إلى فرعك فادعيت الصغر علة وعديتها إلى فروعي فاستوى القدمان وآل الأمر إلى التزامك إبطال علتي أو ترجيح علتك وقد ينقدح للمعدي جهتان في التعدية و ( ذلك ) إذا قال المعلل بكر فيجبرها أبوها كبنت الخمس عشرة فينقدح للمعدي أن يقول المعنى فيها أنها صغيرة وأعدى ذلك إلى اضطراد الحجر عليها فهذا وجه في التعدية وقد يقول المعنى فيها أنها صغيرة واعديها إلى جواز تزويجها مجبرا وإن كانت ثيبا وهذا يطرد للمعدي في الصغيرة الثيب التي يتفق على صغرها
1120 - ثم تكلم أصحاب التركيب على التعدية من وجوه لست ارى ذكر معظمها فمنها أنهم قالوا معناى مسلم الوجود وهو الأنوثة وإنما أنازع في إثباته علة وهذا يجري في ( كل ) علة مستثارة في محل الاجتهاد وما ادعيته علة لا أسلم وجوده فإن اشتغلت بإثبات وجوده كنت منتقلا إلى مسألة أخرى ليست من مسألتنا بسبيل والانتقال ممنوع لا سبيل إليه ويستوي فيه السائل والمسئول فهذا وجه التضييق الذي تخيله المركبون فلو عدى المسئول لم يقبل منه فإن دليل المسئول إنما يقبل في نفس المسألة أو فيما تنبني عليه فإنه إذا احتاج إلى
إثبات مسألة لا تعلق لها بمحل النزاع فقد عد متنقلا
1121 - وقد يسلك المركب في إبطال التعدية مسلكا آخر فيقول لو ثبت معناك لقلت به ضمنا إلى معناي فإن الحكم لا يمتنع ثبوته بعلتين وهذا قد لا يجري في بعض المركبات فإنا إذا قلنا بكر فتجبر كما ذكرناه فذكر المعدي الصغر لم يمكنا أن نجعل الصغر علة في الإجبار فإن الثيب الصغيره لا تجبر عندنا
1122 - وقال الأستاذ أبو إسحاق وهو من المركبين سبيل المركب إذا عورض بالتعدية أن يقول معناي عندكم دعوى غير مثبتة ( بما ) تثبت به معاني الأصول أم قد يثبت مدلولا فإن لم يقم عليه دليل ( فلست ) معللا بعد ولا مقيما متمسكا في محل النزاع فابتدارك إلى معارضتي بالتعدية غير متجه وإن اعترفت بكون معناي ثابتا فمعناك الذي ابتدأته ليس مناقضا لمعناي وإنما تقدح المعارضة إذا جرت مناقضة في المقتضى فهذا مضطرب المركبين والمعدين وقد بان أصلنا فيما نقبله ونرده في تركيب الأصل والفرع
1123 - ونحن الآن نجمع المقصود والمدرك الحق في تقسيم فنقول الأقيسة ( الخلية ) عن معنى التركيب في الأوصاف والأصول بينة وقد قدمنا تقاسيمها وذكرنا مراتبها فأما ما يليق بما نحن فيه فينقسم إلى قسمين أحدهما يتلقى انتظامه من مذهب الخصم لا تعلق له بمحل النزاع ولا يشعر
به ولا يقتضيه بطريق التشبيه وهذا كمصير أبي حنيفة إلى أن بنت الخمس عشرة صغيرة فهذا لا يناسب تزويج المرأة نفسها ولا امتناع ذلك منها وليس منها على معنى ولا تشبيه ومذهبه ذكر التركيب فهو إذا ( تعقيد ) على الشادين والمبتدئين ومدافعة لهم عن مسلك الرشد وتعميه عليهم وقد أجمع الناظرون في هذا الباب أن هذا القسم لا يجوز أن يكون مستند الفتوى ولا الحكم وليس هو مناطا لحكم الله تعالى لا معلوما ولا مظنونا فهذا هو المردود فإن الجدل الحسن المأمور به هو الذي ( يقرب ) من مثار الاحكام ( فيرشد ) إلى مناطها وهذا القسم هو المردود عندنا
11240 - وأما التركيب المشعر بفقه كما قدمنا تصويره فينقسم إلى قسمين منه ما الحكم فيه مع المعنى الفقيه متفق عليه فما كان كذلك فهو مقبول مستند للفتوى والحكم ووجوب العمل وهذا كقياسنا القصاص في النفس على القصاص في الطرف في بعض صور الوفاق وإن وقع القصاص في الطرف مركبا عند الخصم كان التركيب منه معدودا من خبطه وتعلق القياس بالإجماع على الحكم والمعنى الفقيه أو وجه لائح في التشبيه فهذا قسم
1125 - والقسم الثاني من هذا أن ينفرد الخصم بتسليم الحكم ثم يبتدئ منه تركيبا فهذا لا ينتهض مستند الفتوى والحكم ولكن يجوز التمسك به في المناظرة كما يجوز التمسك بمناقضة الخصم والسبب فيه أن المناقضات لها تعلق بفقه المسألة وفي المباحثة عنها التنبيه على مآخذ الكلام والتدرب في الجدل المفضى إلى مدرك الحق وهذا من فوائد المناظرات
1126 - فيترتب من مجموع ما ذكرنا مركب مردود حكما ونظرا ومركب معمول به حكما ومن ضرورته أن يكون مقبولا نظرا ومركب مقبول نظرا والغرض منه التدرب في المسلك المطلوب في المناظرات وليس معمولا به في فتوى ولا قضاء وقد نجز بهذا تمام القول في المركبات بل وفي تقاسم الأقيسة وما يصح وما يفسد من الاعتراضات وطرق الانفصال عنها ونحن الآن نفتتح الكلام في الاستدلال
-
الكتاب الرابع - كتاب الاستدلال القول في الاستدلال
1127 - اختلف العلماء المعتبرون والائمة الخائضون في الاستدلال وهو معنى مشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي من غير وجدان أصل متفق عليه والتعليل المنصوب جار فيه
1128 - فذهب القاضي وطوائف من متكلمي الأصحاب إلى رد الاستدلال وحصر المعنى فيما يستند إلى أصل
1129 - وأفرط الإمام إمام دار الهجرة مالك بن أنس في القول بالاستدلال فرئى يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداث القتل وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لتلك المصالح مستندا إلى أصول ثم لا وقوف عنده بل الرأي رأيه ما استند نظره وانتقض عن أوضار التهم والأغراض
1130 - وذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما إلى ( اعتماد ) الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبهية بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة
1131 - فالمذهب إذا في الاستدلال ثلاثة أحدها نفيه والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل والثاني جواز إتباع وجوه الاستصلاح والاستصواب قربت من موارد النص أو بعدت إذا لم يصد عنها أصل من الأصول الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع والمذهب الثالث هو المعروف من مذهب الشافعي التمسك بالمعنى وإن لم يستند إلى أصل على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة
1132 - أما القاضي فإنه احتج بأن قال الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والإجماع ملتحق بهما والقياس المستند إلى الاجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة وليس يدل لعينه دلالة ادلة العقول على مدلولاتها فانتفاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به وقال أيضا المعاني إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشارع وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء حكمة الحكماء فيصير ذوو الأحلام بمثابة الأنبياء ولا ينسب ما يرونه إلى ربقة الشريعة وهذا ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل ما يراه ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون
1133 - وأما الشافعي فقال إنا نعلم قطعا أنه لا تخلو واقعه عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه و سلم على ما سنقرره في كتاب الفتوى والذي يقع به الاستقلال هاهنا أن الائمة السابقين لم يخلوا واقعه ( على ) كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى عن حكم الله تعالى ولو كان ذلك ممكنا لكانت تقع وذلك مقطوع به أخذا من مقتضى العادة وعلى هذا علمنا بأنهم رضى الله عنهم استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق ( بأنبساطها ) على الوقائع متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح متشوف إلى ما سيقع ولا يخفى على المنصف أنهم ( ما ) كانوا يفتون فتوى من فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى ما يعرى عن حكم ( الله ) وإلى ما لا يعرى عنه فإذا تبين ذلك بنينا عليه المطلوب وقلنا لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما اتسع باب الاجتهاد فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع من متسع الشريعة غرفة من بحر ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان ( وقوفهم عن ) الحكم يزيد على جريانهم وهذا ( إذا ) صادف تقريرا لم يبق لمنكرى الاستدلال مضطربا
1134 - ثم عضد الشافعي هذا بأن قال من سبر أحوال الصحابة رضي الله عنهم وهم القدوة والأسوة في النظر لم ير لواحد منهم في مجالس الأشتواء تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه ولكنهم يخوضون في وجوه الراى من
غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن فإذا ثبت اتساع الاجتهاد واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات وانضم إليه عدم احتفال علماء الصحابة تطلب الأصول أرشد مجموع ذلك إلى القول بالاستدلال
1135 - ومما يتمسك به الشافعي رضي الله عنه أن يقول إذا استندت المعاني إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست الأصول وأحكامها حججا وإنما الحجج في المعنى ثم المعنى لا يدل بنفسه حتى يثبت بطريق ( إثباته ) وأعيان المعاني ليست منصوصة وهي ( المتعلق ) فقد خرجت المعاني عن ضبط النصوص وهي متعلق النظر والاجتهاد ولا حجة في انتصابها إلا تمسك الصحابة رضي الله عنهم بأمثالها وما كانوا يطلبون الأصول في وجوه الرأي فإن كان الأقتداء بهم فالمعاني كافية وإن كان التعلق بالاصول فهي غير دالة ومعانيها غير منصوصة
1136 - ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقا بأصل ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة فإن عدمها التفت إلى الأصول ( مشبها ) كدأبه إذ قال طهارتان فكيف يفترقان ولا بد في التشبيه من الأصل كما سنجري في ذلك فصلا إن شاء الله تعالى
1137 - وأما ذكره القاضي من المسلك الأول ففي طرد كلام الشافعي ما يدرؤه ولو قيل لم يصح في النقل عن واحد طرد القياس على ما يعتاده بنو الزمان من تمثيل أصل واستثارة معنى منه وربط فرع به لكان ذلك أقرب مما قال القاضي
1138 - وأما ما ذكره من خروج الأمر عن الضبط والمصير إلى انحلال ورد الأمر إلى آراء ذوي الأحلام فهذا انما يلزم مالكا رضي الله عنه ورهطه إن صح ما
روى عنه كما ( سنقيم ) الآن واضح الرأي على أبي عبد الله مالك رضي الله عنه أولا حتى إذا انتجز ضممنا ( النشر ) وأنهينا النظر وأتينا بمسلك اليقين والحق المبين مستعينين بالله تعالى وهو خير معين
1139 - فنقول لمالك رحمه الله ( أتجوز ) التعلق بكل رأي فإن أبي لم نجد مرجعا نقر ( عنده ) إلا التقريب الذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه كما سنصفه وإن لم يذكر ضبطا وصرح بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي المرسل واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط ويلزم منه ما ذكره القاضي رحمه الله
1140 - وما نزيده الآن قائلين لو صح التمسك بكل رأي من غير قرب ومداناة لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه الإيالات إذا راجع المفتين في حادثة فأعلموه أنها ليست منصوصة في كتاب ولا سنة ولا أصل لها يضاهيها لساغ والحالة هذه أن يعمل العاقل بالأصوب عنده والأليق بطرق الاستصلاح وهذا مركب صعب لا يجترىء عليه متدين ومساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء وإحكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك ثم وجوه الرأي تختلف بالأصقاع والبقاع والأوقات ولو كان الحكم ما ترشد إليه العقول في طرق الإستصواب ومسالكه تختلف للزم أن تختلف الأحكام ( باختلاف ) الأسباب التى ذكرناها ثم عقول العقلاء قد تختلف وتتباين على النقائض والأضداد في المظنونات ولا يلزم مثل ذلك فيما له أصل أو تقريب فإن ( شوف ) الناظرين إلى الأصول
الموجودة فإذا رمقوها واتخذوها معتبرهم لم يتباعد أصلا اختلافهم ولو ساغ ما قاله مالك رضي الله عنه إن صح عنه لاتخذ العقلاء أيام كسرى أنو شروان في العدل والإيالة معتبرهم
وهذا يجر خبالالا استقلال به
1141 - وإن أخذ مالك رحمه الله وأتباعه يقربون وجه الرأى من القواعد الثابتة في الشريعة فالذي جاءوا به مذهب الشافعي رحمه الله على ما سنصف طريقة
وإنما وجهنا ما ذكرناه على من يتبع الرأى المجرد ولا يروم ربطة بأصول الشريعة ويكتفي ألا يكون في الشريعة أصل يدرؤوه من نص كتاب أو سنة أو إجماع
1142 - فإن قيل فما معنى التقريب الذي نسبتموه إلى الشافعي
قلنا هذا محز الكلام ونحن نقول قد ثبتت أصول معللة اتفق القايسون على عللها فقال الشافعي أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل الإستدلالات قريبة منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول والإستدلال معتبر بها واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة بمعنى جامع فإن متعلق الخصم من صورة الأصل معناها لا حكمها فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع ولم يرده أصل كان استدلالا مقبولا وهذا يتبين برسم مسألة واستقصاء القول فيها ونحن نجريها ونذكر ما فيها حتى تنتجد الأصول والمعاني والإستدلالات
مسألة
1143 - الرجعية محرمة الوطء عند الشافعي وهي مباحة الوطء عند أبي حنيفة رضي الله عنهما
ومعتمد الشافعي أنها متربصة في تبرئة الرحم وتسليط الزوج على شغل رحمها في الزمان الذي تؤمر فيه بالتبرئة متناقض
وهذا معقول فإن المرأة لو تربصت قبل الطلاق واعتزلها الزوج لم يعتد بما جاءت به عدة فلو كانت تحل قبل الطلاق وبعده لما كان لأختصاص الأعتداد بما بعد الطلاق معنى ولم يطلب الشافعي بهذا المعنى أصلا وما ذكره قريب من القواعد فإنه كلام منشؤه من فقه العدة ثم عضده بما قبل الطلاق
1444 - وقال بعض اصحابه نقيس الرجعية على البائنة في العدة ويتسع الآن القول في إثبات الحكم بالعلتين ونفى ذلك والغرض يتبين بفرض أسئلة وأجوبة عنها
فإذا قلنا معتدة فتكون محرمة كالمعتدة البائنة فيقول المعترض المعنى في تحريمها أنها بائنة وهذا المعنى يستقل باقتضاء الحكم ولا خلاف أن البينونة علة في اقتضاء التحريم فليقع الأكتفاء عنها
وربما أكد السائل كلامه بأن قياس الرجعية على البائنة بمثابة قياس البالغة على الصغيرة بجامع الأنوثة فإذا قال القائل أنثى فلتلحق بالصغيرة كان ذلك مردودا فإن الصغر بمجرده يستقل نافيا للإستقلال فلا أثر للأنوثة وقد قدمنا ذلك في العلل المركبة وهذا القول يلتحق بقول القائل مس فصار كما لو مس وبال
وقد أجاب عن ذلك الأولون فقالوا لسنا ننكر كون البينونة علة ولكن العدة علة أخرى وليس بين العلتين تعارض إذ ليس بين حكميهما تناقض ولا يمتنع
ارتباط الحكم الواحد بعلتين وأما القياس على الأنثى الصغيرة فهو في صوره كقياس الرجعية على البائنة ولكن الأنوثة ليست مخيلة والمستدل بتلك الصورة طارد فكان بطلان العلة لذلك وكذلك سبيل القياس على ما لو مس وبال
1145 - فإن قيل قد قدمتم أن الحكم لا يعلل بعلتين فلم سوغتموه الآن قلنا حاصل كلامنا فيما مضى آيل إلى أن ذلك غير ممتنع من طريق النظر فإن العلل الشرعية أمارات ولا يمتنع انتصاب أمارات على حكم واحد كما لا يمتنع ازدحام أدلة عقلية على مدلول واحد وإنما كان يمتنع تقدير ذلك أن لو كانت الأمارات موجبات كالعلل العقلية عند مثبتيها فإنها موجبة معلولاتها فيمتنع على هذا التقدير ثبوت موجبين لموجب واحد مع الاستقلال بأحدهما وينجر القول إلى سقوط فائدة إحدى العلتين وهذا لا يتحقق في العلامات ولكنا مع هذا قلنا هذا الذي لا يمتنع في مسلك النظر لم يتفق وقوعه ثم أوردنا صورا يتعلق بها في ظاهر الأمر حكم بعلل وأوردنا أنها أحكام تعلل بعلل وإنما يتخيلها الناظر حكما واحدا لضيق المحل عن الوفاء بأعدادها عند ازدحامها وقد سبق في هذا قول مقنع تام والغرض من تجديد العهد به أن القايس على البائنة ( يستدل بأن ) يقول اجتمع في البائنة المعتدة علتان وتحريمان أحد التحريمين تحريم البينونة وانقطاع النكاح وهذا لا يختص بالعدة فإنها لو ( أبينت ) قبل الدخول من غير عدة لحرمت والتحريم الثاني تحريم التربص فهذا هو المطلوب وهو المعلل بالعدة وليس في هذا التقدير إثبات حكم واحد بعلتين فإن أنكر ( منكر ) كون العدة علة فعلى
السابر الجامع أن يثبت ذلك بما يثبت به علل الأصول فهذا وجه الكلام
1146 - ونحن نذكر الآن في هذا الفن سرا بديعا يتخذه الناظر معتبرا في أمثاله فإن قال قائل إنما يستقيم ما ذكرتموه من تجريد النظر إلى العدة بأن تقدروا زوال البينونة وتمحض العدة من غير انقطاع النكاح ولو كان كذلك لكان ما تعتقدونه أصلا عين مسألة الخلاف فإن المعتدة التى ليست بائنة هي الرجعية وينقدح في هذا السؤال الذي اعتمدناه في رد التركيب إذ قلنا المركب يقول إن كانت ابنه الخمس عشرة كبيرة فالحكم ممنوع كذلك إن فرض تجريد العدة عن البينونة فيكون الحكم ممنوعا عند الخصم وهذا الذي نحن فيه نوع من التركيب في العلل ومهما سلم الجامع ثبوت علة أبداها المعترض ( في الأصل ) سوى ما وقع الجمع به فيتوجه تقدير المنع على هذا الترتيب الذي ذكرناه وهذا من لطيف الكلام في هذا الباب فليتنبه الناظر له وهو يجري في القياس على ما لو مس وبال ( لو ) كان قوله مس مخيلا فإن رجع الكلام إلى أنه مس فصار كما لو مس فلا يستبد التعلق بالعدة في اقتضاء التحريم إلا استدلالا
1147 - فإن قيل لو قال من يحرم الرجعية معتدة فشابهت المعتدة عن وطء شبهة طارىء على النكاح فهل يصلح هذا وهل يستقيم ( تقدير عدة الشبهة ) أصلا قلنا هذا على اطراده من أحسن فنون الطرد فإن المعتدة في الأصل مشغولة الرحم بماء محترم لغير الزوج وفي إقدام الزوج على وطئها اختلاط الماءين ولا
خلاف أن التحريم في الأصل معلل بهذا لا غير ومن يريد جمعا في متعلق له إلا اسم المعتمدة فكان طاردا فإن أخذ يبدي ( في عدة المعتدة الرجعية ) ما ذكرناه استدلالا من كونها متربصة عن الزوج لم يتحقق هذا في الأصل فالعلة ( ألاولى ) فيها اخالة ربط حكم أو حكمين متماثلين بعلتين وهذه العلة إن ردت إلى طالب الإخالة فالأمة مجمعة على أن الفرع والأصل غير مجتمعين في المعنى المقتضى فلا يبقى الاجتماع إلا في نعت واسم والذي يحقق ذلك أن العدة عن الغير تمنع ابتداء النكاح لغير من عنه العدة ولو كانت العدة من الزوج ولم تقع الحرمة الكبرى لما امتنع على الزوج النكاح فاستبان أن محرم الرجعية إن عول على العدة لم يجد أصلا
1148 - فإن قيل فما رأيكم في استعمال ذلك استدلالا قلنا هو الآن يتعلق بفن من الفقه ولكن إذا انتهى الكلام إليه نأتي فيه بما يليق بهذه المحال ونقول إن تمسك المحرم بمناقضة التربص المستدعىالبراءة للوطء الشاغل فلست أرى هذا المعنى واقعا من جهة أن الوطء عند الخصم لو جرى لانقطعت العدة وإنما الممتنع ( اجتماع ) العدة والتشاغل بالوطء على مذهب من يبيح الرجعية بل هو رجعة عنده ثم الرجعة والعدة عنده لا ( يجتمعان ) ولكن ( طريان ) الرجعة يتضمن انقطاع العدة فليكن الوطء كذلك
1149 - فإن قيل فما الرأي في قول من يتمسك بالاحتساب بالعدة ويقول
ولو كانت مستحلة كما كانت لما احتسبت الأقراء ( عدة ) كما لو وجدت صورة الأقراء قبل الطلاق قلنا هذا أمثل قليلا وهو في التحقيق تمسك بالعكس وجواب الخصم عنه ( أوضح منه ) فإنه يقول الطلاق في غير الممسوسة ينجز البينونة وهو في الممسوسة يثبت المصير إلى البينونة وذلك يحصل بالخلو عن العدة والعدة زمان الجريان إلى البينونة وهذا لا يتحقق قبل الطلاق إذ ليس قبله مرد إلى البينونة يتوقع المصير إليها فالذي أوجب الفصل بين ما قبل الطلاق وبعده في الاعتداد ما ذكرناه والتي انقضت عدتها بعد الطلاق ( و ) صارت بريئة الرحم تلتحق بالتي لم تمس أصلا فهذا وجه الكلام
1150 - فإن تعلق المحرم بان الطلاق أوجب المصير إلى البينونة فليكن هذا محرما لم يستبد هذا ايضا من جهة أن الزوج إذا علق الطلاق الثلاث بمجئ رأس الشهر لم تحرم المرأة في الأمد المضروب فإن كانت البينونة هي المحرمة فهي منتظرة غير واقعة وإن كان الطلاق هو المحرم فلم ينتصب دليلا عليه بعد فإن قيل لو كانت مستحلة لما احتيج إلى الرجعة فللخصم أن يقول الرجعة تقطع وقوع البينونة فإنها لو تركت لصارت إليها
1151 - ولم نذكر هذه المعارضات إلا ليستبين الناظر وجه التمسك بالمعاني التي لا أصول لها واعتماد المستدل على الإخالة والمناسبة فالوجه في مسألة الرجعية إذا اعترضت أن تقع البداية بأن الوطء لا يكون رجعة ( وثبت ) ذلك سهل كما =============ج4444444444444.............
كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
سبق منا التدرج إليه في ( الأساليب ) وإذا ثبت ذلك بنينا عليه تحريم الوطء قائلين إذ لم يكن الوطء رجعة لم تنقطع به العدة فيؤدي إباحة الإقدام عليه إلى الجمع بين دوام التربص لتفريغ الرحم وبين إباحة شاغلة وهذا وإن لم يستند إلى أصل فهو معنى قويم ومسلك مستقيم
فصل ( في ضابط ما يجري فيه الاستدلال ) 1152 - فإن قيل قد ( أثبتم ) الاستدلال ولم تقبلوه على الإرسال وزعمتم أن المقبول منه ما يلتفت إلى الأصول ويضاهي معانيها ولم تأتوا في ذلك بقول ضابط يستبين به المردود من المقبول قلنا الوجه في ذلك أن نقول إذا ثبت حكم متفق عليه في أصل ثم رام المستنبط إثارة معنى يعتقده مناطا للحكم ( فما الضبط ) فيما يقبل منه وما يرد فليقل المستدل كل معنى لو ربط به حكم متفق عليه في أصل لجرى و ( استد ) فإذا اعتبره المستدل عليه من غير إسناد إلى أصل كان مقبولا إذ المعنى الذي يبديه المستنبط لا يشترط فيها أن يسنده إلى معنى الذي يبديه وفاقي مماثل له ولكن يكفي أن يناسب ويسلم على السبر ويثبت ببعض الطرق المذكورة في إثبات العلل فكل علة إذا لا يشترط في ثبوتها أن تعهد ثابته بعينها ( قبل أن يرى ) المستنبط مثلها في غير محل الاستنباط فكل معنى في أصل فمتعلقه معنى وهو في حكم مستدل به وليس التعلق بحكم الأصل ولا بحصول الوفاق عليه
1153 - وإن قربنا العبارة قلنا ليعتقد المستدل صورة مختلفا فيها متفقا على حكمها ( ولير ) رأيه في استنباط معناه وإن كان لا يستد فكره إلا بمستند وبالجملة لا يحدث الناظر ( الموفق ) مسلكا إلا وبينه وبين ما تمهد في الزمن الماضي من السلف الصالح مداناة والذي ننكره من مالك رضي الله عنه ( تركه ) رعاية ذلك وجريانه على الاستدلال في الاستصواب من غير ( اقتصاد ) ونحن نضرب في ذلك مثالا ثم نذكر بحسبه لمالك مذهبا
1154 - فلو قدر وقوع واقعة حسبت نادرة لا عهد بمثلها فلو رأى ذو نظر جدع الأنف أو اصطلام الشفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النادرة فمثل هذا مردود ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة حتى نقل عنه الثقات أنه قال أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها
1155 - فإن قيل فبم تردون ما ذكره قلنا تبين من نظر الصحابة رضي الله عنهم في مائة سنة ومن نظر أئمة التابعين أن ما قال مالك رضي الله عنه وما استشهدنا به لا يحكم به ونحن نعلم أن الامد الطويل لا يخلو عن جريان ما يقتضى مثل ما يعتقده مالك ثم لم يجر وشذت واقعة في العقوبات واضطرب فيها رأي الصحابة وهي حد الشارب فجرى فيه واشتهر ولم يستجيزوا الاستجراء على تقدير زيادة فيه إلا بعد أن يثبتوا أنه
لم يكن مقدرا في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كأنهم أجروه مجرى التعزيرات قال على رضي الله عنه أما أنا ( لا أقتل ) في حد وأجد في نفسي ( شيئا إلا حد الشارب فإنه شئ رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فليكن هذا سبيلا قاطعا في الرد على مالك رحمه الله ومن نحا نحوه وفيه تنبيه على ما نريده
فصل ( الاعتراضات على الاستدلال ) 1156 - فإن قال قائل ما الاعتراض على الاستدلال قلنا الاستدلال معنى مخيل قد يتطرق إليه من الاعتراضات ما يتطرق إلى معنى يبديه المستنبط مخيلا في أصل غير أن ( للمعنى ) المستند إلى أصل تعلقا به فقد يتوجه كلام على الأصل بفرق أو غيره والاعتراضات على الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل تنتحي نحو المعنى فحسب ويتوجه عليه النقض إن أمكن والمعارضة وشرط ثبوته ألا يناقض أصول الأدلة
1157 - وأنا أرى الكلام عليه محصورا في أوجه أحدهما المناقشة في الاخالة والإشعار والأخر طلب النقض إن كان والآخر تقديم مقتضى أصل علته والآخر معارضته بمعنى آخر ( يناقضه )
فهذي مجامع الاعتراضات على الاستدلال ويفسد من الاعتراضات عليه ما يفسد من الاعتراضات على ما يستند إلى أصل وقد تمهد فيما تقدم مسلك الصحيح من الاعتراضات والفاسد ولا شك أنه لا يتصور استقلال التشبيه بنفسه فإن التشبيه معناه تقريب شئ من شئ بما يغلب على الظن من غير ( التزام ) معنى مخيل ومن ضرورة ذلك أصل متفق عليه فإن قيل هل يترجح المعنى المستند إلى أصل على المعنى الذي لا أصل له قلنا هذا نستقصيه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
فصل في استصحاب الحال 1158 - قد قال باستصحاب الحال قائلون ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أنه دليل بنفسه ولكنه مؤخر عن الأقيسة وهو آخر متمسك الناظر وقال قائلون لا يستقل الاستصحاب دليلا ولكن يسوغ الترجيح به والوجه أن نصوره ثم نؤثر ما هو المختار عندنا فيه
1159 - فإذا ثبت حكم متعلق بدليل ولم يتبدل مورد الحكم فليس هذا من مواقع الاستصحاب فإن الحكم معتضد بدليل وهو مستدام فدام الحكم بدوامه قد يقول بعض من لا يحيط بالحقائق لا يمتنع تقدير نسخ ولكنه غير محتفل
به والحكم مستصحب إلى نقل ناسخ على ثبت فيلتحق هذا الفن عند القائل بالاستصحاب فهذه مناقشة لفظية فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل إلى يوم نسخه فإن سمى مسم هذا استصحابا لم يناقش في لفظ وليس مقصود الفصل منه بسبيل
1160 - فأما إذا ثبت حكم في صورة ثم تغيرت وحالت ورام الناظر طرد الحكم الثابت في الصورة الأخرى فإن لم ( يكن للصورة ) الثانية تعلق بالأولى ولم يكن تغيرها مرتبا على الصورة الأولى فلا معنى للاستصحاب في مثل ذلك كالذي يبغى أن يستصحب حكما في صدقة البقر في صدقة الغنم ولا يترتب أحد الجنسين على الثاني تصورا ولا تقديرا وهذا بعينه محاولة جمع بدعوى عرية من غير معنى جامع ولا وجه في الشبه غالبا على الظن وهو احتكام مجرد
1161 - فأما إذا ترتبت صورة على صورة فإن تغيرت عليها فأثبتت في الخلفة عليها فعند ذلك يقول قائلون نستصحب الحكم الثابت في الصورة الأولى ونجريه في الثانية وهذا باطل عندنا غير صالح للاستدلال ولا للترجيح فإن الصورتين متغايرتان وإن أثبتت إحداهما على الأخرى تصورا وخلفة فلا معنى لقول القائل أستصحب ( الحكم ) وقد تغير المورد ( وتغاير ) المحل فلا يمتنع تغاير الحكمين لذلك
وهذا كقول القائل في استئناف الفريضة عند أبي حنيفة في زكاة الإبل فقد اطردت فريضة الإبل على نصب معلومة فينبغي أن يستصحبها وراء المائة والعشرين حتى لا يوجبها إلا على ذلك القياس وقد عورضوا بأن فريضة الإبل إذا ثبتت وجب استصحابها وذلك ( قاض بمنع ) العود إلى الشاة والقائلان ذاهلان عن الحقيقة فلا معنى للاستصحاب من الفئتين وما قاله أصحابنا أمثل لاعتضاده بفقه وهو المعتمد دون الاستصحاب وذلك أن الشاة أثبتت ابتداء اجتنابا لتشقيص مع ( أن ) إيجاب بعير مجحف بالخمس من الإبل فالعود إلى الشاة مع كثرة الإبل بعيد وهذا ليس استصحابا
1162 - فإن قيل من استيقن الطهارة وشك في الحدث فالحكم استصحاب الطهارة وكذلك نقيض هذ1 وكذلك من تيقن النكاح وشك في الطلاق فالجواب كذلك فهل هذا الفن مما يلحق باستصحاب الحال ( أم لا ) قلنا هذا لباب الفصل ونحن نقول فيه قول الفقيه يستصحب يقين الطهارة فيه تجوز فإن اليقين لا يصحب الشك فليس المعنى بقولهم لا يترك اليقين بالشك أنهم على يقين مع التردد في الحدث ولكن المراد به أن ما تقدم من الطهر يقين فيبقى الحكم ما تيقناه والقول فيه إذا طرأ الشك لم يخل المشكوك فيه من ثلاثة أحوال
1163 - أحدها أن يرتبط بعلامة بينة في محل الظنون فما كان كذلك
فلاجتهاد هو المتبع ولا التفات إلى ما تقدم فإنه يتصدى للمرء شك في بقاء ما سبق واجتهاده ظاهر في زواله والاجتهاد مقدم
1164 - فإن ثبتت علامة خفية كالعلامات التي يقع التمسك بها في تمييز النجس من الطاهر في الأواني وفي والثياب فإن عارض يقين النجاسة يقين الطهارة فعلم صاحب الإناءين أن أحدهما نجس والآخر طاهر فليس التمسك بيقين الطهارة بأولى من التمسك بيقين النجاسة فيضطر إلى التمسك بالعلامات وإن خفيت ( وإن لم يوجد ) يقين النجاسة ولكنا تيقنا طهارة وشككنا في طريان نجاسة وثبتت علامة خفية ففي التعلق بها قولان أحدهما أنها ضعيفة وإن تناهى المرء في تصويرها محاولا إظهار ما وقع في النفس فليفهم الناظر ما يرد عليه فالتعلق بالاستصحاب أولى على قول والتمسك بها أولى على قول
1165 - وإن تقدم يقين وطرأ شك وليس لما فيه علامة جلية ولا خفية فعند ذلك تأسيس الشرع على التعلق بحكم ما تقدم وهذا نوع من الاستصحاب صحيح وسببه ارتفاع العلامات وليس هذا من فنون الأدلة ولكنه أصل ثابت في الشريعة مدلول عليه بالإجماع وإن طرأ مثل ذلك في منازل المجادلات فأراد ( المستدل ) أن يدعو الخصم إلى موجب الاستصحاب وكانت الصورة على نحو ما ذكرناها فذلك ( سائغ )
والدليل عليه اعتباره بنظائره بتشبيه أو تقريب معنوي فليلحق ذلك بأبواب القياس إذا
1166 - ولا يستمر هذا إلا بسبر وهو تمام الكلام ومعناه أن يدعى أولا انتفاء الدليل عند قيام التردد ثم لا يتوصل إلى ذلك إلا بتخيل جهات الأدلة وإبانة انتفائها في محل الكلام ثم يستمر بعد هذا ما يحاوله من اعتبار صورة بصورة وبيان ذلك بالمثال أن المسئول عن وجوب الأضحية يقول الأصل براءة الذمة فلا معنى لشغلها إلا بثبت وهذا لو اقتصر عليه لاستقل كلاما مفيدا مستقيما وحاصله يئول إلى أنه لم يقم عندي دليل على وجوب الأضحية وإذا قسم وسبر وتتبع مواقع تعلقات الخصم بالنقض استمر له ما ذكرناه في الاستصحاب فهذا منتهى الغرض في ذلك وقد نجز بنجازه القول المقصود في الاستدلال والحمد لله وحده
الكتاب الخامس -
كتاب الترجيح 1167 - الترجيح تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن ولا ينكر القول به على الجملة مذكور وقبله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن ( الملقب بالبصري وهو جعل ) أنه أنكر القول بالترجيح ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثى عنها وسأذكر شيئا ينبه على إمكان ذلك في النقل
1168 - والدليل القاطع في الترجيح إطباق الأولين ومن تبعهم على ترجيح مسلك في الاجتهاد على مسلك هذا ما درج عليه الأولون قبل اختلاف الآراء وكانوا رضي الله عنهم إذا جلسوا يشتورون تعلق معظم كلامهم في وجوه الرأي بالترجيح وما كانوا يشتغلون بالاعتراضات والقوادح ( وتوجيه النقوض ) وهذا أثبت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك الأحكام فوضح أن الترجيح مقطوع به
1169 - واستدل القاضي رحمه الله لمن حكى الخلاف عنه في نفي الترجيح
بالبينات في الحكومات فإنه لا يترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت وهذا مردود فإن العلماء من يرى ترجيح البينة على البينة وهو مالك رضي الله عنه وطوائف من علماء السلف وليس من الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع ثم إن ظن ظان أن لا ترجيح في البينة ورآها مستندة إلى توقيفات تعبدية فهذا لا يعارض ما ثبت قطعا تواترا في الترجيح والعمل به وليس متعلق مثبتى الترجيح تجويزا ظنيا فينتقض بشيء أو يقاس على شيء
1170 - فإذا ثبت أصل الترجيح فلا سبيل إلى استعماله في مسالك القطع فإذا أجرى المتكلم في مسلك قطعي صيغة ترجيح أشعرت بذهوله أو غباوته وما يفضى إلى القطع لا ترجيح فيه فإنه ليس بعد العلم بيان ولا ترجيح وإنما الترجيحات تغليبات لطرق الظنون ولا معنى لجريانها في القطعيات فإن المرجح أغلب في الترجيح وهو مظنون ( والمظنون ) غير جار في مسلك القطع فكيف يجرى في القطعيات ترجيح ما لا يجرى أصله فيها مسألة
1171 - أطلق الأئمة القول بأن المعقولات لا ترجيح فيها وهذا سديد لا ننكره ولكنا أوضحنا في الديانات أن العوام لا يكلفون بلوغ الغايات ودرك حقائق العلوم في المعتقدات وإنما يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به مع
التصميم ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير استناد إلى مسلك من مسالك النظر وإن كان غير تام وإذا كان كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى فإن عقودهم ليست علوما ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه ظان وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة فإنهم زعموا أن الترجيحات لا وقع لها في مدارك العلوم وما ذكروه حق لا نزاع فيه وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما فتجرى عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات مسألة
1172 - قال الأئمة رضي الله عنهم الترجيحات لا تستعمل في المذاهب من غير نصب أمارات فإن كل ذي مذهب مدع قبل أن يدل والدعاوى لا تقبل الترجيح إذ الترجيح في نفسه لا يستقل دليلا والمذهب لو كفى ترجيحه لكان الترجيح مستقلا لإثبات المذهب وما كان كذلك كان دليلا مستقلا بنفسه وهذا يتطرق إليه استثناء عندنا على تفصيل نشير إليه الآن ثم نقرره في كتاب الفتاوى إن شاء الله تعالى فليعلم الناظر أن المستفتى لا يتخير في تقليد من شاء من المفتين ولكن عليه ضرب من النظر في تخير واحد منهم لمزية يتخيلها أو يظنها لمن يختاره وسيأتي ذلك مشروحا في موضعه إن شاء الله تعالى وإن كان كذلك فمتعلق المستفتى ترجيح مجرد وقد ينقدح أن يقال ما يغلب على ظنه تخصيص واحد من العلماء فهو دليل مثله فالقول في هذا يئول إلى عبارة
ونحن الآن نرسم ما يترجح به مذهب الإمام المطلبي الشافعي رضي الله عنه مسألة
1173 - أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين
1174 - ثم نحن نوضح وراء ذلك ما يتعلق به منتحل المذهب على الجملة في اختيار مذهب الشافعي ومجامع الكلام في ذلك يحصرها طرق أحدها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل وكل موضوع على الافتتاح قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون وهذه الطريقة يقبلها كل منصف وليس فيها تعرض لنقض مرتبة إمام
1175 - فإذا حصلنا المقصود مع الاعتراف للمتقدمين بفضل السبق فالذي
يتم به الغرض أن الصديق أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبي عليه السلام ثم اشتغال من بعده بالسبر أوجب على العوام ألا يبتدروا مذهب الصديق رضي الله عنه مع علو منصبه وارتفاع قدره فإن قيل يلزمكم على هذا أن توجبوا الاقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة على ما ذكرتموه قلنا إن ثبت لأحد بعده من الأئمة من المزية والفضل وتهذيب ما لم ينتظم وكشف ما لم يتبين فلا يناقض مسلك الطريقة ولكنا لسنا نرى أحدا بلغ هذا المحل وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
1176 - طريقة أخرى وهي أن نقول المذاهب ( تمتحن ) بأصولها فإن الفروع تستد باستدادها وتعوج باعوجاجها وهذا النوع ( من النظر ) هو الذي يليق بالمستفتين ومنتحلي المذاهب وسبيل محنة الأصول معرفتها أفرادا في قواعد ثم معرفة ترتيبها وتنزيل كل أصل منها منزلته فإذا تبين ذلك فأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الأقيسة الظنية علامات انتصبت على الأحكام ( أعلاما ) بأصل من الأصول الثلاثة مقطوع به كما سبق شرح ذلك ثم لها مراتب ودرجات ومناصب فإذا نظر الناظر إلى منصب الشافعي عرف أنه أعرف الأئمة بكتاب الله تعالى فإنه عربي مبين والشافعي تفقأت عنه بيضة قريش
ولا يخفى تميزه عن غيره فيما نحاوله ثم يتعلق معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول بمعرفة الروايات ومقامه لا يخفى في الأخبار ومعرفة الرجال وفقه الحديث والإجماع يتلقى من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهذا بيان الأصول
1177 - وأما تنزيلها منازلها ( فإنه شوف ) الشافعي فإنه قدم كتاب الله تعالى ثم أتبعه بسنة رسوله عليه السلام ثم إذا لم يجدها تأسى بالصحابة رضي الله عنهم في التعلق بالرأي الناشىء من قواعد الشريعة المنضبطة أصولها ولم ير التعلق بكل استصواب لما فيه من الانحلال والانسلال عن ضبط الشريعة ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فاستحث على الاتباع فيما لا يعقل معناه وقد يقيس إذا لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى ( المخيل ) المناسب وهو في ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ويدور عليها
1178 - ومن بديع نظره أنه قد يعن له معنى مخيل ولكن يراه منقوضا ( بما لا يعلل ) فيلحقه بما لا يعلل وهذا مسلكه في منع القيم في الزكوات فإن غرض الزكاة سد الخلة والحاجة وهو وإن كان معقولا فلا جريان له فرأى الأتباع فيه معنى السد مع الخلاص ( من ) غرر المخالفة ثم جعل كون الزكاة عبادة عضدا لذلك كالمرجح به ولا حاجة إلى ذكر ( مذهب ) غيره فإن في هذا تنبيها على مقتضاه
1179 - طريقة أخرى وهي تشتمل على نظر كلي إلى الفروع وهذا
يتأتى بضبط ورد نظر إلى الكليات فالشريعة متضمنها مأمور به ومنهي عنه ومباح فأما المأمور به فمعظمه العبادات فلينظر الناظر فيها وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر ولا يكاد يخفى احتياط كثير من الناس فيها وبالجملة الدم معصوم بالقصاص ومسألة المثقل يهدم حكمة الشرع فيه والفروج معصومة بالحدود ولا يخفى ما فيها من الاضطراب والأموال معصومة عن السراق بالقطع وقد أثبت من ( نعنيه ) ذرائع إلى إسقاطه سهلة المدارك وأعيان الأموال مستردة من الغصاب وقد بان للفقيه مسالك الناس الذين خالفوا مذهب الشافعي فمن نظر إلى الأصول ثم نظر نظرا كليا إلى الفروع لم يخف عليه من يكون أولى بالاتباع وإن قصر ( نظر ) بعض المستفتين عن فهم ما ذكرناه فلا عليه لو ( احتذى ) بقول النبي عليه السلام الأئمة من قريش ولم أجد أحدا من أصحاب المذاهب معتزيا إلى طينة قريش بالمسلك الواضح إلا الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذاك وأبو حنيفة من الموالى ومالك كذلك ( على ما حكى بعض الناس ) فهذه مرامز كافية فيما نحاوله وإذا أردنا أن نعبر عن الأئمة الثلاثة الناخلين المرموقين الذين طبقت مذاهبهم طبق الأرض مالك والشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهم قلنا
1180 - أما أبو حنيفة فلا ننكر ( اتقاد ) فطنته وجودة قريحته في درك عرف المعاملات ومراتب الحكومات فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه على النهاية ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه منقسمة إلى أصل جهله ( أو ) أغفله وذهل عنه وإلى آخر تمسك به وما رعاه وما ( عقله ) وانتهض لتبويب الأبواب انتهاض من لم يستمد من القواعد ومن عجيب أمره أنه لم يعتن بجمع الأخبار والآثار ليبني عليها مسائله ولكنه يوصل الفروع بناء على ما يراه ثم يستأنس بما يبلغه وفاقا
1181 - وأما الإمام مالك فلا يشق غباره في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة ولا يدرك آثاره في درك سبل الصحابة والطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان الزلل إلى النقلة فقد كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد رأيت بعدد أساطين هذا المسجد من يقول حدثني أبي فلان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم أستجز أن أروى عنهم حديثا فقيل له أكنت لا تثق بهم فقال كنت ( لا ) أتهم صدقهم ولو نشروا بالمناشير ما كذبوا على رسول الله عليه السلام ولكن لم يكونوا من أهل ( هذا ) الشأن ولكنه ينحل بعض الانحلال في الأمور الكلية حتى يكاد أن يثبت في الإيالات والسياسات أمورا لا تناظر قواعد الشريعة وكان يأخذها من وقائع وأقضية لها محامل على موافقة الأصول بضرب من التأويل فكان يتمسك بها ويتخذها أصولا ويبنى عليها أمورا عظيمة كما روى أن عمر رضي الله عنه قال للمغيرة وكان قد أخذ قذاة من لحيته فظن
عمر ( به ) استهانة فقال أبن ما أبنت وإلا أبنت يدك ونقل عنه مشاطرة خالد وعمرو بن العاص على أموالهما فاتخذ ذلك أصلا فرأى إراقة الدم وأخذ أموال بتهم من غير استحقاق لمصالح إيالية حتى انتهى إلى أن قال أقتل ثلث الخلق في استبقاء ثلثيهم وكان من الممكن أن يحمل قول عمر رضي الله عنه على التغليظ بالقول وكانوا يعتادون ذلك وكذلك من بعدهم وأخذه الأموال محمول على علمه بانبساط خالد وعمرو فيما لا يستحقان من مال الخمس وأموال المسلمين ولا يبلغ من حزم عمر درك مبلغ ذلك فإذا أمكن هذا فلا وجه لإطلاق أيدي الولاة في الدماء والأموال
1182 - وأما الشافعي فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة وأضبطهم لها وأشدهم كيسا ( واتقادا ) في مآخذها وتنزيلها منازلها ( وترتيبها على مراتبها ويشهد ذلك بالثقة فيها سابقا إليه ) ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته فلم يتشوف إلى وضع مسائل بديعة وكان متصديا للإجابة عن كل ما يسأل عنه واخترم وقد نيف على الخمسين وكان ذلك الأمد لا يتسع لأكثر من ضبط الأصول فيها فهان على أصحابه البناء عليها
1183 - وهذا بيان منازلهم وسنذكر في كتاب الفتوى أنه يتعين على المستفتى نظر كلي في ( تخير ) قدوته وسنصف ذلك النظر وحده ثم نقول ليس على المستفتى تعلق بمبادىء النظر في كل مسألة يأخذ فيها جواب قدوته وهذا متفق عليه في المظنونات
1184 - ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال إذا اشتملت المسألة على مدرك قطعي وجب على العامي الاحتواء عليه فإن كانت المسألة عملية فتلتحق بالعقائد التي لا يسوغ العقل التقليد فيها
1185 - وهذا عندنا سرف ومجاوزة حد فإنا لا نرى أولا في العقائد ما يراه وقد ظهر اختيارنا فيما عليهم من عقائدهم وأما إلحاق قطعيات الشرع بالعقائد فعظيم فإن الشريعة تحتوي على مائة ألف مسألة وأكثر مستندها القطع وتكليف العامي الإحاطة بها في معاملاته التي يمارسها ظاهر الفساد وهو اقتحام خرق الإجماع مسألة
1186 - ذهب معظم الأصوليين إلى أن المجتهد لا يجوز له الاقتصار على ترجيح مذهب على مذهب من غير تمسك بما يستقل دليلا وحكى صاحب المغنى وهو عبد الجبار في كتابه المترجم بالعمد عن بعض أصحابه جواز الاكتفاء بالترجيح
وسقوط هذا المذهب واضح فإن الترجيح الحقيقي ينشأ من منتهى الدليل فإذا لم يكن دليل لم يثبت الترجيح تصورا وإن فرض تمسك بمبادىء نظر وسمى ذلك ترجيحا فهو نظر فاسد لقصوره ولا ترجيح بالفاسد والنظر يفسد بقصوره تارة وبحيد عن المدرك المطلوب أخرى
1187 - فإن قيل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في تفاوضهم يكتفون بمسالك الترجيحات وما كانوا يمهدون أدلة مستقلة ثم يبنون عليها ترجيحات وهم الأسوة قلنا هذه دعوى عرية لا أصل لها فإنهم كانوا يبنون أحكاما على معان سديدة وعلى تقريبات شبهية وهذا مدرك الشرع وكانوا لا يعتنون برد المعاني إلى الأصول لا عن جهل بها ولكنهم علموا أن معتمد الأحكام المعاني فأما الاقتصار على الترجيحات فادعاؤه عليهم تخرص ( بين ) ( نعم ) قد نقول إذا عريت واقعة عن نظر قويم ولاحت فيه مخيلة على بعد ولا يكون مثلها دليلا فقد يجوز التمسك بها تجويزا للمجتهد استصحاب الحال وإن رأينا أن نذكر في آخر هذا المجموع طرفا صالحا من حكم شغور الزمان عن المفتين وحملة الشريعة ذكرنا طرفا صالحا في ذلك إن شاء الله تعالى
القول في ترجيحات الأدلة
1188 - إنما مظنة الترجيحات تعارض صور الأدلة وهي في غرضنا ألفاظ منقولة ومعان مستنبطة فأما الألفاظ فتنقسم إلى النصوص التي لا تقبل التأويل وإلى الظواهر فأما النصوص فتنقسم إلى ما ينقل قطعا واستوت في النقل ويلتحق بهذا القسم ما ينقل من غير قطع ولكن تستوي النصوص في ( طريق ) النقل من غير ترجيح آيل إلى الثقة والتغليب فيها ونحن نرسم ما يتعلق بهذا القسم مسألة
1189 - إذا تعارض نصان على الشرط الذي ذكرناه وتأرخا فالمتأخر ينسخ المتقدم وليس ذلك من مواقع الترجيح
1190 - فإن تطرق إلى أحد النصين ظن النسخ من غير قطع فهذا نصفه ونصوره ثم نذكر المذاهب فيه قال الشافعي في مسألة المس قيس بن طلق راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم
إسلامه وأبو هريرة ممن روى ( أحاديثنا ) وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ تطرق إلى ما رواه قيس وكذلك صح عن النبي عليه السلام ( في مرض موته ) أنه قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه و سلم في مرض موته والمقتدون به قيام وراءه فكان هذا من أواخر أفعاله والحديث الذي رويناه مطلق فيغلب على الظن أنه كان في صحته ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم الجهني قال ورد علينا كتاب النبي عليه السلام قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ فالغالب على الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث عبد الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب مجهول ليس بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات فهذا تصوير ما أردناه
1191 - قال الشافعي إن تجرد نص ولم يعارضه آخر فإمكان النسخ مردود ومدعيه مطالب بنقل النسخ ولا يكتفى في هذا المقام بغلبة الظن فإن تعارض نصان وتطرق إلى أحدهما مسلك من المسالك التي صورناها فعند ذلك يرى الشافعي ترجيح النص الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ على الآخر ( ورأيه أولى ) من
الحكم بتساقط النصين عند تعارضهما
1192 - وقال قائلون النصان متعارضان فإن الذي اتجه فيه إمكان النسخ ظنا لا يخفى سقوطه والنص الآخر يهى به ويحط عن منزلته والتمسك بمرتبة أخرى دون النصوص أولى ولا يبقى مع تعارض النصين إلا ظن ترجيح ومجرد الترجيح لا يجوز التمسك به
1193 - ووجه الحق في ذلك أن الحادثة إذا عريت عن مسلك ( يعد ) من سبل مسالك الأحكام وتعارض خبران نصان وتطرق إلى أحدهما إمكان النسخ وعدم المجتهد متعلقا سواهما فالوجه التمسك بالخبر الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ وهذا أولى من تعطيل الحكم وتعرية الواقعة عن موجب الشرع وهذا يناسب القول في مآخذ الأحكام عند عرو الزمان عن المفتين ولعلنا نختتم هذا المجموع بطرف صالح منه يقع به الاستقلال فإن وجد المتناظران مسلكا من مآخذ ( الأحكام ) سوى الخبرين مثل أن يجد للقياس مضطربا فالوجه النزول عن الخبرين جميعا والتمسك بالقياس ثم الخبر الذي بعد عن ظن النسخ يستعمل ترجيحا لأحد القياسين ( على الآخر ) فهذا وجه مدرك الحق في ذلك وهو أصل في كتاب الترجيح وسنسند إليه أمثاله مسألة
1194 - إذا تعارض خبران نصان نقلهما الآحاد واستوى الرواة في الصفات المرعية في حصول الثقة ولكن كان أحدهما أكثر رواة
فالذي ذهب اليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد ( وهو مذهب الفقهاء ) وذهب بعض المعتزلة إلى منع الترجيح بكثرة العدد واحتجوا في ذلك بالشهادة فإنه لا ترجح بينة على بينة بكثرة العدد وهذا الذي ذكروه مما اختلف الفقهاء فيه
1195 - فذهب معظم أصحاب مالك وشرذمة من أصحاب الشافعي إلى أن البينة المختصة بمزيد العدد في الشهود مقدمة على البينة التي تعارضها
والمسألة على الجملة مظنونة وللاجتهاد فيها مجال ثم معظم قواعد الشهادات منوطة بالتعبدات والروايات مدار أصولها وتفاصيلها على الثقة المحضة ولهذا لا تعتبر فيها الحرية والعدد في ( أصل القبول ) وكثرة الروايات توجب مزيدا في غلبة الظن وقد قال القاضي رحمه الله تعالى تقديم الخبر على الخبر بكثرة الرواة لا أراه قاطعا وإنما أراه من مسالك الاجتهاد
1196 - والوجه في هذا عندنا أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبر وتعارض في الواقعة خبران واستوى الرواة في العدالة والثقة وانفرد بنقل أحدهما واحد وروى الآخر جمع فيجب العمل بالخبر الذي رواه الجمع وهذا مقطوع به فإنا على قطع نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو تعارض لهما خبران كما وصفنا والواقعة في محل لا تقدير للقياس فيه ولا مضطرب للرأي لما كانوا يعطلون الواقعة بل كانوا يرون التعلق بما رواه الجمع
1197 - فأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية فإن الخبر الذي نقله الواحد يضعف بالخبر الذي يعارضه فيبعد
أن يستقل دليلا والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنهما والتمسك بالقياس وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع ولو تجرد القياس في الجانب الآخر ( فهو ) متمسك ( الحكم ومتعلقه فهذا وجه ولكن قد نظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يقدمون ) الخبر الذي يرويه الجمع ويضربون عن القياس كدأبهم في تعظيم الخبر وتقديمه ولسنا على قطع في ذلك فإنا لا نثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي فما قطعنا به أثبتناه وما غلب على ظننا ترددنا فيه وألحقناه بالمظنونات
1198 - فآل حاصل القول إلى أن الخبر وإن رواه جمع من الثقات إذا عارضه خبر نقله عدل واحد فيسقط ما رواه الجمع عن رتب الأدلة المقطوع بها فإن عدمنا مأخذا سواهما كان تعلقنا بالأرجح تعلق من لا يجد مضطربا سوى الترجيح ومحض الترجيح لا يتعلق به عند فقد الأدلة كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى
1199 - فأما إذا وجدنا ( أدلة فالمسألة إذ ذاك ظنية منزلة على ما يؤدى إليه اجتهاد الناظر وكذلك إذا وجدنا ) القياس موافقا للخبر الذي نقله الواحد فالمسألة ظنية أيضا وإن كان القياس في جانب الخبر الذي رواه الجمع ( فلا شك أن الحكم بذلك القياس المرجح بالخبر الذي رواه الجمع ) فهذه جوامع القول في ذلك
1200 - وقد ذكرنا في تعارض الخبرين إذا تطرق إلى أحدهما إمكان النسخ من الجهات التي ذكرناها ( أن ) الوجه النزول عنهما والتمسك بالأقيسة إن وجدناها
ولم ( نردد ) في ذلك تغليب ظن والسبب فيه أنا ظننا ظنا غالبا بالصحابة رضي الله عنهم اعتبار الترجيح بالثقة والعدد ورددنا القول ولم يسنح لنا مثل ذلك فيما يتطرق إليه النسخ إمكانا إذ تبينا من تفحصهم عن أسباب الثقة ما يغلب على الظن الترجيح بها وتقديم الأخبار على الأقيسة تعظيما لها إذا رجع الأمر إلى التفاوت في الثقة ( فإن ظهر لنا ظن عندنا في وقائع ) بلغته أنهم نظروا في إمكان النسخ نظرهم في الثقة نزلنا تلك ( المسألة ) هذه المنزلة وعاد القول إلى التعارض إلا فيما يمنع منه متمسك لما قدمنا تمهيده من أن التعارض في التساقط ( أقوى ) في نظر الناظرين من الاعتصام بترجيح ظنى فهذا منتهى المراد
1201 - ومما نذكره في فروع هذا الفصل أنه إذا روى راويان خبرين وكل واحد منهما ( ثقة ) مقبول الرواية لو انفرد ولكن في أحدهما مزية ظاهرة في قوة الحفظ والضبط والاعتناء بالوعي فهذا مما يرى أهل الحديث مجمعين على التقديم ( فيه ) وهو كما روى عبيد الله بن عمر العمري ( مع ما رواه أخوه عبد الله بن عمر العمري ) في سهم الفارس من المغنم فقال الأئمة حديث عبيد الله
مقدم وإن كان أخوه عبد الله عدلا فإن بينهما تفاوتا بينا قال محمد بن إسماعيل البخاري بينهما ما بين الدينار والدرهم والفضل لعبيد الله وهذا وإن ظهر من خدمة الحديث فإذا رجع الأمر إلى العلم فالقول عندي في الخبرين مع اختصاص إحدى الروايتين بالمزية كالقول في اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة مع الاستواء في الصفات المرعية وقد سبق ذلك مفصلا غير أن التمسك بحديث عبيد الله حتم من جهة أن القول متعلق بالتقدير وهو متلقى من توقيف الشارع ولا مجال للقياس فيه والرأي لا يضبط منتهى الغناء والكفاية
1202 - فهذا من المنازل التي يتعين فيها الاستمساك بالخبر ولا نظر لذى الرأي على استرسال كلى وهو موافق لمذهب الشافعي فإن نظرنا إلى الغناء فلا يكاد يخفى أن غناء الفارس يزيد على ضعف غناء الراجل فلا موقف ينتهى ( إليه ) فيستعمل الرأي كليا ويستعمل الخبر توقيفا ينتهى إليه
1203 - ومما يتصل بذلك ( أنه ) إذا روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع لا يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر الآخر في الثقة والعدالة فاجتمع مزية الثقة وقوة العدد
فمن أهل الحديث من يقدم مزية العدد ومنهم من يقدم مزية الثقة والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة إذا ظهرت فإن الغالب على الظن أن الصديق رضي الله عنه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه خبرا لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق ومأخذ الكلام في جميع هذه الفنون واحد فليرجع الناظر إلى المعتبر الممهد أصلا وتفصيلا وليميز مواقع القطع من الظن مسألة في تقديم أحد الخبرين على الآخر بموافقة أقضية الصحابة رضي الله عنهم
1204 - القول في حقيقة هذه المسألة يستدعى مقدمة من كتاب الإجماع فنقول إن اجتمع علماء العصر على ( مذهب ) واستمر الإجماع على الشرائط المرعية فلا يبقى للتعلق بالخبر والحالة هذه وقع فإن الخبر إن كان منقولا آحادا فلا خفاء بما ذكرناه
ولو فرضنا خبرا متواترا وقد انعقد الإجماع على خلافه فتصويره عسر فإنه غير واقع ولكنا على التقدير نقول لو فرض ذلك فالتعلق بالإجماع أولى فإن الأمة لا تجتمع على الضلالة ويتطرق إلى الخبر إمكان النسخ فيحمل الأمر على ذلك قطعا لا وجه غيره ونقطع بهذا
1205 - فإن قيل الخبر المتواتر النص من الأدلة القاطعة وكذلك الإجماع فلم قدمتم الإجماع
قلنا لأن الخبر عرضة لقبول النسخ والإجماع لا ينعقد متأخرا إلا على قطع فلا يتصور حصول الإجماع على باطل وتطرق النسخ إلى الخبر ممكن فالوجه حمل الإجماع على القطع الكائن وحمل الخبر على مقتضى النسخ استنادا أو تنبيها على تقدير استثناء والمستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ فهذا مما لا يتصور وقوعه حتى يتكلم فيه في تقديم أو تأخير وإنما الكلام في خبر مطلق ثم الذي أراه ( أن ) من ضرورة الإجماع على مناقضه الخبر النص المتواتر أن يلهج أهل الإجماع بكونه منسوخا فهذا قولنا في الإجماع
1206 - أما إذا فرض خبر على شرط الصحة نقله الآحاد وجرت أقضية ( أئمة من ) الصحابة على مخالفته فكيف الوجه ذهب مالك رحمه الله إلى تقديم ما صار إليه أهل المدينة يعني علماءها وروي عنه في تحقيق ذلك تمسك بأخبار تشير إلى تعظيم المدينة وأهلها فإن صح ذلك فهو ضعيف وإن كان مذهبه النظر في مذاهب العلماء الذين كانوا وإنما أجرى ذكر ( أهل ) المدينة لتوافر العلماء بها في ذلك الزمن فهذا قريب على ما سيأتي الشرحليه إن شاء الله 1207 وقال الشافعي رحمه الله لا نظر إلى الأعمال والأقضية إذا لم يتفق عليها أهل الإجماع والتعلق بالخبر أولى ونحن نذكر ما تمسك به الشافعي ثم نذكر بعده المختار عندنا قال الشافعي الحجة في الخبر وما نقل من عمل على خلافه فهو منقول عن
أقوام ليست أقوالهم حجة ولا معنى لترك الحجة لما ليس بحجة ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال العاملون بخلاف الخبر محجوجون به ولا يقدم قول محجوج بحجة على الحجة وقال الشافعي في بعض مجاري كلامه لو ( عاصرت ) العاملين بخلاف الخبر لحاججتهم وجادلتهم العين العين ولا يتعين ذلك بانقراضهم وهو يقول لو وجدت قياسا يخالف أقضية أقوام من الأئمة لتمسكت به ولم أبال بمن ينازعني والخبر مقدم على القياس فإذا قدمت القياس على قولهم فكيف أترك الخبر المقدم على القياس بقولهم وقال رضى الله عنه إن كان تقديم أقضية الصحابة لتحسين الظن بهم ولا تجب لهم العصمة فتحسين الظن بخبر الشارع المعصوم ( أولى )
1208 - والرأي الحق عندنا ( في ذلك ) يوضحه تقسيم فنقول إن تحققنا بلوغ الخبر ( طائفة من أئمة الصحابة وكان الخبر ) نصا لا يطرق إليه تأويل ثم ألفيناهم يقضون بخلاف مع ذكره والعلم به فلسنا نرى التعلق بالخبر إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب وترك المبالاة أو العلم بكونه منسوخا وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال ( وقد ) أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول فيتعين حمل عملهم مع الذكر والإحاطة بالخبر على العلم بورود النسخ وليس ( ما ) ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب ( فكأنا ) تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر غض من قدره عليه السلام وحط
من منصبه وقد قدمنا في كتاب الإجماع أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ولكن ( إجماع ) أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه ( عن ) حجة فهذا قول في قسم وهو إذا بلغهم الخبر وعملوا بخلافة ذاكرين له
1209 - فأما إذا لم يبلغهم أو غلب على الظن أنه لم يبلغهم فالتعليق بالخبر حينئذ وظنى بدقة نظر الشافعي في أصول الشريعة أنه رأى التقديم للخبر في مثل هذه الصورة
1210 - وإن غلب على الظن أن الخبر بلغهم وتحققنا أن عملهم مخالف له فهذا عندي مقام التوقف والبحث فإن لم نجد في الواقعة متعلقا سوى الخبر والأقضية فالوجه التعلق بالخبر وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر فالتمسك به أولى
1211 - ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له أن مذاهب الصحابة إذا نقلت من غير إجماع فلا نرى التعلق بها وإذا نقلت في معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل تأويلا فتعين التعلق بالمذاهب وليس هذا على الحقيقة تعلقا بالمذاهب وإنما هو تعلق بما صدرت المذاهب عنه وما ذكرناه في أئمة الصحابة يطرد في أئمة التابعين وأئمة كل عصر ما لم تقف على خبر وبيان ذلك بالمثال أن مالكا رضي الله عنه يرى تقديم أقضية الصحابة رضي الله عنهم على الخبر مطلقا من غير تفصيل وقد لا نامن أن يكون بعض تلك الأقضية ممن لم يبلغه الخبر أو بلغه ونسيه فإذا لم يفصل مالك تبينا أنه لم يكن مطلعا على حقيقة هذا الأصل فلا جرم
نقول إذا روى مالك خبرا وخالفه لم نبل بمخالفته من حيث لا نثق بتحقيق منه في مأخذ الباب ولذلك ثبت خيار المجلس بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن الرسول عليه السلام ولم يقل مالك بخيار المجلس
1212 - ومما يجب تنزيله على هذا القسم أن جمعا لو بلغهم خبر ثم صح عندنا عملهم بخلافة بعد تطاول زمن وجوزنا ذهولهم عنه ونسيانهم له فليخرج ذلك على التقاسم في تطاول غلبة الظن كما سبق وما ذكرناه في جمع فهو في المجتهد الواحد الموثوق بعدالته وأمانته بمثابته في جمع
1213 - ولو صح خبر وعمل به جمع ولم يعمل به جمع والفريقان ذاكران الخبر والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ فالذي أراه تقديم عمل المخالفين فإنه لا يحمل أمرهم إلا على ثبت وتحقيق وعمل العاملين يحمل على التمسك بظاهر الخبر
1214 - وليعلم الناظر إذا انتهى إلى هذا المقام أن الكلام في هذه المضايق ينتهي إلى حال يعسر التصوير فيها فلا ينبغي للانسان أن يسترسل في قبول كل ما يتصور عليه ومن هذا القبيل ما انتهينا إليه فإنه يبعد قطع قوم بالمخالفة مع تصحيح الخبر وقطع آخرين بالعمل فلا بد أن يشيع المخالفون ما عندهم ويبحث عنه العاملون
( نعم قد يتفق عمل العاملين في صقع من غير غوص وتحقيق وبحث عن حالة المخالفين ) فهذا منتهى القول في ذلك وهو مقدمة غرضنا في الترجيح
1215 - فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل باحدهما ائمة من الصحابة فإذا رأى الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي ( عارضه و ) لم يصح العمل به واستشهد بما رواه أنس في نصب الغنم إذ عارضه ما رواه على رضي الله عنه فيها وعمل الشيخين يوافق ما رواه أنس ( فقال رضي الله عنه أقدم حديث أنس ) وهذا مما يجب التأني ( فيه ) فليس ما استشهد به مما يقال فيه إن عمل الصحابة خالف خبرا إذ لم يصح عندنا أنهم بلغهم حديث على رضي الله عنه ثم لم يعلموا به ولكن قد يظن ذلك ظنا
1216 - فإن قيل فما الوجه والحالة كما وصفتم قلنا نرى الحديثين متعارضين فإن معارضة أحدهما الثاني ليس مما يسقطه ترجيح ظني في أحد الجانبين ثم لو صح أنه بلغهم الحديثان ثم عملوا بأحدهما فليس هذا من الترجيح ولكنه يتعلق بالقسم المتقدم وهو أن أقضية أئمة الصحابة بخلاف الخبر مع العلم به والذكر له كيف الوجه فيه وقد تقدم ما فيه بلاغ
1217 - ومما يجب التفطن له أن النصب مقادير ولا مجال فيها للرأي والخبران وإن رأينا تعارضهما فيخرج وجوب العمل بما عمل به الصحابة رضي الله عنهم على الرأي المتقدم في أنا إذا عدمنا مسلكا للحكم ولم نظفر إلا بما يقع
ترجيحا لا استقلال له ولو ثبتت الأدلة فالتمسك بما لا يستقل أولى من تعريه الواقعة عن حكم فالوجه إذا التعلق بحديث أنس لما ذكرنا آخرا والله أعلم مسألة
1218 - إذا تعارض خبران نصان وانضم إلى أحدهما قياس يوافق معناه ( الخبر ) فقد اختلف العلماء في ذلك فالذي ارتضاه الشافعي أن الحديث الذي وافقه القياس مرجح على الآخر واستدل بأنه قال إذا اختص أحد الحديثين بما يوجب تغليب الظن تلويحا فهو مرجح على الآخر ومجرد التلويح لا يستقل دليلا فإذا اعتضد أحد الحديثين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى
1219 - وقال القاضي إذا تعارض الخبران كما ذكرناه في تصوير المسألة تساقطا ويجب العمل بالقياس والمسلكان يفضيان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بوافقة القياس والقاضي يرى العمل بالقياس وسقوط الخبرين واستدل القاضي بأن قال الخبر مقدم في مراتب الأدلة على القياس ( فيستحيل ) ترجيح خبر على خبر بما يسقطه الخبر ومن أحاط بمراتب الأدلة لم يتعلق بالقياس في واقعة فيها خبر صحيح فإن القياس مع الخبر الصحيح المستقل الواقع نصا في حكم اللغو الذي لا حاجة إليه وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه أيضا إذا وافقه فالقياس إذا لا وقع له مع ثبوت الخبر والتعارض يوجب سقوط التعلق بالخبرين فإذا سقطا فالتعلق بعد سقوطهما
1220 - والقول في ذلك عندي لا يبلغ مبلغ الإفادة ويجوز لمن ينصر نص الشافعي في ذلك أن يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر
أحدهما إلى التأكيد بما يغلبه على الآخر فهذا منتهى القول ولا قطع والعمل بما اجتمع عليه الخبر والنظر ونبني على هذا مسائل نسردها ونبين الحق فيها منها مسألة
1221 - أنه إذا تعارض خبران واعتضد إحدهما بقياس الأصول وكان أقرب إلى القواعد الممهدة قال الشافعي يقدم ما يوافق القواعد ومثال ذلك الخبران المتعارضان ( في صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فالذي رواه ابن عمر فيه ترددات كثيرة والترددات تخالف نظم الصلاة ورواية خوات ابن جبير ليس فيها حركات وترددات فرأى الشافعي رضي الله عنه تقديم خبر خوات وهذا يتصل تحقيقه بوافقة القياس لإحدى الروايتين ومخالفة الآخرى فكان العمل بموجب القياس أولى ثم يئول الكلام إلى أن رواية خوات مرجحة بالقياس أم الروايتان متعارضتان والتعلق بالقياس بعدهما
1222 - ويجري في هذه الواقعة نوعان من النظر أحدهما أنه لا يمتنع جريان الصلاتين الموصوفتين في الروايتين وقد مال الشافعي في بعض أجوبته إلى تجويزهما جميعا ثم آثر رواية خوات من
طريق التفصيل وهذا متجه حسن فإنه يبعد أن تختلف روايتان في واقعة واحدة اختلاف رواية ابن عمر وخوات وإذا روى عدلان لفظين من غير تاريخ فالظن بهما الصدق ويقدر ( تقدم ) أحدهما ( وتأخر ) الآخر فإذا اعتاص معرفة ذلك منهما قيل تعارضا فأما إذا تعلقت الروايتان بحكاية واحدة وظهر التفاوت في النقل فالوجه أن يحمل الأمر على جريانهما جميعا ويرد الترجيح إلى الفضيلة فهذا وجه ومما يتعلق بما نحن فيه أنا إذا حملنا الرواية المختارة على الجواز ولم نجوز غيرها فليس في روايتنا منع لما رواه ابن عمر فإذا لا تعارض في الحقيقة إلا من وجهة واحدة وهي أن يدعي الاتحاد وتنسب إحدى الروايتين إلى الوهم والزلل ثم لا يتعين لذلك أحدهما فيتمسك بالقياس وهذا بعيد عما تعبدنا به من تحسين الظن بالرواة والمختار تجويز ما اشتملت عليه الروايتان ورد الأمر إلى التفصيل
1223 - وقد ذكرالقاضي وجها في تقديم رواية ابن عمر رضي الله عنهما وهو أنه قال إنها نافلة عن المألوف في القواعد فيجب حملها على تثبيت الناقل والرواية الأخرى ليست كذلك وقد يشعر بعدم التثبيت وبناء الأمر مطلقا على ما عهد في الشرع وهذا غير سديد وهو تحويم على تخصيص عدل بوهم وزلل بموافقة الأصول فيما رواه ثم ( في ) رواية خوات أنواع من الإثبات لا تعهده في القوانين والقواعد فلا وجه لما ذكره
مسألة
1224 - ومنها إذا تعارض خبران ووافق أحدهما حكم اقترن من كتاب الله تعالى فقد رجح بعض العلماء الخبر الذي وافقه حكم القرينة ومثال ذلك الخبران المتعارضان في العمرة فيروى أن النبي عليه السلام قال الحج جهاد والعمرة تطوع وعارضه ما روى أنه عليه السلام قال الحج والعمرة نسكان فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ثم خبر الفريضة وافق حكم القرآن في كتاب الله تعالى فإنه قال وأتموا الحج والعمرة لله وهذا فيه نظر فإن إتمام الحج يتعرض لفرضه ابتداء لا في الحج ولا في العمرة وهما مقترنان وفاقا في وجوب الإتمام بعد الشرع فيهما ولم نذكر هذا إلا أن الشافعي ذكره فتيمنا بإيراد كلامه مسألة
1225 - إذا تعارض خبران ولم يترجح احدهما على الثاني ولم يتطرق إلى واحد منهما نسخ فيما يعلم أو يظن وعريت الواقعة عن دلالة أخرى فحكمهما عند الأصوليين الوقف عن الحكم فيها وإلحاق الصورة بالوقائع كلها قبل ورود الشرائع وهذا حكم الأصول
1226 - ولكن ما اراه أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين ولم يشغر عنهم ( الزمان ) فلا يقع مثل هذه الواقعة ( إذ ) لو فرض تجويز ذلك لوجب في حكم العادة وقوعه لا محالة فإذا لم يقع مثله في الأزمان على تطاولها وقد
اشتملت على كل ممكن على التكرر ( فارتقاب ) واقعة شاذة لا نظير لها ولا مداني محال في حكم العادة وسيأتى شرح ذلك في كتاب الفتوى وإن تحقق التعارض والتساوي بين النصين وانحسم مسلك التأويل ووجدنا للحكم متعلقا من طريق القياس ( أو الاستدلال ) وآخر مسلكه استصحاب الحال فهذا مما تقرر القول فيه قبل من أن الخبر الذي يوافقه مرجح به أو الخبران يتساقطان بالتعارض والمعنى مجرد للتعلق به
فصل ( في تعارض الظواهر ) 1227 - ( كل ما ) قدمناه في تعارض النصوص وأما إذا تعارض ظاهران يتطرق التأويل إلى كل واحد منهما فتتسع مسالك الترجيح فإن مبنى التعلق بالظاهر على غلبات الظنون وهي حرية بالترجيحات فإذا تعارضا وتأيد أحدهما بمزية ثقة في الراوي أو العدد في الرواة فالوجه التمسك بما تأيد بهذه الجهات وليس كالنصين فيما قدمناه فإنا تحققنا ( من ) طرق الماضين أنهم في غلبات الظنون كانوا يبغون ترجيح ظن على ظن وإنما توقفنا في تعارض النصوص من جهة أن معارضة النص بالنص يوهي التعلق به واقتضاؤه إياه يزيد على ما يتعلق به الترجيح وأيضا فإنا لم نتحقق مثالا في تعارض النصيين مع ترجيح أحدهما بمزية البينة والعدد ولم ينقل لنا مسلك الأولين في مثل
ذلك حتى نتخذه معتبرا ( وأماما ) يتعلق بالظنون ( فقد ) استبنا على قطع استرسال الأولين في الاستمساك بما يتضمن مزية في تغليب الظن فإذا تعارض ظاهران ولم يكن أحدهما في الثبوت والتعرض للتأويل بأولى من الثاني ولم يتطرق إلى أحدهما ما يوجب تغليب الظن فتعارضهما والحالة هذه كتعارض النصين على ما تقدم مسألة
1228 - إذا تعارض ظاهران أحدهما من الكتاب والآخر من السنة فقد اختلف أرباب الأصول فقال بعضهم يقدم كتاب الله تعالى وقال آخرون تقدم السنة وقال آخرون هما متعارضان
1229 - فأما من قدم الكتاب فمتعلقه قول معاذ إذ قال أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد اجتهد رأيي واشتهر في اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الابتداء بالكتاب ثم طلب السنة إن لم يجدوا متعلقا من الكتاب
12230 - ومن قدم السنة احتج بأن السنة هي المفسرة للكتاب وإليها الرجوع في بيان مجملات الكتاب وتخصيص ظواهره وتفصيل محتملة
2231 - والصحيح عندنا الحكم بالتعارض فإن الرسول عليه السلام ما كان يقول من تلقاء نفسه شيئا وكل ما كان يقول فمستنده أمر الله تعالى وما ذكره معاذ فمعناه أن ما يوجد فيه نص من كتاب الله تعالى فلا يتوقع فيه خبر يخالفه فمبني الأمر فيه على تقديم الكتاب ثم آي الكتاب لا تشتمل على بيان الأحكام
والأخبار أعم وجودا ( منها ) ثم طرق الرأي لا انحصار لها فجرى الترتيب منه بناء على هذا في الوجود ونحن فرضنا المسألة في ظاهرين ليسا نصين وكذلك ما ادعاه من ابتدار الصحابة الكتاب فهو منزل على ما ذكرناه فأما كون السنة مفسرة فلا تعلق ( فيه ) فإنا نقول أن روى تفسيرا للكتاب فلا خلاف في قبوله وتنزيل الكتاب عليه ومعظم التفاسير منقولة آحادا وليس هذا من غرضنا وكذلك لو كان الخبر الذي نقله الأثبات نصا في معارضه ظاهر فالنص مقدم على الظاهر من الكتاب والسنة وقد ذكرنا هذا في تخصيص العموم وأشرنا إلى خلاف فيه والذي ذكرناه الآن هو المختار
1232 - وقال القاضي رحمه الله إن تعارض ظاهر خبر نقله الآحاد فهما متعارضان وهذا لست أراه كذلك فإن الظاهرين متساويان في تطرق التأويل إلى كل واحد منهما والكتاب يختص ( بثبوته على جهة القطع ) ولا أعرف خلافا ( أنه ) إذا تعارض ظاهران من الأخبار أحدهما منقول تواترا والآخر منقول آحادا فالمتواتر يقدم فليكن الأمر كذلك في تقديم الكتاب على السنة مسألة
1233 - قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم
يطعمه الآية وهذه الآية من آخر ما نزل ولا خلاف أنها ليست منسوخة وقد تعلق مالك رحمه الله بموجبها ونزل مذهبه عليها فحرم ما اقتضت الآية تحريمه وأحل ما عداه ورأى الشافعي رحمه الله التعلق بأخبار نقلها الآحاد وترك موجب الآية لها منها أنه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وحرم الفواسق وحرم الحمر الأهلية والأخبار في تحريمها بعد التحليل في الصحاح وتقديم أخبار الآحاد على نص الكتاب مشكل في غير محل الإجماع وليس القرآن في مرتبة الظواهر في هذا الغرض ولكنه يشتمل على النفي والإثبات والإبقاء والاستثناء وهذا أبعد في التاويل من الأخبار التي رويت في معرض المناهي وصيغ النهي ليست نصوصا في التحريم والتنزيه غالب في كثير من المطعومات
1234 - والذي اعتمده الشافعي في الكلام على الآية تنزيلها على ( سبب ) في النزول يدل عليه ما قبل الآية التي فيها الكلام وما بعدها وذلك أنه قال زعمت اليهود أن الشحوم محرمة وذكر تفاصيلهم في البحيرة والسائبة ونسبوا النبي عليه السلام إلى أنه بغير حكم الله تعالى من تلقاء نفسه وأباح طوائف من الكفار الميتة وجادلوا المسلمين فيها وكانوا يقولون تستحلون ما تقتلون ولا تستحلون ما يقتله الله تعالى وأباح آخرون الخنزير والدم فأنزل الله تعالى أنه لم يحرم إلا ما أحلوه وأنهم
مراغمون لما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام وتجري الآية على مذهب من يقول لمن يخاطبه لم تأكل اليوم حلاوى فيقول المجيب لم آكل اليوم إلا الحلاوى
1235 - وهذا ( استكراه ) عندي في الكلام على الآية ولكن يعضده عندي ما هو مجمع عليه في أمور ومذهب مالك مسبوق بالإجماع فيها فإنا لا نشك في إجتناب أصحاب النبي عليه السلام أكل الحشرات وغيرها واعتقادهم أنها بمثابة المحرمات وكذلك الخمر محرمة وليس لها ذكر في هذه الآية ونزولها مسبوق يتحريم الخمر فإذا ظاهر الآية متروك بالإجماع ولا يعتد ( مع تحققه ) بخلاف مالك بعده فينتظم من ذلك الآية على ما ذكره الشافعي مسألة
1236 - إذا ورد عام وخاص في حادثة وتسلط الخاص ( على العام ) إجماعا وورد مثله عام وخاص فالوجه تنزيل العام على موجب الخاص ومثال موضع الخلاف والوفاق ما نصفه الآن أما المتفق عليه فتنزيل قوله عليه السلام في الرقة ربع العشر على قوله ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة والحديث الأول يعم القليل والكثير والحديث الثاني يخص الزكاة بالنصاب فهذا متفق عليه وسببه أن المقيد من الخبرين نص في نفي الزكاة عما قصر عن خمس أواق والخبر الأول ظاهر غير مقصود والغالب على الظن أن المراد بيان قدر الزكاة
1237 - فأما ما أختلف العلماء فيه وهو ( في ) معنى ما وصفناه فقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر مع قوله ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فلم يعتبر أبو حنيفة النصاب وتعلق بظاهر قوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وقال الشافعي أقصى الممكن منه تسليم ظاهره على أن الأمر على خلاف ذلك فإنه لا يخفى على الفاهم أن الغرض من مساق الحديث الفصل بين العشر وبين نصف العشر فإنه عليه السلام قال فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر وخمسة أوسق نص فلا عذر لأبي حنيفة في تركه وضرب الشافعي ما ( في الورق 9 من الخبرين مثالا ورأى ما ذكره مسلكا قطعيا وألحق الشافعي بهذا الفن قوله عليه السلام في أربعين شاة شاة مع قوله في سائمة الغنم الزكاة وهذا دون القسم الأول فإن اشتراط السوم متلقى من المفهوم ونفي الزكاة عما دون خمسة أوسق منصوص عليه على وجه لا يقبل التأويل مسألة
1238 - إذا تعارض عمومان من الكتاب ( أوالسنة ) فظاهرهما التناقض والتنافي مثل قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فهذا ظاهر في
وضع السيف فيهم حيث يثقفون وقال في آية أخرى حتى يعطوا الجزية عن يد فظاهر الآية أخذ الجزية من كل كافر كتابيا كان أو وثنيا وقال عليه السلام خذ من كل حالم دينارا وظاهر هذا جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير تفصيل وقال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام
1239 - وقال بعض الفقهاء فيما ذكرناه وأمثاله الوجه الجمع بين الظاهرين في المقدار الممكن فنأخذ الجزية من أهل الكتاب لآية الجزية ونضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا شبهة كتاب لظاهر الآية الواردة في القتل وزعم هؤلاء أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحدة من الآيتين وكذلك القول في الخبرين وهؤلاء يرون تصرفا في الظواهر مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دلالة
1240 - وهذا مردود عند الأصوليين فالظاهر إذا تعارضهما إلا أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل كما أوضحنا سبيل ذلك في كتاب التأويلات وما ذكره الفقهاء من الجمع احتكام لا أصل له ولو لم يقم عليه دليل لكان ذلك الممسك متضمنا تعطيل الظاهرين وإخرجها من حكم العموم من غيره دليل وليس
أحد الظاهرين أولى بالتسليط على الثاني من الآخر وكل عموم خص فلا بد من عضد تخصيصه بدليل ونحن إنما نخص الجزية بالكتابيين بأخبار وآثار مسطورة في كتب الفقه والغرض من هذا الفصل إجراء الظاهرين على تعارضهما من غير أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني ثم يجعل الثاني دليلا في تخصيص الأول وهذا لا سبيل إليه ولكن اتجه في كل ظاهر تخصيص افتقر ذلك التخصيص إلى دليل غير الظاهرين وإن لم يتجه تعلقنا بالترجيح إن وجدناه فإن لم نجد نزلنا عن التعلق بالظاهرين مسألة
1241 - إذا تعارض ظاهران وأحدهما وارد على سبب خاص والثاني غير مطلق وارد على سبب أما من قال بتخصيص اللفظ العام بمورده فلا شك أنه يخصصه به وأما من رأى التمسك بالعموم دون السبب فإذا تعارض عمومان كما وصفناه والتفريع على أن الاعتبار بعموم اللفظ فإنه يوهيه ويحطه عن رتبة عموم اللفظ المطلق والترجيح يغلب على الظن من منشأ الدليل واللفظ العام يغلب على الظن حمله على مقتضى شموله فإذا عارضه لفظ آخر ينحط عنه في غلبة الظن آخر عن الاول وهذا هو السر الأخفى في الترجيحات فلا وجه للترجيح من طريق النظر في النصوص إلا أن يحمل ذلك على عمل المجمعين والظاهر يقوى وقع الترجيح
فيها وهو متضح في طريق النظر فإن المتعلق فيه غلبة الظن وقد تحقق من الأولين في تعارض الظواهر الاستمساك بالأظهر فالأظهر مسألة
1242 - إذا تعارض ظاهران وفي أحدهما ما يقتضي التعليل في ( صيغة التعميم ) فهو مرجح على العام الذي عارضه وليس فيه اقتضاء التعليل والسبب فيه أن التعليل في صيغة العموم من أقوى الدلالات على ظهور قصد التعميم حتى ذهب ذاهبون إلى أنه نص ممتنع تخصيصه فإن قدر نصا فلا شك في تقديمه على الظاهر المعرض للتأويل وإن اعتقد ظاهرا فهو مرجح على معارضه لاختصاصه بما يوجب تغليب الظن
1243 - وكشف الغطاء في هذا عندنا وهو مما أراه سر هذه الأبواب ولم نسبق بإظهاره فنقول إذا صدر من الشارع كلام غير مقيد بسؤال ولا حكاية حال ولاح قصد التعميم من إجرائه الحكم الذي فيه العموم مقصودا ( لكلامه ) ( فما ) يقع كذلك فاللفظ في المتماثلات نص وليس من الظواهر واضابط فيه أنما لا يخلو عن ذكر المتكلم وعلمه وقت قوله واللفظ في الوضع يتناوله وقد لاح بانتفاء التقييدات وقرائن الأحوال قصد التعميم فلو تخيل متخيل قصر اللفظ على بعض المسميات المتماثلة لكان ذلك عندنا خلفا وتلبيسا وإنما يسوغ الخروج عن مقتضى اللفظ وضعا فيما يجوز تقدير ذهول المتكلم عنه وهذا في حكم التعميم بناء عظيم
وتمام الغرض فيه بذكر معارض لذلك على المناقضة فنقول مستعينين بالله تعالى
1244 - لو ظهر لنا خروج معنى عن قصد المتكلم وكان سياق الكلام يفضي إلى تنزيل غرض الشارع على قصد آخر فلست أرى التعلق بالعموم الذي ظهر فيه خروجه عن قصد الشارع وهو كقوله عليه السلام ط فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر فالكلام مسوق لتعيين ( العشر ونصف العشر فلو تعلق الحنفي بقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر ورام تعليق العشر بغير الأقوات فلسنا نراه متعلقا بظاهر فهذا طرف
1245 - ولو نقل لفظ ولم يظهر فيه قصد التعميم ولا تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي أراه ظاهرا وهو الذي يتطرق التخصيص إليه
1246 - وقد رأى القاضي التعلق بالقسم الأول الذي أخرجته عن الظواهر على رأي المعممين ثم قال هذا يعارضه أدنى مسلك في الظن ويتسلط عليه التأويل والتخصيص والراي عندي فيه قد قدمته والدليل عليه أن الشارع إذا كان مقصوده بيان العشر ونصف العشر لو أخذ يفصل الأجناس وهو يبغي غيرها يعد ذلك تطويلا نازلا عن الوجه المختار في اللغة العالية فتقدير التعميم يشير إلى أنه ( لو لم ) يرد العموم لفصل الأجناس ولو فصلها لكان مائلا عن الوجه الأحسن في النظم وإذا تمهد هذا الأصل فالذي ذكره الاصحاب من أن علة الشارع لا تنقض
محمول على تقدير ما قصد التعميم فيه نصا فليفهم الناظر ذلك وليقف عليه عند هذا وقفة باحث مسألة
1247 - واذا تعارض ظاهران وقد تطرق التخصيص إلى إحدهما فالمذهب الذي ذهب إليها المحققون أن الذي لم يتطرق إليه تخصيص مرجح فأما المعتزلة فإنهم قضوا بأن اللفظ الذي خص في بعض المسميات صار مجملا في الباقي ولا يعارض المجمل ظاهرا وأما أهل الحق وإن لم يحكموا بالإجمال فإنهم يرون تعميم اللفظ في الباقي أضعف في حكم الظن من اللفظ الذي لم يجر فيه تخصيص فإذا لاح وجه في غلبة الظن من منشأ ظهور الظاهر كان ذلك ترجيحا مقبولا مسألة
1248 - إذا تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب إلى احتياط فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأحوط مرجح على الثاني وزعموا أن الذي يقتضيه الورع وإتباع السلامة هذا واحتجوا بأن قالوا اللائق بحكمة الشريعة ومحاسنها الاحتياط فإذا تعارض لفظان غلب على الظن أن الذي نقله صاحب الاحتياط صدق وكأن القواعد تغلب على الظن ذلك وتؤازر الرأي في ذلك
1249 - وقال القاضي لا مستروح إلى هذا ولا معنى للترجيح بالسلامة وما ذكره هؤلاء من شهادة الأصول وإثارتها تغليب الظن يعارضه أن العدل الذي
نقل الثاني لا يتهم ولا يظن به العدول عن قاعدة الاحتياط إلا بثبت واختصاص بمزية حفظ وقد يتخيل أن ما جاء به الأخر بناه على ما ( رآه ) من ظاهر الاحتياط وحمل عليه نظم لفظه من غير ثبت في النقل ثم قال القاضي لا وجه للترجيح وإن انقدح ما ذكرناه آخر فيما لا يوافق الاحتياط انخرمت الشهادة كما ذكرناها أولا فالوجه التعارض مسالة
1250 - إذا تعارض لفظان متضمن أحدهما النفي ومتضمن الثاني الإثبات فقد قال جمهور الفقهاء الإثبات مقدم وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل عندنا فإن كان الذي ( نقله النافي ) إثبات لفظ عن الرسول عليه السلام مقتضاه النفي فلا يترجح ( على ذلك ) اللفظ الذي متضمنه الإثبات لأن كل واحد من الراويين متثبت فيما نقله وهو مثل أن ينقل أحدهما ان الرسول عليه السلام أباح شيئا وينقل الثاني أنه قال لا يحل وكل ناف في قوله مثبت فأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الثاني أنه لم يقل ولم يفعل فالإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغى المستمع وإن كان محدا والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيئ لم يجر له ذكر مسألة
1251 - إذا تعارض ظاهران أو نصان أحدهما يوافق المعروف المعتاد والآخر ما جرى به العرف فالقول في هذا كالقول في موافقة أحد المنقولين للاحتياط
ومخالفة الآخر إياه وقد مضى فيه قول بالغ والمختار التعارض في المسألتين فهذا الذي ذكرناه كلام بالغ في ترجيح الألفاظ النصوص منها والظواهر ومن أحاط بها وأحكم أصولها لم يخف عليه مدرك الكلام فيما يرد عليه من أمثالها
باب في ترجيح الأقيسة 1252 - هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسون وفيه أتساع الاجتهاد وهو يستدعي تجديد العهد بمراتب الأقيسة فنقول المرتبة العليا المعدودة من مسالك القياس ما يقال إنه في معنى الأصل وقد سبق تأصيله وتفصيله وتقدم القول في أنه هل يعد من الأقيسة أو يعد من مقتضيات الألفاظ وهو على كل حال مقدم على ما بعده والسبب فيه أنه ملتحق بأصله قطعا والتحاقه به مقطوع غير مظنون ولا شك في تقديم مراتب العلوم على درجات الظنون ثم يلي ذلك من قياس المعنى ما يطرد وينعكس ويليه القياس الذي يسمى قياس الدلالة كما سبق وصفه ويلي ذلك قياس الشبه فأما ما يعلم فلا ترتيب فيه ( مراتب قياس المعنى )
1253 - وأما قياس المعنى فهو على مراتب لا يضبطها ضابط فإن مسالك الظنون لا يتأتى حصرها وهي وإن كانت منحصرة من جهة تعيين مناسبتها لأصولها الشريعة فلا يتأتى للناظر الوصول إلى ضبطها بعد وربطها بحد ولكنا نحرص على تقريب الأمور والإشراف على ما يكاد أن يكون تشوفا إلى الضبط ونتقي فيما نحاوله مصالح لا نرى تقدير ها مأخذ الأحكام ونحاذر فيها الوقوع في منخرق مذهب مالك ومتسع مسلكه المفضى إلى الخروج عن الحصر والضبط ثم قد ذكرنا في الاستدلال طرفا من ذلك ونحن نعيده ونزيده تقريرا وتقريبا
فنقول
1254 - إذا وجدنا أصلا استنبطنا منه معنى مناسبا للحكم فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة ويكفي في الضبط فيه استناده إلى اصل متفق الحكم ( ومرجوعنا ) في ذلك وجداننا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مسترسلين في استنباط المصالح من أصول الشريعة من غير توقع وقوف عند بعضها
1255 - فأما المعنى الذي لا نجد له أصلا ولا مستندا فهو الذي سميناه الاستدلال ونحن نرى التعلق به كما مهدنا القول فيه ولا يجوز التعلق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء ومن ظن ذلك بمالك رضي الله عنه فقد أخطأ فإنه قد اتخذ من أقضية الصحابة رضي الله عنهم أصولا وشبه بها مأخذ الوقائع فمال فيما قال إلى فتاويهم وأقضيتهم فإذا لم ير الاسترسال في المصالح ولكنه لم يحط بتلك الوقائع على حقائقها وهذا كبنائه قواعد على سيرة عمر رضي الله عنه في أخذه شطرا من مال خالد وعمرو وقد قدر ذلك تأديبا منه وهذا زلل فإنه لا يمتنع أنه رآهما آخذين من مال الله تعالى ما لا يستحقان أخذه على ظن وحسبان وكان يرعى طبقة الرعية بالعين الكالئة والأليق بشهامته وإيالته أن نظره الثاقب كان بالمرصاد لما يتعديان فيه الحدود عامدين أو خاطئين إذ كانا موليين على مال الله تعالى وإذا أمكن ذلك وهو الظاهر فحمله على التأديب لا وجه له ولو صح عنه أخذ مال رجل غير متصرف في مال الله تعالى لكان يظهر ما تخيله مالك
وكذلك كل واقعة ربط مالك أصلا من أصوله بها فإنه لا يرى ذلك الأصل استحداث أمر وهو عند الباحثين ينعطف على أبلغ وجه إلى قواعد الشريعة فخرج مما ذكرناه أن مالكا ضم وقائع الصحابة إلى الأمور الظاهرة من الشريعة ولم يظن بهم افتتاح أمر من عند أنفسهم ولكنه قال الأخبار ( منقسمة ) إلى ما نقلت صريحا وإلى ما فهمنا ضمنا فإنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس أصول فهذا بيان مذهبه
1256 - ونحن نرى الاقتصار في مآخذ الأحكام على أصول الشريعة وأقضية الصحابة محمولة عليها ولا نتخيل أخبارا استندوا بها وسكتوا عن نقلها مع علمنا بأنهم كانوا يبرئون أنفسهم عن الاستقلال ويعضدون ما يحكمون به بما يصح عندهم من أخبار الرسول عليه السلام وهذا وجه أنفصال أحد المذهبين عن الثاني ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة كما ذكرناه في المعنى المستنبط من الأصول ويظهر أثر ذلك بضابط في النفي والإثبات وهو أن كل معنى لو أطرد جر طرده حكما بديعا لم يعهد مثله في الزمان الأطول فيدل خروج أثره عن النظير على خروج معناه المقتضى عن كونه معتبرا والدليل عليه أنه لو كان معتبرا لوجب في حكم العادة القطع بوقوع مثله في الزمن
المتمادي وبمثل هذا المسلك قطعنا ( بأنه ) لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وإذا كان أثر المعنى لا يعدم نظيرا قريبا ولم يقتض طرد المعنى مخالفة أصل من الأصول فهو استدلال مقبول معمول به وبيان ذلك بالمثال أن مالكا لما زل نظره كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سبب متأصل في الشريعة ومنه ( تجويزه التأديب ) بالقتل في ضبط الدولة وإقامة السياسة وهذا إن عهد فهو من عادة الجبابرة وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصحابة
1257 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه فنحن نرسم بعده مراتب في الإخالات وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مدركها على حقائقها مشرف على طرف المعاني فإذا عسر الوفاء باستيعاب أمثلة الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخذ أصلا من أصول الشريعة يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالات ونبين فيه وجوه الترتيب فيها وما يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب مدارك الفقه ومعانيها ثم ( يقيس ) الفطن على ما نرسمه فيها ما يدانيها ( المرتبة الأولى )
1258 - فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه وما يوجب اندفاعه فنقول أوجب الله القصاص في نص كتابه زجرا للجناة وكفا لهم وأشعر بذلك قوله
تعالى ولكم في القصاص حياة واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها من طبقاتهم منكر ثم قال أئمة الشريعة كل مسلك يطرق إلى الدماء الهرج على جريان واسترسال واستمكان من غير حاجة إلى أمر نادر ومعاناة شاقة فهو مردود فإن المقصود المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج فمن خالف هذا فهو لو قدر ثبوته ( ناقض ) له والثالث نصا وإجماعا لا سبيل إلى نقضه فإذا تمهد ( ذلك ) فكل معنى يستند إلى هذه القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة العليا من أقيسة المعاني
1259 - وهذا يمثل ( بالقول في القتل ) بالمثقل ولا شك أن من نفي القصاص به مناقض للقاعدة من جهة أن القصد إلى القتل بهذه الآلات أمر ثابت وهو ممكن لا عسر في إيقاعه وليس القتل به مما يندر ( فإذا لم يعسر ولم يندر ) فكان نفي القصاص بالقتل بها مضادا لحكمة الشريعة في القصاص فإذا ناكر الخصم العمدية في القتل بهذه الآلات سفه عقله ولم يستفد به إيضاح
عسر القتل
1260 - وإن شبب بتعبد في آلة القصاص وكان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم مواقع التعبد
1261 - وإن تمسك بصورة في العكس وقال الجرح الذي لا يغلب إقتضاؤه إلى الهلاك اذا أهلك أوجب القصاص كان هذا غاية في خلاف الحق فإن الجرح لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا للمعتدين فكيف يستجيز ذو الدين أن يبنى عليه إسقاط القصاص بالقتل الذي يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة وليعتبر المعتبر عن هذا الأصل فإنه أجلى أقيسة المعاني وأعلى مرتبة فيها فإنه لا حاجة في ربطه بالقاعدة إلى تكلف أو تقرير أو تقريب وتحرير ولو قيل هو الأصل بعينه ( و ) ليس ملحقا به لم يكن ( بعيدا )
1262 - ومخالف ما يقع في هذه المرتبة مائل عن الحق على قطع وليس القول فيها دائرا في فنون الظنون وما يكون بهذه الصفة لا يتصور أن يعارضه معارض
1263 - ونضرب لهذا مثالا آخر قياسا فنقول الغرض من شهادة الشهود إيضاح المقصود المشهود به ثم للشرع تعبدات وتأكيدات في رتب البينات على حسب أقدار المقاصد وأعلى البينات بينة الزنا فإذا شهد على صريح الزنا أربعة من الشهود
العدول وتناهى القاضي في البحث وانتفت مسالك التهم فهذا أقصى الإمكان في الإيضاح والبيان فلو شهدوا وأقر المشهود عليه مرة واحدة لم يؤثر إقراره ووجب القصاص بموجب البينة فإن إقراره تأكيد البينة ولا يحط من مرتبة البينة شيئا فإذا قال أبو حنيفة إذا أقر المشهود عليه مرة سقطت البينة ولم ( يثبت ) بذلك الإقرار شئ لم يجز أن يكون هذا مضمون في أصل الشريعة المحمدية فإن الإقرار لم يعارض البينة مناقضا ثم هو ذريعة يسيرة غير عسيرة في ترك البينات ثم المقر لا يحلف حتى يتخيل ارعواؤه ولو طلبنا أمثال ذلك وجدنا منه الكثير المرتبة الثانية
1264 - تعتمد على قياس معتضد بالأصل ولكنه قد يلقى الجامع احتياجا إلى مزيد تقرير وتقريب ويعن للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا ومثال ذلك أنه قد ثبت وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة الشرع في تحقيق العصمة وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال ذلك ليست بالعسيرة والقتل على ( الاشتراك ) غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في الأصل إيجاب القتل على الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد ( منهم ) ليس قاتلا وفعل كل واحد منهما يخرج أفعال شركائه عن الاستقلال بالقتل وقتل غير القاتل فيه مخالفة الموضوع المشروع في
تخصيص القتل بالقاتل وفيه وجه آخر وهو أن إمكان القتل بالمثقل فوق إمكان الاستعانة وعن هذا تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على الشركاء وصرح بعض المفتين بأن قتل المشتركين خارج عن القياس والمعتمد فيه قول عمر رضي الله عنه إذ قال لو تمالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به فنشأ من منتهى هذا الكلام أن الجاني محرم الدم معصوم ( فإذا تطرقت الاحتمالات لم يجز الهجوم على قتل معصوم )
1265 - والمسلك الحق عندنا أن المشركين يقتلون بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج بعضهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص ( عنهم ) هرج ظاهر فلا نظر مع الظهور إلى انحطاط إمكان الاشتراك قليلا عن الأنفراد بالقتل بالمثقل فإنه يعارض ذلك أن المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين ويتطرق إلى الاستقلال بالقتل عسر ( من وجه ) حتى تمس الحاجة إلى فرض كلام في أيد وضعيف أو تقدير اغتيال ( فيعتدل ) المسلكان حينئذ وخروج كل واحد عن كونه قاتلا لا وقع له مع إفضاء درء القصاص إلى الهرج مع العلم بأن القصاص ليس على قياس الأعواض وأما كون الجاني معصوما فلا أثر له في هذا المقام مع أنه سعى في دم من غير
أن يفرض له تقدير عذر فكان ما أقدم عليه مسقطا حرمته وخارما عصمته والشبهات إنما تنشأ من فرض أمر يقدر للجاني عذرا على قرب أو على بعد وهو منشأ الشبهات على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى
1266 - فإذا تمهدت هذه القاعدة ( فغرض هذه ) المرتبة إلحاق فرع بهذا الأصل مع تقدير الوفاق فيه فنقول في الطرف إنه صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين كالنفس وهذا أجلى ولكنه في اعلى مراتب الظنون
1267 - فإن قيل ما سبب خروج هذا القياس عن مسالك العلوم مع استبانة ( استقائه ) من القاعدة كما ذكرتموه قلنا في القاعدة على الجملة نظر أما إسقاط أصل القصاص عن المشتركين فمعلوم بطلانه قطعا فإنه مبطل لحكمة العصمة وأما قتل واحد من المشركين لا بعينه مع تفويض الأمر إلى رأى من له القصاص فليس يرد ذلك ولكنه يقع في مجال الظنون ثم في إلحاق الطرف بالنفس ثلاثة أشياء يطرق كل واحد إليه الظن أحدها أن قائلا لو قال لو أفضى قطع الطرف إلى النفس لوجب القصاص على المشتركين وتقرير ذلك مردعة لهم فلا يؤدي ذلك إلى االهرج هذا وجه واقع ودافعه أنه لو صح لسقط القصاص في الطرف أصلا فإذا جرى القصاص مع الاندمال أشعر ذلك باعتناء الشرع بتخصيصه بالصور حتى كأن الطرف مع النفس كزيد مع عمرو في أن كل واحد منهما مقصود بالصون
1268 - والوجه الثاني مما يقتضي الظن ظن الخصم أن ما ذكرناه من الجمع في حكمه القصاص ينقضه تمييز فعل أحد الشريكين في القطع عن فعل الشريك الثاني فإذا كان كذلك فهو ممكن غير عسير ثم لا قصاص على واحد منهما وهذا إن سلم فهو لعمرى قادح في الجمع وقد صح فيه منع كما يعرف الفقهاء
1269 - والوجه الثالث أن الطرف مما يقبل التبعيض فيصور الخصم أن القطع الواقع على صورة الشركة يحمل على وقوعه على التبعيض إذا كان المجني عليه قابلا للتبعيض وهذا زلل فإن إمكان تصوير ما يسقط القصاص لا يدرؤه إذا لم يكن وكان بدله ما يشابه الأشتراك في الروح فلو توجهت هذه الجهات وبعد القول في الأصل بعض البعد كان ذلك دون المرتبة الأولى المستندة إلى العلم ( والقطع ) فهذا واضح جدا ومن حكم وضوحه أنه لا يثبت له معارض إذ لو قدر له معارض لكان ناشئا من تقدير شبهة توجب المحافظة على حكمة العصمة في حق الجاني ومآخذ الشبهات ما يشير إليه المعاذير ولا عذر للجاني وإن حاول الخصم تسبيب المعارضه في جهه أن واحدا لم يقطع اليد بطل ذلك عليه بالنفس ولو رجع وزعم أن القصاص على الشركاء على خلاف القياس كان ذلك روم اعتراض وقد أوضحنا بطلانه
والمخيلة العظمى في ظهور قياس المعنى امتناع المعارضة المحوجة إلى الترجيح فإن عارضوا القصاص في الطرف بقطع السرقة وشبهوا الاشتراك في قطع اليد بالاشتراك في سرقة نصاب لم يكن ما جاءوا به ماخوذا من قاعدة القصاص ونحن لم نعن بامتناع المعارضة انسداد المسالك البعيدة وإنما المعارضة الحاقة ما ينشأ من وضع الكلام ولا شك ( في ) أن قطع السرقة بعيد في أصله وتفصيله عن القصاص فإن الأصل المعتبر في قطع السرقة أخذ مال غير تافه على الاختفاء من حرز مثله والغرض بشرع القطع ردع السارق عن تناول المال والنفيس وفي النفس مزجرة عن ركوب الأخطار بسبب التافه وهذا المعنى يوجب نفي القطع عن الشركاء فإن كل واحد منهم على حصته من المسروق وذلك المقدار لا حاجة إلى إثبات رادع عنه وهذا لا يتحقق في القصاص أصلا ( فيما نحن فيه ) فإن معتمده الصون وتمهيد العصمة وليس في قاعدته انقسام إلى التافه والنفيس وخروج كل جان عن الاستقلال بكل الجناية لا يسقط القصاص عنه إذ لو قيل به لخرم قاعدة الصون على أنه محقق في النفس كما سبق
1270 - وإذا لم تكن المعارضة على حقها في منشأ الاجتهاد لم ينتظم فرق ورجع كلام المحقق إلى تباين القاعدتين وتباعدهما وإيضاح ابتناء كل واحد منهما على أصل غير معتبر في القاعدة الأخرى وهذا لا ينتظم فرقا ويدخل في أقسام فساد الوضع ووجب نسبه الخصم إلى البعد
عن مأخذ الكلام والاكتفاء بتلفيق لفظي عرى عن التحقيق
1271 - والذي يحقق ذلك ان من سرق نصابا واحدا في دفعات ( وهو في كل دفعة ) يهتك حرزا لم يستوجب قطعا ولو قطع جان يدا واحدة بدفعات استوجب القصاص عند الإبانة
1272 - ويتعلق بالكلام في هذا القسم أمر يتعين الاعتناء به وهو مزلة مالك ونحن نقول فيه إذا ثبت ارتباط حكم في أصل بحكمة مرعية فيجوز الاستمساك بعينها في إلحاق الفرع بالمنصوص عليه في عين الحكم المنصوص ولا يجوز تقدير حكم آخر متعلق بحكمة تناظر الحكمة ( الثابتة ) ( في الأصل المنصوص عليه فإن هذا يجر إلى الخروج عن الضبط ويفضي في مساقه إلى الإنحلال ( فإن الحكمة الثانية ) لو قدرت لدعت إلى ثالثه ثم لا وقوف إلى منتهى مضبوط
1273 - وبيان ذلك بالمثال أن المال صين بشرع القطع إبقاء له على ملاكه وزجرا للمتشوفين إليه ولو فرض تعرض للحرم بمراودات دون الوقاع فأدناها يبر على أقدار الأموال ولا يسوغ نقل القطع إليه وكذلك القول في أمثاله
1274 - وعند ذلك انتشر مذهب مالك وكاد يفارق ضوابط الشريعة واعتصم بألفاظ وعيدية معرضة للتأويل منقولة عن جلة الصحابة وقد يدنو المأخذ جدا فيزل الفطن إذا لم يكن متهذبا دربا بقواعد الاجتهاد
1275 - وبيان ذلك ( بالمثال ) أنا إذا قلنا قطع السرقة مشروع لصون الأموال
وزجر السارقين فألزمنا عليه ما إذا نقب الواحد الحرز وسرق الآخر فلا قطع على وواحد منهما وهذا يخرم الحكمه المرعية في ( صون ) الأموال فإن ( التسبب ) إلى ما ذكرناه يسير ممكن وهذا على الحقيقة غامض من جهة أن الشخص الواحد إذا نقب وسرق فقد أخرج النقب الحرز عن حقيقته ولم يقدم على المال إلا وهو في مضيعة ثم لم نقل لا قطع عليه من حيث انفصل هتك الحرز عن أخذ المال وكان من الممكن أن يختص القطع بمن يتسلق على الحرز ويأخذ المال من غير هتك وهذا مجال ضيق ويتجه فيه خلاف العلماء وحق الأصولي ألا يعرج على مذهب ولا يلتزم الذب عن مسلك واحد ولكن يجري مسلك القطع غير ملتفت إلى مذاهب الفقهاء في الفروع
1276 - ثم القول الممكن في السارق والناقب أن صون الأموال وإن اثبت فهو مخصوص بالسرقة من الحرز وليس ( إلينا ) وضع الحكم والمصالح ولكن إذا وضعها الشارع اتبعناها
1277 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن المعلل إذا قيد تعليله ( الفقهي ) المعنوي يقيد غير مخيل لا على معنى الاستقلال ولا على الانضمام إلى أركان العلة المركبة فذلك التقييد مطرح في مسلك المعاني وطرق الإخالة إلا فيما نصفه وهو تقييد الكلام بحكم معين تعلق بحكمة معلومة وهذا كذكرنا صون المال عن السراق فإذا ألزمنا صون الحرم لم نلتفت إليه ولم نلتزم فرقا بين الصورتين فإن ذلك إنما ينشأ من رعاية المصلحة مع الإنحصار على الحكم المنصوص عليه
ثم ما ذكرناه ليس مختصا بحكم واحد بل هو مطرد في جمله المصالح الشرعية فكل مصلحة مختصة ( بحكمها ) وغاية القايس ضم جزئي في المنصوص عليه إلى القاعدة الكلية
1278 - فإن قيل إذا قسم الطرف في حق الاشتراك على النفس فهل تنسبون إلى المحذور الذي ذكرتموه من مجاوزة موارد المصالح قلنا إن كان ذلك مجاوزة فلا قياس إذا وينبغي أن يجتنب المنتهي إلى هذا المقام طرفي القياس والانحلال فنقول ساوى الطرف النفس في الأصل وهو القصاص ثم ثبت الصون في النفس بإجراء ( القصاص ) على المشتركين فرمنا إلحاق الطرف المساوي للنفس ( في أصل القصاص بالنفس ) في فرع اقتضاه أصل القصاص وهذا غاية المطلوب في ارتباط الفرع بالأصل واقتضاء الأصل الفرع
1279 - وإذا بلغ الكلام هذا المبلغ فليعلم الناظر أن اسد المذاهب في القول بالقياس الحق واجتناب الخروج عن الضبط مذهب الشافعي ولست أرى في مسالكه حيدا إلا في أصل واحد لم يحط بسر مذهبه ( فيه فهمي ) وهو إثباته قتل تارك الصلاة فإنه لم يرد فيه نص وتقريب القول فيه يتضمن حكمه لم يثبت أصلها وهذا مشكل جدا فإن طمع ( من ) قصر فكره بتشبيه المأمور به بالمنهي عنه كان ذلك بعيدا غير لائق بمذهب هذا الإمام وهذا القدر كاف في التنبيه وقد نجز غرضنا في القول في المرتبة الثانية من قياس المعنى
المرتبة الثالثة
1280 - نمثلها في القول بالمكره على القتل وفيه ثلاثة مذاهب أحدها أن القصاص على المكره دون المكره والثاني وهو قياس مبين أن القصاص على المكره دون المكره وهو مذهب زفر والثالث أن القصاص يجب عليهما وهو مذهب الشافعي
1281 - وأبعد المذاهب عن الصواب إيجاب القصاص على المكره دون المكره المحمول فإنه زعم أن فعل منقول إلى مكره وكأنه آلة له وهذا ساقط مع المصير إلى ( أن ) النهي عن القتل متجه مستمر على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع إياه ومن ضرورة كون الشي آلة انقطاع التكليف عنه فتخصيص المكره بإلزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له
1282 - ( ووجه ) مذهب زفر في القياس لائح وهو أنه راى المحمول ممنوعا ولم ير أثر الإكراه في سلب المنع والنهي والمباشرة تغلب على السبب إذا استقلت فارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع
1283 - والذي يختاره أصحاب الشافعي ينبني على ما ذكرناه لزفر في استقلال المباشرة وهذا يقتضي إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره ( بالكلية ) فإنه موقع القتل غالبا والإكراه من
أسباب تقرير الضمان فيبعد تعطيله وإخراجه من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلها منزلة الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل صاحبه من جهة أنه يخرجه عن كونه قتلا ثم لم يسقط الأشتراك القصاص عنهما فإذا لم يصر أحد إلى إسقاط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف ما صدر عن كل واحد منهما أما ضعف المباشر فمن جهة كون المباشرة ( محمولا ) وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا واستمرار التكليف يوهي أثر الإكراه فليس أحدهما بالضعف أولى من الثاني فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما وقد ثبت أن القصاص أولى بأحدهما وقد ثبت أن القصاص لا يسقط عنهما وقرب تنزيلهما منزلة الشريكين
1284 - ولكن القول في هذا ينحط عن القول في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد منهما عن قياس بابه ثم يتعارض مأخذ مذهب زفر وأبي حنيفة والترجيح لزفر
1285 - ومأخذ إيجاب القصاص عليهما يتشوف إلى جمع نكتتى المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص ( عنهما جميعا وإيجاب القصاص ) على شهود الزنا إذا رجعوا بعد إقامة الرجم أظهر من إيجاب القصاص على المكره الحامل من جهة أن الإكراه يضعف ببقاء التكليف على المحمول ولا خيرة للقاضي بعد إقامة البينة وليس ممنوعا منع المكره المحمول بل النية أوجبت على القاضي إقامة الرجم ولذلك لم يختلف قول الشافعي في وجوب القصاص عليهم اختلافه في المكره أما الشهود على القصاص إذا رجعوا فإن فرض رجوع المدعي واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على الشهود فالطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في استمرار المدعي على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته ولو ذهبنا نستقصي هذه الأمثلة لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه
1286 - ولم يوجب الشافعي عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم بقول المدعي وهو في مسلك القياس يداني إيجاب القصاص بأيمان المدعي في مسلك لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى القياس ذلك
1287 - وهذا أوان تغليب حق المدعي عليه من طريق القياس قال الشافعي إذا كان القصاص لحقن الدم والهلاك لا يستدرك وإذا رجع الغرض إلى حقن دم الباقين فرعاية حقن دم الجاني وهو غير مسفوك أولى واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط فيها ظهور اللوث عند الحاكم وهو غير مشروط في اللعان غير أن المعتمد في القسامة الخبر الصريح والمعتمد في اللعان يستند إلى شيئين أحدهما أنا لا نجد بدا من الخروج عن قانون الحجج فالاستمساك بظاهر القرآن العظيم أقرب وحمل العذاب على الجنس بعيد وبالجملة نفي إيجاب الحد وتغليب حقن دمها أقرب عندي إلى مأخذ الشريعة
1288 - ومن عجيب الأمر أن قول الشافعي اختلف في القصاص هل يجب بأيمان القسامة ولم يختلف في وجوب الحد على المرأة مع تعرض الحد الواجب ( لله تعالى ) فيه للسقوط بما لا يسقط القصاص به وسبب هذا أن خبر القسامة ورد في ( الغرم ) وآية اللعان اشتملت على ذكر العذاب وهذا وغيره في أمثال ما ذكرناه من قواعد الشريعة ونحن نختتمه بأمر بديع يقضي الفطن ( العجب ) منه
1289 - فالمرتبة الأولى العلمية تكاد أن لا تكون جزءا من المنصوص عليه والمرتبة الاخيرة نعنى اللعان والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نرسمها مرتبة في القياس من حيث لم نرها مستقلة فهذه جملة كافية في التنبيه على المراتب وضابطها القريب من القاعدة والبعيد منها مراتب قياس الشبه
1290 - ونحن نذكر الآن مراتب قياس الشبه فنقول مجال هذا القسم ( عند ) انحسام المعنى المخيل المناسب فإذا لم نجد معنى للحكم الثابت أو صادفنا ما يخيل غير صحيح على السبر فالوجه رد النظر إلى التشبيه
1291 - ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد انقسام ( مراتب ) قياس المعنى فالواقع في المرتبة الأولى هو الذي يسميه الأصوليون في معنى الأصل ولا يريدون به المعنى المخيل وهذا إذا وقع معلوما كان في المرتبة العاليه وقد سبق ( القول في ) الاختلاف فيها هل يسمى قياسا أو هو ملتقى من الألفاظ والنص
1292 - والوجه عندنا في ذلك أن يقال إن كان في اللفظ إشعار به من طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم
عليه فهذا وإن كان في ذكر فالعبودية مستعملة في الأمة وقد يقال للأمة عبدة وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق به فهو قياس مفض إلى العلم وهو قاعدة الأشباه بعد ونظيره إلحاق الشافعي عرق الكلب بلعانة في التعبد برعاية العدد والتعفير
1293 - فإذا زال العلم وكان الشبه يفيد غلبة الظن ولا يفسد لدى السبر والعرض على الأصول ( فهو مقبول ) وإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود عند المحققين والأشباه بين طرفي قياس المعنى والطرد
1294 - والذي لاح من كلام الشافعي أن أقرب الرتب من المراتب المعلومة إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا بحيث لا يخرج عن الرتبة إلحاق ( الرز بالحنطة والذرة بالشعير ثم يلي هذه الرتبة ) الوضوء بالتيمم في الأفتقار إلى النية ولهذا قال الشافعي ( مستبعدا ) طهارتان فكيف تفترقان
1295 - ونحن نقول في ذلك كل شبة يعتضد بمعنى كلي فهو بالغ في فنه وذلك إذا كان المعنى لا يستقل مخيلا مناسا وبيان ذلك فيما وقع المثل به أن التيمم ليس فيه غرض ناجز وقد بينا من كلى الشريعة أنها ( مبنية ) على الاستصلاح فإذا لم يلح صلاح ناجز يظهر من المآخذ الكلية ربط ما لا غرض فيه ناجز بصلاح في العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب فإذا وجدنا طهرا كذلك متفقا عليه ثم كان المختلف فيه غير معقول المعنى ظهر فيه وقع التشبيه في الأفتقار إلى النية المحصلة غرض العقبى
1296 - فليتخذ الناظر هذا معتبرا في الرتبه الأولى من الأشباه المظنونة ولم يبلغ
مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهرين في أحكام وشرائط وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ووزن طريقة الأشباه عندنا فإن مسالك الإخالات باطلة فلا يبقى إلا التشبيه ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى المقصود من المنصوص عليه وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار القوت لمكان الملح وسقط اعتبار ( التقدير ) لجريانه في الجنسين والجنس على وتيرة واحدة ولاح النظر إلى المقصود مع الاعتراف بأنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول من المظنونات ولولا ما ثبت عندنا في الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا إليه لإجماع القياسين وجدنا إتباع المقصود أقرب مسلك ولهذا وقع في المرتبة الثانية
1297 - فإن قيل هل ترون الشبه الخلقي في غير مجانسة ومماثلة معتبرا قلنا لا إلا أن نشير إلى ان اعتبار الخلقي أصل الشريعة كما ثبت ذلك في جزاء الصيد وقد ثبت قريب منه في الحيوانات المشكلة في الحل والحرمة وما ذكره أبو حنيفة في ( اعتبار الإنطراق ) والانطباع في الجواهر المعدنية في الزكاة طرد عندنا
1298 - ومن أبواب الشبه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا وهو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة فالذي يقتضيه القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات والذي
يقتضيه الشبه اعتباره بالحر فإن قيل هذا ايضا في الشبه الخلقي وقد أنكرتموه قلنا ليس الأمر كذلك فإن العبد يفرض قتله على الجهة التي يفرض فيها قتل الحر إذ قد يظن على بعد أن سبب التعاون في الحمل في الديات ما يقع ( من ) الخطأ بالقتل بين أصحاب الأسلحة وهذا يتفق في الحر والعبد على جهة واحدة
1299 - ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبيد بالسبب الذي يقدر ( به ) أطراف الأحرار فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير واعتبار ما ينتقص من القيمة نظرا إلى المملوكات سيما على رأي تقديره قيمه العبيد وتنزيلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها وهذا مذهب ابن سريج والظاهر من مذهب الشافعي أنها تقدر ومعتمده الشبه
1300 - فإن قيل فما الوجه في المثالين قلنا الوجه في مسألة التقدير مذهب الشافعي فإن الشارع أثبت ( للحر ) بدلا حتى لا يحبط إذا قتل خطأ ثم قاسموا أطرافه بجملة بمعان لا تنتهي أفهام المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن ألا ( تتقدر ) أروش أطراف الحر فإنا ألفينا في جراح الأحرار حكومات غير مقدرة فلئن اقتضى شرف الحر تقدير دينه فهذا لا يطرد في أطرافه فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد في العبد كطرف الحر في الحر فلا التفات إلى خروج قيمة العبد عن التقدير
1301 - فإن قيل ( فقدروا ) أطراف البهائم قلنا لم يتحقق فيها أنها تقع موقع اطراف الأحرار في الأحرار فهذا الشبه أولى من المعنى الكلي من جهة أنه أجلى وأليق بالغرض واميز للمقصود هذا والمضمون من الحر والعبد الدمية
1302 - أما القول في تحمل العقل والقيمة فالأظهر عندنا التمسك بالمعنى لعبد تحمل العاقلة العقول عن مدارك العقول وقد يظن أن العبيد لا يخالفون الأحرار في تعاطيهم الأسلحة وإن ذكر فيهم ذلك فقد يتعدى إلى الدواب في تجاول الفرسان فكان تقدير أروش أطراف الأحرار معللا بمعان اعتقدناه ولم ندرك حقيقتها وضرب العقل ( يشبه ) تحكم المالك على المملوكين ( فالاحزم ) أن ( لا ) يضطرب فيها ( بالخطى ) الوساع
1303 - ومما يعده الفطن قريبا مما نحن فيه إلحاق القليل من الدية بالكثير في الضرب على العاقلة ونحن نرى ذلك المسلك الأعلى من الشبه من جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جاز في القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هو مبينا على الإجحاف بالمحمول عنه فإن الدية محمولة على الموسرين فكأن الضرب ثبت في الشرع مسترسلا ( على الأقدار ) من غير اعتبار مقدار وهذا من جملة الامثلة التي ذكرناها تكاد أن تلتحق بالمرتبة المعلومة أو تدانيها
1304 - فهذه قواعد الاشباه المعتبرة ونحن نجدد فيها ترتيبا بعد ما وضحت
الأصول ونبني الغرض على سؤال وجواب وهو السر وكشف الغطاء
1305 - فإن قيل إن تعلق الناظر بوجه من الشبه فما وجه تقريره إذا نوقش فيه فإن قال المشبه ما ذكرته يغلب على الظن فقال له المعترض ليس كذلك فما سبيل درئه وكيف الجواب عن سؤاله ولا شك أن غلبة الظن لا تحصل إلا مستندة إلى شبه يقتضيها ولا بد من ذكره وبه يتميز الشبه عن الطرد وكل شبه يقتضي الظن فلا بد أن تنتظم عبارة وعربة عنه ثم أن تأتي وانتظم ذلك سالما عن القوادح فهو معنى إذا فترجع الأشباه الى معان خفية ويبطل تقسيم الأقيسة إلى المعنوي والشبهى
1306 - قلنا هذا السؤال بحث عن لباب الفصل وحقيقته فلا يتصور استقلال ( شبه ) دون ما ذكره السائل ولكن سبيل القول فيه أن الشبه يستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث ينبه ( عليه ) أحدهما الأمثلة وجريانها على مقتضى الشبه وهذا كإلحاقنا اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه ضرب حصة آحاد الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف فيخرج ( مما ) ذكرناه وأمثاله أن ضرب العقل لا ينتهي إلى موقف في قلة ( ولا كثرة ) وليس هذا معنى مخيلا ( مناسبا ) وإنما هو متلقى من أصل الوضع بالمسلك الذي ذكرناه فهذا إذا ظهر قليلا التحق ( بالقسم ) الذي يسمى قياسا في معنى
الأصل كما سنذكره في آخر هذا الفصل فهذا وجه
1307 - والوجه الثاني وهو الذي يدور عليه معظم الأشباه إن ثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا أن الشارع قدر أرش يد الحر بنصف الدية لنسبة لها مخصوصة إلى الجملة لا يضبطها والإصبع دونها في ( الغناء ) وهذا لا شك فيه ولكنا إذا أردنا أن نطلع عليه وعلى الوجه الذي لأجله يقتضي التشطير لم يكن ذلك ممكنا وهذا يناظر علمنا بأن الشارع فرق بين التافه والنفيس من المسروق ثم قدر النفيس بدينار أو ربع دينار فالأصل معلوم ولا اطلاع على المعنى الذي يقتضي هذا المقدار ويناسبه فإذا تمهد ذلك وكان اعتبار يد العبد بيد الحر شبها فإنا نعلم أن غناء يد العبد من جملته كغناء يد الحر من جملته فهذا إذا يستند إلى معنى معتقد ( على الجملة ) من قصد الشارع ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه ومهما اتجه هذا النوع كان بالغا جدا مقدما على المعاني الكلية المناسبة
1308 - فأما الأمر الثالث الموعود فالتشبيه بالمقصود وهذا لا استقلال له إلا أن يضطر إلى التمسك بتقدير علم الحكم المنصوص عليه ومثال ذلك الأشياء الستة المنصوص عليها في الربا فلو هجم الناظر عليها ولم يتقدم عنده وجوب طلب علم لم يعثر على فقه قط ولا شبه فإن الفقه مناسب جار مطرد سليم على السبر والشبه متلقي من أمثلة أو مخيل معنى جملي والرأي لا يقضي بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم
وانحسم المعنى المسبور والجملي فلا وجه إلا أن يقال إذا لم يثبت الحكم لأعيان هذه الأشياء ثبت لمعانيها هي المقصودة منها
1309 - ثم ينتصب على ذلك شاهدان أحدهما من قبيل التخصيص وهو اختلاف الحكم باتحاد الجنس واختلافه والثاني عموم قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام ( إلا مثل بمثل ) فهذه معاقد الأشباه ثم لا حاجة إلى تكلف الميز بينها وبين الطرد
1310 - فإن قيل المعلوم الذي يسمى قياسا في معنى الأصل ما مستند العلم فيه قلنا اكتفى بعض الضعفة بادعاء العلم وانتهى إلى دعوى البديهة وزعم أن جاحده في حكم جاحد الضرورات ونحن نوضح الحق في ذلك ونقول كون العتق في العبد بمثابة كونه في الأمة والرق فيهما أيضا على وتيرة واحدة وهذا معلوم قطعا ولا يمتنع أن ينص الفصيح على واحد من الأمثال ويرغب عن التعلق بالألفاظ العامة ويجعل ما ذكره مثالا لحكم يؤسسه ( كالواحد ) منا إذا أراد أن يبين حكم البيع فقد يقول من باع ( ثوبا ) فقد زال ملكه عنه فيؤثر ضرب مثل لخفته عليه في مجارى الكلام وهذا أن ساغ لا استكراه فيه ولا يمتنع في تحكمات الشرع تخصيص سريان العتق بالعبد
لكن لو كان كذلك لتعين في حكم البيان التنصيص على التخصيص ( فإذا ) لم يجر ذلك انتظم من مجموعة القطع بثبوت القياس في معنى الأصل
1311 - ولو نص الشارع على موصوف وذكر فيه حكما تقتضيه تلك الصفة اقتضاء اختصاص فهذا النوع من التخصيص بتضمن نفي ما عدا المنصوص وهو المفهوم وقاعدته كقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة فأما لو قدر مقدر من الشارع ان يقول في عفر الغنم زكاة فهذا ليس في مرتبة المفهوم ولا يصلح ( أيضا ) لإجراء مثالا بخلاف العبد الذي يجرى مثالا في المملوكين فإذا لا يقول الشارع مثل هذا فإنه من التخصيص العرى عن الفائدة فليفهم الناظر هذه المنازل والترتيب بعد ذلك كله
1312 - فالمرتبة الأولى للمعلوم وقد بينا مأخذه
1313 - والمرتبة الثانية لما يتلقى من الأمثلة كإلحاق القليل من العقل ( في الضرب ) على العاقلة بالكثير فإن ذلك قريب جدا من الرتبة المعلومة
1314 - والمرتبة الثالثة ما يستند إلى معنى كلى لا تحيط الأفهام والعبارات بتفصيله كما ذكرناه في تقدير أروش الأطراف وافتقار طهارة الحدث إلى النية
1315 - وأنا أرى الطهارة تنحط في الرتبة عن تقدير الأروش فإن تقدير الأروش يستند إلى أغراض ناجزة نعتقد أصولها ونقصر عن درك تفصيلها وأمر الثواب خفي في الطهارة لا يتأتى فيه من الاطلاع ما يتأتى في مستند تقدير الأروش فلا بأس إذا لو قدر افتقار الطهاره إلى النية كرتبة متأخرة عن تقدير أروش أطراف العبيد وأما نصب المقاصد فمسترسل كما سبق تقديره في الربويات فهذا لا
يستقل بنفسه دون الإرهاق إلى نصب العلم وهو دون المرتبة الثالثة
1316 - ونحن نختم هذا الأصل بمسألة يتعارض فيها شبهان فنقول اختلف العلماء في أن العبد هل يملك ومأخذ الكلام من طريق التشبيه ما نصفه أما من يقول يملك فشبهه بالحر من جهة أن الحر فطن مؤثر مختار طلوب لما يصلحه دافع لما يضره لبيب فطن أريب والعبد في هذا كالحر فهذا شبه فطري غير عائد إلى ( الصورة ) وإنما راجع إلى المعاني التي بها يتهيأ الإنسان لمطالبة ومآربه
1317 - ومن منع كونه مالكا شبهه بالبهائم من حيث إنه مسلوب القصد والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول تمسك بالأمور الخلقية ومن منع الملك تمسك بمأخذ الأحكام فكان ما قاله أقرب فإن الرق حكم غير راجع إلى صفات حقيقية خلقية وحاصلة سقوط استبداد شخص وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم الملك الاستقلال ثم أقام الشارع المالك طالبا للمملوك فيما يسد حاجته ويكفي مؤنته والحاجة ( التي ) لا يتصور فيها الكفاية أثبتها الشارع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المستمتع في النكاح
1318 - فإن قيل السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان استغراق السيد إياه يمنعه من صفات المالكين فإذا ملكه المولى وجب أن يملك قلنا هذا يلزم الخصم في تصوير إلزام الملك ( له ) ثم التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا متحكما عليه فلم يجامعه التمليك كما لم يجامعه إلزام الملك
فإذا زال الرق عنه ملك حينئذ وإذا ثبت له حق ( الاستقلال ) بأن كاتبه فيتصور له ملك على ضعف على حسب ما يليق به فهذا المعتبر في النظر إلى ( أقرب ) الأشباه ( وأدنى المآخذ ) فيها وما تعلق به الأولون موجبة أن لا فرق لأن خلقه وصفاته كصفات الحر فإذا تصور كونه مملوكا سقط هذا الاعتبار وجلى الشرع حكمه
فصل 1319 - المرتبة الأولى من قياس المعنى هو النتيجة الأولى لما صح من معنى القاعدة ويناظرها في مأخذ الأشباه ما يقال إنه في معنى الأصل وما يستأخر من أقيسة المعاني عن رتبة العلم ويقع في أعلى مراتب الظنون كاعتبار الإطراف بالنفس يناظر من الأشباه ما ثبت بظواهر الأمثلة كاعتبار القليل من ضرب العقل على العاقلة بالكثير وما يبعد عن المرتبة الأولى في المعاني المظنونة يناظر ما يتعلق بتقدير الأروش في أطراف العبيد ثم ما يتعلق بالأمور المغيبة كتقدير الثواب في الطهارة وما ثبت معللا من جهة الشارع ولم يعقل وجه المناسبة فيه كقوله عليه السلام أينقص الرطب إذا يبس يناظر ما يضطر إليه من اعتبار المقاصد في الربويات
1320 - فأما رتبة العلم فلا يترجح فيها مطلوب على مطلوب فإن العلوم لا تفاوت فيها وإن انحططنا عن رتبة العلم فآخر مراتب المعاني مقدم على أعلى مراتب
الأشباه إلا أن يسترسل المعنى ويختص بالشبه كاعتبار نقصان القيمة في أطراف العبيد أخذا من المعاني الكلية مع التقدير أخذا من التشبيه بالأحرار وهذا لا يتطرق إليه قطع إذ لو كان مقطوعا به لما عد من خفيات المظنونات وإلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل ( على العاقلة ) أظهر من المعنى الكلي فيه فإن من تمسك بالمعنى الكلي ينقطع طرد كلامه بمحل الوفاق في ضرب العقل على العاقلة ويضطر أن يقف موقف الطالبين ( ويقول ) الأصل تخصيص الغرم بالجاني فأقيموا دليلا في محل النزاع وإذا طالب ذكرنا مسلكا من ضرب الأمثلة فكان في حكم شبه لا يعارضه معنى غير أن الشبه ينبغي أن يكون على نهاية القوة في محاولة النقل من أصل كلي إلى الإلحاق بما هو عن قياس المعنى ولا مزيد في القوة على ما ذكرناه والمسألة مع ذلك مظنونة وليس هذا كتقدير ارش طرف العبد فإن من يوجب ما ينقص بطرد معنى فلا ينتقض عليه فيبغي اعتبار صاحب الشبه بالأخص فلينظر الناظر إلى جولان الحقائق في هذة المضايق
فصل ( في مراتب قياس الدلالة ) 1321 - أحدث المتأخرون لقبا لباب من ابواب القياس وراموا بذلك التلقيب تمييز فن كثير في مسالك الأحكام جار على منهاج واحد وهو عند المحققين إذا صح يلتحق بقياس الشبه من وجه وقد يتأتى في بعض أمثلته وجه يلحقه بقياس
المعنى واللقب الذي تواضعوا عليه هو قياس الدلالة وهو كقول الشافعي في الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم
1322 - والذي يقتضيه الترتيب تصدير الفصل بأن المستدل بهذا النوع يتوجه عليه سؤال المطالبة لا محالة كما ذكرنا قريبا منه ( فيما تمحض ) شبها فللمعترض أن يقول وأي مناسبة بين الطلاق والظهار ولم يجب أن يتساويا ثبوتا ونفيا مع العلم بانقسام الأحكام إلى التساوي والتفاوت فإن لم يبحث المطالب ويبدي وجها كان مقصرا
1323 - ثم ينقدح في الخروج عن المطالبة مسلكان نجريهما ثم ننهي كل واحد منهما النهاية المطلوبة ثم مسلك الحق وراء الاستقصاء المقول والمنقول فإن قال المطالب الطلاق مقتضاه التحريم والحل والكفر لا ينافي ذلك ومحل التصرف قابل له والظهار فيما ذكرته كالطلاق ( ولا ينافي الكفر المنكر والزور كما لا ينافي التصرف في الطلاق ) وإذا سلك هذا المسلك لم يبعد أن يكون ما ذكره جامعا بين الطلاق والظهار معنويا وقد يتمكن المطالب من منع يضاهي ما ذكرناه على ما يورده الفقهاء فهذا النوع إذا سلك صاحب هذا المسلك يلتحق بأقيسة المعاني
1324 - والمسلك الثاني في الخروج عن المطالبة ألا يخوض المطالب في
التزام طريق المعاني المستقلة الجامعة من طريق المعنى وهذا القسم ينقسم قسمين أحدهما أن يرد الأمر إلى طريق الاطراد والانعكاس وقد ذكرنا أن الطرد والعكس معتبر معتمد وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا فليقل المطالب اقترن الطلاق ( بالظهار ) ثبوتا ونفيا واقترنا في الصبي ومن لا يعقل انتفاء فكذلك القول في اقترانهما ثبوتا وانتفاء باختلاف صفات المحل في البقاء في النكاح والبينونة عنه فهذا مسلك مرضى
1325 - والقسم الثاني من هذا القسم أن يذكر المطالب بين ما استشهد به وبين المتنازع فيه شبها غير مخيل ولكنه يستقل في طريق الشبه فهذا مضطرب النظار فيما ذكرناه
1326 - وأنا أقول إذا تحقق وجوب الخروج عن المطالبة فلا يستقل بتمهيد قياس الدلالة إلا فطن دراك فإن المعلل لو سلك طريق ( إبداء ) المعنى فقد بين أن ما اعتمده وسكت عليه لم يكن كلاما ( تاما ) فإن إبداء المناسب إذا كان محتوما ولم يكن في الكلام الأول ذلك فسكوت المطالب بالدليل على ( ما جاء ) به يتضمن اعتقاد كونه مسقلا فإذا بين أن ( التمام ) في الجواب عن المطالبة فقد لاح أن ما أبداه مفتاح الحجة ومبدؤها وقد سكت عنه سكوت من يراه تاما مستقلا فهذ وجه
1327 - والوجه الآخر أنه جعل أصل قياسه المسلم فيما تمثلنا به
والآن إذا ابدى معنى جامعا بين الطلاق والظهار فقد صار الطلاق أصلا للظهار وخرج الكلام الأول عن نظمه وترتيبه وإن ابدى وجها من الشبه بين الطلاق والظهار فقد التزم الجمع تشبيها وهو تتمة الكلام ( كما ) قدمناه في المعنى المستقل وينقدح فيه تغيير الترتيب والنظم كما تقدم فإذا لا بد من مناسبة فقهية أو شبهية وكلاهما ينافي المسلك الأول الذي اعتمده
1328 - وإذا انتبه الناظر ( للغائلة ) التي ذكرناها فلا يظن أنها تشبيب برد هذا النوع من القياس فإنا من القائلين به ولكن الوجه في تمهيد هذا النوع ودفع المطالبة شيئان أحدهما الطرد والعكس كما تقدم وفيه التغليب المطلوب وتقرير نظر الدلالة الأولى ( من ) غير مسيس حاجة إلى إتمام او تعيين أصل بتقدير الصرف عن الاعتبار بالمسلم ويرد الأمر إلى اعتبار الظهار بالطلاق ومن اللطائف الجدلية في ذلك أن مطلق الشرط يشعر بالعكس فلا يكون من صاغ ( العلة ) على صيغة الشرط بإبداء الطرد والعكس مظهرا لما لم يتضمنه الكلام الأول والصحيح عندنا التحاق ذلك بالأشباه
1329 - ومن تتمة القول فيه إن قياس المعنى إذا انعكس كان العكس فيه ترجيحا فإذا لم يلتزم المعلل المعنى وتمسك بالاطراد والانعكاس كان متمسكه
شبها وكان قريبا من القسم الثاني الذي يستند إلى ضرب الأمثلة كما قدمناه في إلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل على العاقلة
1330 - ومما ينقدح في هذا النوع أن يقول المتمسك به الأصل المسلم وظهاره والفرع الكافر وظهاره والجامع بينهما شبه الطلاق فنفوذ الطلاق من المسلم والذمي شبه جامع بينهما في الظهار فغلب على الظن وهذا وإن كان يستمر شبها فكل شبه يعتضد كما ذكرت في تقاسيم الأشباه فإن تمكن الجامع من إبداء معتضد الشبه كما تقدم مفصلا كان حسنا وإن أراد الاجتزاء بالطرد والعكس عاد إلى المسلك الأول والأحزم في قياس الدلالة الاكتفاء بالطرد والعكس فهذا النوع من القياس يجري في الأغلب من المسائل التي يكون المعنى ممكنا فيها ولكن يطول الكلام في تقريره وتتسع العبارة في محاولة ضم نشره والمناظر المتحذق يبغي ضم أطراف الكلام وإرهاق الخصم بالمسلك الأقرب والسبيل المهذب إلى مضيق التحقيق في إيراد فرق يعسر إيراده على شرطه فلو تكلف المناظر الجمع بين الطلاق والظهار بمعنى مناسب لكثرت المطالبات في وجوه المناسبات ولم يأمن الجامع من التعرض للنقض ما لم يتناه في التصون والتحرز فيؤثر والحالة هذه جعل الطلاق وصفا ويربط الظهار به حكما ويتخذ المسلم اصلا ويجعل معتمده في إثبات الطريقة جريانها طردا وعكسا
1331 - ومما يتعين الإحاطة به في هذا الصنف ( أن ) المعنى المخيل حكم مناسب لحكم أو صورة تنبئ العبارة عنها وتقع مناسبة وقد يكون الجامع نفي حكم أو نفي مع ظهور المناسبة والسلامة عن المبطلات فإذا ظهرت الإخالة واتضحت السلامة قيل معنى مخيل مناسب جامع مستند إلى أصل
فلو قال المطالب وراء ذلك فلم زعمت أن الحكم الذي قدر وصفا يقتضي الحكم الذي فيه النزاع كان الجواب الكافئ فيه إيضاح الإخالة مع استمرار السلامة فإن اراد المطالب إبداء فرق بين الحكم المجعول وصفا وبين محل النزاع لم ينتظم فيه كلام على صورة الفرق ونظمه
1332 - نعم قد يبدى كلاما يقدح في المناسبة ويتعين على المستدل قطع ما دونه واستقلال مناط الحكم المتنازع فيه بمناسبة وإخالة وبيان ذلك بالمثال أنا إذا طلبنا مسلك المعنى وقلنا كلمة تتضمن التحريم فيثبت حكمها في حق الذمي كالطلاق وكان معنى التحريم مع قبول المرأة له واتصاف الكافر بالاستمكان منه مناسبا للنفوذ فإذا قال الخصم التحريم ينقسم إلى ما يقع تصرفا ( محضا ) في مورد النكاح غير متعلق بحق الله تعالى وإلى ما يتعلق بحق الله تعالى ( وتحريم الظهار يتعلق بحق الله تعالى ) والاستحقاق في في مورد النكاح قائم لم ينخرم والكافر لا يخاطب بما يقع حقا لله تعالى فقصد المعترض بهذا يرجع إلى ( توهين ) الإخالة في التحريم المطلق فيتعين الإجابة بطريقها وليس ما جاء به فرقا على نظمه المعروف
1333 - فإذا قلنا في هذه المسألة من صح طلاقه صح ظهاره فنحن رابطون نفوذا بنفوذ ولكن في تصرفين مختلفين يتأتى جعل أحدهما ( أصلا والآخر ) فرعا ونصب الجامع بينهما وإذا أمكن الجمع تصور الفرق ولا يمكن الجمع بين حكم مناسب لشيء وبين ذلك الشيء فلما أمكن الفرق ظهرت المطالبة بالجمع وتميز
هذا الصنف عما يتمحض فقها مناسا فكان القسم الذي فيه الكلام بين قياس المعنى من جهة مناسبة تصرف تصرفا على الجملة مع الجريان على السلامة وبين مسالك الأشباه من جهة تطرق المطالبة بالجمع وعدم التزام المعلل له والذي ( يحيك في الصدر ) أن المعنى إذا أمكن فهو ( أولى ) ونصبه في مراتب الأقيسة أعلى والتمسك بالادنى مع الاستمكان من الأعلى لا ( يتجه ) في طرق الفتوى والنظر تدوار على تمهيد طرق الاجتهاد التي هي مستند الفتوى فسبيل الجواب عنه أن نقول
1334 - إذا اشتملت المسألة المظنونة على مراتب من الأدلة متفاوتة فلا حرج على المستدل لو تمسك بأدنى المراتب وإنما يظهر تفاوت الرتبتين إذا تناقض موجب الحجتين فيقدم موجب الأعلى على الأدنى فأما إذا توافقت شهادات المراتب المختلفة على مقتضى الوفاق فلا معاب على من يتمسك بالأدنى وكذلك إذا اشتملت المسألة على خبر نص وقياس ولا يمتنع التمسك بالقياس الموافق الخبر وإنما يمتنع التمسك بقياس يخالفه نعم إذا كان المطلوب في المسألة علما فلا وجه للتمسك بقياس لا يقتضي العلم
1335 - وحاصل القول في هذا الفن إذا انتهى الكلام إليه يحصره أقسام أحدها يطلب العلم وما كان كذلك فالمطلوب منه ما يفضي إلى العلم ولا حكم لتفاوت الرتب بعد استواء ( الجميع ) في الأفضاء إلى العلم
1336 - والقسم الثاني ما تتفاوت الرتب فيه ومتعلق جميعها ظنون والرأي عندنا تسويغ التمسك بالجميع على ما يراه المستدل ومنع بعض الجدليين التمسك بالأدنى مع التمكن من الأعلى وهذا فيه نظر إذا تميزت المراتب بالقواطع وإن كانت كل مرتبة في نفسها لا تقتضى علما فأما إذا كان تفاوت الرتب مظنونا فلا يمتنع وفاقا من التمسك بأدنى آحاد الرتب
1337 - ومما يتعلق باستكمال الكلام في هذا الفصل أنه قد يتعلق ثبوت بنفي أو نفي بثبوت على مضاهاه قياس الدلالة وليس من قياس الدلالة في شئ وهو كقول القائل من لا يملك التصرف ( يل ) الوالى التصرف منه أو من يستقل بالتصرف لا يلي الوالى منه ما يستقل به فهذا إذا سلم يلتحق بأقيسة المعاني فإنه مناسب مخيل ولا ينتظم بين النفي والإثبات فرق
1338 - وقياس الدلالة ( يتميز ) عن محض قياس المعنى بهذا فإنه لا يمتنع رسم ( فرق ) بين وصف قياس الدلالة والحكم المنوط به ويمتنع ذلك بين نفي التصرف وإثبات الولاية وإثبات التصرف ومنع نفي الولاية
1339 - فهذا منتهى القول على قدر ما يليق بهذا المجموع في قياس الدلالة فإذا نجز قدر الحاجة في مراتب الأقيسة حان أن نرجع بناء الكلام إلى الترجيح فنقول
فصل ( الترجيح في الأقيسة ) 1340 - إنما يجري الترجيح في أقيسة لا يعترض عليها إلا من وجهة التعارض ثم الأصل المعتبر في الترجيح ( الخصيص ) بالأقيسة ( ينشأ ) من تفاوت الرتب مع اجتماع الجميع في الظن فأما اقيسة المعاني فمستندها قاعدة معنوية معلومة ولا ترجيح في معلوم فإذا انحط المعنى عن العلوم فقد تقدم ترتيب مسالك الظنون والأرجح فالأرجح أقربها إلى المعنى المعلوم وقد مضى ترتيبها في القرب والبعد
1341 - ومما يتعلق بالترجيح في المعاني النظر فيما يثبتها وقد تقدم القول مثبتات المعاني ورجع الحاصل إلى مسلكين أحدهما إيماء الشارع والثاني الإخالة ( مع السلامة وما يثبته الشرع مقدم على الإخالة ) التي لا دلالة في لفظ الشارع عليها والسبب فيه أن ما أشار الشارع إلى التعليل به أمن المستنبط من الوقوع في متسع المصالح التي لا يحصرها ضبط الشريعة وهذا أمر عظيم في الاجتهاد وهو محذور الحذاق من أهل النظر ثم الإخالة على الرتب المقدمة
1342 - ومن الأسرار في ذلك أن الاستدلال يصح القول به وإن لم يستند إلى أصل حكمه متفق عليه على الرأي الظاهر فلو عارض استدلال لا اصل له
معنى مستندا إلى أصل فالمستند إلى الأصل مرجح على الاستدلال والسبب فيه انحصاره في حكم ثابت شرعا متفق عليه والمستدل على خطر الخروج عن الضبط
1343 - فهذه قواعد الترجيح في أقيسة المعاني ثم أدناها مرجح على أعلى الأشباه المظنونة كما سبق في ذلك قول بالغ
1344 - فإذا تعارض شبه خاص ومعنى عام كلي فقد قدمنا وجه الرأي فيه فلا نعيده
1345 - والاستدلال إذا عارضه شبه ( ومن ) ضرورة الشبه استناده إلى أصل فالذي ذهب إليه المحققون تقديم الشبه لمكان استناده إلى أصل وقدم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله تعالى الاستدلال على الشبه والقول في ذلك يتعلق بالظن عندنا فليعمل كل مجتهد على حسب ما يؤدي إليه إجتهاده
1346 - فهذه مجامع الأقوال في ترجيح الأقيسة لا يشذ عنها إلا أفراد مسائل اضطراب فيها الجدليون ونحن نرسمها مسألة مسألة وفي استيفائها استكمال القول في الترجيح مسائل ( تشذ عن القاعدة العامة للترجيح ) مسألة
1347 - إذا تعارضت علتان إحداهما منعكسة والأخرى غير منعكسة فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن الانعكاس من المرجحات المعتمدة
وهذا يتجه جدا على قولنا إن الانعكاس مع الاطراد دليل صحة العلة وقد قدمنا في حقيقة العكس قولا بالغا مغنيا عن الإعادة ونحن نذكر من اسراره مأخذا يستدعيه ويقتضيه أمر الترجيح فنقول
1348 - القياس الشبهى إذا اطرد وانعكس كان الانعكاس مخيلة معتمدة جدا فإن أقوى متعلقات الأشباه الأمثلة كما قدمنا ذكرها والاطراد والانعكاس فن الأمثلة المغلبة على الظن فإذا فرضنا تعارض شبهين انعكس أحدهما دون الثاني كان ذلك ترجيحا مقتضيا مزيد تغليب الظن لا يجحده في هذا المقام إلا غبي بمآخذ الأقيسة ومراتبها
1349 - وإن فرض الانعكاس في أقيسة المعاني فلا بد من ذكر تقسيم في ذلك منبه على سر العكس أولا ثم يعود الكلام إلى غرضنا من الترجيح فنقول رب معنى مخيل مناسب لا يشعر انتفاؤه لانتفاء الحكم في وضعه وربما يشعر انتفاؤه بانتفاء الحكم الذي اقتضاه الطرد وبيان ذلك بالمثال أنا قلنا في تحريم النبيذ مشتد مسكر فهذا يناسب التحريم من جهة إفضاء السكر إلى الاستجراء على محارم الله تعالى والاستهانة بأوامره وعدم الشدة لا يشعر بالتحليل
1350 - وإذا قلنا مستقل بالتصرف فلا يولى عليه كان الاستقلال مشعرا بنفي الولاية وعدم الاستقلال مشعر بإثبات الولاية فإذا تمثل النوعان في قياس المعنى بنينا عليه غرضنا وقلنا إن لم يكن المعنى بحيث يخيل عدمه عدم حكم الطرد وفرض مع ذلك انعكاسه فقد تجمعت فيه
الإخالة والشبه فإذا عارضه معنى غير منعكس ولم يكن في وضعه بحيث يشعر عدمه بعدم الحكم فالمنعكس مقدم عليه بطريق الترجيح إذا اجتمع فيه إخالة فقهية وقوة شبهية
1351 - فإن تعارض معنيان وأحدهما يشعر في الطرد والعكس نفيا وإثباتا والثاني يخيل من وجه الطرد ولا يخيل من جهة العكس فان انعكس المخيل ولم ينعكس ما لا يخيل فالمنعكس مرجح وسبب ترجيحه قوة الإخالة وإن لم ينعكس ما لا يخيل من جهة العكس بسبب علة أخرى خلفت العلة الزائلة فالوجه ترجيحها على العلة التي لا تخيل في العكس فإن عدم الانعكاس فيما يخيل من جهة الانعكاس محمول على ثبوت علة اخرى خلفت العلة الزائلة وقوة الإخالة لا تزول
1352 - وتحقيق هذا أنا قدرنا عند انتفاء العلة التي فيها الكلام انتفاء علة أخرى ( لانتفي ) الحكم لقوة الخالة ( وشدة ) الارتباط ( ومقتضى 9 اقتران الحكم والعلة وهذا المعنى لا يتحقق فيما لا يقتضي الإخالة في جهة العكس
1353 - فلو لم تنعكس علة مقتضاها الانعكاس لمكان علة اخرى ( خالفت ) وانعكست التي لا تخيل في جهة العكس فقد اختلف المحققون في ذلك فقدم مقدمون المنعكس لاجتماع قوة الإخالة في الطرد وقوة الشبه في العكس وذهب أخرون إلى تقديم العلة التي تخيل في جهة العكس لاختصاصها بقوة الإخالة
وأدنى مأخذ المعاني مقدم على أعلى مسالك الاشباه ولا يقدح في قوة الإخالة عدم الانعكاس إذا ثبتت علة تخلف العلة في الطرد
1354 - ومما يتم به الغرض في ذلك أن العلة إذا أخالت في العكس فالعلة المخالفة يجب أن تكون أقوى من ( إخالة ) العلة الأولى في العكس لا محالة
1355 - فإن امتنع الانعكاس لنص أو إجماع فهذا موضوع التوقف قال قائلون عدم الانعكاس مفسد للعلة من حيث إنه أثر في فقهه وإخالته فكان هذا كالنقض في الطرد وقال المحققون لا يبطل العلة فلها في الثبوت دلالة وعلة عدم الحكم عدم العلة أمكن الانعكاس فالإجماع ( قدح انتفاء الحكم ) في تقدير العدم علة والنقض يخرج وجود العلة عن كونه علة والقول في النقض طويل وقد سبق تفصيله فيما تقدم فهذا هو اللآئق بغرض الترجيح في فصل الانعكاس مسألة
1356 - وقد تقدم القول في العلة القاصرة المقتصرة على محل النص فإذا رأينا صحتها فلو فرضنا علة متعدية عن محل النص ففي ترجيحها على القاصرة خلاف
1357 - وحاصل ما قيل فيه ثلاثة مذاهب أحدها وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ترجيح القاصرة والثاني وهو المشهور ترجيح المتعدية
والثالث وهو اختيار القاضي أنه لا ترجح إحداهما على الأخرى بالقصور والتعدي
1358 - وأول ما يجب به الافتتاح تصوير المسألة فإن فرضنا علتين قاصرة ومتعدية في نص واحد فالقول في هذا ينبني على أن الحكم الواحد هل يعلل بأكثر من علة واحدة وهذا أصل قد سبق تمهيده فإن لم يمتنع اجتماعهما فلا معنى لترجيح إحدى العلتين على الأخرى ولكن الوجه القول بالعلتين والقاصرة والمتعدية متوافيتان في محل النص الواحد لا تناقض بينهما ولا تعارض فإن المتعدية مستعملة مقول بها وراء النص وإن لم نر اجتماع ( العلتين لحكم واحد فإذ ذاك ) ينقدح الكلام في ترجيح القاصرة على المتعدية
1359 - ( أما الجمهور ) من أرباب الأصول فذاهبون إلى ترجيح المتعدية ووجه قولهم أن العلل ( تعني 9 كفوائدها والفائدة المتعدية فإن النص يغنى عن القاصرة فكان التمسك بالمتعدية أولى ومن رجع القاصرة احتج بأنها متأيده بالنص وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان التمسك بها أولى
1360 - ووجه القاضي إن الفوائد بعد صحة العلل ( وصحة العلل ) ترتبط بما يصحهها مما يقتضي سلامتها عن المبطلات فإذا دل الدليل على الصحة
واستمرت دعوى السلامة فلا نظر وراء ذلك في النتائج والفوائد قلت أو كثرت وليس من الرأى الترجيح بحكم العلة وهو النتيجه والفائدة والترجيح الحقيقي إنما ينشأ من مثار الدليل على الصحة وفائدة العلة في مرتبة ما يدعى لها
1361 - وقول القاضي في المسلك الذي ذكره أوجه الأقوال في مقتضى الأصول وما رآه الجمهور من النظر إلى الفوائد متروك بما ذكرناه وما اعتبره الأستاذ في مطابقة النص لحكم العلة القاصرة غير معتبر لما نبهنا عليه من أن حق المرجح ألا ينظر إلى حكم العلة ولا يرجح به بل الترجيح بما يصحح به العله ويقتضى مزيد تغليب الظن فيه وما ذكره مرجح العلة القاصرة من الأمن ( لا وقع ) له فإنه راجع إلى استشعار ( خيفة ) لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد
1362 - والذي ( يبتغى ) وراء ما ذكرناه أن العلة المتعدية إذا صحت على السبر ولم يناف صحتها طارىء فقد وجدنا معنى على شرط الصحة ومقتضاه اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو مستند إلى أصل ثابت منشؤه من قاعدة شرعية فلست أدري ردها لمكان حكمة تسنح من الفكر منطبقة على محل النص فإن المعاني إذا اتصفت بالصفات التي ذكرناها من اجتماع الأمور المرعية والسلامة عن المبطلات والاستناد إلى منصوص عليه
فالأولون من الأئمة كانوا مسترسلين على العمل بها وليس ما يجرى في الفكر من العلة القاصرة مناقضا فلا وجه لترك المتعدية قطعا وإنما المتروك من قول من يرجح العلة المتعدية ( تعلقه ) بالفوائد ومصيره إلى أن العلة ( تعنى ) لثمرتها وفوائدها وهذا واه ضعيف فالوجه التعلق باسترسال المجمعين على العمل بالقياس كما ذكرناه وهذا إذا ضمه الناظر إلى ما حصلناه من القول في العلة القاصرة انتظم له فيه حقيقة المراد
1363 - ( وعندنا أن ) هذه المسألة غير ( واقعة في الشريعة وإنما هي مقدرة ) والشريعة عرية عن اتفاق وقوعها
1364 - فإن قيل قد علل أبو حنيفة رحمه الله تعالى الربا في النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك
1365 - قلنا الوزن على باطلة عند الشافعي والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضى صحتها لو انفردت
1366 - ومن تمام الكلام في ذلك أن العلة القاصرة لو صح القول بها إن كانت غير مخيلة في جهة العكس فلا معارضة ولا مناقضة ( والنقدية ) ليست مخيلة في جهة العكس فكيف يتوقع اقتضاؤها نفي الحكم في العكس وقد ذكرنا في مراتب الأقيسة أن علة الربا في الأشياء الستة واقعة آخرا في درجات الأشباه ولا يتسلط المستنبط عليها ( إلا ) بتقدير الإرهاق والاضطرار إلى استنباطها فلسنا نرى للمسألة الموضوعة جدوى ولا فائدة
1367 - فإن قال قائل لو استنبط ناظر علة في محل التحريم فصادف اجتهاده علة قاصرة ورأى محل النزاع عكسا لها واستنبط مستنبط آخر في محل تحليل مجمع عليه علة متعدية وصورة النزاع طردها فما القول والحالة هذه قلنا لا يتصور أن يعارض عكس طردا فإن الطرد في منزلة العلة والعكس يقع في حكم ( العضد ) للإخالة على طريق التبعية ولا يقابل ما هو أصل ما يقع فرعا في معرض التلويح وهذا على التحقيق لو قيل به مصير إلى معارضة العلة ترجيحا
1368 - فإذا لم يتصور في اجتماع العكس قاصرة ومتعدية على حكم التوافق ( نظرا ) إلى الترجيح ولم يتحقق تعارض بين قاصرة ومتعدية في أصلين مختلفين فإن القول يرجع إلى معارضة الطرد والعكس وهذا لا سبيل إليه
1369 - فإن قيل علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت العبد قاصرة وقد قدمتموها على العلة المتعدية لأبي حنيفة قلنا هذا ساقط من أوجه أحدها أن ما اعتمده أصحاب أبي حنيفة من تعليل الخيار باطل في نفسه فلا ينتهى القول فيه إلى مقام الترجيح ومنها أن الرأي الظاهر عندنا ألا يعلل خيار المعتقة ( تحت العبد ) كما حققنا في ( الأساليب ) ومنها أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج
حر فلا معنى للاستشهاد بهذه الصورة في ادعاء الوقوع والاستشهاد به
1370 - فإذا هذه المسألة تقديرية لا نراها واقعة وقد ( كنا ) ذكرنا أن اجتماع العلل للحكم الواحد ينساغ في نظر العقول ( ولكنه غير متفق وقوعا في الشرع ) فلا معنى لإعادة ما سبق فهذا منتهى المراد ( في ذلك ) ثم فرع الجدليون وراء هذا مسألتين نرسمهما وهما عريتان عن الفوائد مسألة
1371 - قال من يرجح العلة المتعدية إذا تعارضت علتان فروع إحداهما أكثر من ( فروع ) الأخرى ( وهما جميعا متعديتان ) فكثيرة الفروع منهما مقدمة على الأخرى وقد ذكرنا أن أصل الكلام في المتعدية والقاصرة غير واقع وإنما يتكلم المتكلم على التقدير فالقول في المتعديتين يجرى على ذلك النحو فليس في المتفق عندنا علتان على الوفاق لحكم واحد منصوص عليه ومجمع عليه وكل واحدة على شرط الصحة
1372 - فإن قدر المقدر فرضهما فلسنا نرى تعطيل العلة الكثيرة الفروع لمكان أخرى تساويها في بعض مقتضياتها فليس هذا ( إذا ) لو اتفق ( من ) مسالك الترجيح في شيء فلو فرضنا علتين متناقضتين في محل النزاع وأصلاهما مختلفان فلا يقع الترجيح بكثرة فروع إحداهما قطعا ومن خالف في ذلك لم نبال به وإنما تتخصص إحدى العلتين بما يقتضي تغليبا على الظن والترجيح عائد إلى تلويح ظني وهذا القدر كاف
مسألة
1373 - من اعتقد أن كثرة الفروع تقتضي ترجيحا رسم مسألة وتكلم فيها مجادلا بما يصفه والغرض ألا يعرى هذا المجموع عما ( قيل في ) أصول الترجيح قال هؤلاء إذا كثرت فروع علة وقلت فروع أخرى ولكن القليلة الفروع اعتضدت بنظائر لها تضاهي في عدتها فروع العلة الكثيرة ( الفروع ) كانت كثرة النظائر في معارضة كثرة الفروع
1374 - وبيان ذلك بالمثال أن الشافعي خصص لزوم الكفارة العظمى من جملة المفطرات بالوقاع ورأى إتيان المرأة في المأتى الأصل وفيه واقعة الأعرابي وعدى علته إلى إيلاج الحشفة في كل فرج
1375 - واعتبر أبو حنيفة في إيجاب الكفارة الفطر ( بمتنوع ) ( المفطرات ) فكانت فروعه أكثر ولكن للاختصاص بالوقاع نظائر كثيرة كالغسل والحد ووجوب المهر وتكميله والإحصان والتحليل فكانت هذه النظائر في الاختصاص مضاهية لكثرة الفروع في علة الخصم
1376 - وهذا قول عرى عن التحصيل في مساق كلام هذا القائل إلى ( أن نذكر ) حقيقة المسألة فإن النظائر التي ذكرناها ما نراها معللة فلا وجه للاعتضاد بها وإن تمسك متمسك بها في مسلك الأشباه ( فلا ) تعلق أيضا بها فإن ثبوت ( الأحكام بالوقاع ) على الاختصاص لا يغلب على الظن أن يختص بها كل حكم
ينقل فيه ولا يجري مجرى الأمثلة التي ذكرناها للرتبة العليا من أقيسة الأشباه ومن فهم ما تقدم تميز عنده ما نحن فيه عما سبق
1377 - وبالجملة إن تلك الأمثلة تجري في غير المطلوب إذ النظر في اعتبار القليل بالكثير في ضرب العقل اعتضد بالقليل في حق الشريك وكان ذلك ناشئا من عين المطلوب والضرب مسترسل لا توقف فيه فلا أصل إذا لما ذكر هذا الإنسان ثم إنما يستقيم ما ذكره لو كانت علة الخصم صحيحة دون تقدير المعارضة وليست كذلك ولو صحت لما عارضتها علة أخرى تساويها وتوافقها في بعض مقتضياتها وقد ينشأ من فرض هذه المسألة أصل في الترجيح فليتأمله الناظر
1378 - فأما مسلك أبي حنيفة فمردود من جهة التناقض المنقول عنه في مذهبه وإنما المذهب المطرد مذهب مالك في تعليقه الكفارة بكل فطر هاتك حرمة الصوم من غير مناقضة فإذا استنبط ذلك من محل النص وهو الوقاع واستنبطناه فلا نرى لترجيح ما يستنبطه وجها مع جريان ما اعتبره مالك وإن تعلقنا بالأشباه وادعينا أن الوطء يجب أن يكون على مزية اعتبارا ( بالنسك ) فهذا شبه على بعد في معارضة معنى الهتك ( وليس من الانصاف معارضة شبه على هذا النعت بمعنى جار في محل النزاع وإن لم نر تعليل الكفارة لم ينتفع بهذا ما لم نبطل معنى الهتك ) لمالك وبالجملة قوله في تعميم الكفارة متجه جدا والعلم عند الله وليس هذا من القول في قواعد الترجيح ولكن وضع المسألة على ما وصفناه
مسألة متعلقة ببقايا الكلام في هذا الفن
1379 - قال قائلون من أصحاب الشافعي رضي الله عنه إذا تعارضت علتان وإحداهما أكثر فروعا بيد أن الأخرى منطبقة على الأصل والفرع من غير تأويل والكثيرة الفروع تحتاج إلى تقدير ( تأويل ) في بعض مجاريها فهذا يغض من جريانها ويقدح في الترجيح بكثرة فروعها
1380 - وبيان ذلك أن إذا اعتبرنا في القرابة المقتضية للنفقة والعتق البعضية وهذا يجري في الوالدين والمولودين على انطباق واعتبر أبو حنيفة رضي الله عنه الرحم والمحرمية وفروع علته وإن كانت مركبة أكثر فإنها تتناول الأصول والفروع غير أن الرحم والمحرمية لا يجريان إلا على تأويل بين الذكرين والأنثيين وذلك بأن يقدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى وهذا ركيك من الكلام لا ينساغ مثله لمتشوف إلى تحصيل وذلك أن الرحم لا تأويل فيه وكذلك المحرمية ولكن لا يظهر التحريم لا لتقاعد العلة ولكن لعدم المحل
1381 - وليس من الرأي التعويل على مثل هذا بعدما قدمنا القول في كثرة الفروع وقلتها وقد انتهى الغرض في هذا الفن ونحن نأخذ بعده في رسم مسائل في سائر أغراض المرجحين إن شاء الله تعالى
( مسائل ) ( في أغراض المرجحين ) مسألة
1382 - ذهب ذاهبون إلى أن ما تجاذبه أصلان وتعارض في إلحاقه بأحدهما نظر النظار فمن تمكن من توفير شبهى الأصليين كان مسلكه مرجحا ومثلوا ذلك بالقول في يمين اللجاج والغضب فإنها بين النذر الذي يوجب الوفاء وبين اليمين التي توجب الكفارة فمن خير بين الوفاء والكفارة كان مسلكه مرجحا من جهة توفير شبهى الأصليين
1383 - وهذا مزيف عندنا من جهة أنه ترجيح مذهب لا ترجيح علة جارية على شرط الصحة وقد قدمنا في أول ( الكتاب ) أن المذاهب لا ترجح ( و ) مأخذ مسألة يمين اللجاج من ( الآثار عندنا ) وكل من سلك هذا المسلك فهو يزعمه ( يوفر ) شبهين من أصلين على إبعاد في الكلام وهو على القرب بقطعة عنهما جميعا وهو غافل عما يأتي وبيانه أن مقتضى النذر إلتزام الوفاء ( لا تجويزه ) ومقتضى اليمين التزام الكفارة والتخيير مباين للمقتضيين ووضوح ذلك مغن عن بسط القول فيه مسألة
1384 - إذا تعارضت علتان واختصت إحداهما بالاستناد إلى أصول ففي الترجيح بكثرة الأصول خلاف بين أهل الأصول فذهب بعضهم إلى أن ذلك يقتضي ترجيحا من جهة أنها في محل الشواهد
وكثرة الشهادات تغلب على الظن وهو المقصود بالترجيح واستشهد هؤلاء بكثرة الرواة في تعارض الخبرين
1385 - والرأي الحق عندنا يقتضي تفصيلا فإن كان المعنى الجامع واحدا وكان مستندا إلى أصول فلست أرى الترجيح بكثرة الأصول والحالة هذه فإن الدلالة على الحكم ( هي ) المعنى وإنما يذكر الذاكر الأصل استئناسا به وأمنا من الوقوع في متسع الظنون مع العلم بأن مسالكها مضبوطة في الشريعة وهذا يحصل بأصل واحد وليس عدد الأصول بمثابة عدد الرواة فإن التعويل في الأخبار على الثقة وظهورها في الظن وهذا يزداد بزيادة عدد الرواة ولو استمكن القايس من جوامع وكل جامع معنى مستقل مستند إلى أصل ولم يتمكن الخصم إلا من معنى واحد فلا شك أن من كثرة معاينة مع الاستواء في الرتب مقدم لكثرة الدلالات وهذا الآن يناظر كثرة الرواة ولكن إذا عارض معنى الخصم معنى أخر ثم أتى بمعان فهذا من باب ترجيح دليل بدليل وقد تقدم القول فيه وهو متعلق بلفظ ( بعدما وضح ) أن صاحب المعاني يقدم مذهبه
1386 - ومما يتصل بهذا الفصل أن الناظر في مسلك الأشباه قد يلقى صورة تضاهي كثرة الأصول والترجيح بها واقع ومثاله أن أحمد بن حنبل رحمه الله جوز المسح على العمامة تشبيها بالمسح على الخفين ومنعه الشافعي رحمه الله تشبيها بالوجه واليدين
فإذا ما يمنع المسح فيه أكثر وهذا يقوي من جهة أن الكلام في قربه واحدة تشتمل عليها رابطة فكثرة الأمثلة فيها تقرب من مآخذ الأشباه وليس هذا كأصول متبددة يجمعها معنى واحد فليفهم الناظر ما يرد عليه
1387 - فإن قيل إلحاق الرجل بالرأس أخص وأمس من جهة أن التخفيف يتطرق إليها قيل هذا باطل فإن ما ابتنى على التخفيف أشعر ابتناؤه عليه باكتفاء الشرع به حتى لا مزيد وهذا يعتضد بأمر واقع وهو تيسير مسح الرأس مع العمامة من غير احتياج إلى ( تنحيتها ) بخلاف القدم والخف ثم محل الأشباه في الرخص البعيدة عن مدارك المعاني الجزئية والكلية ضيق جدا والأصل اتباع الأصل مسألة
1388 - إذا تعارض قياسان ومع أحدهما ظاهر معرض للتأويل فالعلماء على مذاهب قال بعضهم إذا كان الظاهر بحيث يسوغ تأويله بالقياس الذي يعارضه فلا وقع له ولا ترجيح به والقياسان متعارضان وقال قائلون القياس الذي يعتضد بالظاهر مرجح وقال آخرون القياسان يتساقطان والتعلق بالظاهر
1389 - فأما من أسقط الظاهر فمذهبه مردود وذلك أن تأويل الظاهر إنما ينساغ إذا اعتضد بقياس غير معارض والمسألة مفروضة في تعارض القياسين وإذا بطل هذا المذهب فالمذهبان الآخران بعده متقاربان وحاصلهما يئول إلى تقديم المذهب الذي توافق عليه الظاهر والقياس
1390 - والعبارة السديدة ترجح القياس المعتضد بالظاهر فإن الظاهر لا يستقل دليلا مع قياس يصلح لإزالة الظاهر فإذا لم يستقل دليلا واعتضد به قياس أفاده ترجيحا وتلويحا ولا مرد على من أسقط القياسين وتمسك بالظاهر والأمر بعد بطلان المذهب الأول قريب مسألة
1391 - إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي فمن يقول مذهب الصحابي حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا يقتضى تقديم المذهب الذي تطابق عليه القياس ومذهب الصحابي ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أم لا وإذا كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابي فلا أثر له في الترجيح وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم
1392 - وإن اعتضد القياس بمذهب صحابي شهد له الشارع بمزية علم في ذلك الفن كقوله عليه السلام أفرضكم زيد فهذا على المذهب الظاهر يقتضى ترجيحا وإن كنا لا نرى قول الصحابي حجة وذلك لما في هذا التوافق من تغليب الظن مع المصير إلى أن مجرد قوله ليس بحجة
1393 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه قول زيد في الفرائض أرجح من قول معاذ وإن ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أعرفكم بالحلال والحرام معاذ وذلك أن شهادة الرسول عليه السلام لزيد أخص في الفرائض وأدل على اختصاصه بمزية الدرك فيها وكذلك مذهبه مع انضمام قياس أرجح من مذهب علي رضي الله عنه وإن قال الرسول عليه السلام أقضاكم علي وهذا أوضح وأبين مما قدمناه في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية النظر في القضاء تشير إلى التفطن لقطع الشجار وفصل الخصومة والتهدي إلى تمييز المبطل عن المحق والشهادة بمزية العلم في الحلال والحرام أوقع في مظان الاجتهاد والشهادة بمزية العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب
1394 - فإذا لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المراتب فالقول في تقليد من يقلد يتعلق بكتاب الفتوى وبيان المفتى والمستفتى وسنستقصي القول في مذاهب الصحابة
1395 - فإن قيل إذا اعتضد مذهب يقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
فما الرأي فيه وقد قال عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا هذا أعم عندنا من الشهادة لعلي بمزية العلم في القضاء فإنا نجوز أن الرسول عليه السلام أشار إلى الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء الطاعة فإذا انضم إلى المراتب في الشهادة للصحابة رضي الله عنهم مرتبة رابعة فأعلاها وأولاها في التعلق أخصها وتليها الشهادة لمعاذ وتليها الشهادة لعلي رضي الله عنه ثم يلي ما ذكرناه الشهادة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
1396 - ثم قال الشافعي قول على في الأقضية كقول زيد في الفرائض وقول معاذ في التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض مسألة
1397 - إذا تعارضت علتان وإحداهما مستندة إلى أصل مجمع عليه ( أو إلى نص ) والأخرى ليست كذلك فالمستندة إلى الإجماع أو إلى محل النص مرجحة وبيان ذلك بالمثال أن أبا حنيفة رحمه الله إذا أوجب الكفارة في الطعام وقاسه على الوقاع فعلته مستندة إلى محل الإجماع والنص ونحن إذا أبقينا الكفارة واستنبطنا القياس من ( بلع ) الحصاة لم يكن مستند ( قياسنا ) مجمعا عليه وهو ( أظهر ) ما يعتني به في الترجيح
ولكن لا ينتهي القول مع أبي حنيفة إلى الترجيح فإن ما استنبطه باطل وإنما يقع الترجيح وراء الاستقلال نعم مصادمة مالك عسرة ( فإنه ) لا يناقض ولا يوجد معه أصل به مبالاة
1398 - ومن هذا القبيل الذي ذكرناه أن أبا حنيفة إذا استنبط علة في عتق الأمة تحت العبد وعداها إلى الأمة المعتقة تحت الحر فعلته إن صحت مستندة إلى محل النص فإن وجدنا محلا مجمعا عليه في نفي الخيار واستندنا إليه علة في عتق الأمة تحت الحر تفاوتت العلتان
1399 - وهذا تقدير ذكرناه تمثيلا وإلا فعله أبي حنيفة باطلة في تلك المسألة والصحيح عندي قصور العلة رأسا على خيار المعتقة تحت العبد كما ذكرنا في ( الأساليب ) فليتنبه الناظر لهذا الأصل العظيم في الترجيح وليكن على بال منه مسألة
1400 - إذا تقابلت علتان إحداهما ذات وصف واحد والأخرى ذات وصفين فصاعدا فذهب بعض الجدلين إلى تقدم التي هي ذات وصف واحد وعللوا بأمرين أحدهما أن ذات الوصف الواحد تكثر فروعها وفوائدها والآخر أن الاجتهاد يقل فيه وإذا قل الاجتهاد قل الخطر
1401 - وهذا المسلك باطل عند المحققين فأما كثرة الفروع فقد سبق القول فيه ثم إطلاق هذا القول لا وجه له فرب علة
ذات وصف لا تكثر فروعها وربما تكون قاصرة لا تعدو محل النص فإن فرض فارض ازدحام علتين على أصل واحد ( و ) لم تكونا قاصرتين فإذ ذاك ذات الوصفين أقل فروعا ويعود الكلام إلى تعليل حكم بعلتين
1402 - ونحن نقول ( و ) قد انتهى الكلام إلى هذا الحد من يتمسك بذات الوصفين لا يخلو إما أن يقول لا تستقل العلة بالوصف الواحد فعليه إبانة بطلانها ولا يكون هذا الكلام في محل الترجيح وإما أن يقول تستقل العلة بالوصف الواحد فلا معنى إذا لما يريده ولا يتعلق هذا بالترجيح
1403 - وهذا نمثله بقولين للشافعي في علة الربا مذهبه في الجديد أن العلة الطعم في الأشياء الأربعة وضم في القديم التقدير إلى الطعم فإن كان يرى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا تعين بيان فساد الاقتصار وإن كان يرى ذلك مسوغا فليس التقدير وصفا في العلة قطعا ولكن إن ذكره ذاكر فغايته أن يكون الكلام في التقدير أظهر منه دونه ويكون هذا بمنزلة من يتخذ صورة من صور الخلاف ويرى الكلام فيها أقرب فالقول بالتقديرين جميعا خارج عن محل الترجيح وإنما أجرينا هذا مثالا وإلا فلا ريب في أن الشافعي رأى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا
1404 - وأما ما ذكره من تقديم ذات الوصف من ( قلة ) الاجتهاد فقول
ركيك فإن ( النظر ) في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الخطر واستشعار الخوف والذي يحقق ذلك أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إن لم ينظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين والمقتصرين على طريق من الاجتهاد وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بها فقد كثر إجتهاده وتعرض للغرر ولكن أدى اجتهاده إلى النفي فإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها وكل ذلك يفسد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد واستشعار الخوف وتبين أن اقتحام الخطر حتم على كل مجتهد مسألة
1405 - إذا تضمنت إحدى العلتين نفيا والأخرى إثباتا فقد صار بعض الناس إلى تقديم العلة المثبة وهذا قول من لا يثبت فيما يأتي به فإن الترجيح لا ينشأ من النفي والإثبات فربما يكون الإثبات أغلب في مسالك الظنون وربما يكون الأمر على ( الظن في ) العكس فليتبع المتبع طريق التغليب على الظن مع الانحصار في مسالك الشريعةغيرمعرج على نفي أو إثبات
1406 - ويتصل بهذه المسألة أن إحدى العلتين إذا انطبقت على أصل مستقر
في الشرع وتضمنت الأخرى النفل عنه فهذا مقام النظر فقد قال قائلون النافلة أولى لاشتمالها على الزيادة واستشهدوا بخبرين أحدهما يثبت قول الشارع والآخر ينفيه فالمثبت أولى لاختصاصه بمزية درك يقدر ذهول النافي عنه وهذا قد فصلناه في ترجيح الأخبار
1407 - ولكن لو سلمنا الآن فليس مما نحن فيه بسبيل من جهة أن مأخذ الأخبار يستند إلى بصيرة النافلة ومرتبته في الدرك وقد يختص المثبت بها والعلل لا تؤخذ من هذا المأخذ ولكن مسالكها معلومه مسبورة فلتعرض ولينظر الناظر فيها ثم لا يقع الترجيح ( بحسبها ) نعم الوجه تقديم العلة المنطبقة علىالاصل المستقر فإنه في حكم الشهادة المؤكدة للعلة والنافلة تحتاج إلى مزيد وضوح يصادم قرار الأصل الذي يناقضها وإذا كان كذلك فالترجيح بمطابقة الأصل المستقر أولى ونقول بحسب ذلك إذا تقابلت علتان في الحكم بالحظر والتحليل ( فالتحليل في ) أصل الحظر علته أغلب فالمرجح العلة الحاظرة إلا أن تختص المحللة بمزية ظاهرة فهذا سر القول في هذا الفصل مسألة
1408 - إذا تقابلت علتان إحداهما حكم والأخرى أمر ثابت محسوس فلا يقع بينهما ترجيح
وذهب بعض الجدليين إلى أن المحسوس مرجح من جهة أن ثبوته معلوم قطعا وهذا الفن ساقط عندنا فإن الحكم عندنا ثابت قطعا وإن لم يكن ثبوته مقطوعا به والقول فيه يتعلق بما مهدناه في إستناد إحدى العلتين إلى مقطوع به وتردد الأخرى فأما إذا كان الحكم مجمعا عليه فلا وجه لما قاله هؤلاء مسألة
1409 - إذاكانت إحدى العلتين تعم الأحوال كعلة الشافعي في منع بيع الكلب فإنه اعتبر النجاسة وكانت العلة الأخرى تختص ببعض الاحوال كالانتفاع الذي تمسك به أبو حنيفة في جواز البيع وهذا لا يجري في الجرو فقد قال قائلون ( تقدم ) العلة التي تعم الأحوال وهذا عندنا عرى عن التحصيل فإن الجرو من جنس ما ينتفع به فلا ينتصب من مثل هذا شئ له وقع في مأخذ الدلة
1410 - ورأينا في مسألة الكلب أن التعلق بالنجاسة شبه لا يتأتى الوفاء بتقديرها معنى فقهيا ولكنه شبه مطرد وقول ابي حنيفة في الانتفاع معنى فقهي ولكنه منتقض والشبه المطرد مقدم على المخيل المنتقض فهذا وجه الكلام
1411 - والأمر المتبع في ترجيح الأقيسة ما مهدناه قبل الخوض في رسم المسائل ولكنا استوعبنا بهذه المسائل ما خاض فيه الخائضون وأوفينا على الاستيعاب وإن تركنا شيئا لم نتعرض له فقد مهدنا ما يرشد إلى ( قواعد ) القول فيه والله المستعان
باب ( النسخ ) 1412 - النسخ في وضع اللغة معناه الرفع ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخت الريح آثار القوم ومعناه في التواضع بين الأصوليين وحملة الشريعة مختلف فيه فأقرب عبارة منقولة عن الفقهاء أن النسخ هو اللفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تأخير عن مورده وقال القاضي أبو الطيب الدال على انتهاء أمد العبادة وهذا مزيف من جهة أن النسخ لا يختص بالعبادات والحدود تعني للجمع والاحتواء ولم يقيد كثير من الفقهاء الكلام بالتأخير وهذا يرد عليه الألفاظ المتضمنة للتأقيت على الأتساق والاتصال كقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فهذه الألفاظ ليست نسخا وفيها بيان أنتهاء الآماد وليس ما ذكرناه مذهبا ولكن أتى قوم من اختلال العبارة وقلة تصورهم عما يرد عليها
1413 - والمذهب الذي يعزى إلى الفقهاء ما ذكرناه عاما للأحكام مقيدا بشرط التأخير وحقيقته ترجع إلى أن النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ والمكلفون قبل وروده ( لا يقطعون بتناول ) اللفظ الأول جميع الأزمان على التنصيص وإنما يتناولها ظاهرا معرضا للتأويل
فالنسخ عندهم تخصيص اللفظ بالزمان كما أن ما يسمى تخصيصا هو إزالة ظاهر العموم في المسميات
1414 - وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق بأن النسخ تخصيص الزمان
1415 - وقالت المعتزلة النسخ هو اللفظ الدال على أن الحكم الذي دل عليه اللفظ الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لثبت مع التراخي ومذهبهم قريب من مذهب الفقهاء وقال القاضي أبو بكر بن الطيب النسخ رفع الحكم بعد ثبوته وهو لا يحتاج إلى التقييد بالتأخير فإن اللفظ الذي ينتظم لقصد التأقيت ليس فيه رفع حكم بعد ثبوته في قصد الشارع ومعتمد القاضي أن الحكم يثبت على التحقيق مؤبدا ثم يزول بعد ثبوته
1416 - ونحن نذكر لباب كلام القاضي في إتباع من يخالفه ثم نذكر بعد نجاز تفاوضهم ما هو الحق عندنا قال القاضي رحمه الله إذا كان النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ فلا فرق بينه وبين التخصيص وإزالة ظاهر اللفظ وهذا في التحقيق إنكار للنسخ وموافقة لجاحديه من اليهود وغلاة الروافض ويلزم منه تجويز النسخ بما يجوز به التخصيص حتى لا يمتنع نسخ نصوص القرآن والأخبار المتواترة بالخبر الذي ينقله الآحاد وبالقياس على رأى من يرى التخصيص به
1417 - وهذا الذي ذكره القاضي ( عندنا ) تشغيب غير مستند إلى مأخذ
من القطع فأما نسبته القوم إلى موافقة من ينكر النسخ فمردود من جهة أن منكريه لا يرون تخصيص الألفاظ في الزمان وما ذكره من إلزامهم تجويز النسخ بما يجوز التخصيص به كلام غير سديد فإن المعتمد في التخصيص ما ظهر من سيرة الصحابة رضي الله عنهم فلولا إزالتهم الظواهر لما أزلناها وقد رأيناهم لا يرون النسخ بما يرون التخسيس به فلا وقع إذا لهذا الكلام وإن تعلق متعلق باقتضاء النسخ الرفع في اللغة كان ذلك ركيكا من الكلام فإن مثل هذا الأصل العظيم لا يتلقى من اشتقاق اللغة مع اتساعها لتطرق التأويلات إليها
1418 - ثم إذا وضح ما ذكرناه فإن نفتتح بعده سؤالا موجها على القاضي ينكشف به وجه الحق فنقول إذا أثبت الله تعالى حكما على المكلفين فمعناه تعلق قوله الأزلى به في حق المكلفين فإذا علم ( الله ) أنه سيرد عليهم ما يسميه العلماء نسخا فخبره الأزلى يتعلق بتقديره وتحقيقه ويستحيل أن يتعلق خبره بثبوته على الأبد وارتفاعه على ( الجمع ) فإن ذلك لو قدر لكان ( تناقضا ) فلا معنى إذا لحقيقة الرفع بعد الثبوت وهذا ما لا جواب عنه ويتصل به أن اللفظ الأول الوارد على المكلفين إذا اقتضى تأبيدا فهو متضمن بشرط ألا يرد ما ينفي التأبيد وكان التقدير فيه أن المكلفين متعبدون بالحكم الأول أبدا بشرط ألا يرد عليهم ما ينافيه وهذا الشرط وإن لم يكن مصرحا به فهو ثابت قطعا
1419 - ولا يسوغ فهم الناسخ والمنسوخ مع تنزيه كلام الله تعالى عن التناقض
واعتقاد استحالة البداء عليه إلا على هذا الوجه فإذا الحكم الذي يرد النسخ عليه في علم الله تعالى غير مؤبد ولا لبس على الله تعالى وإنما حسب المتعبدون أمر بأن خلاف ما حسبوه ولو تحققوا لكانوا في استمرار الحكم الأول مجوزين للتقدير الذي ذكرناه فلا يكونون ( إذا ) قاطعين بالتأبيد في الحكم مع تجويزهم ورود ما ينافيه وعلمهم بأنه لا تبديل لقول الله عز و جل وموجب علمه فيرجع والحالة هذه النسخ إلى انعدام شرط دوام الحكم الأول والنسخ إظهار لذلك بعد أن كان مستورا عن المخاطبين ويرجع التقدير في الحكم الأول إلى أن الحكم ثابت بشرط ألا ينسخ فإذا ظهر النسخ لم يكن مقتضاه رفع ما تحقق ثبوته ولكن كان إبداء ( لانتفاء شرط ) الاستمرار والعبارة عن هذا المقصود أن النسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول
1420 - فإن قيل لا فرق بين هذا الاختيار وبين مذاهب الفقهاء قلنا لا فرق بين هذا وبين مذاهبهم في أن الحكم الثابت في علم الله وقوله تعالى لا يزول لما قدمناه ولكن في كلام الفقهاء ما يدل على أن اللفظ الدال على الحكم الأول ظاهر في الأزمان معرض للتأويل تعرض الألفاظ العامة للتخصيص وهذا فيه إيهام لا حاجة إليه فإن اللفظ العام في وضعه ليس نصا في استغراق المسميات وليس كذلك موجب اللفظ في تأبيد الحكم فإنا نجوز ورود النص في استغراق الزمان مطلقا مع ورود الناسخ بعده وليس ذلك من جهة تأويل اللفظ في وضعه وإنما هو من جهة ( تقدير ) شرط مسكوت عنه وهو متضمن كل أمر يجوز تقدير نسخه
1421 - فإن قيل لو قال الشارع هذا الحكم مؤبد عليكم لا ينسخه شئ
فهل يجوز تقدير النسخ فيه والحالة هذه قلنا إذا ثبت هذا المعنى نصا لم يجز ورود ( النسخ عليه ) فإن ( في ) تقدير ( ورود ) النسخ عليه تجويز الخلف ولهذا اعتقدنا تأبيد شريعتنا ولا يكاد يبقى خلاف معنوي مع الفقهاء وما ذكرناه إن كان تنبيها لم ( ينتبه ) إليه ( بحث ) الفقهاء ( و ) إشارة إلى تهذيب لفظ في التعرض لإظهار الشرط ( المقدر ) الذي لا بد منه فإذا رجع إلى أن الثابت في علم الله تعالى لا ينسخ التفتتت المذاهب إلى الوفاق فإن وافق القاضي ما ذكرناه فلا خلاف وإن أصر على أن النسخ يتضمن رفعا لم يكن لمذهبه وجه
1422 - والنسخ فيما اخترناه مثل ما نصفه فنقول إذا توجه الأمر الجازم على معين فهو مشروط بأن يبقى إمكانه فإذا اخترم تبينا لم يكن مأمورا فإن توجه الأمر مشروط بالإمكان والأمر وإن كان مطلقا فالإمكان مشروط ( فيه ) وإن لم يجر ذكره تصريحا وقد ذكرنا في ذلك قولا بليغا في كتاب الأوامر ونقلنا في ذلك لجاج القاضي وطريق تتبعه بالنقض مع بناء الأمر على ( امتناع ) تكليف ما لا يطاق
مسألة
1423 - منعت اليهود النسخ وتابعهم على منعه غلاة الروافض من التناسخية وغيرهم وافترق نفاته فرقتين فذهب أكثرهم إلى أن النسخ ممتنع عقلا فنقول لهؤلاء إن زعمتم أن وقوعه مستحيل وأن ( امتناعه من ) جهة استحالة وقوعه فقد جحدتم البديهة فإنا نعلم على اضطرار أن ذلك ممكن الوقوع
1424 - وإن جحدتم ذلك من جهة ان المأمور به الأول مستحسن فلو فرض النهي عنه لتضمن ( ذلك ) كونه مستقبحا وفي ذلك خروجه عن حقيقة الأولى فقد قدمنا في أول الكتاب أن الاستحسان والاستقباح لا يرجعان إلى حقائق الأفعال وصفات ذواتها ثم القول في النسخ غير مفروض فيما يزعم المخالفون أنه حسن لعينه أو قبيح لعينه وإنما تفرض مسائل النسخ في التفاصيل التي تتفق أرباب العقول على أن مداركها الشرع لا غير
1425 - وإن زعموا أن النسخ ممتنع من جهة إفضائه إلى البداء والقديم سبحانه وتعالى متعال عنه فلا حقيقة لهذا فإن البداء إن أريد به تبين ما لم يكن متبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ فإن الرب تعالى كان عالما في أزلة تفاصيل ما يقع فيما لا يزال ولئن كان يلزم من تجدد الإحكام البداء لزم من تجدد الحوادث إماتة وإحياء وإعاشة ( وإرداء ) ما ادعاه هؤلاء وليس الأمر كذلك
1426 - فإن ردوا الامتناع إلى ما يتعلق باستصلاح العباد واستفسادهم فهذا
غير مرضى عندنا في حكم الله تعالى ثم لا يمتنع في غيبه أن يكون الاستصلاح في تبديل الأحكام كلما فتر قوم في امتثال الأحكام أرسل الله تعالى إليهم مبتعثا جديدا بحكم جديد فلا وجه لادعاء الاستحالة من طريق العقل
1427 - وزعم زاعمون أن النسخ ممتنع من جهة السمة وادعى طوائف من اليهود أن موسى عليه السلام أنبأهم أن شريعته مؤبدة إلى قيام الساعة وزعم هؤلاء أن طريق معرفة ذلك من دينهم كطريق معرفتنا بذلك من ديننا
1428 - وهذا باطل من وجهين أحدهما أن الأمر لو كان كذلك لما قامت معجزة عيسى عليه السلام ومعجزة محمد صلى الله عليه و سلم بعده على نسخ ملة موسى فإن أنكروا قيام المعجزة رد الكلام معهم إلى أصل النبوات وكان سبيل إنكارهم معجزة من بعد موسى كسبيل إنكار من يجحد معجزة موسى
1429 - والوجه الثاني أن ما ادعوه من دينهم لو كان صريحا لأظهروه وباحوا به من عصر نبينا عليه السلام ولا تخذوا ذلك أقوى عصمهم ولو فعلوا ذلك لنقله الناقلون متواترا لأن الأمر الخطير لا يخفى وقوعه وتتوفر الدواعي على نقله فقد ثبت جواز النسخ عقلا وشرعا
1430 - ولو أردنا أن نبتدئ الدليل على جوازه فأقرب مسلك فيه التمسك
بمعجزة عيسى بعد موسى عليهما السلام ثم التمسك بالإجماع في تحريم الخمر بعد ثبوت تحليلها في صدر الشرع وهذا على من ينكر النسخ من اهل الملة ممن ينتمي إلى المسلمين ثم نقول لهؤلاء لا شك في مخالفة ( دين نبينا ) محمد صلى الله عليه و سلم دين موسى وعيسى عليهما السلام في معظم قواعد الشريعة فكيف السبيل إلى تصديق الأنبياء مع إنكار النسخ وهذا فيه أكمل مقنع مسألة مترجمة بالنسخ قبل الفعل
1431 - وهذه الترجمة فيها خلل من جهة أن كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سابق والغرض من هذه المسألة أنه إذا فرض ورود أمر بشئ فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به زمن يتسع لفعل المأمور به
1432 - فالذي ذهب إليه أهل الحق جواز ذلك وأطبقت المعتزلة على منعه وساعدهم على ذلك طوائف من الفقهاء
1433 - والدليل على تجويزه كالدليل على تجويز أصل النسخ فالوجه رد الكلام إلى التقاسيم السابقة في مسالك العقول التي يتلقى منها الجواز والاستحالة
1434 - فإذا قالوا النسخ يرجع إلى بيان مدة التكليف وليس رافعا لما ثبت في حكم الله تعالى ( ولو جوزنا النسخ في صورة الخلاف لكان ذلك رافعا للحكم لا محالة
قلنا ما ذكرناه من اختيارنا يجيب عن هذا فإنا نقول النسخ راجع إلى إظهار انتفاء لشرط بقاء الحكم فإن الحكم الموجه مشروط بألا ينسخ فإذا ثبت النسخ قبل انقضاء زمان يسع الفعل بان أنه لا حكم أصلا وهو من طريق التمثيل كزوال إمكان المكلف قبل استتمام الفعل
1435 - وإذا رد المعتزلة الكلام إلى استصلاح العباد لم يخف خلافنا لهم في أصل ذلك ثم لا يبعد في مجاري أحكام الغيب أن يكون الاستصلاح في أن يخاطبوا ويقبلوا ثم يرفع عنهم التكليف حتى يؤجروا على صدق نياتهم ويوفوا مالا يستقلون به في علم الله تعالى
1436 - ثم استدل أصحابنا في تجويز النسخ قبل الفعل بما جرى في قصة الخليل عليه السلام وابنه الذبيح الحق أو إسماعيل عليهم السلام ووجه التمسك أن الأمر بالذبح نسخ قبل وقوعه
1437 - فإن زعم المخالف أن المأمور به كان شدا وربطا وتلا للجبين كان ذلك باطلا من وجهين أحدهما أن الخليل عليه السلام اعتقد وجوب الذبح ( ولو لم يكن ) الأمر كذلك لما كان هذا بلاء عظيما كما أشعر به القرآن العظيم وهذا مقطوع به ويستحيل أن يكون معتقد النبي عليه السلام في الذي خوطب به خطا ثم الفداء دليل على ارتفاع الذبح بعد وقوعه الأمر ( به ) وقيام الفداء مقام ما كان المأمور به من الذبح
1438 - فإن ( تعلقوا ) بقوله تعالى قد صدقت الرؤيا
قيل لهم لم يقل قد حققت ( أوأ ) وقعت ما أمرت به بل قال صدقت وليس من شرط التصديق إيقاع ما يتعلق التصديق به
1439 - وقال بعض المخالفين وقع الذبح وجرت المدية وكانت تقطع ويلتحم ما انقطع وهذا بهت عظيم إذ لو كذلك لكان هذا أحق منقول وأظهر معجزة تتوفر الدواعي على نقلها ونص القرآن مع ما فيه من القيود والقرائن أصدق شاهد في ذلك فإنه قال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ولو كان ذبح لما وقع الاقتصار على ذكر التل للجبين دون وقوع المأمور به ثم ذكر الفداء بعد هذا مشعر بأن الذبح المأمور به لم يقع وأن الفداء قائم مقامه وهذا منتهى المثال في ذلك مسألة
1440 - قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد قوله في نسخ السنة بالكتاب والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع والمسألة دائرة على حرف واحد وهو أن الرسول لا يقول من تلقاء نفسه أمرا وإنما يبلغ ما يؤمر به كيف فرض الأمر ولا امتناع بأن يخبر الرسول الأمة مبلغا بأن حكم آية يذكرها قد رفع عنكم ويرجع حاصل القول في المسألة إلى أن النسخ لا يقع إلا بأمر الله تعالى ولا ناسخ إلا الله والأمر كيف فرض جهات تبليغه لله تعالى فهذا القدر فيه مقنع
1441 - فإن زعم الفقيه أن القرآن معجزة بخلاف السنة فليس المنسوخ نفس القرآن وإنما المنسوخ حكمه ولا إعجازه في الحكم ( و ) هذا عرى عن التحصيل
1442 - وإن تعلقوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فهذا خبر من الله تعالى وليس فيه ما يتضمن استحالة الوقوع وفيها الخلاف بل لا يمتنع تأويل الظواهر ولا وقع لها في القطعيات
1443 - ثم لا محمل لقول القائل لا تنسخ السنة بالقرآن فيقال لمن أنتحل هذا المذهب نزول القرآن بخلاف السنة ممتنع أم لا فإن منعه كان منكرا من القول وإن جوزه وزعم أن الرسول يسن عند نزوله سنة بخلاف السنة الأولى فيقع نسخ السنة بالسنة فهذا من الهزء واللعب والتلاعب بالحقائق وكيف يقدر وقوف النسخ وقد ورد القرآن وبالجملة إلى الله مصير الأمور ومنه النسخ والإثبات والرسول عليه السلام مبلغ في البين وهذا القدر كاف
مسألة مشهورة بالزيادة على النص
1444 - ومدارها على تحقيق تصويرها فإذا ورد نص في شئ ( واقتضى ) وروده الاقتصار على المنصوص عليه والحكم بالإجزاء فكان ذلك مقطوعا تلقيا من اللفظ والفحوى ولو فرضنا زيادة مشروطة لتضمن ثبوتها نسخ الإجزاء في المقدار الأول لا محالة ولا ( يسوغ ) تقدير الخلاف في ذلك
1445 - وإن اقتضى ما ورد به أولا الإجزاء وجواز الاقتصار اقتضاء ظاهرا وكان يتطرق التأويل إليه في منع الإجزاء فلو فرضت زيادة كانت في معنى إزالة الظاهر الأول ولم يتضمن نسخا اعتبارا بكل ظاهر يزال بحكم التأويل وهذا مما لا أرى فيه للخلاف مساغا
1446 - وإذا ثبت هذان الطرفان وهما حظ الأصول فالكلام بعدهما في ألفاظ ظنها الظانون نصوصا وهي ظواهر ثم القول في تفاصيلها مستقصى في ( الأساليب ) ولكنا نضرب للتمثيل صورا منها أن أصحاب أبي حنيفة ظنوا أن من أثبت النية في الطهارة فقد زاد على النص والكلام في ذلك مشهور وأقرب مسلك فيه أنا لا نبعد أن يكون غرض الآية مقصورا على بيان ( أفعال الطهارة ) وتقدير هذا لا يخالف نصا ولا فحوى وليس مع تجويز هذا لإدعاء النص وجه ومنها قوله تعالى في كفارة الظهار فتحرير رقبة قال أصحاب أبي حنيفة
زيادة الإيمان نسخ الأجزاء في الرقبة المطلقة وقد أوضحنا أن هذا تخصيص عموم ومنها قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان قالوا إثبات الشاهد واليمين يخالف هذا الحصر وهذا لا وجه له مع أن هذا الاحتياط مندوب إليه ونحن لا ننكر الندب ( إلى بينة ) كاملة مغنية عن الحلف ومنها قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا الآية مع استدلال الخصم بها في معنى التغريب وهذا من أظهر ما يتمسكون به وليس نصا فإنه لا يمتنع اشتمال الآية على بعض العقوبة وإحالة تمامها إلى بيان الرسول عليه السلام إذ ليس في الآية للرجم في حق المحصن ذكر فهذا بيان حقيقة القول في المسألة مسألة
1447 - أجمع العلماء على أن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون فالقرآن لا ينسخه الخبر المنقول آحادا والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به ووراء ما ذكرناه حقيقة هي كشف الغطاء ونحن نبينها بسؤال وجواب عنه فإن قيل ما المانع من انتصاب دليل قاطع على أن الخبر إذا نقله العدول يجب ترك حكم القرآن عند نقلهم قلنا هذا غير ممتنع لو ورد ولكن لم يرد ثم لو قدر وروده فالنسخ يتلقى من الدليل القاطع والخبر المنقول آحادا في حكم العلم الذي يقع العمل عنده لا به وقد تكرر
هذا الفن مرارا في مسائل هذا المجموع وهذا الذي ذكرناه في الخبر يطرد في القياس أيضا مسألة
1448 - يجوز نسخ رسم آية من القرآن في التلاوة مع بقاء حكمها ويجوز تقدير نسخ حكمها مع بقاء رسمها في آى القرآن وقد منع مانعون من المعتزلة الأمرين وصار إلى منع أحدهما دون الآخر ( على البدل ) صائرون وما ذكرنا في طريق إثبات الجواز في مسالك هذا الكتاب يجري على المنكر للجواز في هذه المسألة ثم الأمر بالتلاوة على نظم القرآن حكم غير القرآن فيؤل القول في الحقيقة إلى نسخ حكم فأما عين القرآن فلا يرد عليه نسخ ( أصلا ) مسألة
1449 - إذا ثبت النسخ ولم يبلغ خبره قوما فهل يثبت النسخ في حقهم قبل بلوغ الخبر إياهم هذا ما أختلف فيه الأصوليون وعندنا أن المسالة إذا حقق تصويرها لم يبق فيها خلاف فإن قيل على من لم يبلغه الخبر الأخذ بحكم الناسخ قبل العلم به فهذا ممتنع عندنا وهو من فن تكليف ما لا يطاق وهو مستحيل في تكليف الطلب وإن أريد بثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الخبر أن الخبر إذا بلغه لزمه تدارك أمر فيما مضى فهذا لا امتناع فيه وإذا ردت المذاهب المطلقة في النفي والإثبات إلى هذا التفصيل لم يبق
للخلاف تحصيل مسألة
1450 - لا يمتنع نسخ الحكم من غير بدل عنه ومنع ذلك جماهير المعتزلة وهذا تحكم منهم والدليل على جوازه ما تمهد في مسألة التجويز في أصل النسخ فلا معنى للإعادة بعد وضوح المقصد مسألة
1451 - إذا ورد نص واستنبط منه قياس ثم نسخ النص تبعه القياس المستنبط ( منه ) وقال أبو حنيفة لا يبطل القياس وإن نسخ النص وقد جرى له هذا المسلك في الأخذ من صوم ( يوم ) عاشوراء ( في ترك حكم التتبييت ) لما اعتقد وجوبه ثم ثبت نسخ وجوبه
1452 - والقول الواقع في ذلك عندنا أن المعنى المستنبط من الأصل الأول إذا نسخ أصله ( بقي ) معنى لا أصل له فإن صح استدلالا نظرنا فيه وإن لم يصح أبطلناه
فصل في الفرق بين النسخ والتخصيص 1453 - قال الفقهاء النسخ تخصيص في الأزمان دون المسميات المندرجة تحت ظاهر اللفظ والمعتزلة يقرب مأخذ كلامهم من مآخذ كلام الفقهاء فإن النسخ عند هؤلاء بيان
معنى اللفظ وأما القاضي فإنه يقول التخصيص بيان المراد باللفظ العام والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته والمختار عندنا أن التخصيص بيان المراد باللفظ والنسخ ( لا تعلق له بمقتضى اللفظ ) ولا يتضمن رفع حكم ثابت ولكنه إظهاره ما ينافي شرط استمرار الحكم الأول كما سبق تقريره ( والله أعلم وأحكم )
1454 - ثم الكتاب وقد نجز بحمد الله ( ومنة ) وحسن توفيقه الغرض من هذا المجموع في الأصول ونحن نرسم بعد ذلك مستعينين بالله تعالى كتابا جامعا في الاجتهاد والفتوى يقع مصنفا برأسه وتتمة لهذا المجموع إن شاء الله تعالى
خاتمة نسخة الشيخ الخضري والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله تم كتاب البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين على يد كاتبه لنفسه عبد الرحمن بن عبد الحي بن محمد الخضري الدمياطي الشافعي الشاذلي الأشعرى في يوم الخميس الثالث من شهر شوال سنة 1336 سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف صلى الله عليه و سلم صلاة لا تنقطع أبدا ولا تفنى أمدا ولا تنحصر عددا هذه خاتمة نسخة الشيخ الخضري التي في ملك نجله الشيخ أحمد كامل الخضري وهي غير الخاتمة الموجودة في نسخة دار الكتب المنقولة عن نسخة مصطفى مكاوي وهذا يشهد لما قلناه عند عرضنا لنسخ الكتاب ( انظر المقدمة )
ملحق البرهان الكتاب السادس كتاب الاجتهاد 1455 - ونحن نصدر هذا الكتاب بالكلام في تصويب المجتهدين ونردفه بمسألتين فيهما إنجاز الكتاب فإن معظم أحكام الاجتهاد تذكر في كتاب الفتاوى فنقول قد اضطرب الأصوليون في أن المجتهدين في المظنونات وأحكام الشريعة مصيبون على الإطلاق أم المصيب منهم واحد وهذا بعد إطباقهم على أن المصيب فيما اختلف فيه اجتهاد المجتهدين في المعقولات
وقواعد العقائد واحد والباقون على الزلل والخطأ
1456 - ولم يؤثر فيه خلاف إلا عن المعروف بالعنبري فإنه نقل عنه أن كل مجتهد مصيب في المعقولات والمظنونات جمعيا وهذا لا بد أن نتكلف له محملا ونبين له وجها ثم نزيفه إذ لا يظن بذي عقل أن يقول الاجتهادات الواقعة في أصل الملل والنحل كالاجتهادات الواقعة في حدث العالم وقدمه ووجود الصانع كالاجتهاد في المظنونات حتى يصوب فيه كل مجتهد ولو قال بهذا أحد لكان انسلالا عن الدين بالكلية وكيف يعتقد ذلك ( والعلم ) أحد الجانبين وما يعارضه جهل فكيف يعتقد الجاهل مصيبا
1457 - ولعل هذا القائل أراد بذلك أن النظر إذا انحط عن أصول الملل والنحل وانخرط في سلك الشريعة ثم تباينت الآراء وتفاوتت الأهواء كاختلافها في خلق الاعمال ونفيه وإرادة الكائنات وقدم القرآن ( وثباته الخاطئ ) فيه ببديع فمثل هذا يصوب فيه كل مجتهد
1458 - وغاية الإمكان في تقرير هذا المذهب أن يقال مطالب الخلق الوصول إلى الحق ولكن اكتفى منهم بعقدهم عليه ( مصممون ) فإذا خاضوا في طلب الحق ولم يحتمل عقلهم إلا ما اعتقدوه فيعذرون على اعتقادهم ولا يوبخون ولا نقول مع هذا إن معتقداتهم صحيحة أو يلزم من ذلك أن يكون التشبيه حقا ولا وجه له ولكن نقول يعذرون لأنهم تكلفوا ذلك ولم تحتمل عقولهم إلا ما اعتقدوه والذي يستند إليه نهاية هذا التقرير أن الأعراب في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يسألون والرسول عليه السلام يعلمهم تفاصيل أحكام الشريعة وكيفية الاستنجاء وتدوير الأحجار على الصفحات ولو كان البحث عن هذه الحقائق واجبا لكان ذلك أحرى بالتقديم ولكان يعلمهم ذلك
فاستبان بمجموع ذلك أن الخطأ في أمر لم يكلف بأصله سهل المدرك
1459 - وهذا مع ما أطنبنا فيه مزيف فإنا نقول لهم إن عنيتم بقولكم إن النظر في هذه الأبواب لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسلم وإن عنيتم به الاستغناء عنه في زماننا هذا فلا فإن البدع بعد قد ظهرت والفتن قد بدت ولا سبيل إلى تقرير المبتدعة على معتقداتهم ليفشوها ويدعوا الناس إليها وهذا لأنا نعلم على الاضطرار أن مبتدعا لو أظهر في عصر الصحابة رضي الله عنهم بدعة لكانوا يبالغون في تقريعه وتوبيخه فإذا لم يكن من التقريع بد جاز أن يكون البحث عنه مأمورا به
1460 - على أنا نقول هب أنه لم يؤمر به ولكنه يجوز أن يقال إذا خضت فيه فابغ درك اليقين ولا تقنع بما عداه وقولهم إن عقلهم لا يحتمل إلا ما اعتقدوه قلنا عقل من احتمل التنزيه كعقل من اعتقد التشبيه وإن عنيتم أنه لم يحتمل التنزيه فهو قائل للحق إذا ثم جاز أن ينتهض هذا عذرا لجاز أن يصوب اليهود على معنى بأنهم يعذرون لأنه لم يحتمل عقلهم إلا التهود وكذلك النصارى والمجوس فقد بطل هذا المذهب واستبان أن المصيب في المعقولات واحد
1461 - فأما المظنونات فقد اشتهر الخلاف فيه فصار القاضي وشيخنا أبو الحسن إلى تصويب المجتهدين وتابعهم الطبقة الغالبة ونقل القاضي عن الشافعي مثل مذهبة وقال لولا أن مذهبه هذا وإلا ما عددته من الأصولية
1462 - وصار الأستاذ أبو إسحاق إلى أن المصيب واحد ثم قال لمن يصوب المجتهدين هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي
1463 - ثم الذين قالوا بالتصويب انقسموا قسمين فصار المقتصدون منهم إلى أن الوقائع العرية عن النصوص والإجماع ليس لله فيها حكم معين ولكن على الناظر فيها الطلب والاجتهاد فإذا غلب على ظنه أمر فحكم الله عليه إتباع غلبة ظنه وموجبه
1464 - وأما الغلاة فإنهم قالوا لا مطلوب في الإجتهاد ولا اجتهاد فيفعل ما يختار أي الطرفين يشاء وعن هذا قال الأستاذ آخره زندقة إثبات الخيرة ورفع الحجة وتفويض الأمر إلى اختيار المريد وأوله سفسطة فإنه تحليل شئ محرم وعلى العكس
1465 - وأما الذين قالوا المصيب واحد ( فقد ) انقسموا أيضا انقسام الفرقة الأولى فصار المقتصدون إلى أن من أصاب منهما فله أجران والمخطئ معذور وأما الغلاة فإنهم قالوا المخطئ آثم معاقب معاتب ونحن نذكر ما لكل فريق مع التنبيه عليه ثم نذكر المختار عندنا
1466 - فأما الذين قالوا المصيب واحد فقد قالوا يستحيل أن يكون الشئ الواحد حلالا حراما فإنهما متناقضان متنافيان فقيل لهم الميتة حرام على غير المضطر وهي على المضطر حلال قالوا تفاوت الأحكام في التحليل والتحريم في حق شخصين قلنا ومن أوجب إتباع الظن يعتقد موجب الظنين صوابا وهما ظنان أيضا من شخصين
1467 - فإن قالوا إذا قلتم المصيب الواحد فالمستشفى يستفتى أيهما ( شاء )
قلنا وأنتم إذا صركم إلى أن المصيب كلاهما فالمستفتي يراجع منهما من فإن قلتم يراجع الأفضل الأورع قلنا كذلك إذا قلنا المصيب واحد فإن فرضوا مفتيه تحت مفت قال لها الزوج أنت بائن واعتقد الزوج أن لفظ البينونة لا يقطع الرجعة لكونها كناية واعتقدت الزوجة أن الكنايات تقطع الرجعة قالوا فإذا قلتم المصيب من المجتهدين واحد فكيف ينتظم الأمر بينهما ويفصل الأمر على أي رأي قلنا وأنتم إذا قلتم المصيب كلاهما فكيف تقطع الخصومة ولا سبيل إلى الجمع بينهما والصورة كما فرضتموها قال الأستاذ أبو إسحاق التحريم مقصود وله مسلك في الشريعة وللتحليل مسلك وله مطلب مقصود في الشريعة ومسلك التحريم والتحليل على المضادة والمناقضة فكيف نعتقد مسلكين متنافيين على حكم في محل متحد
1468 - وهذا فيه بعض النظر لأن من الخصوم من يعلو قبيله المطلوب بالنظر والاجتهاد ويثبت الخيرة فأنى يفند هذا الكلام معهم هذا منتهى ما يستدل به هؤلاء مع الإيجاز
1469 - وإما الذين صاروا إلى التصويب فمعتمدهم أنهم قالوا لا شك أن كل مجتهد يعمل بموجب اجتهاده هذا لا خلاف فيه بلا مرية وريب فالذي أدى اجتهاده إلى التحليل يلزمه العمل بموجب اجتهاده والذي أفضى اجتهاده إلى التحريم يحتم عليه الجريان على مقتضى اجتهاده ووجوب العمل بمقتضى الاجتهادين من أمر الله تعالى وإيجابه
1470 - فالمعنى بقولنا أنهما مصيبان أنهما فعلا ما كان الواجب عليهما في ذلك ويجوز أن يوجب البارئ تعالى حكما على شخص ويوجب على غيره خلافه فإن قيل بم تنكرون على من يزعم أن الواجب طلب الحق ودرك اليقين
وإحكام الآت الاجتهاد والتزام المستند في سبر الرشاد مفض إليه فأحد المجتهدين لما خالف مطلب التأني كان مقصرا في اجتهاده إذ لو أتم الاجتهاد على ما ينبغي لاتحد مطلب الاجتهادين قلنا أليس وجب عليه بإيجاب الله تعالى وأمره العمل بموجب الاجتهاد الذي هو مخطئ فيه فالواجب عليه ذلك فقد أصاب الحق وأما وهي الاجتهاد والتقصير في انقسامه فلا معنى له ولأن الاجتهاد ليس هو إلا طلبا فيه غلبة ظن وإذا أنتج غلبة الظن فقد أتم المقصود وإنهاء الاجتهاد نهايته مما يستحيل أن يخاطب به فإن غايته مجهولة ليست معلومة مفهومة مضبوطة فالأمر بإنهائه إلى نهاية غير مضبوطة تكليف ما لا يطاق وإذا لم يكلف ذلك فقد أدى من الاجتهاد ما أفاد غلبة الظن والشرع اوجب عليه العمل بموجبه فيبعد أن يوجب الشرع عليه عملا ثم يحكم بأنه مخطئ ( فيما ) أوجب الجريان عليه
1471 - فإذا حصلت الإحاطة بهذه الطرق فأقول المختار عندي أمر ملتفت وكأنه ملتقط من الطرفين وهو يجمع المحاسن وذلك أنا نقول للأستاذ إن عنيت بتخطئة أحدهما أنه لا يجب العمل بموجب غلبة الظن فهذا إنكار ما لا وجه لإنكاره إذ المجتهد إذا غلب على ظنه أمر فأمر الله عليه إتباع موجب ( ظنه ) ولا أن يناط لظنه غيره فيتأثر به وإن عنيت به أنه كلف المجتهد وراء غلبة الظن بتحصيل أمر آخر فلا وجه له أيضا إذ الامر والاجتهاد ينضبط به وغلبة الظن حاصل
1472 - وأما القاضي فنقول له إن عنيت بالتصويب وجوب العمل عليهما على وفق ظنهما فهذا مسلم وإن عنيت به رفع الاجتهاد وإثبات الخيرة واعتقاد التسوية بين التحليل والتحريم فهذا أمر يناقض وضع الشريعة على القطع وهذا معلوم على الضرورة
وبالبديهة وإن عنيت به أن لا حكم لله تعالى في الوقائع على التعيين فهذا أيضا جحد لأن الطلب لا ليستقل بنفسه ولا بد من مطلوب ويستحيل فرض طلب لا مطلوب له فإن الباحث عن كون زيد في الدار ( يقدر ) كونه فيه ويقدر أيضا خلافه ثم يطلب الوقوف على أحد الأمرين الذي هو الحقيقة ( فكذلك ) المجتهد إذا وقعت واقعة بطلب النصوص من الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم إن أعوز المطلوب فيه فينظر في قواعد الشريعة يحاول إلحاقا ( ويريد ) جمعا ويطلب شبها فيخل في نفسه وجود التشبه ثم يجتهد في طلب الأشبه فالمطلوب هو الأشبه
1473 - إذا ثبت هذا وتقرر أنه لا تخلوا واقعة عن حكم الله فنقول المجتهد مصيب من حيث عمل بموجب الظن بأمر الله مخطئ إذا لم ينه اجتهاده إلى منتهى حصل العثور على حكم الله في الواقعة وهذا هو المختار ونبين ذلك بمثالين أحدهما أن المجتهد إذا اجتهد في واقعة حكم الله فيها التحريم ثم اجتهاده أدرك التحريم فهو مصيب من كل وجه وإذا اجتهد الثاني فغلب ظنه الكراهة فعمل به فهو مصيب من حيث إنه وجب عليه العمل بالكراهة مخطئ من حيث إنه لم يدرك التحريم والمثال الثاني إذا اشتبه صوب القبلة فاجتهد أحدهما فأدرك صوب القبلة فاستقبله فهو مصيب في الجريان على مقتضى الاجتهاد عملا ومصيب من حيث إنه أدرك حكم الله فيه وإذا اجتهد الثاني وغلب على ظنه أن القبلة في صوب آخر فعليه أن يستقبله
وهو مصيب في استقباله مخطئ من حيث إنه لم يدرك صوب الكعبة الذي هو نهاية مطلوبه وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره فإن صوب القبلة واحد وهو متعين في علم الله لوجوب الاستقبال
1474 - فإن قال القاضي المجتهد لم يكلف طلب الكعبة وإنما أمر بتحصيل غلبة الظن إذ لو أمر بطلب صوب الكعبة فهو متعين وعليه أمارات يتصور الوقوف عليها على اليقين فلو كان كذلك لما ساغ له استقبال غيره بالاجتهاد وأما المظنونات فهي مشتبكة الطرق لا سبيل إلى حسم مواردها ومسالكها ولا يكون المظنون قط إلا مظنونا فلا يحصل له فيه علم فدل على أنه لا حكم لله فيه وعلى اليقين
1475 - قلنا نعم لا يتصور حصول علم فيه ولكن يتصور ظنه وللظنون مسالك وفوائد كما للعلوم وهو لم يكلف إلا تحصيل غلبة الظن في إنه ظفر بالأشبه وفي الحقيقة يئول الخلاف إلى لفظ إذ لا يستجيز مسلم تأثيم مجتهد وإذا ارتفع التأثيم وحصل الاتفاق على أن كلا يعمل بغلبة ظنه لم يبق للخلاف أثر ولكن شوفنا فيما أوردناه وردناه عودا على بدأ ان تبين أن للمجتهد مطلوبا ه هو شوفه وهو طلب الأشبه والأقرب ثم إن تعارضت ( الأشباه ) وانحسم مسالك الترجح فقد نقول هذه واقعة خلت عن حكم الله تعالى على ما سيأتى ونحن ننجز الأن المسألتين الموعودتين فيهما يتم الغرض مسألة
1476 - رددنا في كلامنا أن شوف الناظرين من الطالبين الأشبه وهذا قد اختلف الأئمة في حقيقة الأشبه الذي هو المطلوب فقال قائلون هو الذي يلوح للناظر فيه المشابهة والمقاربة ولا تنطبع عنه عبارة وهذا هذيان لا حاصل له وراءه
1477 - وقال ابن سريج الأشبه المطلوب هو الذي يغلب على الظن عند تقدير
ورود الشرع بحكم في المحل أنه كان ينص على ذلك الحكم وهذا حكم على الغيب
1478 - فإذا الذي عليه التعويل أنا نقول المسألة إذا ترددت بين أصلين في التحريم والتحليل ويجاذبهما أصل التحريم وأصل التحليل فالمطلوب تقرير الأشبه فإن كانت أشبه بأصل التحريم فالمطلوب الذي هو نهاية التشوف والتحريم وإن كانت على العكس فالتشوف التحليل ومن يسبق إلى الأشبه فله أجرا مصيب فيهما وإن أخطأ الشوف فهو مصيب في العمل مخطئ نهاية الشوف فكأن الذي لم ينته إلى نهاية الشوف مصيب من وجه مخطئ من وجه
1479 - فإن قال قائل مذهب أبي حنيفة أن كل مجتهد مصيب فما الفرق بينه وبينكم قلت إن عنى بالتصويب وجوب العمل فهو متابع عليه وإن عنى أنه مصيب غاية الشوف ففيه النزاع وإن عنى به أنه مصيب في الاجتهاد دون العمل فهو محال فإن كان المعنى به ما فصلنا في اختيارنا فلا ( نتبرأ ) عن أبي حنيفة أنى نطق بالحق ولا يحتج لوفاقه في الأصول ومطالب القطع لوفاقه مسألة
1480 - المجتهد إذا اجتهد وعمل ثم تبين أنه أخطأ نصا فلا شك أنه يرجع إلى مقتضى النص وهل يتدارك ما أمضاه ( فيه ) تردد فقهي والغرض الأصولى أنه إذا تبين أنه أخطأ نصا فهل يصوب فأما الذين صاروا إلى التخطئة في المظنونات فلا شك أنهم يقطعون بتخطئته وأما المصوبون فإنهم اختلفوا فمنهم من غلطه وخطاه ومنهم القاضي لأن التصويب كان لارتفاع المطلوب
وتخيل أن لا حكم لله فيه على اليقين وها هنا الحكم متعين بالنص وقد أخطأ لما لم يصبه وغلا من هؤلاء غالون فقالوا يأثم المجتهد لغفلته عن النص ومنهم من عذره وقال هو مخطئ غير آثم وصار بعض الغلاة من المصوبة إلى تصويبه وإن خالف نصا واستدلوا بأن قالوا إذا خفي النص وجب عليه الاجتهاد وإذا اجتهد مرتسما ما وجب عليه وأدى اجتهاده إلى أمر غلب على ظنه أنه الحكم وجب عليه العمل به فإذا عمل ما وجب فقد أصاب
1481 - والمختار عندي ما قدمته فإن الأشبه الذي هو شوف الطالبين فيما عدم النص فيه ( كالنص ) في محل وجوده فيخرج منه أن الذي أخطأ النص والشوف مصيب من جهة العمل مخطئ من حيث إنه لم ينته إلى نهاية الشوف ولا فرق بين قصور النظر عن الأشبه أو درك النص فما فيه الكلام وإن كان النص يفيد ركون النفس ولا يفيد الأشبه إلا غلبة الظن والله أعلم
-
الكتاب السابع كتاب الفتوى 1482 - ( المفتي ) مناط الأحكام وهو ملاذ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال ولك ينكر واحد ولا سبق إلى إنكاره من لا اعتبار به اتهم في دينه كيف والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون فيتبعون ويقضون فينفذون وكذلك من لدن عصرهم إلى زماننا هذا ثم مقاصد الكتاب يحصرها فصول
فصل 1483 - في صفات المفتي والأوصاف التي يشترط استجماعه لها وقد عد الأستاذ فيه أربعين خصلة ونحن نذكر ذلك في عبارات وجيزة فنقول يشترط أن يكون المفتي بالغا فإن الصبي وإن بلغ رتبة الاجتهاد وتيسر عليه درك الأحكام فلا ثقة بنظره وطلبه فالبالغ هو الذي يعتمد قوله
1484 - وينبغي أن يكون المفتي عالما باللغة فإن الشريعة عربية وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة من يفهمه يعرف اللغة ثم لا يشترط أن يكون غواصا في بحور اللغة متعمقا فيها لأن ما يتعلق بمأخذ الشريعة من اللغة محصور مضبوط وقد قيل لا غريب في القرآن من اللغة ولا غريب في اللغة إلا والقرآن يشتمل عليه لأن إعجاز القرآن في نظمه وكما لا يشترط معرفة الغرائب لا ( نكتفي ) بأن يعول في معرفة ما يحتاج إليه
على الكتاب لأن في اللغة استعارات وتجوزات قد يوافق ذلك مآخذ الشريعة وقد يختص به العرب بمذاق ينفردون به في فهم المعاني وأيضا فإن المعاني يتعلق معظمها بفهم النظم والسياق ومراجعة كتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ فأما ما يدل عليه النظم والسياق فلا ويشترط أن يكون المفتي عالما بالنحو والإعراب فقد يختلف باختلافه معاني الألفاظ ومقاصدها
1485 - ويشترط أن يكون عالما بالقرآن فإنه أصل الإحكام ومنبع تفاصيل الإسلام ولا ينبغي أن يقنع فيه بما يفهمه من لغته فإن معظم التفاسير يعتمد النقل وليس له أن يعتمد في نقله على الكتب والتصانيف فينبغي أن يحصل لنفسه علما بحقيقته ومعرفة الناسخ والمنسوخ لا بد منه 1486 وعلم الأصول أصل الباب حتى لا يقدم مؤخرا ولا يؤخر مقدما ويستبين مراتب الأدلة والحجج
1487 - وعلم التواريخ مما تمس الحاجة إليه في معرفة الناسخ والمنسوخ
1488 - وعلم الحديث والميز بين الصحيح والسقيم والمقبول والمطعون
1489 - وعلم الفقه وهو معرفة الأحكام الثابتة المستقرة الممهدة
1490 - ثم يشترط وراء ذلك كله فقه النفس فهو رأس مال المجتهد ولا يتأتى كسبه فإن جبل على ذلك فهو المراد وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب
1491 - وعبروا عن جملة ذلك بأن المفتي من يستقل بمعرفة أحكام الشريعة نصا واستنباطا فقولهم نصا يشير إلى معرفة اللغة والتفسير والحديث وقولهم استنباطا يشير إلى معرفة الأصول والأقيسة وطرقها وفقه النفس
1492 - والمختار عندنا أن المفتي من يسهل عليه درك أحكام الشريعة وهذا لا بد فيه من معرفة اللغة والتفسير وأما الحديث فيكتفي فيه بالتقليد وتيسير
الوصول إلى دركه بمراجعة الكتب المرتبة المهذبة ومعرفة الأصول لا بد ( منه ) وفقه النفس هو الدستور والفقه لا بد منه فهو المستند ولكن لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه في حالة واحدة ولكن إذا تمكن من دركه فهو كاف
فصل
1493 - ويشترط أن يكون المفتى عدلا لأن الفاسق وإن أدرك فلا يصلح قوله للإعتماد كقوله الصبى
1494 - معقود فيمن كان مجتهدا من الصحابة فلا يخفي على ذي بصيرة أن الخلفاء الراشدين كانوا مجتهدين مفتين لأنهم تصدوا ( للإمامة ) ولا يصلح لها إلا مجتهد وكانوا يفتون في زمنهم ويقضون ويحكمون وينفذون ولم يعترض عليهم ( فدل ) ذلك على القطع بأنهم كانوا مفتين
1495 - وأما أصحاب الشورى وهم طلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد ( والزبير ) وكان معهم عثمان وعلي إلا أنا قطعنا بأنهم كانا مفتيين فقال قائلون هؤلاء مجتهدون لأن عمر رضي الله عنه أسهم الخلافة بينهم وألقاها فيهم فدل على أنهم مستصلحون للإمامة ولا يصلح لها إلا مجتهد
1496 - قال القاضي وهذا الاستدلال ضعيف فإن عمر لم يفوضها إلى أحدهم ولذلك كان إذا ذكر واحد منهم له قال فيه قولا فذكر له الزبير فقال صاحب المد والصاع فإنه كان تاجرا فبين أن هذه المرتبة
العلية تترقى عن أفعال تلائم الخسة والركاكة وتفتقر إلى كمال العقل والثبات فذكر له سعد فقال صاحب مقت فذكر له طلحة فقال إنه ذو خير وإنه ذو استكبار فذكر له علي فقال لو وليتموه ليولين بني أبي معيط ولو ولاهم لتثورن الثوار والله لو فعلتم ذلك ليفعلن والله لو فعل ليفعلن ثم قال هذا أمر تقلدته حيا فلا أتقلده ميتا فدل على أنه لم يقطع بصلاح كل واحد منهم لهذا الشأن
1497 - وأما أبو هريرة فقال القاضي كان ناقلا وما كان مفتيا والمختار عندي في هذه التفاصيل ما نقول من تصدى للفتوى في زمان وشاع ذلك واستفاض ولم يبد من أهل الفتوى عليه نكير كان مفتيا وعليه بنينا القول في الخلفاء الراشدين فإنه ما كان يخفى أمرهم وعبد الله بن مسعود كان فقيه الصحابة وكذلك العبادله الأربعة لا يخفى تصديهم للفتوى وأما أبو هريرة فقد كثرت روايته ولم يتبين لنا أنه كان يفتى فالوجه أن نقول من كان يفتى في زمانهم ولم ينكروا فهو مفت ومن لم يفت فيهم نقطع القول بأنه ما كان مفتيا ومن ترددنا فيه نتردد في كونه مجتهدا مفتيا والشافعي قلد معاوية في مسألة وذلك يدل على أنه كان مجتهدا
1498 - وأما من انحط عنهم من التابعين فللشافعي عن الحسن البصري كلام ونحن نكلف أنفسنا عن تعدادهم فقد ذكرنا المختار وعليه يخرج كل كلام مقصود من
هذا الفن
1499 - وأما مالك رضي الله عنه فكان تدواره على النصوص حتى كان معظم أجوبته في المسائل الخالية من النصوص لا أدرى وقد اشتهر مذهبه في استصلاحات مرسلة يراها انسلت تلك القواعد عن ضبط الشريعة وقدم مذاهب أهل المدينة على الأحاديث الصحيحة
1500 - وأما أبو حنيفة فما كان من المجتهدين أصلا لأنه لم يعرف العربية حتى قال لو رماه بأبا قبيس وهذا لا يخفى على من شدا أدنى شيء من العربية ولم يعرف الأحاديث حتى رضي بقبول كل سقيم ومخالفة كل صحيح ولم يعرف الأصول حتى قدم الأقيسة على الأحاديث ولعدم فقه نفسه اضطرب مذهبه وتناقض وتهافت فلا يخفى أن الشريعة مجامعها ( الحث ) على مكارم الأخلاق والنهي عن الفواحش والموبقات ( وإباحة نفي في المحرمات ) ( فمن ) صار في العقوبة الآيلة إلى حقوق الآدمي مثل القصاص إلى إسقاطه بالمثقل فقد خرجت القاعدة التي لأجلها ثبت القصاص حيث قال تعالى ولكم في القصاص حياة ثم ترقى من نفي القصاص إلى إنكار الحس فحكم بكونه خطأ حتى ضرب العقل على العاقلة وأثبت فيه الكفارة مع نفيه الكفارة عن العمد وصار في العقوبات الثابتة لله تعالى إلى أن قطع السرقة يسقط فيما كان أصله على الإباحة والأشياء الرطبة ويضم ما لا قطع فيه إليه ( وحرم انهه العبادات بترتيب أقل ما يجري من الصلاة ) وأبطل مقصود الزكوات حيث أنكر وجوبها على الفور ثم
أسقطها بالموت ثم حج ذلك باعتقاده تغير حكم الله تعالى بقبول كل قاض فأباح زوجة زيد لعمرو بغير طلاق من زيد ومن غير عدة ولا نكاح من عمرو وبشهادة زور ودعوى باطلة ولم ير القصاص في القتل بالمثقل وكان يقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فقال كل فقه بعدك حرام ووقع ذلك منه موقعا عظيما وعن هذا قيل استتيب أبو حنيفة من الإرجاء مرتين فإن هذا مذهب ( المرجئة ) فكيف يظن وحاله هذا مجتهدا
1501 - وأما الشافعي فقد استبان تبحره في اللغة ولهذا قال حبر الصناعة الأصمعي صححت دواوين الهذليين على شاب من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي أما الأصول فهو أول من صنف فيه وأما فقه النفس وغيره فيتبين في كيفية ترتيبه الأدلة في الفصل ( التالي ) إن شاء الله
فصل 1502 - ذكر الشافعي في الرسالة ترتيبا حسنا فقال إذا وقعت واقعة فأحوج
المجتهد إلى طلب الحكم فيها فينظر أولا في نصوص الكتاب فإن وجد مسلكا دالا على الحكم فهو المراد وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة فإن وجده وإلا انحط إلى نصوص أخبار الآحاد فإن عثر على مغزاه وإلا انعطف على ظواهر الكتاب فإن وجد ظاهرا لم يعمل بموجبه حتى يبحث عن المخصصات فإن لاح له مخصص ترك العمل بفحوى الظاهر وإن لم يتبين مخصص طرد العمل بمقتضاه ثم إن لم يجد في الكتاب ظاهرا نزل عنه إلى ظواهر الأخبار المتواترة مع انتفاء المختص ثم إلى أخبار الآحاد
1503 - فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات لم يخض في القياس بعد ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة وعد الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في المثقل فإن نفيه يخرم قاعدة الزجر ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة التفت إلى مواضع الإجماع فإن وجدهم أطبقوا على حكم نصوا عليه فقد كفوه مؤنة البحث والفحص
1504 - فإن عدم ذلك خاض في القياس ونظر فإن وجد الواقعة في معنى المنصوص عليه فلا يثقل عليه سبر الطرق فإن أعوزه فيقيس ويطلب الإخالة والمناسبة والإشعار فإذا هجم عليه عمل به إذا لم يعارضه مثله فإن عارضه ما يوازيه في الإخالة يكلف الترجيح فإن استويا في طرق التلويح لم يفت بواحد منهما فإن تعسر عليه وجدان المخيل طلب الشبه إن جعلناه حجة لا مزيد على هذا الترتيب إلا أن ( يعينه الرب ) فإنه لو قدم الإجماع ليفتي به جاز فإنه مقدم على كل مسلك في المرتبة العلية والله أعلم
فصل
1505 - المجتهد في القبلة إذا كان من أهل الاجتهاد وضاق الوقت وخاف فوات الصلاة لو اشتغل بالإجتهاد فله أن يقلد مجتهدا آخر
1506 - وكذلك المجتهد إذا استشعر الفوات لو اشتغل بالاجتهاد في الأحكام فله أن يقلد مجتهدا
1507 - فأما المجتهد لو أراد التقليد مع سعة الوقت وإمكان الاجتهاد قال الشافعي ليس له أن يقلد بل عليه أن يجتهد وسلك الأستاذ أبو إسحاق في تقرير هذا المذهب مسلكا فقال ذكرنا مراتب الأدلة ودرجاتها وبينا أن النصوص مقدمة على غيرها ثم اجتهاد المرء في حقه يضاهي النص واجتهاد غيره في حقه بمثابة القياس فيجب أن يقدم اجتهاده على اجتهاد غيره كما يقدم النص على القياس
1508 - وهذا فيه خلل لأننا نقول من أين قلت ومن أين تلقيت ولم جعلت الاجتهاد كالنص واجتهاد الغير كالقياس والاجتهاد متبع ( في أي ) وقت بأن يكون المقلد عاميا أو مجتهدا
1509 - وسلك القاضي فيه مسلكا آخر فقال قول الغير لا يتبع إلا بدليل قاطع فإنا لم نقبل قول النبي إلا بمعجزة قاطعة دلت على الصدق وقد قام دليل قاطع على وجوب إتباع اجتهاد المجتهد ولم يقم دليل قاطع على وجوب إتباع المجتهد المجتهد في اجتهاده وانتفاء القاطع دليل قاطع على منع الإتباع وطرد هذا في الأخبار فقال كل ما دل قاطع على رده رددناه وما دل قاطع على قبوله قبلناه وما ترددنا فيه فانتفاء القاطع دليل على رده
1510 - ونحن لا نرى هذا إذ نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في قبول الأحاديث ثم من صار إلى قبولها لم يبال بخلاف من ردها وكان تقضي بها فالمتردد لم يقم دليلا على الرد وكذلك تقليد المجتهد وما دل على وجوب الإتباع
( يتبعه ) وما دل الدليل فيه على الرد فنرده وما ترددنا فيه فالمسألة في مظله الاجتهاد وهو محل التحري والتوخي وذلك من شأن الفقهاء وحظ الأصول منه ما ذكرناه
فصل 1511 - لا يخفى أن المقلد ليس له ان يقلد غيره إلا بعد نظر واجتهاد وقد اختلفوا فيما عليه
1512 - فقال القاضي في ( التقريب ) عليه ان يتلقف مسائل من كل فن مما يحتاج المفتي إلى معرفته من الأحاديث وغرائبه والقرآن ومشكلاته ومسائل الفقه فيمتحن من يوقع تقليده به فإن أصاب في الكل قلده وإن أخطأ فيه أو في البعض وقف في إتباعه ولا بد أن يخبره عدلان بأنه مجتهد
1513 - قال الأستاذ أبو بكر بن فورك إذا قال المفتي أنا مجتهد اعتمده واتبعه ويكتفي بأخباره وقال الآخرون لا بد من أن تستقصي كونه مجتهدا أو يتوافر ذلك بالتسامع
1514 - فنقول أما اشتراط الامتحان فلا وجه له فإنا نعلم أن الأجلاف من العرب كانوا يستفتون المجتهدين من الصحابة وما كانوا بمختبرة لهم فاشتراطه بعيد وأما التسامع فلا اعتبار به لأن المخبرين لا يخبرون عن محسوس وإنما يلهجون به عن قول مخبرين فلا ثقة بقولهم فإذا لعل المختار أن المفتي إذا قال أنا مفت صدق إذ كان عدلا واتبع والله أعلم
فصل
1515 - اختلف أهل الأصول في أن المستفتي هل يجب عليه أن يستفتي الأفضل أم له أن يراجع من هو دونه إذا كان مجتهدا قال قائلون يتحتم مراجعة
الأفضل لأن المقصود من المراجعة حصول الثقة بأمر الله تعالى والثقة في مراجعة الأفضل أكمل فمراجعته أولى وهذا يتأيد بوجوب تقديم الأفضل في الإمامة الكبرى
1516 - والمختار عندي أن الإمامة العظمى يتعين ( لها ) الأفضل لأن المقصود منه المصلحة وفي إتباع الأفضل المصلحة أظهر إلا أنا نقول إذا حصلت المتابعة من واحد أو من جمع لذي نجدة وشوكة فلا يخلع لنبايع الأفضل لأن فيه إظهار المفسدة ثوران نفتن أو كذلك إذا ( بويع ) المفضول ثم نشأ من هو أفضل منه ولم يخلع المفضول ولم يخلع لأنه إذا كان الأول صاحب شوكة كان خلعه مقتضيا إلى نقيض المقصود من الإمامة وأما الفتوى فعندي أنه لا تجب مراجعة الأفضل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يراجعون المفتين مع توافرهم وما كانوا يقتصرون على مراجعة من كان أفضلهم والله أعلم مسألة
1517 - إذا وقعت واقعة واستفتى فيها المستفتي ثم وقعت ثانية تلك الواقعة فهل يلزمه المراجعة ثانيا اختلفوا فيه فقال قائلون يلزم ذلك لأن الاجتهاد يتغير والمسؤل إذا سئل ثانيا لزمه تجديد الاجتهاد فإن نتيجة الإجتهاد في حقه كوحي يتصور نسخه
1518 - وعندي أن الفتوى الأولى إذا استقرت إلى قطع من نص فلا يلزمه المراجعة ثانيا لأنه لا يتصور تغيره وكذلك إذا كانت المسالة في مظنه الاجتهاد وعسر المراجعة في كل دفعة بأن كان يحتاج إلى انتقال وسفر والسبب فيه أنا نعلم أن أهل الفيافي كانوا يستفتون في عصر الصحابة مرة وكانوا يتخذون الإجوبة قدوتهم عند تكرار تلك الواقعة وكذلك إذا كانت المسألة فيما يتواتر ويتكرر كالاستنجاء والصلاة فقد يتكرر في كل يوم دفعات فإيجاب المراجعة في كل مرة تكليف مشقة وما عداه فعلى ما قاله الأولون
ولسنا نجعل المشقة دليلا فيما ( استقناه ) آخرا بل نستبين ( معظم المشقة ) أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يفعلونه بل يتسامحون فيه والله أعلم مسألة
1519 - الواقعة إذا ترددت بين مفتيين مستجمعين خلال الاجتهاد وتناقض جوابهما نفيا وإثباتا فالمتغني يتبع الأعلم والأورع فإن استويا في الفضل والعلم واختص أحدهما 0 بمزيد ) في الورع اتبع الأورع وإن استويا في الورع وكان أحدهما أفضل قلد الأفضل وإن أختص احدهما بتقدم في الورع وعارضها زيادة ورع في الجانب الثاني قدم الأفضل فاتباع الأعلم أولى فإما إذا استويا في الورع والفضل فقد اختلف الأصوليون فيه فقال قائلون يؤخذ بالأشد والأغلظ وقال آخرون يراجع نفسه فما شهد بصحته خاطرة وفكره عمل به وقال آخرون يتخير إن شاء عمل بهذا وإن شاء عمل بغيره وتفصيل القول في هذا يستدعي تقديم فصلين أحدهما القول في تقدير فتور الشرائع والثاني جواز خلو بعض الوقائع عن حكم الله تعالى فإذا التجز ننعطف إذ ذاك على المسألة ونرى المختار فيه فأما القول في فتور الشرائع فنذكره في فصلين أحدهما في تقدير فتور الشرائع
قبلنا والثاني في تجويز فتور شريعتنا
فصل 1520 - فأما الشرائع السالفة فمذهب عصبة الحق وبعض المخالفين من المعتزلة أنه يجوز تقدير فتورها وذهب الكعبي إلى منعه وهذا ( بناه ) على أصل له وهو أنه يعتقد أن الله تعالى عن قول المبطلين يجب عليه رعاية الأصلح على العباد ثم قال إذا اتقوا مسلك شريعتهم وقبلوه وقالو به فالأصلح أن يبقيه وفتوره سبب اشباك الغوايات وهو نقيض الأصلح
1521 - قلنا أصل معتقدك في وجوب الأصلح على الله تعالى باطل قطعا على ما يبرهن في محله ثم إن نزلنا على ما تخجيلته فمن الذي أنبأك أن الأصلح تقرير الشرائع فقد لا يكون الأصلح في فتورها حتى يعلموا بمقتضى عقولهم
فصل
1522 - فأما القول في فتور شريعتنا فالذين أحالوا فتور الشرائع قبلنا منعوا فتور هذه الشريعة والذين سبقوا إلى جواز فتور الشرائع اضطربوا في شريعتنا فمنهم من سوى بين الكل ومنهم من صار إلى أن هذه الشريعة لا يتطرق إليها الفتور والسبب فيه ان سائر الشرائع لم تكن محفوظة من النسخ والتبديل ولو قدر فيه فتور لظهرت الشريعة على قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي نتبع ولو تطرق الفتور إلى شريعتنا لاستمر ذلك إلى قيام القيامة وهذا الفرق لا أصل له فإن من مات منا في زمان الفتور في سائر الشرائع فقد
قامت قيامته ولا يلحقه ارتفاع الفتور
1523 - فالمختار عندنا أنا نقول الفتور في الشرائع جائز عقلا إذ ليس فيه ما يحيل ذلك ولا تخصص شريعة عن شريعة وقد صرح بهذا شيخنا أبو الحسن إلا أنه ضم إليه شيئا آخر لا يساعد عليه فقال تبقى التكاليف على العباد مع فتور الشرائع وهذا بناه على أصله في جواز تكليف مالا يطاق وقد صار الأستاذ أبو إسحاق إلى اختيار جواز الفتور وتخلف عن شيخنا ابي الحسن في تقرير التكليف إلا أنه قال يبقى تعبد على الخلق بإفتاء محاسن العقول وهذا أيضا مما لا يساعد عليه إذ لا يحسن في العقل ولا يقبح
1524 - فإن قيل أوقع ذلك قلنا الوقوع لا يتلقى من مسالك العقل وإنما يعرف ذلك من طريق السمع وقد طمع طامعون في إثبات نفي الفتور عن شريعتنا من طريق السمع واستدلوا بظواهر منها قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون قالوا إذا ضمن الحفظ أمن الفتور ومما استدلوا به قوله عليه السلام ( إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم )
15250 - وهذه ظنوها نصوصا وهي ظواهر ( فأما ) قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر فالمراد به القرآن والغرض أنه لا تندرس تلاوته فلذلك يزداد
القراء كل يوم وأما الحديث فالتأييد قد وقع ( ووقوع ) التأييد ليس فيه ما يدل على بقاء التأبيد إلى قيام الساعة ويعارض هذا قوله عليه السلام ( سيأتي يوما على أمتي زمان رجلان في فريضة فلا يجدان من يذكر حكم الله فيها ) والظواهر مع تطرق الاحتمال إليها إذا تعارضت كيف تنتج القطع
1526 - هذا قولنا في نفي القطع في نفي الفتور وأما غلبة الظن فليس معنا ما يدل حتى يفيد غلبة الظن ولكنا نقول إن قامت القيامة في خمسمائة سنة فيغلب على الظن أن الشريعة لا يندرس أصلها ولا تفاصيلها ( فأما سفرة حمالها وفي حملها كره ) والدواعي على تعلمها متوفرة وإن تمادت الآماد فيتوقع اندراسها بقبض العلماء الناقلين لها فانطماسها بقبض ( حملتها ) هذا نهاية القول في غلبة الظن وقد نجز الغرض من القول في الفتور
فصل 1527 - واما القول في خلو الواقعة عن حكم الله تعالى فقد اضطرب الأصوليون في جواز ذلك فصار القاضي إلى جواز ذلك وترقي عنه إلى وقوعه فقطع به وقال لا بد أن يقع ذلك فإن مآخذ الأحكام محصورة مضبوطة من الكتاب والسنة والإجماع والوقائع لا تنضبط ولا تتناهى ويستحيل أن يرد ما لا يتناهي إلى ما يتناهي
1528 - فنقول أما جواز خلو الواقعة عن الحكم فلا ينكره عقل وأما وقوعه فأنكر ذلك فإن الأمم الماضين المننقرضين كانوا يتصدون للفتوى مع ( كثرة )
ما ألقي إليهم ( وتفننها ) وكانوا يهجمون على الجواب فيها هجوم من لا يرى ( للأجوبة ) حصرا ومنتهى ولو كان يجوز خلو بعض الوقائع عن حكم الله ( لاتفق ) وقوع واقعة خلت عن حكم الله ( وبدت ) فإذا لم يتفق دل ( على ) أنهم ما اعتقدوه جواز خلو الواقعة عن حكم الله
1529 - وأما ما استدلوا به من كون المآخذ محصورة واستحالة ما لا يتناهي مما يتناهى فهو ( بين ) لا حاصل له فإن من تأمل قواعد الشريعة وجدها مترددة بين طرفين أحدهما محصور والآخر غير محصور فالنجاسة محصورة والطهارة لا حصر فيها والتحريم محصور والإباحة لا حصر لها فالواقعة إذا ترددت من الطرفين ووجدت في شق الحصر وذلك وإلا حكم فيها بحكم الشق الآخر الذي أعفى الحصر عنه
1530 - هذا نهاية القول في المقدمتين ( وإذا ) عدنا إلى المقصود فالواقعة إذا ترددت بين مفتتين وتناقض جوابهما فمن صار إلى الأخذ بالأغلظ فقد تحكم من غير ثبت ومن صار إلى إتباع ما يشهد له نفسه بالصحة فهو إتباع الهواجس والحماقات ومن صار إلى التخيير فهو أقرب قليلا وله الثبات على مأخذ المضربين فإنه ما من مسلك إلا ويجوز أن يفترض اختيار مجتهد وعن هذا صار بعض الناس إلى التخيير في مسألة التصويب من غير اجتهاد
1531 - وهذا مع ما هو عليه من القرب لا وجه له فإن التخيير استواء الإقدام والإحجام وهو حقيقة الإباحة فمنه صار إلى التخيير فقد أثبت الإباحة من غير أصل وثبت فإن قيل فما الذي تختارونه أنتم في هذه المسألة وقد زيفتم المسالك المقدمة
1532 - قلنا نبين أولا صورة نفرضها ثم تظهر حقيقة المراد فيها فنقول اختلف الشافعي وأبو حنيفة في وجوب الإتمام على العاصي ( بسفره ) فقال الشافعي بوجوب الإتمام وجوز أبو حنيفة القصر فإذا تناقض جواب المفتيين على هذا الوجه فنراجعهما ثانيا ونقول قد تناقض الأجوبة فإن اتفقا بعد التخالف فهو المراد فنتعلق بما اتفقا عليه فقد يجدان أصلا يستندان إليه كتغليب الدرء في القصاص وغيره والتحري في الصيود والذبائح وإن استمر على الخلاف ووجد أفضل منهما استفيناه واتبع قوله وإن ساوى الثالث الأوليين في الفضل ووافق قوله قول أحدهما فهل ترجح قول أثنين على قول واحد فقد سبق ترجيحه ولست أختاره ولا سبيل إلى التخير والأخذ بالأغلظ كما تقدم ولا يعتقد أيضا خلو الواقعة عن حكم الله تعالى ولا نرى ذلك في قواعد الدين
1533 - فالوجه أن نقول القول في هذه الواقعة كالقول فيمن يفرض في جزيرة بلفه أصل الدعوة بالإسلام ولم تبلغه تفاصيل الأحكام ونقول فيه لا تكليف الله عليه إذ شرط التكليف إفهام المكلف ما يكلف به
1534 - فإن قيل ألستم قلتم فيمن تردى في بئر من غير بعد ووقع على مصروع ولو مكث عليه لمات وفيه صرعى ( و ) لو انتقل إلى غيره لمات المنتقل إليه هذه واقعة خلت عن حكم الله قلنا لا تلك مسألة إذا فرضت كما وصفتموها فنقول لا تكليف على المتردى إذا كان كما وصفتموه للعلة التي تقدم ذكرها هذا نهاية القول في المسألة مع اختيار وإيجاز مسألة
1535 - المقلد إذا قلد إماما فمات إمامه وفي عصره مجتهد آخر فيتبع مقلده الميت أم يقلد الحي قال قائلون يقفي أثر المقلد الأول ويتبعه فإن المذهب لا يموت
بموت صاحبه وقال آخرون يتبع المجتهد الحي إذا أجمعت الأمة على أن واحدا لو أراد أن يتبع مذهب أبي بكر لم يجز الآن وإن شهد له الرسول صلى الله عليه و سلم بالتقويم على الكافة حيث قال ( والله ما طلعت الشمس ولا غربت ) والسبب فيه أن المجتهد الاخر الباحث الناظر أعرف بمذاهب من سبق وأخبر بحقيقة الحال والصحابة رضي الله عنهم ما اعتنوا بتبويب الأبواب ورسم الفصول والمسائل نعم كانوا مستعدين للبحث ( عند مسيس ) الحاجة إليه متمكنين وما اضطروا إلى تمهيد القواعد ورسم الفروع والأمثلة لأن الأمور في زمانهم لم تضطرب كل هذا الإضطراب والذين اعتنوا بالتمهيد أعرف بالأصول والفروع من غيرهم
1536 - وعلى هذا إذا قلد مقلد الشافعي لم يجز له أن يترك متابعته ويختار مذهب القفال وابن سريج أو غيره وعليه أن يتبع ما ينقل عن الصاحب ولكن ينبغي أن يكون الناقل موثوقا به فقيه النفس لأن الفقه لا يمكن نقله وإن لم يجد نصا ولا تخريجا فهل له أن يقيس منهم من منع وقال القاضي يجوز له أن يقيس على نص صاحبه كنص الحديث في حقه وكانه مجتهد في وجه دون وجه
فصل
1537 - ذكرنا اختلاف العلماء في تصويب المجتهدين إذا اختلفت آراؤهم في مسألة لا نص فيها فأما إذا اختلفوا وفي الواقعة نص غفل عنه احدهما فالذي حكم بالتخطئة ها هنا بالطريق الأولى
1538 - وأما المصوبة فقد اختلفوا ها هنا فمنهم من حكم بالتخطئة ومنهم من صوب ومنهم القاضي واستدل عليه بأن
قال المجتهد إذا خالف النص بحث وسبر وبذل المجهود ولم يأل جهدا في طلب حتى حصل على غلبة ظن ثم وجب عليه العمل بمقتضي غلبة الظن فقد عمل ما وجب عليه فكيف يقال أخطأ وقد عمل ما هو الواجب ولا يبعد أن يختلف حكم الله باختلاف الأشخاص فإن الميتة محرمة على صاحب الرفاهية وهى بعينها محللة على صاحب المخمصة والذي لم يعثر على النص كصاحب الضرورة والمخمصى فقد أدى ما أمر به
1539 - فإن قيل حكم الله تعالى في هذه الواقعة متعين كائن مستقر فالذي لم يجد النص هو الذي قصر لما لم ينه النظر نهايته فإنه لو لم يقصر وأنهى النظر لوجد النص وليس هذا كمسألة لا نص فيها فإن الحكم فيها غير متعين
1540 - قال القاضي مع هذا كله ( أليس ) قد وجب عليه العمل بمقتضى الظن المخالف للنص المستقر مع تقصيره ( و ) وجب عليه العمل بذلك فلا يحكم بتخطئته بعد ذلك فإن المجتهد الذي غفل عن النص أفتى بما قدر عليه واعتقد ألا مطلب وراءه فأمره بطلب النص تكليف ما لا يطاق إذ لا يتأنى افتتاح النظر ممن اعتقاده أنه تمم النظر ( فإذا أخطأ النص ذلك أنه لن يجب الوصول إليه وهذا كقول القائل لمن يصلي بالتيمم ولم يتوضأ ولكن يجب عليه الوضوء عند عسر الوصول إلى الماء ) قال القاضي ولست أبعد أن يرد الشرع بوجوب تدارك ما فاته من العمل الواقع بمقتضى الاجتهاد ولو ورد به لاتبعناه فإنا عبيد الشرع وإذا لم يرد فقد أدى ما كلف
1541 - قلت أما المختار فقد سبق في مسألة تصويب المجتهدين وهنا لا سبيل إلى إنكار أداء هذا المجتهد ما عليه ولا سبيل إلى إنكار مخالفة النص وكأنه مخطىء من وجه مصيب من وجه وأما القضاء والتدارك فأقول إذا اجتهد في القبلة ثم تبين أنه أخطأ والوقت باق ( فإن ) صح يقين آخر باستقبال عين القبلة وثبت أنه مقصود في نفسه وجب عليه
تداركه وإنما فرضته في قضاء الوقت لأن الوقت إذا زال فالقضاء إنما يلزم بأمر ( مجدد ) وإنما ردد الشافعي قوله في هذه الصورة لأنه تخيل أن المأمور به إذا لم يتوصل إليه باجتهاده ونفس استقبال القبلة مقصود في عينه فلهذا نقول الأظهر سقوط القضاء والله أعلم مسألة
1542 - اختلف الأئمة في الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجوز أن يجتهدوا منهم من قال يجوز كما يجوز الاجتهاد في عصرنا ودل على ذلك قوله عليه السلام في القصة المعروفة لما قال معاذ أجتهد رأيى الحمد لله الذي وفق رسول رسوله ( إلى ) ما يرضاه وقال آخرون كان لا يجوز لهم أن يجتهدوا فإنه غلبه الظن وقد أمكنهم تحصيل القطع بمراجعة رسول الله صلى الله عليه و سلم
1543 - والمختار عندنا أنه إن أمكن المراجعة ( كأن ) كان في بلدته تعين المراجعة وإن كان على مسافة يسوغ الاجتهاد وقد ظهر من الآثار أنهم كانوا يجتهدون في الغيبة ويشهد له قصة معاذ والذين كانوا معه كانوا لا يجتهدون مسألة
1544 - أختلف الأئمة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجتهد قال قائلون كان ينتظر الوحى ولا يجتهد وقال آخرون كان يجتهد وقد ظهر ذلك من قرائن أحواله حيث قال أرأيت لو تمضمضت ولعل الأصح أنه كان لا يجتهد في القواعد والأصول بل كان ينتظر الوحي فأما في التفاصيل فكان مأذونا له في التصرف والاجتهاد ويبقى بين اجتهاده واجتهاد غيره صلى الله عليه و سلم فرق وهو أن ما يراه أمارة تفيد القطع
واجتهاد غيره يفيد غلبة الظن والله أعلم مسألة
1545 - واختلف الأئمة في حقيقة التقليد وما هيته فقال قائلون التقليد هو قبول قول الغير من غير حجة 1 فعلى هذا قبول العامي قول المفتي تقليد وقبول من يروى أخبار الآحاد قولا وسمعه من خلق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس تقليدا لأنه حجة في نفسه وقبول قول الصحابي تقليد إن لم تجعل أقوالهم حجة ولم نر الاحتجاج بقولهم فإن جعلنا أقوالهم حجة يحتج ( بها ) فإذا ذاك لا يسمى قبول أقوالهم تقليدا وقال قائلون التقليد قبول قول الغير وأنت لا تدري من أين يقوله فعلى هذا قبول قول المفتي وقبول قول الصحابي تقليد لأنا لا ندري من أين يقولون وقبول قول النبي صلى الله عليه و سلم إن قلنا إنه كان يجتهد تقليد لأنا ندري أيقول عن وحي أم عن اجتهاد وإن قلنا كان لا يجتهد فقبول قوله ليس تقليدا فإنا نعلم أن ما يقوله يقوله عن وحي
1546 - قال القاضي عندي لا تقليد ولا مقلد وكل من قبل قولا كالعامي يقبل قول المفتي وجب عليه قبوله وكان قوله حجة في حقه
1547 - والمختار عندي على الضد والعكس فإن الخلائق عندي في أفعالهم وعقائدهم مقلدون ومن قبل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم فهو مقلد فإن قوله عليه السلام لا يكون حجة لذاته والمعجزة وإن قامت فلا تفيد كونها حجة ما لم يقدم عليه العلم بالمرسل فإذا كل من نظر فأدرك حدث العالم انحدر عنه إلى ما يليه فعلم وجود الصانع وصفاته ثم انحط إلى النبوات فأدرك جواز العصمة ونظر في المعجزة بعده فهو
العالم ومن عاداه ممن يترقى ( عن ) الشبهات إلى قبول قوله عليه السلام فهو مقلد تحقيقا وما قاله القاضي من أنه يجب قبوله قلنا كيف يكون ذلك حجة وهو لم يعلم المرسل والله أعلم مسألة
1548 - هل يجب الاحتجاج بأقوال الصحابة وهذا مما اختلف فيه الأصوليون فقال قائلون يجب لقول عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقوله عليه السلام خير القرون قرني ولأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم وشاهدوا الوحي والتنزيل وهذا لا يدل على وجوب أتباعهم ( وانتهاض ) أقوالهم حجة فقوله أصحابي كالنجوم يعني في التقوى والسيرة وقوله اقتدوا باللذين من بعدي يعني في الخلافة إذ ليس في العلماء من يخصص قولهما عن قول غيرهما من الصحابة وقوله خير القرون قرني فأي دليل فيه على وجوب الأتباع
1549 - وقال قائلون لا يجب أتباعهم لأنهم ليسوا معصومين عن الزلل فكيف يحتج بما ربما يكون غلطا وخطأ وأيضا فقد كانوا يختلفون في زمانهم فإذا لم يكن قول البعض منهم حجة على البعض لم يكن حجة في حق من بعدهم
وهذا يجانب الإنصاف فإن أخبار الآحاد حجة مع أن الناقل عرضة للزلل والخطأ فلا يبعد أن يكون قول الصحابي أيضا حجة وإن لم يكن معصوما فإن قيل قوله صلى الله عليه و سلم حجة قلنا نعم ولكن لا نقطع بإصابة هذا الناقل وأما العلة الثانية فنقول قول المفتي حجة على العامي وليس حجة على العالم المجتهد وكذلك لا يبعد أن يكون قولهم ليس حجة على من يعاصرهم ويكون حجة على غيرهم ممن بعدهم وقد تمسك الصائرون إلى الأتباع بأن قالوا وجدنا التابعين يقتفون آثار الصحابة ويستندون إليها ويحتجون بآثارهم احتجاجهم بالأخبار فلولا أنهم رأوا ذلك حجة وإلا لما أطبقوا على الأتباع هذا الإطباق وأجاب المانعون عن هذا بأن قالوا كان الصحابة إذا وقعت لهم واقعة يجتهدون فيها ثم يبدون ما غلب على ظنهم في معرض التردد مظهرين أن المسألة في مظنة الاجتهاد والاحتمال فإن كانوا لا يتخذون الأتباع بالقطع فكيف يحكم بكونه حجة وهذا أوقع مما قال الأولون
1550 - فنقول إظهار الحق فيه يستدعي تفصيلا في مسائل معينة فنقول لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وإن كانوا على رتبهم العلية ومناصبهم الرفيعة الجلية فما كانوا معصومين ولا تؤمن عثرتهم وليس في مسالك السمع ما يدل على وجوب الاتباع كما تقدم وكان الوجه أن يجعل قولهم كقول من عداهم من المجتهدين لكنا نقول على ما ذكره الصائرون إلى الاتباع والاحتجاج من قولهم وجدنا التابعين يحتجون بأقوالهم منقسمة منها ما جزموا القول فيه بنفي وإثبات باتين حكما ومنها ما ترددوا فيه وأفتوا مع ( استبقاء ) احتمال وظن وما كانوا قاطعين بل
كانوا مستدلين ( متمانعين ) فما كان كذلك فلا نرى الاحتجاج ( بنا منهم ) لأنهم قالوا ماقالوا عن ظن واجتهاد ونظر غيرهم واجتهادهم بمثابة اجتهادهم وأما ما قطعوا القول به ولم تكن المسألة في مظنة الاجتهاد فقالوا قولا مخالفا للقياس ما أرشد إليه نظر ولا يدل عليه اعتبار من تقليد أو غيره ورأيناهم حاكمين قاطعين فتحسين الظن بهم يقتضى أن يقال ما نراهم يحكمون من غير بينة ولا مستند لهذا الحكم من قياس فلعلهم لاح لهم مستند سمعى قطعى من نص حديث كان حكمهم بذلك فيجب اتباعهم لهذا المقام
1551 - وكان الشافعي يرى الاحتجاج بقول الصحابي قديما ثم نقل عنه أنه رجع عن ذلك والظن أنه رجع عن الاحتجاج بقولهم ( فيما ) يوافق القياس دون ما يخالف القياس إذ لم يختلف قوله جديدا وقديما في تغليظ الدية بالحرمة والأشهر الحرم ولا مستند فيه إلا أقوال الصحابة
1552 - فإن قيل فأحسنوا الظن بغير الصحابي كمالك في مسألة خيار المجالس فقولوا إنه خالف الحديث لدليل ثبت له مقدما على الحديث في الاستعمال قلنا إحسان الظن به ثابت ولكن إنما لم نتبعه لأنا عرفنا سبب مخالفته الحديث وذلك أنه كان يرى تقديم مذهب أهل المدينة على الحديث وهذا الذي ( البابت خطأ ) قطعا ومن هذا القبيل استحسان أبي حنيفة فإنه مخالف لأدلة الشرع بمسلك باطل فإن قيل صار ابن مسعود إلى إيجاب ألفى درهم في أجرة رد العبد الآبق وهذا تقدير لا يقتضيه قياس قلنا لم يثبت ذلك منه تقديرا في كل آبق وإنما حكم بذلك في قضية خاصة فلعل أجرة المثل في تلك الصور ( كانت ) ألفى درهم فإن قيل صار ابن مسعود إلى رد قيمة العبد أي مقدار الدية وانحط بعشرة فهلا اتبعتموه
قلنا لعله قال ذلك عن قياس تحلل مثله أبو حنيفة من تفضيل الحر على العبد وغيره على أنا في مسالك الأصول لا نلتفت إلى مسائل الفقه فالفرع يصحح على الأصل ( لا ) على الفرع مسألة
1553 - استبعد مستبعدون من الذين ( قصرت هممهم ) عن درك الحقائق ترديد الشافعي أقواله في المسائل وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين وجمع بين تحليل وتحريم في قضية واحدة وهذا جهل من هذا الظان وعماية وقلة دراية فإن التردد الذي ذكره الشافعي نفى المذهب واعتراف بالاعتراض والإشكال وتصريح منه أنه لا مذهب لي في الواقعة بعد ثم نقول أوقع لأبي حنيفة تردد في مسألة من مسائل الفقه فإن قالوا لا قلنا مثل هذا الرجل لا يعد من أحزاب الفضلاء فإنه مهد أبوابا
( وقعد ) قواعد في مسالك الظنون ومظان الغموض ( والإعتضال ) من غير نص كتاب وسنة ثم لم ( يستقله ) فيما يخبر به ظن يعارضه ظن بل تهجم على حكم الله في كل واقعة فهذا إنكار ومكابرة الضرورة وإن اعترفوا بتعارض الظنون في حقه قلنا فهو لم يعبر عن تردده والشافعي عبر عنه على أنا لا نحسب الأقوال القديمة من مذهب الشافعي فإنه رجع عنها جديدا والمرجوع عنه لا يكون مذهبا للراجع والشافعي بعد ما ردد الأقوال استقر رأيه على قول واحد في جلة المسائل ولم يبق
على التردد إلا في ثماني عشرة صورة فليس هو كثير التردد وقد صار أبو حنيفة على الشك في سؤر الحمار و ( اعتقد ) الشك فيه مذهبا وهذا عجب وأعجب منه رأى أصحابه نقلوا الشك عنه حتى انتهضوا ذابين عنه داعين إليه هذا نهاية الغرض من هذه المسألة وقد نجز بنجاز
جميع الحقوق متاحة لجميع المسلمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق